وثالثهما حمارهما:
رحلة أبو بكر شوقي للبحث عن عدالة «يوم الدين»
كتابة:
أدهم يوسف
ترجمة:
محمد الحاج
بعد انتهائي من مقابلة المخرج أبو بكر شوقي ومنتجة
فيلمه، دينا إمام، أثناء هذه الدورة من مهرجان «كان»،
انطلقتُ لموعدي التالي؛ ندوة نقاشية عن فيلم لمخرجة كينية، يعرض
ضمن مسابقة قسم «نظرة ما». بالقرب من الندوة وجدتُ شوقي يجري
مقابلة مع صحفي أجنبي. صراحة، لم أستطع منع نفسي من الاستماع إلى
محادثتهم، خاصة عندما سمعتُ الصحفي يسأل شوقي عن «الرسائل السياسية
والدينية» وراء فيلمه الأول المرشح للسعفة الذهبية «يوم
الدين» (2018).
لاحقًا حينما التقيت شوقي مجددًا، طلبتُ منه
التعليق على هذا السؤال، فقال: «هناك توقع من الأفلام القادمة من
الشرق الأوسط أن تتناول السياسة أو الدين، وأنا لا أريد فعل ذلك.
ليس لأنهم غير ذوي صلة، لكن لأني أشاهد أفلامًا من الولايات
المتحدة وأوروبا وآسيا، أفلامًا ليست سياسية، وتعجبني. لم لا يمكن
لأفلام الشرق الأوسط ألا تكون سياسية بشكل تقليدي ويمكن اعتبارها
أفلامًا مسلية ومهمة في الآن ذاته؟». وأضاف: «أينما وجدتُ حكاية
جيدة سأذهب».
ثلاثة أفلام عربية أخرى كانت في هذه الدورة؛ فيلم
نادين لبكي «كفر
ناحوم»
(2018)، وهو دراما لبنانية حول الأطفال الفقراء والمهاجرين في
مناطق الإسكان غير الرسمي في بيروت؛ وفيلم جايا جيجي «قماشتي
المفضلة»
(2018)، وهو فيلم يتناول قضايا كالجنسانية والثورة السورية، ما
يضمن نجاحه عند المتفرجين الغربيين، وأخيرًا فيلم مريم بن مبارك «صوفيا»
الذي يتناول موضوع الحمل خارج الزواج في المغرب. وسط كل هذا، يقف
«يوم الدين» بسردية مختلفة، لكنه يمتلك مع ذلك قدرة على خلق صلة
بينه وبينه المشاهد، تتجاوز سياقه ليصل للعالمية.
في فيلم شوقي يذهب كل من بشاي، وهو جامع قمامة قبطي
مصاب بالجذام (ويلعب دوره راضي جمال الذي عاني من الجذام في
الواقع)، وأوباما (أحمد عبد الحافظ) وهو طالب يتيم من أصول نوبية،
وحمار يدعى حربي، في رحلة لصعيد مصر، بحثًا عن عائلة بشاي التي
تركته في مستعمرة جذام وهو طفل.
من النادر أن يصل الفيلم الأول لمخرجه إلى المسابقة
الرسمية لمهرجان كان، ومع أن هذا بحد ذاته سبب كافٍ للفخر، لكن
شوقي يمتلك سببًا آخر. ففيلمه سيُعرض للمرة الأولى في ذات القسم مع
فيلم معلمه المخرج الأمريكي «سبايك لي» الذي درّس له خلال فترة
دراسته بمدرسة «تيش للفنون» بجامعة نيويورك، حيث يعمل «لي» مديرًا
فنيًا للدراسات العليا بقسم السينما. قال شوقي: «هذا الأمر جعل
تواجدي بـ«كان» أكثر خصوصية». فازفيلم
«لي» في
نهاية الأمر بالجائزة الكبرى.
«يوم الدين» هو مزيج من النكهات والتأثيرات. فمن
ناحية يستدعي إلى الذهن قصصًا عربيًا قديمة مثل جحا وحماره.
ومن ناحية أخرى ينتمي إلى نوع أفلام «الطريق»، ليأخذنا في رحلة بين
الأماكن المهمشة في مصر.
يقول شوقي: «لطالما أردت العودة إلى مصر لأصور
جوانب مختلفة من البلد، وأضعها على الساحة الدولية. عندنا الكثير
من ينابيع الحكايات غير المستهلكة، والقصص غير المحكية التي بحاجة
فقط لأن تُكتشف».
لم يكن فيلم «يوم الدين» مرة شوقي الأولى في تناول
قضية الجذام، ففيلم تخرجه من المعهد العالي للسينما بمصر، كان
بدوره فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن منشأة للمصابين بالجذام في أبو
زعبل بعنوان «المستعمرة» (2008)، وهوفيلم يصوّر في 15 دقيقة عددًا
من البورتريهات لأشخاص يعيشون هناك. يتذكر شوقي قائلًا: «جاءتني
فكرة «يوم الدين» حينها».
رغم أن شوقي أدرك وقتها أن سُكّان المستعمرة لا
يعيشون في حالة بؤس دائمة بسبب مرضهم، حيث تعلم أكثرهم التعايش مع
المرض، إلا أنه أراد، بحسب قوله، التأمل في «فكرة كون الناس
منبوذين ومعزولين في مكان ما، ليس لأنهم مقهورون، بل لأنهم غير
مقبولين».
يقول شوقي: «الجذام ليس حالة مرضية فقط، بل حالة
اجتماعية أيضًا، لأنه عند مرحلة معينة يمكن أن يكون المرض معديًا.
وبعدما يتعافى المريض، سيكون عليه التعايش مع نظرة الناس السلبية،
بسبب الندوب التي يخلّفها. في فيلمي، أردت أن أظهر المصابين
بالجذام بمعزل عن هذه الندوب، كأناس عاديين».
رغم أن العديد من مصابي الجذام المتعافين يفضلون
العيش في المستعمرة، بسبب اعتقادهم أنها تقدم لهم حياة أفضل من تلك
التي قد يحظون بها في الخارج، إلا أن بشاي في الفيلم، وبعد وفاة
زوجته، يقرر أن ينطلق بعيدًا في رحلة.
يظهر في فيلم شوقي، تأثره الواضح بالأخوين «كوين»،
اللذين يعترف شوقي أنهما من أبطال طفولته، بسبب قدرتهما على صنع
أفلام شديدة الأصالة عن أماكن ذات خصوصية شديدة، وقادران في الوقت
ذاته «على لمس إنسان يعيش على الطرف الآخر من الكوكب وجعله يتوحد
مع شخصياتهما».
على سبيل المثال، وفي فيلمهما «يا أخي أين أنت؟» (?O
Brother, Where Art Thou)
يتبع الأخوين كوين ثلاثة مساجين هاربين على الطريق في ريف مسيسيبي
خلال فترة الكساد الكبير، وهو مقتبس بتصرف عن المرجع الرئيسي لكل
قصص أفلام «الطريق»: الأوديسة لهوميروس.
وفي فيلمهما «رجل جاد» (A
Serious Man)
يصوِّران الحياة المتداعية لرجل من المجتمع اليهودي في ضواحي
منيابوليس عام 1960. هكذا، تقوم قصصهما على شخصيات استثنائية في
أوضاع استثنائية، وهم عادة منبوذون أو غير مفهومين، ومع ذلك حققت
أفلامهما نجاحًا عالميًا عبر السنوات. «بالنسبة لي هذه هي السينما
كما تنبغي أن تكون»، يقول شوقي. «هدفي كصانع أفلام هو أن أصنع، أن
أكون، شيئًا على هذه الشاكلة. أن أصنع أفلامًا عن عالم لا يمتلك
الناس الذين يعيشون خارجه أي صلة به وأن أنجح في صنع هذه الصلة».
للمفارقة، يتعرض بشاي وأوباما للإهانة طوال
رحلتهما، من أناس يعتبرون مهمشين أيضًا في عرف المجتمع، كمحتجزين
في قسم الشرطة، أو فقراء في مستشفى عام، أو ركاب قطار من الدرجة
الثالثة. لكن من الناحية الأخرى، نحن نعرف أن الكيمياء بين بشاي،
الذي يظن أنه في الأربعين من عمره، وأوباما صغير السن، ليست علاقة
أب بابنه، وإنما هي علاقة رفقة يخلقها وضعهما كاثنين تعرضا
للتمييز.
رغم ذلك، ينجح شوقي في أن يبث في شخصياته بعض
القوة. فرغم تعثر رحلتهما على الطريق بسبب الهجمات العشوائية
والحوادث والسرقة والجوع، فلا يزال بشاي وأوباما يمتلكان قرارهما
في تطور الدراما.
جاءت معالجة الفيلم للفكرة مختلفة عن التناول
السينمائي المعتاد للفقراء والمهمشين، الذي يصورهم بوصفهم ضحايا،
في أفلام تزدحم بمشاهد إدمان المخدرات والجنس التجاري، وإلقاء
اللوم على ظروف المعيشة الصعبة، وعلى السياسات الحكومية. في «يوم
الدين» يفرد شوقي المساحة لبشاي وأوباما ليكونا بطلين مسموح لهما
باتخاذ القرارات وتحمل عواقبها.
يوضح شوقي: «الهدف هو صنع فيلم عن أقليات تحاول أن
تنجو، لا من حياة عسيرة عليهم فقط، وإنما عسيرة في عمومها. وأنا
أردت فقط أن أعطيهم صوتًا. بهذا المعنى، فـ«يوم الدين» ليس عن
الجذام، وإنما بالأحرى عن شخص يحاول البقاء ويحاول الوصول لإجابة
عن سؤاله».
يعود اختيار شوقي لعنوان الفيلم: «يوم الدين» لشيء
ما لمسه في تعامله مع المصابين بالجذام في مصر. «الناس في المنشأة
متدينون بغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين. يتجاوزون صعاب
الحياة عبر الإيمان بيوم الحساب، فيومها لن يحاسب الناس على مظهرهم
وإنما على شخصياتهم. بالنسبة لي هذه فكرة عميقة. لا يبدو على أحدهم
أنه يسأل (لماذا أنا؟)».
هذا الحس الإيماني يظهر بوضوح في شخصية بشاي. يقول
شوقي أن راضي، الذي يلعب شخصية بشاي، يمتلك روح مليئة بالطاقة
الطيبة. «عادة حينما يقابلك مرضى جذام للمرة الأولى لا يمدون
أيديهم بالسلام لأنهم خائفين من أن تكون مشمئزًا من مصافحتهم. لكن
الشيء الأول الذي فعله راضي حينما التقينا كان أن مد يده إليّ».
على مدار ورشة امتدت لأربعة أشهر، وأثناء تحضيره
لموقع تصوير الفيلم، أقام شوقي علاقة متينة براضي. كان الدور
الرئيسي في الفيلم مكتوبًا في الأصل لامرأة، لكنها ماتت قبل بدء
التصوير، فذهب الدور لراضي.
لكن الاستعانة براضي، كممثل يقف للمرة الأولى أمام
الكاميرا لم تكن سهلة، ليس فقط لأنها تجربته الأولى، ولكن لأنه لا
يستطيع القراءة والكتابة، ما طرح تحديًا أمام طاقم العمل. فمثلًا
من المعروف، أن على الممثلين الالتزام بعلامات معينة في موقع
التصوير، لضمان عدم خروجهم من المشهد، ولأن جميع الممثلين في «يوم
الدين» غير محترفين، فكّر فريق العمل في طريقة أُخرى، لتعويض
انعدام خبرتهم، وتبنوا طريقة تصوير «متمردة». كيَّف الفريق
الكاميرا مع حركة الممثلين عوضًا عن العكس. يقول شوقي: «بدلاً من
وضع الكاميرا على حامل وجعل الممثلين يعملون بناءً على ذلك، قمنا
بالعمل في خدمتهم». ويضيف: «هم الذين وجَّهونا».
بالإضافة إلى التقاط لحظات الذروة والهبوط في رحلة
بشاي وأوباما، ورصد أدق التغيرات في الشخصيات، يقدم شوقي، بمساعدة
التصوير المتميز لفديريكو سيسك، مشاهد طبيعية لمصر غنية بصريًا،
تتداخل الطرق الأسمنتية فيها بالصحراء الصفراء، والخضرة السخية
بأكوام القمامة.
يستغل شوقي مواقع تصويره بطريقة، يظهر فيها تأثره
بـ«فيم فيندرز»، أحد رواد أفلام الطريق (من أعماله: أليس في المدن Alice
in the Cities وباريس
تكساس ParisTexas)،
وأيضًا بفيلم «وحوش البرية الجنوبية» (Beasts
of the Southern Wild)
وهو دراما أمريكية من إخراج وكتابة وموسيقى بن زيتلن. يقول شوقي:
«أشعر أن مصر، كخلفية، تكاد تمتلك شخصيتها الخاصة».
نلاحظ أيضًا في لقطة أُخرى، تأثر شوقي بفيلم «الرجل
الفيل» (The
Elephant Man)
لديفيد لينش. ففي أحد المشاهد التي تحدث في قطار الدرجة الثالثة،
المتجه إلى قنا حيث تعيش عائلة بشاي، ينفجر بشاي غضبًا في أحد
الركاب الذين يضايقونه، قائلًا: «أنا انسان!»، في تحية للمشهد
الأيقوني في
فيلم لينش.
رغم أن فكرة الفيلم داعبت شوقي منذ أخرج
«المستعمرة»، فإنه لم يبدأ الكتابة الفعلية قبل 2013، بانيًا رسالة
تخرجه من جامعة نيويورك على المشروع. رافقته منذ بداية الرحلة،
منتجة الفيلم دينا إمام، وهي أيضًا زوجته.
حصل شوقي ودينا على تمويل فيلمهما من عدة مصادر،
فأولًا فازا بجائزة
ريتشارد فيج لإنتاج الأفلام الخاصة بجامعة نيويورك،
والتي شكلت قيمتها جزءًا ضخمًا من الميزانية. ولأنهم لم يستطعا
الحصول على أي تمويل من مهرجانات أو منح أمريكية أو أوروبية أو شرق
أوسطية، لجآ للتمويل الجماعي. تقول دينا: «لم يرغب أحد في إعطائنا
المال، لذا أطلقنا حملة تمويل جماعي عبر منصة كيكستارتر.
تلقينا مساعدات من أصدقائنا وأهلنا أيضًا، وبالطبع وضعنا جزءًا من
مدخراتنا في المشروع كحل أخير».
تستطرد دينا: «كنّا صنّاع أفلام للمرة الأولى بدون
شركة إنتاج كبيرة أو نجوم كبار، صعَّب ذلك علينا إنجاز الأشياء، من
تأمين التمويل إلى استخراج تصاريح التصوير مرورًا بأخذنا على محمل
الجد أصلًا».
أضافت دينا إمام، أنهما أيضًا هي وشوقي، عملا في
السلسلة التليفزيونية الأمريكية القصيرة «البرج
المخيف»
(2018)، ما وفر لهما بعض المال لإنتاج الفيلم.
لكن بعد انتهاء التصوير أوقف شوقي ودينا العمل على
الفيلم، حتى يستطيعا جمع بعض الأموال لتمويل مرحلة ما بعد التصوير،
ولكن هذه المرة لم يلجآ للتمويل الجماعي: «لم نشعر أن من الصواب
سؤال الناس عن أموال مجددًا بعدما أعطونا بعضها منذ ثلاثة أعوام».
لهذا، في العام الماضي ذهبت دينا إلى «كان» تحاول
التعرف على شبكات علاقات، تسهّل عليهما إنهاء مرحلة ما بعد
التصوير. وبالفعل قابلت هناك محمد حفظي رئيس شركة الإنتاج والتوزيع
المصرية «فيلم
كلينيك»،
والرئيس الجديد لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.
طبقًا لشوقي، كان حفظي على دراية بالفيلم، حيث شاهد
أول 20 دقيقة منه، حين عُرض في «منصة
الجونة السينمائية»
في الدورة الأولى لمهرجان الجونة. وقتها فاز الفيلم بمنحة تقدر
بخمسة آلاف دولار لإتمام عمليات ما بعد التصوير، و قرر حفظي
المشاركة في الفيلم كمنتج مشارك وموزع في الشرق الأوسط.
نجا «يوم الدين» من انتقادات النقاد المصريين
الداعمين للدولة الذين عادة ما يحضرون مهرجان «كان»، لكننا ما زلنا
لا نعرف إن كان سيتم استقباله جيدًا عند عرضه في مصر، وبخاصة أنه
يصوّر قطاعات محرومة في المجتمع المصري وتجري أحداثه في مناطق
مقفرة. قبل عامين حينما وصل فيلم «اشتباك»
لمحمد دياب لقسم «نظرة ما» في نفس المهرجان، تعرّض لهجوم قاسٍ
من بعض الإعلاميين متهمين إياه بتقديم «صورة مشوهة عن المجتمع
المصري» في أغلب أعماله، وبخاصة فيلمه «678»،
والذي تناول قضية التحرش الجنسي في القاهرة.
في رده على احتمالية التعرض لنقد شبيه يقول شوقي: «
سأخبرهم أمرًا واحدًا. كنت في «كان»، بفيلمي الأول في مسابقة
رسمية، وهو أمر نادر الحدوث، ولم يدعو أحد فيلمي بالفيلم الذي يسيء
لمصر. بل دعاه الجميع ببساطة (الفيلم المصري)».
أما دينا فردت قائلة: «صورنا في مواقع حقيقية بقدر
الإمكان، فإن أتى من يقول أننا نقدم صورة مشوهة عن الواقع، فهو لا
ينظر حوله جيدًا». |