الناقد السينمائي الإيطالي جونا نازارو:
في المتوسط العربي سينما جديدة رائعة
عرفان رشيد
الوسط السينمائي المتوسطي يتوقع أن تكون اختيارات
“أسبوع النقاد” للدورة الثالثة والثلاثين للبرنامج في مهرجان
فينيسيا إضافة جديدة في إطار اكتشاف الطاقات الجديدة.
منذ تأسيسه في عام 1984 من قبل الناقد والبروفيسور
الراحل لينو ميتشيكي، الذي تولّى في نهاية التسعينات رئاسة بينالي
فينيسيا، وخلال سنواته الـ33 الماضية، صار برنامج «أسبوع النقّاد»
في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، محطّة أساسية وهامة للطاقات،
ورفد السينما العالمية بالعديد من المخرجين الذين أكّدوا حضورهم
الهام على الخارطة السينمائية، وما أسماء من قبيل كيفين رينولدز،
مايك لي، بيتير مولان، أوليفييه آسّاياس، عبداللطيف كشّيش، بابلو
ترابيرو، علاءالدين سليم وعدد آخر من المخرجين الذين فازوا بجوائز
المهرجانات الكبرى كـ«كان» و«فينيسيا» و«برلين» وترشّحوا لجوائز
«الأوسكار» إلاّ بعض من المخرجين الذين أنجزوا خطوتهم الأولى في
هذا البرنامج، ما جعل منه، كما يقول المفوّض العام للبرنامج
(المدير الفنّي) جونا نازارّو، ”مصنعا للطاقات السينمائية التي
ترسم دائما مستقبل السينما العالمية“.
يتوقّع الوسط السينمائي المتوسطي أن تكون اختيارات
“أسبوع النقاد” للدورة الثالثة والثلاثين للبرنامج في مهرجان
فينيسيا إضافة جديدة في إطار اكتشاف الطاقات الجديدة والمخرجين
الذين سنسمع عنهم الكثير في السنوات المقبلة.
ويقول جونا نازارو “ما سنُشاهد هذا العام ضمن
برنامج أسبوع النقّاد سيكون نوعا من السينما الساعية إلى فتح أبواب
على العالم. فبينما استبقنا في العام الماضي، بشكل واسع، مجمل
السجال الذي تفجّر حول أوضاع المرأة والمشاعر الأنثوية المُغيّبة،
فقد رأينا أنّ من المناسب أن نُركّز انتباهنا في هذه الدورة على
سينما بدت لنا حيوية وناشطة أكثر من غيرها“.
وقد لمس نازارّو هذه الحيويّة في الشرق الأوسط
وشمال أفريقيا، إذْ قضّى الربع الأخير من العام الماضي وشهورا من
العام الحالي يتجول في العالم العربي، يقول ”خلال سفرات عديدة،
استرعت انتباهي الحيوية الثقافية والإبداعية الكبيرة لسينمائيي ما
يُسمّى بإقليم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وقد لمست تلك الحيويّة
الفائقة خلال المختبرات وورشات العمل والمهرجانات التي حضرتها
وخلال لقاءاتي وأحاديثي مع الفنانين، ناهيك عن تأثيرات الموجة
الطويلة لتيار ‘النوفيل فاغ’ السوريّة في المنفى والتي لم تستنفد
بعد جميع تردّداتها، وأعني بذلك سينما المهاجر السوريّة“.
افتحوا عيونكم
يضيف نازارو “لقد اكتشفت خلال زياراتي إلى تلك
البلدان وخلال لقاءاتي مع المثقّفين والفنانين، الكثير من الكتب
والنصوص والأفكار، وإذا ما أُتيحت لي فرصة التعرّف على طبيعة تنظيم
داعش، فالفضل في ذلك يعود مثلا إلى مخرج إيراني، وإذا ما اكتشفت
فلاسفة عربا ملتزمين في إقناع الشبيبة العربية بالنأي بأنفسهم عن
بعض الخيارات، فقد تمّ لي ذلك عبر زياراتي للمكتبات التونسيّة،
وإذا ما اكتشفت وجود حركة مناهضة للأصوليّة، فأنا مدينٌ بذلك إلى
أصدقاء جزائريّين الذين أماطوا لي اللثام عن أمور عديدة، ولم يحدث
ذلك بالتأكيد عبر صيحات من يرفعون شعارات التخويف والترهيب
المناهضة للإسلام، لكنّ كلّ هذه أمور لا تتمكن من عبور عتبات
مكتباتنا أو أبواب استوديوهاتنا وبرامجنا التلفزيونيّة. وإذا ما
وجب عليّ أن أدّعي لخياراتي السينمائية قيمة سياسيّة ما، فهي
الدعوة التي أطلقها باحثون حين قالوا ‘افتحوا عيونكم!’، وإن
‘المتوسّط مكان ينبغي أن يُهمّنا جميعا!’، وبأن ما سيحدث في
المتوسّط سيعني الجميع. ليس هذا اكتشافا لبعض سياسيّي اليوم، بل هو
منذ مطلع الثمانينات، إن لم يكن قبل ذلك بكثير. وما هو مثير
للاستغراب أن تجد الكثيرين مندهشين ومُتفاجئين إزاء ما يحدث هناك،
وبالذات في صدد ما يحدث من عودة مُخجلة للعنصرية. ويحدث هذا في
الوقت الذي تشهد فيه بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،
إنتاجا ثقافيّا كثيفا، يُشيح الغربيون عنه النظر بدعوى عدم وجود ما
يتحرّك هناك. وما يجري هنا هو أنّنا نُعطي صورة سطحيّة وبليدة، لا
تفيد أحدا غيرنا، وهي صورة تُبنى عليها الخيارات والخطوات اللاحقة“.
”لم
أُردْ باختياراتي أن أطرح موضوعا سياسيا، بل لأقول إن السينما في
يومنا هذا، والثقافة بشكل عام، أمران في غاية الجدّيّة، وبأنّه لم
يعدْ ممكنا غرس الرؤوس في الرمل مثل النعامة، وادّعاء عدم حدوث
شيء“، إلاّ أنّ نازارو لا يرغب في أن يُفهم من كلامه بأن الأفلام
المٌختارة هي مجرّد أطروحات مجتمعيّة وسياسيّة، أو أنّها أفلام
محتوى فحسب، ”بل على العكس، فهي أفلام لها خصوصيّتها واستقلاليتها
الأسلوبيّة والشاعريّة، وهي أفلام تسكن هذا العالم“.
ويُضيف نازارو أنه ”كان مفرحا للغاية أن أكتشف خلال
تواجهي أؤلئك الناس حماسة لا تُضاهيها حماسة في أي مكان من العالم.
لقد عايشت جزءا ممّا يحدث اليوم في شمال أفريقيا، كتونس التي تذود
بيدها العزلاء وبأسنانها عن ثورتها، ويواصل المثقّفون الجزائريون
بذل الجهد في مواجهة محاولات الأصوليين بإغراق البلد مُجدّدا في
محنة جديدة، دون تناسي الدور الذي تلعبه بعض دول الخليج في دعم
السينما“.
إلاّ أنّ نازارّو يؤكّد أنّه لم يكن ليُغلّب تعاطفه
مع هذه القضيّة أو تلك في إنجاز اختياراته للأفلام ويقول ”لم أكن،
في أي حال من الأحوال، لأوافق على ضمّ فيلم ما في برنامج تظاهرتي
على أساس ‘الكوتا’ المناطقيّة، ولم يكن لفيلم ما، يفتقر إلى القيمة
الفنّية، لينضم إلى هذا البرنامج، ولم يكن قطعا ليُضمّ إلى
البرنامج فقط لأنّه يأتي من منطقة ما من العالم“، ويشير موضّحاً
”إنّ برنامجي ليس على شاكلة ‘ألعاب بلا حدود’، ولا يعنيني على
الإطلاق أن يكون لديّ فيلم من كلّ بلد، فإذا ما اخترت هذه الأفلام
لأسبوع النقّْاد وللتواجد في بينالي فينيسيا، فذلك يعني أنّها
أفلام أثق بقيمتها الإبداعية بنسبة مئتين في المئة”.
جونا نازارو: الدورة
الـ33 لـ"أسبوع النقاد" في مهرجان فينيسيا تنطلق الخميس المقبل
والأفلام مفاجأة للعرب
القيمة الفنية أولا وأخيرا
ليس هناك خيطٌ رابطٌ ما بين الأعمال التي اختارها
نازارّو ولجنته، ”لكنّ الأفلام المُختارة تتحاور في ما بينها بشكل
جيّد، فإذا نظرنا، على سبيل المثال، إلى الفيلم السوداني ‘آكاشا’
للمخرج السوداني الشاب حجّوج كوكا، والفيلم الفنلندي
‘M’
للمخرجة آنّا إيريكسون، إذْ تفصل الفيلمين عن بعضهما الملايين من
العوالم ويتفرّد المخرجان في عملهما، لكنّهما يتآصران في أسلوب
الاقتراب من موضوعيهما ومعالجتيهما، يبدو الفيلم السوداني وكأنّه
كوميديا مصنوعة على طريقة المايسترو الإيطالي الراحل ماريو
مونتشيلّي، أُنجز من قبل سينمائي استوعب تفكير المايسترو الأفريقي
عصمان سمبين، وبرُغم كونه حكاية عن الرجال والمقاتلين، فهو يروي،
في الواقع، حكاية المرأة وعن الأنثوي المُغيّب والمحظور في مجتمع
الرجال المضمّخ بدماء حروب تدوم لأجيال. بالضبط كما يروي الفيلم
الفنلندي عن الأنثوي المُغيّب، ويُظهر معنى أن يتم تناول هذا
التغييب من قبل مخرجة، بالذات“.
لقد عثر جونا نازارو على مفردات للتوافق والحوار ما
بين الأفلام، ويقول ”ولم نسعَ إلى العثور عن خيط رابط في ما بين
الأفلام بشكل مُسبّق وبأيّ ثمن، بل سعينا إلى أن تتمكّن الأفلام من
التحاور في ما بينها، بمعنى إذا ما رغب مشاهدٌ ما في حضور الأفلام
جميعا واحدا بعد الآخر، فإنّه سيتلمّس بأن هناك تجانسا ما ضمن إطار
الأفلام“، ويبدو البرنامج بمثابة لوحة مُركّبة أو كتاب من تسعة
فصول، يحتل كلّ فيلم من الأفلام التسعة (7 في المسابقة وإثنان
خارجها) فصلا من هذه الفصول.
سوريا بعيون شبابها
”لأقلْ
لك شيئا آخر عن الفيلم السوري ‘قيد التسجيل’ عملٌ اكتشفته كمشروع
أولي قبل بضع سنوات“ في إطار برنامج أسبوع النُقّاد، كان بعض
الشباب السوريين قد صوّروا المئات من الساعات، عندما حوصروا في
مدينتهم خلال الحرب، وقد انطبعت تلك المشاهد التي اطلعت عليها في
ذهني وبَقِيْتْ هناك، وبقيت أنا على اتّصال مع الشباب لثلاث سنوات
لمتابعة تطوّر مشروعهم. وبإمكاني القول إنّني عندما زُرت بيروت كان
السبب الرئيس من تلك الزيارة هو مشاهدة المادة التي انتهوا إليها
في تلك المرحلة. وأنا اليوم في غاية السعادة أن يكون الفيلم في
برنامجي، لأنّه، على الرُغم من سيل المشاهد القادمة من سوريا، فإن
رؤية هذا الفيلم ستبدل تماما كلّ ما نعتقد بأنّنا نعرفه عن سوريا،
لأنّ سوريا التي نشاهدها في الفيلم، ليست سوريا بوتين أو نتنياهو
أو روحاني، وهي ليست سوريا ترامب أو ماكرون، بل هي ‘سوريا’ كما هي
على حقيقتها، وهي أمرٌ آخر مختلفٌ تماماً“.
فيلم
«Still recording»
لم يُنجز من قبل سينمائيّين بل من قبل شباب أدركوا واجب تصوير تلك
المشاهد لأنّهم وجدوا أنفسهم في مواجهة مع وضع مستحيل، ويقول
نازارو ”ما أفخر به بشكل مُطلق، هو أنّني سأُقدّم سينما حقيقيّة،
وكما يُعلّمنا دائما روبيرتو روسّلّيني، بأنّ السينما ليست دائما
ما يصنعه السينمائيون فهي قد تأتيك في بعض المرّات من حيث لا
تتوقّعه“.
فيلم الافتتاح.. هندي
يُضيف ”إنّه جوهري بالنسبة لي أن أعرض هذا الفيلم
في فينيسيا، بالضبط كما أعرض فيلما أفريقيّا مثل ‘آكاشّا’ لحوجيج
كوكا والذي لا يُشبه بأيّ شكل من الأشكال تلك السينما الأفريقيّة
المُخدّرة من قبل الإنتاجات الأوروبيّة. أي أنّني أُري المشاهدين
بأنّ في الإمكان رؤية العالم عبر عيون أُخرى، وأنّ بالإمكان اجتراح
نظرات أخرى متمايزة“.
وتعود السينما الهندية إلى ليدو فينيسيا بعد غياب
طويل وتُطلّ عبر برنامج أسبوع النقّاد، بالذات، الذي خصّص لحفل
افتتاحه فيلم ‘تيمباد’ للمخرج الهندي الشاب زاهي آنيل بارفي. ويقول
جونا نازارو ”في هذه السنين، وخلال أحاديثي مع الأشخاص المعنيّين
بالسينما الهندية، على المستوى التجاري، حاولت أن أقول لهم إنّ
جزءا من المسؤولية يقع على عاتق السينما الهندية أيضا، بمعنى أنّ
هذه السينما، ومع الاستثناءات بالطبع، واصلت تقديم صورة بالمقاس
الغربي، أي بمعنى الفقر والأطفال المشرّدين والتجاوزات والاغتصابات”.
وقد أُتيحت لنا فرصة العثور على فيلم فانتازيا،
مناهض للكولونيالية ومنطقها، وثري بالمؤثّرات الخاصة، وهو ما
يُقرّبه من أسلوب ستيفن سبيلبيرغ في الثمانينات. إنّه فيلمٌ أُنجز
في الهند مع وحوش ومغامرات وبوجهة نظر خاصّة للغاية حول مغزى المال
والجشع وغيرهما.
حين وجدنا أنفسنا أمام هذا الفيلم بدا لنا وكأنّنا
أمام شيء لا معقول، وآمل أن يُقنع خيارنا هذا شركات الإنتاج
الهندية على قبول فكرة بأن ‘أسبوع النُقّاد’ في فينيسيا ليس هو
المكان الذي يسعى دائما إلى رؤية النوعية المعتادة من الأفلام
ذاتها، بل هو المكان الذي يتم فيه استطلاع واقع مختلف لتلك البلدان.
في الختام تونس
تعود تونس إلى هذا البرنامج بعد عامين من فوز
علاءالدين سليم بجائزة «أسد المستقبل» عن فيلمه «آخر واحد فينا».
ويقول المدير الفنّي لأسبوع النُقّاد ”لقد كان فيلم
‘دَشرة’ لعبدالحميد بوشناق، مفاجأة حقيقيّة بالنسبة لي. وخلال
زياراتي لأماكن الإنتاج السينمائي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا،
تعرّفت على منتجة تونسيّة طلبت منّي بشكل صداقي بحت بأن أُشاهد
فيلما أنجزه صديقٌ لها، وأرسلت إليّ برابطه، وعندما شاهدت الشريط
اكتشفت بأنّه فيلم رُعب رفيع المستوى ومثير للاهتمام، وهو بالإضافة
إلى كلّ ذلك تأملٌ حول ما يجتازه المجتمع التونسي الآن. بإمكانك أن
تتخيّل دهشتي الأخرى عندما اكتشف في ما بعد بأن عبدالحميد بوشناق
هو نجل الموسيقي التونسي الكبير لُطفي بوشناق. بطبيعة الحال نأى
عبدالحميد بوشناق بنفسه عن الإفصاح عن كونه نجل الموسيقي الكبير.
شاهدت الفيلم وقلت في نفسي إنّه فيلم رائع، وليس ذلك لأنّه فيلم
رُعب، أو فيلم رُعب أُنجز في تونس، ولم يكن خياري نتيجة للغرابة
كونه جاء من تونس، بل لأنّه فيلم حقيقي بكل ما تعنيه هذه الكلمة،
يُفصح فيه المخرج بدقّة لا متناهية عن أمور في بلاده. لا غبار على
ما يقوله على المستوى السياسي، لكنّه فيلمٌ مصوّرٌ بشكل رائع، وهو
فيلم يُثير الرعب الحقيقي في بعض أجزائه بسبب ما يحتويه من عنف
قاس، ولحظات عالية من أقصى الخيال، ولذا فعندما تُتاح لك فرصة
مشاهدة فيلم كهذا، فلن تتردّد أبدا في اختياره“.
ومع ذلك فقد اضطُرّ نازارو، بسبب ضيق المساحة
المُتاحة له، إلى التخلّي عن بعض الأفلام التي كان أحبّها خلال
رحلة الاختيارات ويقول ”لكن دعني أقلْ لك إنّه كان هناك عدد من
الأفلام المثيرة للاهتمام، والتي أشعر بالأسى لأنّني لم أخترها
بسبب ضيق البرنامج، وأنّ غالبية هذه الأفلام كانت قادمة من منطقة
الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“.
كاتب عراقي |