كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

"الحرب الباردة"

أوبرا الحنين والحب المستحيل

أمير العمري

كان السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 

السياسة والشقاء الإنساني والعاطفة التي لا ترتوي

كان يمكن جدا أن يحصل فيلم "الحرب الباردة" Cold War لفنان السينما البولندي بأول باوليكوفسكي بجائزة "السعفة الذهبية" في ختام الدورة الـ 71 لمهرجان كان السينمائي، فالفيلم ينتمي لسينما التوهج الفني الذي يخرج عن المألوف، يتمرد على تقليدية السرد، يمزج بين الموسيقى والرقص والأوبرا وأسلوب الفيلم- نوار، وسينما الفن الخالص التي تعتمد على التعبير بالصورة والحركة والإيماءة والصوت والموسيقى، وتخلق إيقاعها الخاص من خلال العلاقات المتشابكة المعقدة المليئة بالمشاعر المضطربة بين شخصيات تمضي عبر السنين، في ذلك البحث المستحيل عن نقاط للتلاقي.

منحت لجنة التحكيم الدولية هذا الفيلم جائزة أفضل إخراج، ولاشك أنه كان يستحق أيضا جائزة أحسن ممثلة لبطلته المتفجرة الموهبة "جوانا كوليغ، لكن ليس من المألوف الجمع بين جائزتين لفيلم واحد في المسابقة.

بعيدا عن حديث الجوائز وكلها تقديرية، نحن أمام فيلم لا يشبه غيره من الأفلام. صحيح أن مخرجه يصوره باستخدام نفس الأبعاد التقليدية القديمة للشاشة، أي بنسبة 1 الى 1.37 بحيث بدا كما لو كانت الصورة محصورة في إطار شبه مربع وهو أسلوب مقصود لإضفاء طابع الفترة التي تدور خلالها الأحداث، كما أنها توحي بالضيق والفوبيا التي تعاني منها الشخصيات التي تتلصص عليها الكاميرا في لقطات مصورة من زوايا مرتفعة، أو من على مسافة. ويستخدم المخرج أيضا التصوير بالأبيض والأسود تماما على غرار فيلمه البديع السابق "إيدا" Ida  (2010).

يمكن اعتبار "الحرب الباردة" قصة حب تدور في الزمن المستحيل، بين اثنين محكوم عليهما بالفراق. طرفا القصة هما "فيكتور" و"زولا". فيكتور موسيقار وعازف بارع على البيانو وعاشق لموسيقى الروك، وزولا مغنية شابة تصغره بنحو عشرين عاما تقيم في بلدة صغيرة في الريف البولندي. الزمن: أواخر الأربعينات أي في وقت كانت بولندا لاتزال تتعافى من مصائب الحرب العالمية الثانية. كانت الدنيا كلها مازالت بـ "الابيض والأسود"، وجاءت السلطة الشيوعية الجديدة تبحث عن إرضاء ربيبتها موسكو والتقرب إليها من الفن. يذهب فيكتور التابع لمؤسسة رسمية تتبع بدورها الحزب الحاكم، يبحث عن المواهب الجديدة ويستلهم من الموسيقى الشعبية (أي الأغاني التي تغنيها الجماهير الكادحة في الريف)، وهناك في احدى المدارس تقع عيناه على "زولا" ولا تفارقها أبدا منذ تلك اللحظة الخاصة جدا في تاريخه الشخصي. زولا موهوبة في الغناء دون شك. لكن فيكتور يريد منها أكثر من الغناء. يريد قلبها له وحده، ويريد أن يصنع منها نجمة في عالم الغناء. وهي تملك الموهبة ونزعة واضحة للتمرد وجمالا من نوع خاص. إنها رغم مظهرها الناعم، يردد الجميع أنها قتلت أباها. وستكشف زولا هذه الحكاية لفيكتور فيما بعد، عندما تخبره بأن القصة مبالغ فيها، فالأب لم يمت فقد قامت فقط بتلقينه درسا قاسيا عندما خلط بينها وبين أمها!

تمضي العلاقة العاطفية الملتهبة بين الاثنين، لكن هناك جبل من الثلج يقف فيما بينهما. ربما يكمن في الأصول الطبقية، في الميول الشخصية، في الرغبة الدفينة لدى فيكتور في "الخلق" و"التشكيل" و"استحضار الموهبة"، بينما تنزع زولا إلى الاستقلالية، تجنح الى التمرد أي التحرر من كل قيد حتى لو كان قيد الحب.

ستمضي زولا مع فيكتور لتشق طريقها في عالم الموسيقى الأوروبي في الخمسينات. ستفلت معه من الحصار الذي تفرضه السلطة في بولندا على الفنانين، ترغب في تسخيرهم من أجل الدعاية السياسية. وفي بداية الفيلم مشاهد كثيرة تسجيلية لكل هذه الاستعراضات العسكرية والموسيقية الراقصة والمسرحيات الدعائية مع مزيج من المشاهد التي تستوحي من الأغاني والرقصات الشعبية. وخلال العلاقة المتوترة التي تدور بين الحب والفن ودسائس عالم السياسة، تذهب زولا مع فيكتور الى يوغسلافيا وبرلين الشرقية ثم الى باريس. في برلين تخطر لفيكتور فكرة اللجوء الى الغرب، إلى باريس. يتفق مع زولا على أن تذهب معه لكنه ينتظر في الغابة دون أن تأتي. سيذهب وحده لكنه سيعثر عليها بعد سنوات في باريس. لقد تزوجت دبلوماسيا مشغولا عنها دائما، وأصبحت من نجوم عالم أندية الموسيقى.. في عصر الروك.

في بناء متأرجح، يحدث اللقاء. ثم الفراق. وتبدو زولا معذبة في تمزقها الداخلي. ويبدو فيكتور أسيرا لذاته الغاضبة التي لم تجد الراحة في المنفى الاختياري قط. زولا المتقلبة تقرر فجأة العودة الى بولندا رغم ما تتمتع به في باريس من نجاح. إنها تبدو كما لو كانت تهرب من فيكتور. وفيكتور لا يمكنه أن يفهم كيف يمكن لها أن تفعل. لكن مع مضي السنين سيعقد هو أيضا اتفاقا للعودة ولكن سيتعين عليه أن يدفع الثمن.

إنه الحب المستحيل في حقبة مليئة بالاضطرابات، بالقلق، بغياب الحدود الواضحة بين الذات والعالم، فما هو العالم، وما موقعنا منه بالضبط؟ ليس من الممكن القول إن ما نسقطه من تساؤلات حول الفيلم هنا هي تساؤلات واضحة كل الوضوح بين ثنايا الفيلم، فسيناريو باوليكوفسكي يتعمد احاطة الموضوع وشخوصه بأكبر قدر من الغموض، فلا نستطيع أن نتبين سر الأزمة القائمة أو سبب ذلك الجدار الثلجي البارد الذي فرض نفسه بين فيكتور وزولا.. وهل "الحرب الباردة" هي فعلا القائمة الحرب المستمرة طوال الوقت بين الاثنين.

هناك قدر من الغموض الدرامي المثير الساحر والضبابية التي تخفي أي تفسير للدوافع التي اعتاد عليها المتفرج، لتلك اللقاءات والافتراقات الممتدة عبر نحو عقدين من الزمان ويحدث الانتقال في الزمن أحيانا داخل اللقطة الواحدة والمشهد الواحد، وأحيانا من خلال فواصل من اللقطات السوداء يستخدمها باوليكوفسكي بين المقاطع المختلفة، مع التعليق عن هذا الشجن الحزين من خلال الموسيقى والأغاني التي تنتمي إلى الفترة. إن شريط الصوت في "الحرب الباردة" يصلح وحده عملا فنيا خلابا قائما بذاته. ولا شك أنه اقتضى الكثير من البحث والتدقيق في تراث عهد كامل ثم إعادة توليفه في سياق بصري شديد الجاذبية.

في الفيلم اهتمام كبير بالتكوين، بتوزيع الكتل والضوء، بالتركيز على اللقطات القريبة، ثم الابتعاد عنها فجأة الى اللقطات العامة.. مع رصد "وزلا" من كل زاوية. إنها في بؤرة الصورة وبؤرة الفيلم، ويشعر المتفرج رغم ابتعاد الفيلم عن المبالغات العاطفية، بالرغبة في معرفة سر أزمتها وتمزقها ولماذا قررت أن تدمر قصة حبها على نحو ما فعلت، وكيف أقدمت على العودة الى بلادها وهي تعلم أنها لن تكون حرة كما كانت في باريس، وما سر تلك الروح المعذبة القلقة التي يخفي جمالها الخاص، جرحا داخليا عميقا.

ولعل ما يجعل من شخصية زولا العصب الحقيقي الذي يدور الفيلم من حوله، الأداء الرفيع للممثلة جوانا كوليغ صاحبة الموهبة الخاصة، في الغناء والتمثيل. إنها تبدو بحركتها الدائمة، بقلقها وتوترها واقترابها ثم ابتعادها البطلة الوحيدة المعذبة في أوبرا الحب المستحيل.

باول باوليكوفسكي يهدي فيلمه الى والديه اللذين عاشا تلك الفترة. وهو يطلق على الشخصيتين الرئيسيتين اسمي والديه أي فيكتور وزولا. لكن باوليكوفسكي الآن في الثانية والستين من عمره، وقد جاء للإقامة في لندن منذ أن كان في الرابعة عشرة، وقد تعلم صنع الأفلام من دون أن يدرس السينما، بل من خلال تصوير الأفلام التسجيلية التي بدأ في إخراجها في أوائل التسعينات. ورغم أنه أخرج أفلاما يمكن اعتبارها "بريطانية" أو "أوروبية" إلا أن شهرته الكبيرة تحققت مع فيلمه البولندي الأول الكبير "إيدا" الذي مضى ليحصل على الأوسكار، ثم "الحرب الباردة" الذي نال جائزة الإخراج في كان.

عين على السينما في

18.06.2018

 
 

"شجرة الإجاص البري" لنوري جيلان: هكذا تتوارث الأجيال إحباطاتها

أيهم سلمان

لا يتخلي المخرج التركي نوري بيلغ جيلان عن أسلوبه في سرد الحكايا، ولا يخشى امتحان صبر الناظرين، إذ يعي تماماً أن مشاهدي أفلامه ومترقبيها، قد هيأوا أنفسهم مسبقاً لدراما تدور في الأذهان وبين العيون. وما غايتهم من المشاهدة، إلاّ الاستمتاع بألبوم الصور الساحرة، والاطلاع على فلسفة البساطة المنطوقة على ألسنة شخصيات الفيلم بتناقضاتها وتبايناتها. تلك هي الوصفة المجربة التي اتبعها التركي جيلان في كل لوحاته السابقة، وحجز عبرها مكانه في مهرجان "كان"، محققاً ثمانية جوائز كبرى في المهرجان العريق، أبرزها السعفة الذهب العام 2014، عن فيلمه "سبات الشتاء". لن يمر إذاً فيلمه الأخير "شجرة الإجاص البري" إلاّ من بوابة "كان"، حيث يتابع من خلاله مشروعه البصري والفلسفي، في قصة محيّرة عن الجيل القادم.

"سنان"، الشاب الذي عاد إلى قريته بعدما أنهى دراسته في مدينة "شاناكاليه"، محملاً بأعباء القادم من التحدّيات، بما أنه تجاوز العتبة التي قد تكون الأمور فيها سهلة نسبياً. ربما لأن القرية لم تعد محيطه المحبب، فلا يبدو عليه الانتماء إلى هذا المكان، ولا الألفة مع من فيه، حتى مع عائلته. أحاديثه مقتضبة، وهي بطبيعة الحال إجابات بالحد الأدنى، عن أسئلة لم تعد تعنيه. لا يبادر، ولا يعرف السلام الحار إطلاقاً، بارد ومتحفّظ حتى مع الفتاة التي سيقبّلها بعد قليل. لكنه رغم ذلك، أنهى روايته الأولى ويستعد لنشرها، ولا يملك المال الكافي لتحمل كلفة النشر. ولا والده المدرّس يستطيع مساعدته

ملامح العلاقة الفاترة بين الأب وابنه، تُشعَر ولا تُلاحَظ، رغم أن الابتسامة لا تفارق الأب، ولا يظهر تجاه عائلته، وابنه تحديداً، إلاّ الود طوال الوقت، ولا تمر أية لحظات توتّر ظاهر بينهما. إلاّ أن الشاب كما يبدو ليس فخوراً بأبيه، لا يفضل استخدام اسمه كثيراً عندما يحاول تقديم نفسه، في طريقه لتسويق روايته، حتى عندما ينجح في طباعة عدد محدود من نسخها، لا يتحمس كثيراً لإطلاع والده عليها، يتردد في ذلك، ثم يقرّر أن المفاجأة التي يحيكها له بلا طائل. دائرة التواصل مقطوعة بينهما، رغم أنهما يتشاركان العديد من الخصائص، كأي أب وابن. المشهد في بداية الفيلم يلخص هذا الصراع، فالأب والابن والجَدّ يحاولون حفر البئر المتحجّر بلا جدوى، وكل منهم يلقي بالمسؤولية ضمنياً على الآخر.

تمضي ساعات الفيلم الثلاث بلا أحداث كبيرة أو ملامح صادمة، إلا ما يسرّبه إلينا من خيالات وكوابيس شخصياته. مشاهد قليلة قياساً بزمن الفيلم. طويلة مسلسلة، بالتركيبة نفسها تقريباً، تشهد غالباً في الجزء الأخير منها تحولاً واضحاً في مجرى العلاقة، بين بطل الفيلم وإحدى الشخصيات الطارئة، وكأن كل مشهد منها هو محطة في حياة سنان. ففي كل مشهد يكون في مواجهة شخصية جديدة، في حواريات تمتد دقائق طويلة، تشعرك للحظة أنها لن تنتهي إلاّ مع نهاية الفيلم. لن يظهر هؤلاء إلاّ في هذا المشهد، الذي يلخص قصته مع كل منهم، والآثار التي تركوها فيه، لكنهم مروا ولن يعودوا مجدداً. على عكس أمه، وأخته وأبيه، المفروضين قدرياً، وكلبه المفقود، كجزءٍ من ماضٍ لا يمكن تجاوزه، فهو الإخفاق الأول.

لم تجر الأمور على ما يرام، فما زال سنان يصطدم بالإحباطات الموروثة عن جده وأبيه، لكن في أشكال أكثر حداثة: كأن لا تلقى الرواية التي أصدرها أي رواج، ولا سبيل هنا سوى الهروب إلى ما هو أسوأ، بعد عودته من الخدمة العسكرية الإلزامية، وهي تجربة أخرى مرت ولن تتكرر، وتركت بالطبع أثرها الواضح. كل هذا ظاهر في عيني الشاب، الذي أصبح أكثر قدرة على مواجهة أبيه الضعيف، أو ربما لم تعد تعنيه هذه المواجهة كثيراً، ولن توتره. لكن قصاصة جريدة يحتفظ بها والده، تتضمن خبراً عن روايته اليتيمة، ستغير موقفه من والده جذرياً، فالأبناء لا يغفرون لآبائهم الإهمال، إنما يغفرون قلّة الحيلة. بعد هذا، لن يوفر جهداً في مساعدة والده، حتى في حفر البئر المتحجّر، في مشهد ختامي قد نقرأه بأحد وجهين، بحسب موقفنا من جدوى الحفر في الصخر.

كعادته في معظم مشاريعه السابقة، تشارك جيلان مع زوجته "ايبرو" في كتابة السيناريو، وانضم إليهما هذه المرة كاتب ثالث هو آكين آكسو. هذه الشراكة الثلاثية أغنت بشكل واضح المشاهد الحوارية، والتي احتلت هنا مساحة كبيرة جداً بالمقارنة مع مشاريعه السابقة. اللافت والمختلف أيضاً في "شجرة الإجاص البري" دخول عنصر (كوميديا المنطق) إلى مشاهده، وهو ما لم يكن مألوفاً في أفلام جيلان، التي غلبت عليها مسحة جديّة بسبب تراكيب العلاقات بين الشخصيات.

يتعمّد جيلان معالجة هذا النوع المشابهة لملايين القصص المحلّية، ويحمّل القصة العادية الخالية من الأحداث، جملةً من التفاصيل التي تشي بكثير من المؤشرات. هو يقلب الطاولة على أنصار الفعل الدرامي النافر، والأحداث الغريبة والاستثنائية، ويذهب إلى ما هو أصعب وأعقد، فينبش من السكون صدمات وهزات، ومن الملل والرتابة ألواناً. يخوض تحدّيات قد تبعد أفلامه عن الجماهيرية العريضة، لكنها تكسبه بالتأكيد تقدير المهتمين بالمختلف، وتشركه مع عددٍ من فلاسفة السينما في العالم، تداول السعفة الذهب في "كان"، وجوائز المهرجانات الكبرى.

المدن الإلكترونية في

18.06.2018

 
 

"أيكا" لسيرغي دفورتسفوي: نشيد ميلودرامي

محمد هاشم عبد السلام

قبل 10 أعوام، فاز المخرج الروسي سيرغي دفورتسفوي (1962) بجائزة تظاهرة "نظرة ما"، في الدورة الـ61 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2008) لمهرجان "كانّ" السينمائيّ، عن فيلمه الروائي الأول "تولبان". مع فيلمه الروائي الثاني "أيكا"، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) للمهرجان نفسه، فازت سامال إسْلياموفا بجائزة أفضل ممثلة، بجدارة واستحقاق، عن تأديتها دور الفتاة الكازاخستانية أيكا.

مِن بداية "أيكا" إلى نهايته، يصعب تصديق أن الأحداث تدور في روسيا، وتحديدًا في موسكو القرن الـ21. فالبيئة المُحيطة بأيكا وبالشخصيات القليلة الأخرى، وظروفها المعيشية القاسية، تستدعي الأجواء البائسة في أعمال الكتَّاب الروس الكبار، والشخصيات الأدبية التي ابتكروها، وتجسيد صراعاتها مع الحياة والمجتمع، ومع الوجود بشكلٍ عام. ذلك أن ظروف أيكا تُذكِّر بعنوان رواية "الحضيض" لمكسيم غوركي وأجوائها. أما تكوين شخصيات الفيلم فينطبق عليه عنوان رواية "مُذلّون ومُهانون" لفيودور دوستويفسكي. ورغم اختلاف موضوع الرواية عن حبكة الفيلم، إلا أن أيكا تجسيد حي للذُلّ والمهانة في أوضح صُورهما داخل المجتمع الروسي المعاصر.

في 100 دقيقة هي مدّة الفيلم، لا يتوانى سيرغي دفورتسفوي عن تقديم المآسي تلو الأخرى التي تتعرّض لها أيكا. صحيح أنها تبدو في البداية نموذجًا لأمٍ بالغة الإجرام ومُنعدمة المشاعر، إذْ تترك وليدها في المستشفى بعد ساعات قليلة على ولادته، وتهرب بعد رفضها إرضاعه؛ لكن، مع تطوّر الأحداث، تظهر أيكا مُجرّد ضحية، كرضيعها الذي تركته.
هي مُهاجرة جاءت حديثًا إلى روسيا. استطاعت ترتيب أوضاعها، لكن إجازة عملها انتهت مدّتها، فبات عليها العمل سرًّا، مُقابل فُتاتٍ لا تحصل عليه غالبًا. تُلاحقها الديون، وتُطاردها العصابة التي أوصلتها إلى روسيا. مُضطرّة للسكن في نُزل يتكدَّس فيه العشرات، حيث كلّ شيء فيه مُشترك ومُشاع بين الجميع، باستثناء فراشها. تُجاهد في البحث عن عمل يتيح لها تسديد ديونها. بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حالتها الجسدية والصحية غير سليمة جرّاء الولادة، فهي لا تزال تنزف بعد أيام من مغادرتها المستشفى، ويُؤلِمُها صدرها لتورّمه جراء تراكم الحليب فيه.

إنسانة تُعاكسها الظروف بشكل يبدو كأنه مُتَعَمَّد ومُتَعَسِّف. ينفضّ كثيرون عنها لا لعيوب شخصية فيها، بل لأن الجميع، في هذا المجتمع العصري المُنسحق، يئنّون مثلها. طحنتهم الظروف والأوضاع الاقتصادية، وأماتت قلوبهم. تعمَّد سيرغي دفورتسفوي، بمهارة وحسّ فني صائب، تصوير الفيلم في أجواء قارسة البرودة بصورة لا توصف. ولهذا أكثر من دلالة، فالثلج الذي يهطل من دون توقف منذ بداية الفيلم يعوق البشر الأصحاء عن السير الطبيعي، ويزيد من قسوتهم وغلاظتهم وعزلتهم. عملت أيكا فترة من الوقت في إزالة الثلج عن الشوارع. لكن الصقيع واعتلالها الجسدي حالا معًا دون قيامها بالعمل، فطُردت. استعانت بالثلج، الذي تجمعه من الشوارع، كي تضعه بين ساقيها بهدف إيقاف النزيف، لكن من دون فائدة.

بعد نوبة نزيف حادّ، تدخل مرحاض إحدى العيادات البيطرية. هناك، تُشفِق عليها عاملة تنظيفات، لكن شفقتها متأتية من اكتشاف أيكا أن العاملة تجلب ابنها سرًا إلى العيادة، وتُخفيه بين أدوات التنظيف. تطلب منها أيكا، كما طلبت من غيرها، بعض المال، فتُخبرها العاملة أنه بإمكانها أن تحلّ محلها لبضعة أيام حتى تعود من إجازتها الطارئة، بذلك تحصل على مال مضمون. رغم المرض، تقوم أيكا بأعمال التنظيف للحيوانات الأليفة، وتطلب من الطبيب بعض المال، لكنه ينهرها ويُخبرها بأنه لا يعرفها بتاتًا، ويأمرها بمواصلة العمل.

الخيط المتعلّق بتفصيلة العيادة البيطرية بالغ القوة في سياق حبكة الفيلم. ففي العيادة، تُشاهد أيكا صنفًا آخر من البشر يعيشون حياة مُغايرة، وينصبّ اهتمامهم كلّه على حيواناتهم الأليفة. هناك أيضًا مشهد مدّته طويلة يُصوِّر كلبةً تُرضِع جِرائها من جهة نظر أيكا، التي تتذكّر رضيعها المتروك قبل أيام قليلة في المستشفى. لكن التَذكُّر غير نابعٍ من الإحساس بالأمومة، فقرارها منذ البداية التخلّي عنه. لاحقًا، يتّضح أن الرضيع سيكون "طوق نجاة أخيرا" لها بعد وصول أفراد عصابة التهريب إليها، الذين يهدّدونها بسرقة أعضائها وقتلها. تُقرّر بيعهم الرضيع تسديدًا لديونها، بعد اعترافها لهم باغتصابها أثناء رحلتها إلى روسيا، وأنه لا رغبة لديها في الاحتفاظ به.

مع الدقائق الأولى لـ"أيكا"، يظهر مدى مأساويته الفادحة، التي تقرّبه ـ من دون جدل ـ من الميلودرامية. لكن هذه الأخيرة غير فجّةٍ وغير ممجوجة أو مُنفِّرة. فالفيلم نموذجٌ معاصر، ونادرٌ سينمائيًا في كيفية صناعة ميلودراما رفعية الطراز. هذا عائدٌ إلى أسباب عديدة: السيناريو البارع في رسم التفاصيل والشخصية وظروفها القاهرة وقسوة المُجتمع؛ والكشف عن التفاصيل المأساوية كلّها بشكلٍ تدريجي، وفي الوقت المناسب؛ 

والكيفية المعتَمَدة في تقديم القصة وتطويرها؛ بالإضافة إلى توريط المشاهدين في الأحداث المُتلاحقة للبطلة. هناك أيضًا اختيار سيرغي دفورتسفوي فتاةً بسيطة للغاية ـ جمالها عادي، ويسهل التعاطف معها ـ تألّقت في التعبير عن محنتها بقسمات وجهها وانفعالاتها من دون أية مبالغة.

الجانب الأكبر في قوّة الفيلم، بالإضافة إلى بطلته، كامنٌ في التصوير (أبدعت فيه البولندية يولنتا ديليفسكا)، الذي غلبت عليه التسجيلية في أجزاء عديدة منه. ذلك أن معظم الكادرات "لقطات قريبة" من وجه سامال إسْلياموفا، التي نادرًا ما تُفارق الشاشة، ومع ذلك لا يُمَلّ من رؤية وجهها، ولا تُسَبِّبُ تلك اللقطات أي إزعاج، نظرًا إلى الاستغراق التام في القصّة ومصداقية الأداء. مَشاهِد عديدة، خاصة الداخلية منها، يغلب عليها الظلام أو التصوير بدرجة داكنة من اللون البني، إمعانًا في إبراز الفقر والبؤس؛ بينما يغلب على التصوير الخارجي الإضاءة الطبيعية أو النهارية. هذا التعارض بين الداكن والفاتح أبرز بجلاء مدى قسوة البيئة، ومنح المُشاهِد القدرة ـ من حين إلى آخر ـ على التقاط بعض أنفاسه، لفرط تلاحق الأحداث، وتَعَدُّد المَشَاهِد المُظلمة.

في "أيكا"، يُوجِّه سيرغي دفورتسفوي ـ بصفته مخرجًا كازاخستانيًا روسيًا ـ إدانة كاملة وصريحة لروسيا كنظامٍ سياسي غارق في الفساد والرشوة والجريمة المنظّمة، وللمجتمع الروسي الموصوم بقدر من العنصرية والاستغلال وانعدام الرحمة. من جهة أخرى، طرح المُخرج أسئلة وجودية وأخلاقية، بعضها مُتعلّق بمدى قوّة الحياة أو سطوة الطبيعة، وكيفية تأثيرهما وتغييرهما لمصائر البشر. وأهم تلك الأسئلة يتناول الغرائز البشرية، وهي هنا غريزة الأمومة، واستحالة الهروب منها، بصرف النظر عن الأسباب وقسوة الحياة. هذا يظهر بعد المشهد الختامي المفتوح على أكثر من نهاية وتساؤل: أيكا مع رضيعها خارج المستشفى تنتظر وصول أفراد العصابة. الطفل يبكي بحرارة. تختلي به بعيدًا عن العيون. هل أرضعته أم لا؟ وإن حدث، هل سَتُسَلِّمُه لهم، أم أنها ستحتفظ به؟

العربي الجديد اللندنية في

20.06.2018

 
 

"حرب باردة" لبافيل بافليكوفسكي: حب خلف جدران ستالين

شفيق طبارة

بعد فيلمه "إيدا" الذي فاز بجائزة اوسكار لأفضل فيلم أجنبي(2014)، يعود المخرج البولندي بافيل بافليكوفسكي بفيلم "حرب باردة"، قصة حب في أتون ما بعد الحرب العالمية الثانية، متأرجحة بين الأزمنة والأمكنة، بين الشغف والنفور وبين السعادة والحزن.

"حرب باردة" ميلودراما رومانسية بمناخ موسيقي، تُروى على مدار أعوام بين مدن اوروبية. تشتعل الشرارة في بولندا، أواخر أربعينيات القرن العشرين، من جولة موسيقية يقوم بها الموسيقي ويكتور (توماز كوت) برفقة المنتجة إيرينا (أغاتا كوليززا) في القرى النائية. يستمعان إلى الاغاني الشعبية من أجل تشكيل فرقة موسيقية من الشباب الذين سيغنون خلال الأمسيات المسرحية للحزب الشيوعي. رغم التاريخ العاطفي بين ويكتور وإيرانا، تقع عيناه على إحدى المغنيات زولا (جوانا كوليج)، يغرمان، ويبدآن ونبدأ معهما في درب جلجلة حبهما.

هي الجميلة الرقيقة التي لا تخجل من ماضيها الجامح وتريد البقاء في بولندا. هو يلعب على أوتار السلطة، وبعكس معشوقته يحلم بالهروب من القيود علّه ينعم بالحرية. تخاف الانتقال معه، فتبقى في بولندا. يلتقيان مجدداً، ونحن نترقّب هذه اللقاءات بين وارسو وباريس ومدن أوروبية أخرى. هو الحب في زمن ما بعد الحرب، الانقسام السياسي حادٌ في أوروبا، بين غربية وشرقية، جدارُ برلين، نزاعٌ بين الاشتراكية والليبرالية، روح ستالين الساكنة في الجداريات وأعمق، والبيروقراطية الحديثة، كلها عوامل شيّدت جدراناً بين البشر وخلقت حدوداً صعبة الاجتياز. هكذا تتخذ مواعيد العاشقَين مساراً خطراً مشوّقاً، فتارة نطمئن لأنها جاءت إليه بالطرق القانونية، وتارة نقلق لأنه يأتيها هارباً مخلاًّ بالقوانين.. نتابع العلاقة المتذبذبة وصولاً الى الستينات، ولا بدّ من شخصيات جديدة تدخل حياة كلاً منهما

أمّا على الصعيد الذاتي فلا بدّ من تغيرات أيضاً، أحلام جديدة وآراءٌ تتبدّل. في أوروبا الغربية يصبح الموسيقار رجلاً حراً، لكنّه لا أحد. أمّا هي في اوروبا الشرقية، فنجمة، لكنّها دوماً ملتصقةٌ بمصالح حكام بلادها. العلاقة المتراوحة بين الأمكنة لا تفرّقها الحدود والسياسة فحسب، علاقتهما قابلة للتبخّر لأنهما في البعد يتعذبان وفي القرب يحترقان. الثنائية مضطربة، التناقضات مؤرقة، الانزعاج سيّد اللقاءات ورفض الآخر يهيمن.. الرومانسية لا ولن تدوم حتى بعودتهما إلى الحدود المكانية نفسها، هو الخوف الذي رافقنا كمشاهدين منذ البداية، مع اليقين بمأسوية المصير.

يستمر الفيلم في الجرعات الرومانسية الممتعة على مدى التسلسل الزمني. الغاية الموسيقية التي جمعت الحبيبين في البداية ترافقنا تصويرياً على امتداد الفيلم السينمائي، من الأغاني البولندية التقليدية إلى الأغاني الدعائية الوطنية الروسية للويس جوردان وبيل هايلي. تنقلنا الموسيقى في أنحاء أوروبا تماماً كما العاشقَين.

الصورة الفنية فتاكة في "حرب باردة". طوّع بافليكوفسكي، ومدير التصوير لوكاسز زال، المَشاهد، ولّفاها في تسلسل فائق الدقّة حتّى تكلّمت الصورة منفردة وبدت فتاكة، فنستطيع أن نفهم الكثير من دون الحاجة الى الحوار. أتقن المخرج البولندي هندمة اللقطات، اعتماداً على اللونين الأبيض والأسود، حصراً وقسرياً.. وقد برّر قائلاً إنّ أوروبا في تلك الحقبة، لم تعرف إلّا الأبيض والأسود.

في كل لقطة لويكتور وزولا، يتمّ تكريسهما كرَمزين، بعيداً من الإملاءات والسلوكيات المفترضة. يراد لنا أن نفهم أنّ العودة الدائمة مقاومة، وهذه هوامش حريتهما المقدّسة التي ليس لأحدٍ في العالم اختراقها.

بين أرض الوطن وسلوك العشاق، تقع الحرب الباردة الرديفة. أرض الوطن بما تحمله من مفارقات، نراهما يحاولان الفرار منها في الجزء الأوّل من الفيلم، ثم يقاتلان للعودة اليها في الجزء الثاني. أمّا سلوك العشاق فمحكوم بظروف الوطن، الفوضى الاجتماعية التي أعقبت الحرب في بولندا أثّرت في هذا السلوك، هي وطأة القضايا السياسية التي أودت بالبولنديين، ومن بينهم الحبيبَين، إلى خيبة الأمل التي لا تنتهي.

(*) عرض الفيلم أولاً في مهرجان "كان".

المدن الإلكترونية في

21.06.2018

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)