كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

" عيار ناري " في جسد ثورة 25 يناير

طلقة طائشة لن تصيب سوى أصحابها

صفاء الليثي*

مهرجان الجونة السينمائي

الدورة الثانية

   
 
 
 
 

بعد تراجع إنتاج الفيلم المصري، وتعاظم المهرجانات أصبح شغلها الشاغل اقتناص فيلم مصري للعرض في برامجه، وبعد اختيار "يوم الدين " للمشاركة في مهرجان الجون بدورته الثانية أعلن أن هناك فيلم مصري آخر، وحين ظهر اسم صناعه أصبحنا في شوق لمشاهدة فيلم يملؤنا التفاؤل بأن يكون جيدا، على البعد كان المخرج الشاب كريم الشناوي يبتسم مهللا لرؤيتي فقد تابعت أعمالا قصيرة له وأثنيت عليها، ولدهشتي كان هيثم دبور يتعمد تجاهلي كلما التقينا وقد وضح لي السبب بعد مشاهدة فيلم "عيار ناري" الذي وجدته كارثيا على مستوى الشكل والمضمون معا. كيف لهيثم دبور صاحب سيناريو "فوتوكوبي" الذي يركز على قصة حب بين رجل (رجل برة ورجل جوه) كما يصف نفسه ، وأرملة تعاني من السرطان، في جو رسمه المخرج تامر عشري لبناية يقومون بطلاء واجهتها فيسقط الطلاء على يافطة محل الرجل في دلالة قوية على هذا الزحف للتجديد الشكلي . لم يتعاون هيثم مع تامر عشري في عيار ناري ولكن مع كريم الشناوي ،أحدث الفيلم هزة وغضبا بداية من محاولة فاشلة لسرد فيلم (جريمة وتشويق) كما يصفه صانعوه، وجاء السرد مملا رغم اتخاذ شكل التحقيق الصحفي للصحفية التي تقوم بها النجمة روبي. حشد للفيلم كل نجوم الفترة، فالبطل (الذي ويا للسخرية وصفه أحد المدافعين عن الفيلم بأنه بطل لامنتمي) طبيب في مصلحة الطب الشرعي سكير حتى أنه يضع زجاجات الخمر في إحدى ثلاجات الموتى، غير بار بوالده وتأتي أخته لتلح عليه في السؤال عن والدهما المريض وهو وزير سابق استبعد لأنه مختلف عن الآخرين. هذا البطل الضد يكتب تقرير التشريح لأحد شهداء ثورة يناير كما وجدها – رغم سكره- بأن الوفاة حدثت نتيجة طلقة في الصدر من مسافة قريبة ، "عيار ناري " من مصدر قريب، يصور المخرج مشهدا لأخ المتوفي ، محمد ممدوح نجما آخر حشده الفيلم بعد وضع شنب له ليبدو كعامل كما حددوا مهنته. الأخ مع مجموعة من الثائرين يكاد أن يفتكوا بالطبيب الذي خرج لهم ليؤكد صحة تقريره في مشهد عبثي فقد خرج الطبيب لمواجهة الثائرين ، وبعد حركة أمريكاني يشير الفيشاوي في دور الطبيب الطلقة جت من مسافة زي اللي بيني وبينك كده. يعود الى داخل المشرحة ويغلق الباب الحديدي. رئيسته مديرة المصلحة توبخه وتطلب منه كتابة تقرير آخر، ولكنه وهو المعارض المتمسك برأيه يصر على تقريره الذي تسرب بالروشة للصحفية فتنشره وتثور ثائرة أهل المتوفي، أخوه وجيرانه. الرئيسة وتؤدي دورها في صرامتها المعروفة صفاء الطوخي تكتب تقريرا آخر بأن الطلقة من قناص عن بعد . هكذا اذن ، فلم يمت الشهيد من رصاصة قناص الشرطة ولكن الحقيقة التي كتبها وأصر عليها الطبيب الشاب أنه نتجت عن مشاجرة عائلية، قامت أم الميت بتمثيلية لإبعاد شبهة القتل عن ابنها الآخر مستغلة أحداث – سموها لاظوغلي- بل إنها تركت الجثة لتصرخ بأن ابنها عاد شهيدا من الثورة. ركاكة محاولة عمل فيلم بوليسي يقوم فيه الطبيب كما الأفلام الأمريكاني بالتحقيق بنفسه والتنقل في الحارة وبيت الشهيد الزائف ليكشف الحقيقة بنفسه. وفي مشهد قديم قدم سينما تحاول أن تنتهي بتفسير الحدث تشرح الأم  الممثلة عارفة عبد الرسول كيف حدث ما حدث . كنا شاهدنا مواجهة بينها وبين الابن الحي ماينفعش يا امة الناس بتسأل عليكي لازم تظهري ، ضغط منه بينما تخرط البصل الذي كان يحبه الشهيد في السلطة، مشهد مصنوع باعتقاد من المخرج بأنه يبدع، وهو أقرب إلى ما يطلق عليه الشباب بالافتكاس، وبالمناسبة فقد دفع هذا المشهد بكثير من الحضور من الشباب الى مغادرة القاعة ( لا كفاية بقى كده) والخلاصة التي يرغبون في الوصول إليها تبرئة القناصة من دم الشهيد المزيف الذي حصلت أسرته على شقة ، أخذها أخوه الندل ليتزوج من خطيبته التي حملت منه وكان لابد من التستر على البنت فيتزوج الأخ من خطيبة أخيه القتيل ويحصل على الشقة بينما تفوز الأم بعمرة، ويحدث كل هذا بتواطؤ من كل سكان الحارة الذين يذكرون أن الشهيد كان شقيا مالوش في السياسة ولكنه راح مع الرائحين. أحد المدافعين عن الفيلم يكرر أن هذه قصة أحد من الشهداء الثمانية، واحد ليس شهيدا كما يتضح والسبعة الآخرين شهداء بالفعل. طبعا لا يوجد أي حديث سوى عن هذا القتيل في جريمة عائلية. يدرك المتحدث أن الفن انتقاء وحين تنتقي حالة خاصة فيكون بغرض نقلها من الخاص إلى العام ، وما ينتهى لدى المشاهد العادي أنه لا شهيد ولا يحزنون، انتم تقاتلتم فيما بينكم، قتلتم وحصلتم دون استحقاق على شقة وعمرة..فات صناع الفيلم أن حصول هذه التعويضات لا يحدث هكذا بين يوم وليلة ولا في أسبوع بل قد تمضي أعوام .

ماالذي يدفع شابا يقدم عمله الأول إلى اختيار هذه القصة المتهافتة – والتي روجتها أجهزة ما عن  شخص احتسب شهيدا بينما كان بلطجيا في بين السرايات، وقصة عن شهيد آخر كان مسجل خطر في الدويقة، شهيد الفيلم ابن عاق صوره الفيلم في مشهد شديد الرداءة يجر أمه من شعرها ليجبرها على توقيع تنازل له عن البيت، لماذا؟ ليتزوج خطيبته التي حملت منه قبل كتب الكتاب. أدى هذا الدور القصير الممثل أحمد مالك، وله قصة شهيره على توزيعه (كاندوم) على هيئة بالونات على جنود الشرطة وضباطها في احتفال بعيد الشرطة. هل شارك مالك في هذا الفيلم ليكفر عن خطيئته في موقفه (الثوري) السابق من الشرطة التي ثبت براءتها من دم هذا الشهيد ، وبالتالي من دماء غيره . حين عرض الفيلم لم يكن معروفا على نطاق واسع أنه من إنتاج نجيب ساويرس مؤسس مهرجان الجونة ورئيسه. قبل العرض قدم المدير العام للمهرجان الفيلم بأنه (جاءنا هدية ) وطلب من المخرج تقديم فريق عمله. هل كان انتشال التميمي يتبرأ من شبهة اختيار الفيلم فصاغ المعلومة بذكاء؟ مراجعة الفيلم في كتالوج المهرجان كتبها المخرج أمير رمسيس المدير الفني للمهرجان ومسئول البرمجة مما يعني أنه شاهد الفيلم قبل أن يتفقوا على عرضه خارج المسابقة.

فيلم يحشد له نجوم العصر:أحمد الفيشاوي، محمد ممدوح، أحمد مالك، روبي وهنا شيحة، وأسماء أبو اليزيد وعارفة عبد الرسول وصفاء الطوخي، ومعهم أيضا الممثل القدير أحمد كمال ، ويدعم الإنتاج محمد حفظي الذي دعم ويدعم أفلاما قوية جديدة لمخرجات ومخرجين ومنها فيلم " فرش وغطا" الذي يقدم صورة للبلاد عما حدث يوم فتح السجون وما بعدها بشكل فني كبير وبانحياز للشعب . هل يتعرض رجال الأعمال في مصر لضغوط تجعلهم ينتجون أعمالا تختلف عن قناعات سابقة، لماذا تشارك عارفة عبد الرسول فنانة الحكي فيلما يدين أسرة مصرية فيصور أفرادها جميعا نصابين بلا ضمير ؟ كيف يقبل كل هؤلاء النجوم وكلهم معروفين بموقفهم الإيجابي من ثورة 25 يناير الذي أطلق عليها الفيلم "عيار ناري " أعتقد أنه سيطيش ويرتد إلى صناعه (علشان ما يعملوش كده تاني).

*شاهدت الفيلم في مهرجان الجونة 2 قبل عرضه تجاريا 3 أكتوبر 2018 .

مدونة الناقدة (دنيا الفيلم) في

11.10.2018

 
 

«يوم الدين».. ليس بالإنسانية وحدها تُصنع سينما

وائل سعيد

لا شك في أن الجرعة العالية في الفيلم لكسب التعاطف جعلتك تقف في نهاية الفيلم عند حافتي المع والضد؛ هل اقترب المخرج من عالمه المطروح بمستوى يحافظ على القيم الجمالية سينمائياً. وهل كانت لعبة الإنسانية التي يراهن عليها الفيلم في مصلحته أم ضده..

الجُذام من أكثر الأمراض التي تثير الخوف والرهبة، شأنه في ذلك شأن السُل والربو والجرب، ودائماً ما يتم الخلط بينه وبين ذلك الأخير، وجميعها تتطلب التعامل بحذر مع المصابين بها، غير أن الوعي الجمعي بالغ بالحذر إلى حد النفور والاشمئزاز والزجر، عملاً بالمثل السائر "فر من المجذوم فرارك من الأسد" والتي نسبت في بعض الروايات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما لعب عليه المخرج الشاب المصري أبو بكر شوقي في تجربته السينمائية الأولي "يوم الدين"، الذي مثّل مصر مؤخراً في المسابقة الرسمية لمهرجان كان السينمائي في دورته الحادية والسبعين، بعد غياب السينما المصرية لست سنوات عن المشاركة بالمهرجان.

مجتمع داخل مجتمع

في بدايات القرن العشرين تم عزل مرضي الجُذام بمرسوم ملكي من الملك فؤاد الأول بمنطقة أبو زعبل بالخانكة محافظة القليوبية، على مساحة 262 فداناً يتم تقسيم جزء منها لعدة أبنية -تغيرت وتبدلت وظائفها- حتى وصلت لوضعها الحالي: مبنى الإدارة وعنابر المرضي ومكتبة ومسجد، وبعض العيادات الخارجية المتخصصة، ومعمل وصيدلية ومخبز وكانت توجد نقطة شرطة صغيرة قديماً بالمكان تم تقليص أفرادها وإمكاناتها عبر العقود السابقة إلى أن تلاشت تماماً الآن، بالإضافة إلى بعض الورش الصناعية البسيطة.

وهناك دارت أحداث فيلم شوقي، فتجول بكاميرته بين بيوت الصفيح والطوب التي في عزبة الصفيح المُجاورة للمستعمرة، ماراً على سكانها المجذومين الذين انقطع عنهم الجميع حتى ذويهم، فعاشوا وكبروا وتزوجوا وأنجبوا وصنعوا مجتمعاً داخل مجتمع لم يعترف بهم.

قام شوقي كذلك بكتابة السيناريو والحوار، وأسند دور البطولة لأحد ضحايا المرض، راضي جمال في دور بشاي والطفل أحمد عبد الحفيظ، ابن حارس عقار. ما يعني أننا أمام مخرج يتحدى المُتلقي بفيلمه الأول؛ فلا يعول على أبطال معروفين، أو مواضيع تجارية آمنة، أو بعض التحبيشات السينمائية المستخدمة.

رحلة السيد المُبجل وطواحين الهواء

هل كان سرفانتس علي علم وهو يكتب رحلة السيد النبيل دون كيخوتي دي لا مانتشا في القرن السادس عشر؛ بأنها ستكون من أشهر الرحلات الفلسفية التي خاضها إنسان العصر الحديث، وبأن رحلته تلك سيتم تناولها وإعادة استلهامها مئات المرات؟!

لعل سرفانتس ناوش عقل المخرج في تناوله لفيلمه الأول؛ فراح يسرد لنا عبر  97  دقيقة رحلة المجذوم "بشاي" متمرداً على حيزه الضيق الذي تركه أبوه فيه ثلاثين عاماً، إلى حيز أكثر براحاً يضم بلده وأسرته، بصحبة الطفل اليتيم "أوباما"، على عربة بشاي الكارو إلى محافظة قنا مسترشدين بالنيل.

في الطريق، يتقابل بشاي مع الآخرين، شركاؤه في الأرض والوطن، حيث الوجوه التي مازالت بملامحها دون تآكل، بينما ينخرها التآكل في الصميم. كل من حوله في المستعمرة كانوا شبهه، وكان رفيقه قد حذره على حدود المستعمرة من مواجهة الناس، فلا حياة لنا في الخارج "احنا زي بعض ومن بعض". ولكن بشاي كان يبحث عن جذور ينتمي إليها "انتو ليكوا عيال تسأل عنكو.. لكن أنا لوحدي".
سيناريو وإخراج..

كثيراً ما جمع بعض مخرجي السينما بين كتابة السيناريو والإخراج، منهم من نجح ومنهم من لم يحالفه الحظ، لكن التجربة كانت دائماً محفوفة بالمخاطر والحذر خاصة حين نكون إزاء التجربة الأولي. وقد أضاف شوقي للثنائية السابقة الحوار أيضاً، ولاقى الفيلم إقبالاً جماهيرياً واضحاً فور عرضه بمصر، إذ لعب المخرج على تقنيات جمالية كتحريك الكاميرا واختيار المشاهد ومساحات الحوار الصامت والمنولوجات الداخلية والفلاش باك.

ولكن على مستوى الحوار تأرجحت الشخصيات بين الخطابية أحياناً والافتعال في أحيان أخرى، وبعض القفشات المتكررة، وبين البساطة التي تدفقت -بين الحين والآخر- ويتضح من ذلك مساحة الارتجال أثناء التصوير.

ويظهر التدخل الثقافي الواضح للمخرج في بعض المفردات، كـ "البيروقراطية المصرية. دول العالم الثالث. الحق الآدمي والقانوني" وما إلى ذلك، والتي لن تخرج بأي حال من مجموعة متسولين يُقابلهم بشاي أثناء رحلته بين هؤلاء الأصحاء في انتظار يوم الدين -يوم القيام- حين يتساوى الجميع ويبدأ الله في تعويضهم عما لحق بهم في الدنيا، بالإضافة إلى استخدام مستويات الحوار الفلسفية في السؤال عن كيفية الوجود والتمييز العنصري، أو حين يقول بشاي "أنا خفيت من برا.. لكن جوايا جرح مبيخفش".

كما يظهر في السيناريو نوع من الاستسهال الدرامي؛ حيث يُسجن بشاي مع أحد الإخوانيين -الإرهابيين- ويستطيع الأخير الهرب أثناء ترحيلهما من محبس النقطة الصغيرة لتخشيبة السجن، ولمجرد أن أصر الإخواني على استعادة مصحفه الذي تركه في الزنزانة فيتركهما الشاويش المصاحب واقفان أمام باب القسم ويدخل لإحضار المصحف. ومن المعروف أن جماعة الإخوان يتم معاملة أي فرد منها بإجراءات أمنية مشددة وينطبق ذلك على كل من يحمل سمة الجماعة -اللحية والجلباب- حتى يتبين عدم انتمائه لهم وليس بهذه الطريقة السهلة.

ويُحسب للفيلم أنه برغم انتمائه للسينما الخاصة أو المستقلة، فقد حقق إقبالًا جماهيرياً لافتاً للأنظار يدل على أن الفن الخاص الذي احتكرته الصفوة على نفسها لسنوات شق طريقه إلى الجمهور العادي، وهو ما اتضح من عدة تجارب فردية خلال السنوات الأخيرة، حيث حقق الفيلم ما يُقارب من 250 ألف جنيه إيرادات منذ طرحه من أيام في سينمات القاهرة والإسكندرية وبعض المحافظات الأخرى.

تكنيك..

لم يبرح شوقي منطقة الإخراج الآمن في فيلم ”يوم الدين“، باستخدام أدوات لا يحمل استخدامُها غير معان أحادية وصريحة، مثل العلاقة الشرْطية بين مجموعة مشاهد والتي تجيء في كثير من الأحيان بين مشهدي البداية والنهاية أو بين عدة مشاهد، يبدأ الفيلم "بقلوظ آب" علي يد بشاي المشوهة التي تجول بين أكوام من الزبالة تبحث عما يمكن بيعه، وهذا ما يقتات عليه بشاي.

يعثر بشاي على مسجل صغير قديم بحجارة ويحتفظ به طوال الفيلم محاولاً استخدامه في محاولات متعددة كي يُخرج صوتاً، ثم يظهر المسجل مرة أخرى بعد إصابة الولد "أوباما" وهذه المرة يشغله هو وليس بشاي ككل مرة، ليعمل المسجل بالفعل وكان بداخله شريط لأغنية جماعية مصرية قديمة تقول "الوله ده الوله ده.. الوله وله مين.. الحلو ده.. الحلو ده"... والحلو هنا موجهة من الطفل اليتيم المصاحب لبشاي والذي تعود على قبح شكله ولا يرى سوى الجمال.

نفس الشيء حدث مع طريقة العقدة والأمل؛ فقد خرج بشاي وأوباما بملابس عادية تمزقت وبُليت عبر رحلتهما، يركبان كارو بحمار ويفقدانه في الطريق، ثم نراهما بعد أن نجحا في الوصول للمجتمع الذي نبذهم يقررون العودة بكامل رغبتهما على عربة جر قطار وهما نظيفان بملابس جديدة إلى أكوام الزبالة.

أما عن تحريك الممثلين فحمل الأداء في العموم الكثير من ”التمثيل“ وظهرت ديفوهات/أخطاء الوقوف لأول مرة أمام الكاميرا، حتى في بعض مشاهد الطفل أحمد والذي أشاد الجميع ببراعته في أداء دور أوباما.

وجاءت معظم أماكن التصوير في صورتها الاعتيادية المتكررة، المستشفى. مقلب الزبالة، مكتب موظف المستشفى ومكتب المدير، والبيوت الفقيرة، وحملت مشاهد محاورات بشاي مع مجموعة المتسولين تحت أحد الجسور روح المخرج الإيطالى "فلليني" على مستوى رسم الشخصيات "قزم. أبله. رجل مقطوع الساقين" وعلى مستوى تحركهم أمام الكاميرا.

كائن لا تحتمل إنسانيته

لا شك في أن الجرعة العالية في الفيلم لكسب التعاطف جعلتك تقف في نهاية الفيلم عند حافتي المع والضد؛ هل اقترب المخرج من عالمه المطروح بمستوى يحافظ على القيم الجمالية سينمائياً. وهل كانت لعبة الإنسانية التي يراهن عليها الفيلم في مصلحته أم ضده..

ولا جدال في موضع ثنائية الإنسانية والتعاطف التي يلعب عليها الفيلم، بداية من الفكرة واختيار الأبطال ومواقع التصوير، حتى أن المخرج في أحد الحوارات يُصرّح بأن السيناريو في البداية كان مُعداً لإحدى السيدات من مرضي المستعمرة وليس راضي جمال أو بشاي، وحين تطورت الحالة المرضية للبطلة وحال ذلك بينها وبين التصوير؛ تقدم راضي ليحل مكانها وبالتالي تم تغيير الشخصية من امرأة لرجل.

أجد من الصعوبة الجزم بحكم نهائي على هذه التجربة ولكن أستدعي هذه الواقعة لتأكيد أيديولوجية المخرج منذ بداية الفكرة التي تُخاطب تعاطف الجمهور العربي، وقد فعل نفس الشيء وبنفس الأيديولوجية الممثل الراحل أنور وجدي منتصف القرن الماضي، حين أقدم على تقديم شارلي شابلن في شخصيته الأثيرة "المُتسول" ولكنه استبدل الطفل المصاحب لشابلن بطفلة كي تحقق مزيداً من تعاطف الجمهور، والتي أطلق عليها وقتها الطفلة المُعجزة فيروز.

كاتب من مصر

رمان الفلسطينية في

12.10.2018

 
 

المخرجة ريم صالح: حرصت على نقل الواقع في فيلم «الجمعية»

أعتبر «الجمعية» نموذجاً اجتماعياً مثالياً

كتب الخبر هيثم عسران

شاركت المخرجة ريم صالح في الدورة الأخيرة من فعاليات مهرجان الجونة السينمائي بفيلمها الوثائقي «الجمعية» الذي عرض للمرة الأولى في مهرجان برلين. في حوارها مع «الجريدة» تتحدث ريم عن الفيلم وكواليسه وترد على الانتقادات التي وجهت إليها بسببه.

·        كيف جاءت فكرة فيلم «الجمعية»؟

عندما توفيت والدتي كنت أذهب كثيراً إلى روض الفرج، للتعرف إلى المنطقة أكثر ومعرفة تفاصيلها، خصوصاً أن الراحلة رغم مغادرتها لها قبل سنوات طويلة كانت تشعر بالحنين إليها وتقول لي: «الناس اللي هناك فيهم خير». لذا أعتبر أنني شاهدت الحي بعيني والدتي قبل أن آراه في الحقيقة. ومع مرور الوقت، أصبحت قريبة من الأهالي الطيبين وحياتهم البسيطة. من ثم، فكرت في الفيلم وتناقشت معهم قبل البدء في تصويره.

·        لكنّ التصوير في منطقة شعبية وبمنازل الأهالي أمر صعب.

تحدثت إلى عادل الذي ظهر في الفيلم واستأذنته في هذا الأمر وبدأنا في استئذان كل شخص ظهر في العمل. في مثل هذه المناطق لا يمكن أن تصوِّر من دون موافقة الجميع. أتذكَّر أننا في البداية كنا نصوِّر مادة سينمائية جيدة ولكنها لم تكن طبيعية واستغرق ذلك نحو ثمانية أشهر، لأن الأهالي اعتقدوا أننا نريدهم أن يمثّلوا وهذا غير صحيح. لكنهم بعد ذلك بدؤوا يعتادون الكاميرا ويتعاملون معها بشكل طبيعي، فخرجت المشاهد تلقائية كما في الحياة اليومية، وهو ما كان يهمني فنياً، إذ لم أكن أرغب في مشاهد تمثيلية.

·        ضمّ الفيلم مشهد اجتماع الأهالي وهم يقولون إن التصوير هو سبب الاجتماع.

طلبت إلى عادل قول ذلك إزاء الكاميرا لأنني سألت الأهالي عن الطريقة التي يتفقون من خلالها على الجمعية، فأخبروني بأنها تكون عبر مناقشات فردية بينهم، ولكنهم اجتمعوا للاتفاق على الجمعية التي أصوِّرها. لذا كان لا بد من أن نوضح الطريقة المتبعة والطريقة التي لجأنا إليها من أجل التصوير.

·        عند متابعة الفيلم يصل إلى المشاهد أن الهدف التطرق إلى فكرة الجمعية.

للجمعية شقان، الأول فكرتها التي يجمع فيها الأهالي أموالهم بعضهم من بعض بشكل منتظم كي يتساعدوا على تحمّل صعوبات الحياة، والثاني طريقة إنفاقهم هذه الأموال. يدور خط العمل الرئيس حول الجمعية والأشخاص المشاركين فيها، وماذا فعل كل منهم بالأموال بعد الحصول عليها وكيف تتغير حياته من خلالها.

·        لكن في المجتمع المصري يواجه من يلجؤون إلى الجمعية عثرات أحياناً.

خلال فترة التصوير لم يكن هذا الأمر موجوداً. كان الأهالي ملتزمين في المواعيد بشكل أكثر من رائع، ومن المستحيل أن يخدع أحد الآخر، ومن لم يستطع الدفع وجد من يساعده ليعوضه لاحقاً. لذا اعتبرت الجمعية نموذجاً اجتماعياً مثالياً، خصوصاً مع مشاهدتي كيف تصرفوا بها.

·        ألم تري أن اختيار 10 شخصيات تسبب في تشتيت المشاهد؟

تنطلق الأحداث بالشخصيات العشر بحكم طبيعة الجمعية، ولكن مع الوقت نركِّز على عدد أقل، وهو أمر طبيعي لأنني حرصت على نقل الفكرة كما هي.

انتقادات

·        في مشهد حفل الزفاف ظهر أشخاص يقومون بأعمال غير قانونية وراقصة، ما تسبب بانتقاد الفيلم.

أخبرنا والد العروس دنيا قبل تصوير حفل الزفاف، والراقصة التي ظهرت كذلك كانت على علم بأن ثمة تصويراً سينمائياً ولم تعترض على ذلك. أما بالنسبة إلى الأشخاص الذين كانوا يقومون بأعمال غير قانونية فلم نظهر وجوههم إزاء الكاميرا.

·        أثير جدل كبير حول تمويل الفيلم.

موّلت الفيلم بنفسي في البداية وبنحو %70 من الميزانية النهائية التي ترواحت بين 300 و400 ألف دولار، وكنت اضطر غالباً إلى انتظار الحصول على أجري كي استكمل العمل. أما أفراد فريق العمل فحصلوا على أجور أقل من المبالغ التي يطلبونها عادة لإيمانهم بالموضوع. كذلك حصلت على تمويل من الصناديق الثلاثة التي تمول المشاريع السينمائية في العالم العربي.

·        كيف جاءت مشاركة الفيلم في مهرجان برلين بدورته الأخيرة؟

تقدّمت بالفيلم إلى مهرجان برلين قبل الانتهاء منه تقنياً، والقيمون على المهرجان كانوا شاهدوا بعضاً منه في المهرجانات التي شاركت بها بالمشروع وهو ما زال قيد التنفيذ، فتحمسوا له. أتذكر أننا تعرضنا لضغط كبير لإنجاز الهندسة الصوتية ووضع الموسيقى لتكون النسخة جاهزة للعرض.

·        هل ثمة أمور لم تصوريها داخل الحارة؟

رفضت تصوير عزاء والد طارق احتراماً لخصوصية الحدث، ولكن ذهبنا مع زوجته إلى المقابر في أول زيارة لها إليه وغيرها من زيارات، والحقيقة أننا فوجئنا بتصرفاتها العفوية إنما كنا حريصين على تصويرها.

مادة وفيلم

صوَّرت ريم صالح خلال تحضير «الجمعية» أكثر من 300 ساعة، ولكنها تؤكد أنها لن تستغل المادة الفيلمية المتاحة في مشروع سينمائي آخر، لمجرد أنها موجودة. أما حول مشروعها المقبل، فتقول: «لدي فيلم لبناني ينتمي إلى الأفلام الروائية الطويلة ولكنه لا يزال في بدايته».

الجريدة الكويتية في

12.10.2018

 
 

الأفلام القصيرة اشتد عودها .. وتهدد عروش «نجوم الأبراج العاجية» !

مجدي الطيب

تحلت بالجرأة .. الطرافة .. وطرح الهم الإنساني بلغة سينمائية مُبهرة وميل واضح للتجديد والابتكار

شهدت فعاليات الدورة الثانية لمهرجان «الجونة السينمائي» (20 – 28 سبتمبر 2018)، ظاهرة مثيرة، وفريدة؛ تجلت في الإقبال غير المسبوق على مشاهدة الأفلام القصيرة، التي تم عرضها في أربعة برامج متتالية، الأمر الذي أجبر إدارة المهرجان على تنظيم عروض إضافية، لمواجهة الطلب غير المتوقع، وتلبية الرغبة الجارفة في متابعة هذه الأفلام، التي تواكب الايقاع اللاهث للحياة، من ناحية، وتتبنى، من ناحية أخرى، لغة ورؤى، واعدة، وناضجة، تعكس الطفرة الهائلة، التي وصلت إليها هذه السينما، التي اشتد عودها، وصارت تهدد مكانة، وشعبية، الأفلام الروائية الطويلة.. وتكاد تُسقط نجومها من أبراجهم العاجية

اللافت للنظر أن البرامج الأربعة، التي ضمت ثلاثة وعشربن فيلماً قصيراً، اتسمت بالجرأة، الطرافة، طرح الهم الاجتماعي، واللغة السينمائية المُبهرة، الأمر الذي جعل منها وجبة دسمة، وشيقة للغاية؛ فعلى صعيد الجرأة تربع فيلم «ابن الأخ» إخراج ويلهلم كون (المملكة المتحدة، فرنسا | 2018 | 20 دقيقة)؛ بمضمونه الأخاذ، الذي لا يخلو من طرافة؛ حيث العم «جول» (لورين لو دوين) ذو الهيبة والنفوذ، الذي يعيش في مدينة بورجندي الفرنسية نهاية 1945، ويفاجيء ابن أخيه «لويس» (سيمون رويي)، ويفاجئنا، عندما يقرر الاحتفال بعيد ميلاده الخامس عشر، بطريقة غير تقليدية؛ إذ يصطحبه إلى مقهى عام، ويشجعه على تعاطي كأساً من الكحول، ثم يقوده إلى بيت للدعارة، ليمضي به سويعات قليلة، نعرف أنه تكفل بنفقاتها بالكامل، ليفض عذريته، ويساعده على ارتياد عالم الرجولة، ووسط حالة الدهشة التي تنتاب «ابن الأخ»، في البداية، إلا أنه يجتاز التجربة، بخفاياها، وقسوتها وتعقيداتها، ويخرج منها، وقد اكتشف ذاته، وزادت ثقته في نفسه. ومن المهم التنويه هنا إلى أن تصوير الفيلم، الذي اتسم بالابهار البصري، ونجح في إضفاء كلاسيكية، ومسحة تاريخية، يقف وراءه مدير التصوير المصري أحمد اللوزي .

جرأة من نوع آخر تمثلت في فيلم «ابن الرقاصة» إخراج جورج هزيم ( لبنان / 2018 / 21 دقيقة)، الذي تدور أحداثه حول الشاب العشريني «ماجد» (جورج هزيم)، الذي ماتت أمه، في حادث سيارة، ودخل والده (زياد صعيبي)، الذي يُحمل نفسه مسئولية وفاتها؛ كونه قائد السيارة، في نوبة اكتئاب، وصيام عن الكلام، و فجأة يتلقى الشاب اتصالاً هاتفياً من امرأة (كارول عبود)، تُبلغه بضرورة الحضور إلى شقة كانت تستأجرها أمه، ومع وصوله للمكان يكتشف أن أمه كانت تمتهن الرقص الشرقي، وأن لها تاريخ سري ليس خافياً على الأب، ورغم هول الصدمة، إلا أن الابن يتجاوزها، ويزداد حبه لها، وفي واحد من أكثر المشاهد صدمة يرتدي بدلة الرقص الخاص بها، ويسعى لاحتواء والده، وينتهي الفيلم، وقد فتح الإثنان صفحة جديدة في علاقتهما . وفي فيلمها «الهدية» (تونس | 2018 | 20 دقيقة) تقطع المخرج لطيفة دوغري شوط الجرأة إلى نهايته؛ بعد ما مزجتها بما أصطلح على تسميته «الكوميديا السوداء»؛ إذ تحكي قصة الزوجة المحجبة «مريم» (أميرة درويش)، التي تشعر بانصراف زوجها «صبري» (أحمد حفيان) عنها؛ لانشغاله بالتاكسي الذي يعمل عليه، وتنتهز فرصة الاحتفال بذكرى زواجهما، فتلجأ إلى «ترقيع» غشاء بكارتها، وفي ظنها أن عودتها عذراء من جديد، ستكون «الهدية»، التي تفاجيء بها زوجها، لكن السحر ينقلب على الساحر؛ بعد ما يظن زوجها بأنها، وأهلها، خدعوه، وراح يبحث عما يضمن له بأنها لم تلجأ إلى «الترقيع» ليلة زفافهما !

العمق الإنساني

بمنأى عن الجرأة، راح البعض، من المخرجين، يولي اهتماماً كبيراً بالهم الإجتماعي، والإنساني، ويرصد انعكاس منغصات الحياة اليومية على البشر؛ وهو ما ناقشته، برقة بالغة، المخرجة ناتاليا كونشلوفسكي في فيلمها «ربيع» (روسيا | 2018 | 23 دقيقة)؛ حيث الأم الخمسينية «مارينا» (سفيتلانا بيسميتشينكو)، التي تصل إلى مدينة سانت بطرسبورج، لتشارك ابنتها الاحتفال بعيد ميلادها، لكن الإبنة لا تبدو سعيدة، بزيارتها، وربما تشعر أنها تُفسد خصوصياتها، وحريتها، ومن ثم تشعر الأم بالوحدة، والتعاسة، لكن الحال يتغير إلى النقيض، بعد ما تتعرف، في حفل تقيمه ابنتها، على الشاب «أرتيوم» (ألكسندر شينكاريف)، الذي يُنهي غربتها، ويُعيد إليها الرغبة في الحياة، وتشعر معه، وكأنها استعادت «ربيع» عمرها، وهو المدخل الإنساني، الذي يتكرر، بشكل آخر، في فيلم «عبد الله وليلى» (العراق، المملكةالمتحدة | 2018 | 20 دقيقة)؛ فالمخرجة عشتارالخرسان تلمس شغاف القلوب بفيلمها المُزلزل، الذي يحكي مأساة الكهل العراقي «عبد الله» (الممثل المخضرم سامي عبد الحميد)، الذي يعيش مع ابنته «ليلى» ( هدى الشوفاني) في لندن، ويقاوم مرض «الألزهايمر» بذكرياته في بغداد، وصوت ناظم الغزالي الذي يُنعشه، بينما تحاول ابنته جاهدة إعادته إلى الحاضر، والتواصل معه قبل أن ينساها أو تفقده . ومع فيلم «حُكم» (الفلبين | 2018 | 15 دقيقة)، تأخذ الجرعة الإنسانية منحى آخر؛ بعد ما يسجل المخرج ريموند ريبا جوتيريز تعاطفاً كبيراً حيال الزوجة «جوي» (ماكس ايجينمان)، التي تحولت حياتها إلى جحيم، بسبب إدمان زوجها «دانتي» (كريستوفر كينج) المخدرات، والاعتداء عليها بالضرب، والإيذاء النفسي، ورغم كونها أم لطفلة في الرابعة من عمرها، إلا أنها تقرر، بعد ما طفح بها الكيل، مقاضاته، بكل ما تمثله الخطوة من استنكار، لدى أهله والمجتمع؛ الذي يُنكل بها، ويُعرضها لأشكال شتى من الإهانة، لمجرد أنها تشبثت بالمضي في إجراءات رفع الدعوى القضائية، ويبذل البعض محاولات عدة لإثنائها عن قرارها؛ بحجة أن عنف الرجل شرٌ لابد منه، وينبغي على المرأة الاستسلام له !

أما فيلم «إيفا» (سويسرا | 2018 | 15 دقيقة)، فلا تكتفي مخرجته زينيألوشي بطرح الهم الإنساني، من زاوية مبتكرة، تتأرجح بين الواقعية والفانتازيا، بل تُبدع في التوصل إلى لغة بصرية مُبهرة؛ من خلال الفتاة «إيفا» (أنينا فالت)، التي تشعر بتأنيب الضمير، لأنها عجزت عن إنقاذ شقيقها من الغرق، رغم كونها سباحة ماهرة، وتتوتر علاقتها وأمها، بعد أن يدخل الطفل في غيبوبة، وتبذل قصارى جهدها لانقاذه، حتى لو أدى بها الأمر إلى الغوص عبر البقعة الغامضة، التي تظهر في حمام المنزل، وتقودها إلى أعماق البحر. وفي فيلم «أخبار منوعة» (سويسرا | 2018 | 19 دقيقة) يتوقف المخرج ليون يرسان، من زاوية شيقة، ومثيرة، عند أزمة «جريجور» (بيير سيفير)، الذي يُفاجأ ذات صباح بالبوليس يطرق بابه، ليتسلل من شرفة شقته، إلى شقة جاره، الذي عُثر عليه ميتاً، وتحللت جثته، ما يُدخل الشاب في متاهة، تقلب حياته، التي كانت مستقرة إلى حد كبير.

التطرف البغيض

لا يمكن الحديث عن الهم الإنساني، ومنغصات الحياة اليومية، من دون التوقف عند ظاهرة العنف الديني، أو التطرف، الذي يخيم على واقعنا العربي، واحتل حيزاً من اهتمام مخرجي الأفلام القصيرة، وإن اختلف التناول من مخرج إلى آخر؛ فالمخرجة التونسية كوثر بن هنية، اختارت، في فيلمها «بطيخ الشيخ» (تونس، فرنسا | 2018 | 23 دقيقة)، معالجة ظاهرة الصراع على السلطة الدينية، من زاوية طريفة للغاية؛ حيث إمام المسجد «طاهر» (أحمد الحفيان)، الذي وافق على أن يؤم صلاة الجنازة علىسيدة مجهولة، ويأمر المصلين بالتبرع بالمال من أجل دفنها، قبل أن يُدرك أنه تعرض لمكيدة حاكها تلميذه، ومساعده، «حامد» (بلال سليم)، رغبة من في اقصائه عن منبره، واسقاط هيبته لدى مريديه، ومن ثم احتلال مكانته، والتمتع بجاهه ونفوذه وشعبيته. أما المخرج السوري الليث حجو فيرصد في فيلم «الحبل السري» (2018 | 20 دقيقة)، الذي كتبه رامي كوسا، واقع الأزمة السورية، وانعكاساتها على المواطنين؛ من خلال الزوجة «ندى» (نانسي خوري)، التي تداهمها ألام المخاض، لكن زوجها،«وليد» (يزن الخليل) لا يستطيع أن يذهب بها إلى المستشفى، بسبب الحصار المفروض على الحي، والقناص الذي يتربص بكل شيء حي، وعندما يفكر في الاستعانة بالقابلة يمنعها الرصاص من الاقتراب، ما يُجبرها على الولادة في صندوق السيارة. لكن الغريب أن الفيلم، الذي أنتجه الاتحاد الأوروبي؛ عبر منظمتي “مدني”، و”البحث عن أرضية مشتركة”، بالتعاون مع شركة “سامة” للإنتاج الفني والتوزيع، ينتهي من دون أن يُحدد هوية القناص، والجهة التي ينتمي إليها، بما يترك الباب مفتوحاً للايحاء بأنه تابع للقوات النظامية في ما قيل إن الكاميرا أظهرت عينيه الخضراوتين بما يعني أنه عميل أجنبي !

من جهتها كانت السينما المصرية حاضرة، ولم تترك ظاهرة التطرف الديني من دون أن تتعرض لها؛ وهو ما رأيناه في فيلم «ما تعلاش عن الحاجب» (2018 / 21 دقيقة)، إخراج تامر عشري، وتأليف هيثم دبور، الذي يقتحم الظاهرة من زاوية تقطر بالسخرية اللاذعة، التي تفضح المتطرفين، وتتهمهم بالجهل، والانشغال بتوافه الأمور؛ حيث يحتدم الحوار بين «عائشة» (أسماء أبو اليزيد) وصديقتها «سالي» (مريم الخشت)، بعد ما عنفت الثانية صديقة دراستها في كلية الطب، لأنها تفكر في «نتف حاجبيها»، وهي لم تتزوج بعد، وتستنكر طلبها «الأيس كريم بالبسكويت» لأنها ستضطر إلى أن «تلعقه»، فيما تعترف بأن زوجها نهاها عن ترك الهاتف في وضع Vibration «الاهتزاز» .. إلى آخر أفكار الدجل، والشعوذة، التي تتمسح بالدين، وهي في الحقيقة تشوهه، وتتلاعب به !

التجديد والابتكار

الأفكار الخلاقة، والنزوع إلى التجديد والابتكار، كان لهم مكان، أيضاً، في التجارب الشابة، التي عرضها المهرجان؛ وهو ما تمثل في فيلم «أهلاً، احتاج لأن أكون محبوباً» (الولاياتالمتحدة | 2018 |11 دقيقة)؛ الذي وجهته مخرجته مارني إلين هيرتزر، للمخرجين، والمبدعين، والمشتغلين بالفنون بوجه عام؛ بأن استحضرت بعض الجمل، من رسائل إلكترونية عشوائية، وطلبت من بضع هواة أدائها كلٌ بطريقته، وبمشاعره، الخاصة، في محاولة لاستحضار الصوت الإنساني داخل الرسائل الآلية، وكانت النتيجة مُبهرة، وفريدة، بمعنى الكلمة . أما المخرجة نارا نورماندي فقدمت، في فيلمها «جواكسوما» (فرنسا، البرازيل | 2018 | 14 دقيقة)، رؤية مبتكرة لتجربتها الحياتية، وسيرتها الذاتية، مزجت فيها فن التحريك، بالسينما الوثائقية، وتوظيف الصور الفوتوغرافية، في محاولة طموحة لاستعادة ذكرياتها، وسرد حكايات طفولتها، التي عاشتها، وصديقتها «تايرا»، على شاطئ جواكسوما في ولاية ألاجواس شمال شرقي البرازيل، قبل أن يفترقا !

الـ FaceBook في

14.10.2018

 
 

«يوم الدين»… أوديسة مصرية أقرب إلى سينما المؤلف

عدنان حسين أحمد

الجونة: عُرض ضمن مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لمهرجان الجونة في دورته الثانية، فيلم «يوم الدين» للمخرج المصري أبو بكر شوقي، الذي استوحاه من فكرة فيلمه الوثائقي «المستعمرة» الذي أنجزه عام 2009، وهو لم يخرج بعيدا عن إطار ثيمته السابقة التي تتحدث عن معاناة الناس المصابين بمرض الجذام، لكنه لوى عنق هذه الفكرة في فيلمه الروائي الطويل الأول «يوم الدين» ومنحه بُعدا إنسانيا يندر أن تجده عند أقرانه ومجايليه من المخرجين المصريين الشباب، على وجه التحديد.

الفيلم ينتمي إلى سينما المؤلف فهو كاتب السيناريو ومخرج الفيلم من جهة، كما أن لمساته وأفكاره الأخرى تسللت إلى متن التصوير، والمؤثرات الصوتية والبصرية، ولا بد أنه كان حاضرا في عملية المونتاج، التي منحت الفيلم سلاسة في التدفق، وعفوية واضحة في أداء الممثلين، خاصة بشاي «راضي جمال» وأوباما «أحمد عبد الحافظ»، إضافة إلى الشخصيات الأخرى مثل الممرضة، والشحّاذ، ووالد بشاي، ورجال الشرطة، والسجين الذي سيهرب برفقة بشاي. وأكثر من ذلك فإن الفيلم يعتبر من أفلام الطريق الناجحة، التي تطوف بالمُشاهد في مدن وقرى الجنوب المصري مثل، سوهاج وقنا وعدد غير قليل من القرى المصرية التي نشاهدها على ضفتي النيل.

قصة محبوكة

لا شك في أن قصة الفيلم رصينة ومحبوكة جدا وهي تكشف عن كاتب سيناريو يعرف ماذا يريد بالضبط، وهو قادر على تحويل البؤرة القصصية أو الحكائية إلى خطاب بصري يمنح المُشاهد متعة إضافية، خصوصا إذا كانت القصة تنطوي على جانب درامي ومأساوي يحرك مشاعر المتلقين. يقدّم المخرج بطله بشاي بطريقة مغايرة للمألوف، فعلى الرغم من مأساوية الحدث إلا أن القصة تنأى بنفسها عن السقوط في الفخّ الميلودرامي، الذي يقود المشاهد إلى البكائيات، ولو تمعّنا جيدا في شخصية بشاي لوجدناها إيجابية، ومُحبّة للحياة، ومُشاركة فيها. ففي إطلالته الأولى نعرف أنه شُفي من مرض الجذام، لكنه ما يزال يحمل آثاره التي غيّرت ملامح وجهه، وهو يرفض بشدة أن يغادر المستعمرة بعد أن تماهى مع المرضى الآخرين، الذين يجد نفسه فيهم. كما توّلدت لديه علاقات حميمة لا يستطيع أن يتخلص منها بسهولة مثل، أوباما الذي صار يشبه ظله ولولاه لما نجحت هذه الرحلة الطويلة في الجنوب المصري.
كان بشاي يعتاش على بيع الحاجات القديمة التي يجدها في القُمامة كل يوم. وكان سعيدا وراضيا بمكسبه المادي، على الرغم من ضآلته. وحين تموت زوجته يقرر مغادرة المستعمرة بحثا عن أهله وذوية الذين تخلوا عنه وهو طفل صغير لا يتذكر أي شيء، فكيف ستكون تجربة العودة إلى مسقط رأسه؟ لم تكن القصة رتيبة وإنما حُبلى بالأحداث والمفاجآت الكثيرة، التي تمنح الفيلم نكهة مميزة لا تخلو من انتقادات حادة، وسخرية لاذعة من بيروقراطية الدولة، وديمقراطيتها الحديثة، واهتمامها بالمواطنين البسطاء وما إلى ذلك. وحينما يصل إلى أسرته في قنا، ويتم الاحتفال بمقدمه ووصوله سالما، بعد أن ظنّوه مات بسبب هذا المرض العضال. وخلافا لتوقعات المُشاهدين الذين يعتقدون بأن بشاي سيبقى في قريته النائية ليواصل ما تبقى من حياته هناك، نراه يقرر العودة إلى المستعمرة ليعيش بين الناس الذين تربى بينهم، وعرفهم عن كثب.

حذاقة الصورة

يراهن المخرج أبو بكر شوقي على الصورة السينمائية، التي تعمل وفق البنية الدرامية للحدث، فهما، أي الصورة والحدث متضّامان، ومتواشجان، فالصورة تريد أن تعبّر عن الحدث وتتفوق عليه، لأن هدف المخرج أبعد من حدود الروي أو الكلام، وقد ساعدته البيئات المختلفة في تحقيق هذا الحلم البصري، الذي سيظل عالقا في ذاكرة المتلقين. تقترب ثيمة الفيلم من هدف مهرجان الجونة المتمثل باستقطاب الأفلام ذات المضمون الإنساني، ولا أعتقد أن هناك فيلما مشاركا في هذه الدورة في الأقل أكثر إنسانية من ثيمة هذا الفيلم وفكرته الموجعة التي تحرّك المشاعر، وتلامس الوجدان. ولو أنصفنا الفيلم لقلنا إن شخصيتيه الرئيستين لا تخلوان من فُكاهة، وخفة ظل، بل إنهما تحتفيان بالحياة وتعيشانها بكل الاتجاهات ولهذا قرّرتا، مع سبق الترصد والإصرار، العودة إلى نقطة الانطلاق، واستئناف حياتهما من جديد.
عرض الفيلم في مهرجان «كان» هذا العام ورُشح لجائزة الأوسكار ممثلا لمصر، وهو الترشيح الثاني بعد فيلم «الموقعة» ليسري نصرالله عام 2012، ويلقى هذا النمط من الأفلام حظا أوفر في الفوز في الغرب الأوروبي الذي يرصد هذه الثيمة بعين العطف والمحبة والاهتمام.

القدس العربي اللندنية في

15.10.2018

 
 

الفائز بجائزة مهرجان الجونة السينمائي لأفضل فلم روائي عربي طويل

يوم الدين للمخرج أبو بكر شوقي

كاظم مرشد السلوم

هي دعوة لتقبل الأخر المبتلى بمرض شوه شكله ، وتغير رؤية المجتمع للمهمشين . حيث مازالت الكثير من العادات والتقاليد المجتمعية ترفضهم ، بل ان البعض لا يتفاءل لرؤيتهم خصوصا في الصباح الباكر .

العنوان

يبدو ان مخرج الفلم أراد ان يكون الفلم يحمل دعوة لتقبل الاخر ، بدءا من العنوان ، فيوم الدين ، هو يوم الحساب ، وتقول الميثولوجيا الدينية ، ان  لا فرق بين البشر حينها ، ولا وجود لعاهة خلقية ، فالجميع متشابهون في اشكالهم ، وقد تكون هذه الرؤيا ، وسيلة مواساة لمن ابتلى بمرض تسبب بتشوه شكله .

الحكاية

تبدا الحكاية من مستعمرة الجذام ، وهي مستعمرة حقيقية  موجودة في مصر يعيش فيها المصابون بالجذام ، متكيفين مع واقع الحال الذين هم عليه .

"بشاي" احد المتعافين من مرض الجذام ، لكن المرض ترك تشوها كبيرا على وجهه واطرافه ، ورغم شفاؤه الا انه بقي في المستعمرة ، فلا مكان بديل يمكن ان يذهب اليه ، فقد وجد نفسه فيها منذ ان كان طفلا تركه أهله على بابها ، يعمل على ما تجود به النفايات من أغراض قد يتمكن من بيعها ، عدته في عمله عربة يجرها حمار ، او ما تسمى بالعامية المصرية " كارو ".

في ملجأ الايتام القريب من المستعمرة ، يعيش الطفل " أوباما " الاسم جاءه لأنه اسمر ، متعلق ببشاي ويحاول اللحاق به أينما ذهب .

بعد ان تشافىه من الجذام ، يحاول  بشاي معرفة نسبه وعنوان أهله ، يذهب الى الدوائر المعنية بذلك ، فيظهر انهم يعيشون في مدينة " قنا " فيقرر الذهاب الى هناك ، ويصر الطفل أوباما على مرافقته رغم رفضه لذلك ، فهو الاخر لا أهل له .

معاناة كثيرة يمر بها بشاي وأوباما في طريق رحلتهما الى قنا ، لكن في النتيجة يصلون الى هناك ، ويدخل بيت اهله بعد تردد مخافة رفضه بسبب شكله ، واستغراب اخاه من بقائه على قيد لحياة .

في النهاية يقرر بشاي العودة الى المستعمرة فرغم التعاطف الذي لقيه سواء في طريق رحلته ـ او تقبل عائلته له ولو على مضض ، يقرر العودة الى المستعمرة ، لأنها المأوى الأمثل له .

الاشتغال

فلم يوم الدين ، واحدا من أفلام الطريق التي غالبا ما تصف رحلة شخص من مكان الى اخر ، وعرض ما يرافق هذه الرحلة من صعاب ومشاكل ، قد يتعرض لها هذا الشخص ، وفق خط درامي واضح .

لكن أبو بكر شوقي لم يلتزم بما يحتم عليه هذا النوع من الأفلام ، بشكل كامل ، حيث ان الخط الدرامي لرحلة بطله بدا سلسا، رغم بعض الصعوبات ، وهذا ما أضعف التصاعد الدرامي للفلم ، وبدا البطل غير مهتم بكل ما يتعرض له من عقبات في طريق رحلته ، حيث التعاطف هو السمة الأكبر لتعامل الناس معه طوال الرحلة ، في حين كان من المفترض ان تكون هناك العديد من العقبات التي يمكن ان تؤثر بالمتلقي أولا ، لتزيد شحنة التعاطف مع البطل ثانيا، وبالتالي تصعيد فكرة تقبل الاخر واستيعابها ، لكن يبدو ان أبو بكر شوقي ، قد راهن على تحقيق ذلك من خلال الاكتفاء بان بطله شخص مصاب بالجذام  فعلا ، واعتقد ان هذا غير كاف .

لذلك فقد ركز كثيرا على بطله راضي جمال " بشاي " من خلال تحريكه بشكل سليم ، دون باقي ممثليه ، خصوصا الطفل " أوباما" محمد عبد الحافظ ، وباقي الممثلين ، وقد يكون عذر المخرج شوقي هو ان هذا الفلم هو تجربته الأولى بإخراج فلم روائي طويل .

نجح شوقي في استخدام الحوار ، خصوصا ذلك الذي يخص بطله ، كونه حوار فيه الكثير من كشف شخصية البطل البسيطة المرحة ، والتي لا تعرف الكثير عما يدور خارج المستعمرة لتي يعيش ، لكن في مواضع أخرى ، كان يمكن للصورة ان تكون بديلا للحوار ، خصوصا واننا امام فلم سينمائي ، يخضع لقاعدة ، الصورة أولا ، ومن ثم الحوار .

التصوير وحركة الكاميرا ، كان موفقا ، خصوصا تلك الزوايا واللقطات المعبرة ، عن سير الاحداث ، ووجهة نظر الشخصيات ، فلم يجامل شوقي ويجمل الأماكن التي مر بها بطله في رحلته الطويلة ، بل عرض لنا كم من البؤس والفقر الكبير في عديد المدن والقصبات التي مر بها بطله ، وهو ما يحسب له ، ضمن سياق الواقعية التي انتهجها أسلوبا لفلمه .

أخيرا ، فان فلم يوم الدين الذي رشح لأوسكار أفضل فلم أجنبي ممثلا للسينما المصرية ، يعد واحدا من أهم الأفلام التي انتجت في هذا العام ، فقلة هي الأفلام التي تتناول هكذا موضوعة ، وتكشف عن المسكوت عنه ، لذلك استقبله الجمهور ساعة عرضه في مهرجان الجونة السينمائي الثاني ، بحفاوة بالغة ، ونال جائزتين ، الأولى جائزة سينما من أجل الإنسانية ، وكذلك جائزة أفضل فلم عربي روائي طويل ، وهو يستحق كلا الجائزتين ، كما لاقى استحسان واهتمام الجمهور في مهرجان كان السينمائي وكان مرشحا للسعفة الذهبية فيه ، وحصل على جائزة شرفية هي جائزة فرانسوا تشاليز .

يقول بطل الفلم راضي جمال " كل ما تحدث عنه الفلم قد عشته في المستعمرة ، وأكثر ما يؤلمني نظرات الناس الي ، فهناك من يتعاطف ، وهناك من يتشأم ، وهناك من يشمئز "

Saloom­_k58@yahoo.com

بين النهرين العراقية في

18.10.2018

 
 

"يوم الدين".. أنشودة شاعرية للذات المهمشة

خالد عبدالعزيز

يقول أندريه تاركوفسكي:"دافعي لعمل الأفلام مساعدة الناس على الحياة، حتى لو أصبحوا في منتهى البؤس والتعاسة في بعض الأوقات ". وفيلم يوم الدين سيناريو وإخراج أبو بكر شوقي يسعى لتقديم رؤية رحبة للحياة تتقبل كل الأطياف بعيداً عن أي اختلافات جوهرية، رؤية تجعلنا نرى المُهمشين والمنبوذين بحياتهم التي تقع على الجانب الأخر من المجتمع من زاوية آخرى، نظرة موغلة في ذواتهم وعوالمهم التي لا ندري عنها شيئاً.

أحداث الفيلم تدور حول " بشاي" ( راضي جمال ) مريض الجذام المتعافى، الذي ينطلق في رحلة طويلة برفقة "أوباما" ( أحمد عبد الحافظ ) صديقه الطفل اليتيم النوبي نحو بلدته بالصعيد باحثاً عن أهله، اللذين تركوه لسنوات طويلة مُباغت بالوحدة يُواجه المرض في مستعمرة الجذام

من الشمال إلى الجنوب 

يبدأ الفيلم بمشهد نرى فيه بشاي وهو يلتقط من بين مسطحات القمامة ما يصلح للبيع، لنراه بعد ذلك في طريق عودته لبيته في مستعمرة الجذام، فقد اختار السيناريو أن يكون المكان الرئيسي الذي تنطلق منه القصة من المستعمرة التي تقع في مكان منعزل في أبي زعبل، وكأنها عالما قائما بذاته، له قوانينه وحياته التي تخصه وحده، فقد صورها السيناريو وكأنها يوتوبيا مُنغلقة على من بداخلها، أما العالم الخارجي فيكاد يكون وجوده منعدما، اختيار رمزي وإن كان رمزه بالغ الوضوح بشكل لا يُحفز عقل المشاهد على العمل لتفكيك رمزيته ودلالته، الذي يُعبر عن المُهمشين بصفة عامة، وبالتالي جاء اختيار المكان الأخر ملجأ الأيتام الخاص بأوباما هو الأخر لتدعيم تلك الرمزية، شخصيتان يقعان على تخوم العالم ينطلقا في رحلة بحث عن الجذور والهوية، رحلة تحوي من الفشل أضعاف ما تحوي من النجاح.

بعد وفاة زوجة بشاي، يكتشف وحدته وأنه بلا أهل، لتُصبح وفاة الزوجة هي القوة الدافعة للأحداث، منها يتغير مصير بشاي وحياته، تبدأ الرحلة التي لا يكون قوامها سوى بشاي وأوباما وحربي الحمار الهزيل الذي يجر العربة الكارو من المستعمرة التي تقع في شمال مصر نحو جنوبها متجهة لقنا، رحلة أشبه بإنتقال موتى قدماء المصريين بعد وفاتهم من البر الشرقي نحو الغربي حيث العالم الأخر، رحلة كاشفة للذات وموغلة داخل المجتمع وفئاته، نرى فيها مصر بعين مُغايرة كما لم نرها من قبل.

يلتقي بشاي في طريقه بنماذج عدة، كل منها يُمثل فئة ما، اشتركت جميعها بأنها تبعدُ عن المركز المدينة، وأيضاً يرفضون بشاي ويرهبون وجوده، وقد عبر السيناريو عن هذا الرفض بمشاهد عديدة أبرزها حينما يكتشف مُحصل التذاكر داخل القطار المتجه إلى قنا أن بشاي وأوباما لا يملكان ثمن التذاكر، ليتشاجرا مع المُحصل الذي يقذف بشاي بعيداً، لتتلقفه أيدي الركاب وكأنه خرقة بالية ليصرخ قائلاً " أنا مش بني آدم ولا أيه ؟ "، على الجانب الأخر لا يقبله سوى من هم منه وينتمون إلى نفس درجته وبيئته مثل مجموعة الشحاذين أسفل الكوبري، فجميعهم يُعانون من التهميش والنبذ، وكأن بتشاركهم معاً يكونون عالماً موازياً لا يخص سواهم

بشاي وأوباما

يبدو "يوم الدين" مهموماً بالأخر، ذلك الذي يختلف عن المألوف أو السائد، من هذه النقطة جاء اختيار شخصية بشاي مريض الجذام المتعافى، فمضمون الفيلم ليس عن مرضى الجذام إنما يمتد لما هو أوسع وأشمل المُهمش أو المنبوذ بصفة عامة، بشاي ليس إلا رمزاً. مريض وقبطي، يكاد يجهل وجود حياة أخرى خارج حدود المستعمرة، يخشى مواجهة المجهول ذلك العالم الذي لا يُدرك عنه شيئاً، وفي نفس الوقت يبدو غير قانع بذاته وغير متصالح معها، كما يتضح من مشهد المقابلة بينه وبين شقيقه وهو مُنكمش على ذاته خشية الرفض مرة أخرى ليخبره شقيقه بألا يخاف ولا يُداري وجهه، فقد رسم السيناريو شخصية بشاي بتكوينه الجسماني والنفسي بشكل متوافق تماماً مع الدراما، رغم ما يُعانيه من ألم ووحدة يحوي بداخله تلقائية وحب جارف للحياة ورغبة حقيقة للإشتباك معها والإحتكاك بها، ففي أحد المشاهد نراه وهو يركض بعربته المتهالكة في الصحراء وهو يقف أعلى العربة وكأنه Cowboy فِرح بحريته وبمجابهته للصحراء والعالم الخارجي.

أما أوباما رفيق الرحلة، طفل نوبي يتيم، توليفة مُعبرة هي الأخرى عن التهميش، تربطه ببشاي علاقة ليست صداقة فحسب، كل منهما يُكمل الأخر، أوباما الذي فقد أهله في النوبة يبدو في حاجة إلى أب أو من يحتوي وحدته، وبشاي لا ولد له ولا نسل، علاقة قوامها الإحتياج ودرأ الوحدة، يرتبط مصيرهما معاً وتتوطد علاقتهما أثناء الرحلة، يكون أوباما فيها خير مُعين لبشاي على التعامل مع الواقع الخارجي، فنجده في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم حينما يصنع قبعة بغطاء وجه ليتمكن بشاي من ستر وجهه حتى يتسنى له التعامل مع الأخرين بحرية ودون حرج، لتنطلق أغنية الفور أم " الولا ده " كخلفية موسيقية لتُصبح كلمات الأغنية وكأنها تربت على كتف بشاي تُهون عليه خوفه

مخرج على الطريق

"أبو بكر شوقي في أولى تجاربه الروائية الطويلة بعد فيلمه " المستعمرة " الذي أخرجه منذ عشرة سنوات، قدم إلى حد ما فيلم مُتماسك، إنساني للغاية أعتمد على العاطفة لبث مضمونه بشكل يقتحم قلب المشاهد بسهولة ويُسر مُعتمداً على التلقائية والطبيعية التي غلفت السيناريو والحوار، مثل الحوارات المتداولة بين بشاي وأوباما التي جاءت عفوية وكأنه أدار الكاميرا لينطلق الممثلين في ممارسة حياتهم دون الحاجة إلى حوار مكتوب، جعلت الآداء بين راضي جمال و أحمد عبد الحافظ مُتناغماً وحيوياً ضاجاً بالصدق دون افتعال

أما من الناحية البصرية فالصورة غنية بالتفاصيل، بداية من اللقطة الإستهلالية للفيلم، حيث ينفتح المشهد الأول على بقعة متسعة في الصحراء تحوي نفايات ومخلفات قديمة، ويلتقط بشاي ما يصلح للبيع من بين هذه التلال، ومع ذلك لم يشعر المتفرج بأي آذى أصاب عينه، فقد أجاد شوقي توظيف المكان وتكويناته وبالتالي تعتاد العين على المشهد وتألفه بسهولة. تتقاطع أحلام بشاي وذكرياته مع واقعه في قطعات مونتاجية حادة، ليمتزج الواقعي بالمتخيل، بشكل أضاف للسرد والشخصية بُعداً أخر عن رؤاها وأحلامها، ففي أحد المشاهد يقف بشاي أمام النيل يُشاهد مجموعة من الشباب يرقصون على ظهر مركب على إحدى الأغاني ثم يعود فجأة للوراء مُتذكراً يوم أن وصل المستعمرة التي سيفقد فيها أي تواصل يربطه بالعالم الخارجي، وفي مشهد أخر نري بشاي وهو يقف أمام المرآه ليظهر وجهه طبيعياً خالي من الجروح، لتبدو هذه المشاهد وكأنها تُعبر عن رغبة بشاي في العودة إلى فطرته وطبيعته التي أهدرها المرض

رغم جماليات الفيلم إلا أنه لم يخلو من بعض السلبيات والثغرات التي أثرت على السرد بصورة واضحة، بدا الضعف ملموساً في الجزء الأخير من الفيلم، حينما يلتقي بشاي وأوباما أثناء الرحلة بمجموعة الشحاذين والمنبوذين أسفل الكوبري، لنكتشف فجأة أن موقعهم يقع بالقرب من ملجأ الأيتام السابق الذي كان يُقيم فيه أوباما، وبأن هذا الملجأ موشك على السقوط بعد الزلزال وتم تهجير المقيمين فيه، رغم أن أوباما ولد في 2004، فكيف كان يُقيم أوباما بالملجأ ؟ وأمتد الضعف في السيناريو للجزء الخاص بمقابلة أوباما وبحثه عن أهل بشاي، يجد أهله فجأة دون أي عناء!، ثم يلتقي أوباما بشقيق بشاي الذي يتحدث بلهجة قاهرية لا تمت بصلة لأهل الصعيد، رغم أن أوباما لهجته لاتزال مُتأثرة بنشأته.

كما أن بعض الأجزاء من الحوار بدت مُباشرة ونبرتها الوعظية طاغية على حسها الفني، مثل الجمل الحوارية التي يُلقيها زعيم الشحاذين في سوهاج عن إنتظاره ليوم الدين حتى يتساوى البشر بعيداً عن أي اعتبارات أخرى، ليبدو الحوار في هذه المشاهد يفتقر للمنطقية والإقناع بشكل أخل بالسياق العام للدراما

كلمة أخيرة

يقول انجمار بيرجمان: " أريد إيجاد صلة مباشرة بيني وبين الناس لأخبرهم بأشياء عن أنفسهم وعني أيضاً، فربما يصبح بإمكاننا بالوسائل المتواضعة تغيير بعض الأشياء ولو كانت أشياء صغيرة " وفي المشهد الأخير من الفيلم الذي يُعد الاجمل نرى بشاي وهو يقذف القبعة التي اهداها له أوباما، وكأنه تصالح مع ذاته وقنع بمواجهة العالم كما هو دون حاجة لأي مواربة، وكأنه أكتشف بعد رحلته أن جذوره وعالمه الأصيل يقع من حيث أتى في المستعمرة وما خارجها ليس سوى عالم بلاستيكي لا ينتمي إليه ولا يشعر تجاهه بأي رابطة. ليبدو الفيلم رسالة شاعرية مُحبة للعالم تدعو التصالح مع الذات وتقبلها كما هي

موقع "في الفن" في

18.10.2018

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)