كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 

«يوم الدين»:

جماليات مغايرة في السينما المصرية

محمد هاشم عبدالسلام

كان السينمائي الدولي

الدورة الحادية والسبعون

   
 
 
 
 

بعد غياب ست سنوات، عادت السينما المصرية مرة أخرى للاشتراك في مُسابقة مهرجان «كان» السينمائي الدولي في دورته الحادية والسبعين (8 – 19 أيار - مايو 2018)، التي انتهت فعالياتها قبل أيام قليلة. لقد خرج فيلم «يوم الدين» (2018)، للمُخرج الشاب أبو بكر شوقي، دون أي جائزة من جوائز المهرجان الكبرى، وإن نال جائزة فرعية تحمل اسم «فرانسوا شاليه». وهي جائزة تُمنح للأعمال التي تُكَرِّس قيم الحياة والصحافة. والجائزة التي تُمنح مُنذ عام 1997، هي تكريم لاسم الصحافي والمُؤرخ السينمائي الفرنسي المعروف «فرانسوا شاليه».

كان اشتراك فيلم «يوم الدين» من الأحداث السارة والمُفاجئة في دورة هذا العام بالمهرجان، وذلك على أكثر من مستوى، أهمها، أن الفيلم هو الروائي الأول للمُخرج أبو بكر شوقي– مواليد القاهرة عام 1985، وأنجز من قبل بعض تسجيليات أفلام قصيرة – ومن النادر جدًا في تاريخ المهرجان أن يشترك العمل الأول لمُخرج ما في المُسابقة الرسمية للمهرجان.

استحقاق

بالطبع، مُقارنة بالأفلام المصرية السابقة التي اشتركت في تاريخ المهرجان، يستحق فيلم «يوم الدين»، وعن جدارة، أن يكون ضمن المُسابقة الرسمية. وإن كانت برمجته مع أكثر من عشرين فيلمًا من عدة بلدان ومدارس سينمائية مُختلفة، ووسط أسماء لامعة لمُخرجين مُخضرمين لهم ثقلهم وتاريخهم السينمائي، قد ظلمته بعض الشيء. لكن بالتأكيد، لم يقلّ الفيلم أهمية وعمقًا وفنية عن مستوى غالبية الأفلام التي عرضت بالمُسابقة، ويُمكن القول أن مستواه فاق الكثير منها. من بين مُميزات وأماكن القوة بالفيلم، اقترابه من منطقة يندر الاقتراب منها. وخوضه في منطقة جد شائكة وحساسة ومُثيرة للقلق، وذلك بجرأة وحساسية مُرهفة، غير مكترث لمُتطلبات السوق أو الذوق السائد أو حتى رد فعل الجمهور، الذي سيصدمه موضوع الفيلم وأبطاله، بالتأكيد.

يمكن القول، مع بعض التجاوز، أن فيلم «يوم الدين» يُعتبر من الأفلام الصادمة، على أكثر من مستوى. الموضوع والتناول والشخصيات وأماكن التصوير إلى آخره. لدرجة تُمكن معها مُقارنته بفيلم «المومياء» للمُخرج الرائد والمُجدد «شادي عبد السلام». بالطبع، لا توجد مُقارنة بالمرة بين مُستوى وقصة وشخصيات وشكل الفيلمين، لكن المُقارنة هنا تكمن أساسًا في جمالية وجرأة الاقتراب من مناطق مُغايرة وغير مطروقة في تاريخ السينما المصرية والعربية. صحيح أن هناك من تناول العشوائيات والمُهمشين والطبقات المسحوقة، لكن تناول أبو بكر شوقي أوغل بنا بعيدًا من كل ما شاهدناه من قبل.

بقدر لافت من السحر والبساطة والعمق أيضًا، دون الانزلاق إلى المليودرامية أو غيرها من كليشيهات السينما المصرية والعربية، نسج أبو بكر فيلمه. قصة الفيلم، وطريقة التناول والطرح، تبرهن على أن المُخرج له رؤية مغايرة. يفهم تمامًا دور السينما، ويُدرك خطورة وأهمية ما يُمكن أن يطرحه من خلالها. بالتأكيد، يصعب فقط عبر العمل الأول للمخرج تبين جل قُدراته الفنية والسينمائية والفكرية والفلسفية، لكن يُمكن بالطبع تلمس توجهه، والكيفية التي يُفكر بها ويرى السينما والعالم من خلالها.

تقديم مرضى الجذام أو غيرهم من ذوي الإعاقة الجسدية، عادة ما يكون هامشيًا، ونادرًا ما شغل مساحة من تاريخ السينما في عالمنا العربي. أهمية «يوم الدين» أنه يُفرد المساحة الأكبر لهؤلاء. يجعلهم أبطاله، يربطنا بهم، ويُقرِّبنا منهم. نُشاركهم أفراحهم وأتراحهم، نكتشفهم، وندخل إلى عوالهم التي لا ندري عنها أي شيء. نتبين أنهم كبشر لا يقلون عنا بالمرة، باستثناء المرض، وفي النهاية، لفرط إنسانيتهم وملامستهم لنا، نتوحد معهم. وشيئًا فشيئًا، يسقط الحجاب أو الحاجز الذي وُضِعَ، لأسباب كثيرة، بيننا وبينهم، وحال دون رؤيتنا السلمية لهم. وهو ما حدث بالضبط مع اقتراب الفيلم من نهايته.

بعد الوفاة المُفاجئة لزوجة «بشاي» (راضي جمال) مريض الجزام، داخل مُستشفى الأمراض العقلية، ومجيء والدة تلك الزوجة وقد اعتصرها الحُزن والألم لزيارة قبرها، بعدما تركتها وأهملتها طويلاً، تُؤرق «بشاي» فكرة العثور على أسرته، لدوافع كثيرة، أبرزها خشيته من الموت وحيدًا منبوذًا، أكثر مما هو. بتعرفنا على بشاي وعالمه والمُحيط من حوله، نقف على العلاقة الإنسانية الجميلة التي تجمع بين بشاي والطفل «أوباما» (أحمد عبد الحافظ). إنها علاقة فيها بعض التكامل، فبشاي لم يُنجب، وأوباما يتيم، يعيش في دار للأيتام تقع بنفس المُحيط الذي يتحرك فيه بشاي، حيث مُستشفى الجُذام في منطقة «أبو زعبل»، على أطراف القاهرة.

ومن ثم، نجد بشاي ذات يوم، وقد خلت الدنيا من حوله، ينطلق في رحلة إلى مسقط رأسه للبحث عن أسرته. عاش بشاي حياتها كلها في تلك المنطقة، حيث العمل في جمع وفرز القمامة، ولم يخرج منها أبدًا. ومع ذلك، لم تُرهبه الفكرة. وبقدر شديد يجمع بين البراءة والسذاجة، يأخذ عربته الكارو وحماره «حربي»، وبعض المُمتلكات التي خرج بها من الدنيا، وينطلق في طريقه. في البداية، يُحاول إثناء أوباما والتخلص منه بقسوة لم نعهدها فيه، فالطفل انتابته رغبة صادقة في مُصاحبة بشاي في رحلته، وأيضًا، مُحاولة العثور على أهله والتخلص من الحياة في الملجأ، بكل ما فيها.

في الرحلة، كأي فيلم من أفلام الطريق أو الرحلات التي تمتد بطول الفيلم، يُصادف الأبطال، بشاي وأوباما والحمار حربي، والكثير الكثير من الصعاب والمخاطر، التي لا تُثنيهم في النهاية عن إكمال رحلتهم والوصول إلى هدفهم. وبصرف النظر عمّا حملته تلك الرحلة، ونهايتها، فقد تعرَّف خلالها الثنائي، بعد نفوق الحمار، إلى العالم بمعناه الواسع لأول مرة، على الحياة وقسوتها وانعدام إنسانية الكثير من البشر. لكنهما، بالأساس، وهذا هو أجمل ما في الفيلم وأعمقه، تعرفا على ذاتيهما، وتلمَّسا حدود عالمهما، اللذين كانا يجهلان مدى رحابته وتسامحه وإنسانيته. ولذا، يتحرران، وبكامل إرادتهما. ويقرران، مع نهاية الفيلم، إلى أي عالم ينتميان ويرغبان في إكمال حياتهما.

نقاط القوة

دون شك، في الفيلم الكثير من نقاط القوة والضعف، لكن نقاط القوة طغت على بعض الهنات هنا وهناك. سواء كانت متعلقة ببعض المواقف غير المقنعة، مثل اكتشاف بشاي فجأة لاختباء أوباما تحت متعلقاته بالعربة الكارو. أو، في ما يتعلق ببعض الجمل الحوارية، التي جاءت على قدر كبير من المباشرة والخطابية، وأفسدت ما تم، وما كان ممكنًا، التعبير عنه سينمائيًا. بخلاف هذا، يحسب للمخرج أبو بكر شوقي جرأته في توجيه هواة يقفون لأول مرة أمام الكاميرا، وبخاصة أداء (راضي جمال)، البالغ الإنسانية والرقة والعفوية، وتوظيف قسمات وجهه بمهاراة للتعبير عما يجيش في نفسه، رغم إصابته بالجذام.

العربي الجديد اللندنية في

01.06.2018

 
 

جناح فلسطين بمهرجان كان: تضامن مع غزة وتدعيم للسينما

يوسف الشايب

في وقت يحيي فيه أبناء شعبنا الذكرى السبعين للنكبة، تحت وطأة ما يحدث من قتل وحشي في غزة، أعتقد أن بإمكاننا كصانعي أفلام فلسطينيين وعرب وأجانب ممن نعشق السينما والمهرجانات، فعل ولو شيئا يسير لدعم عدالة القضية الفلسطينية في مهرجان كان السينمائي الدولي.

وفي الذكرى السبعين للنكبة نظمنا وقفة احتجاجية بمشاركة مخرجين وفنانين من مختلف أنحاء العالم، إحياء لهذه الذكرى الأليمة ولتذكير العالم بأنها مستمرة، ولتسليط الضوء على ما يعانيه أهلنا من إبادة في قطاع غزة، وما تعانيه القدس من سلب لهويتها الوطنية والروحية، وتم ذلك بالفعل بوقفة صامتة لسبعين ثانية على وقع صفارات الإنذار، كما فعل الفلسطينيون في رام الله، والعديد من المحافظات الفلسطينية في الأراضي المحتلة.

وشارك في الفعالية، التي انتظمت في الثامن عشر من الشهر الجاري، المخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر، عضو لجنة تحكيم برنامج "نظرة ما" في المهرجان، والمخرج رائد أنضوني، صاحب الفيلم الشهير "اصطياد الأشباح"، والمخرجة نجوى نجار، والمخرج مهند يعقوبي، والمخرجة والمنتجة مي عودة، بالإضافة إلى وزير الثقافة الفلسطيني د. إيهاب بسيسو، في موقع الجناح الذي بادرت إليه "مؤسسة الفيلم الفلسطيني"، وبدعم من وزارة الثقافة الفلسطينية، وحمل علم فلسطين للمرة الأولى في هذه التظاهرة العالمية.

جاءت هذه التظاهرة في كان ردًا على جريمة الاحتلال بقتل ما يزيد عن ستين فلسطينيًا في قطاع غزة، وفق ما قاله المخرج مهند يعقوبي، أحد المبادرين إلى فكرة جناح فلسطين في مهرجان كان السينمائي، و"لذا كان رفع العلم احترامًا لأرواح الشهداء في فلسطين".

وقبلها بيومين، ولمناسبة سبعين عامًا على النكبة، شاركت جاسر وزملاؤها في لجنة تحكيم "نظرة ما" بمهرجان كان السينمائي، في وقفة لإيصال رسالة وحقيقة القضية الفلسطينية، وما يعيشه الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث تحدثت عن الفلسطينيين العزل الذي فقدوا أرواحهم دون ذنب في غزة، وعن الملايين الذي ينتظرون العودة إلى ديارهم التي هجروا منها قبل سبعين عامًا.

من جانبه شدد وزير الثقافة الفلسطيني، د. إيهاب بسيسو، على الأثر السلبي العميق الذي تخلفه سياسات الاحتلال على الحياة اليومية للشعب الفلسطيني، وكيف أنها تساهم في اغتيال أحلام أطفال فلسطين وآمالهم بمستقبل أفضل، مؤكدًا أن على الجميع أن يدرك أن من استشهدوا ليسوا مجرد أرقام بل بشر كانت لهم حكاياتهم وحيواتهم، مطالبًا بضرورة توفير الحماية للأطفال ولعموم أبناء الشعب الفلسطيني، وتطبيق القوانين الدولية التي تدين ضمنيًا جرائم الاحتلال بفتح تحقيق دولي محايد في اغتيالهم، كما شدد على أهمية الثقافة كوسيلة لتعزيز صمود الشعب الفلسطيني على أرضه، وكرافعة أساسية وحضارية لمقاومة الاحتلال.

ولم تقتصر فعاليات الجناح الفلسطيني في مهرجان كان السينمائي على الفعاليات التضامنية وإيصال الرسائل السياسية فحسب، حيث تم استقبال العديد من المنتجين والمخرجين من عدة دول عربية لتقديم محاضرات وأحاديث عن تجاربهم السينمائية، كما تم تنظيم فقرات فنية تراثية وترفيهية ذات طابع كرنفالي، كما في ذلك الفيديو الذي انتشر على صفحات التواصل الاجتماعي، لأغنيات حاكت التراث وطورت فيه موسيقيًا، بينما شارك راقصًا عدد من الفنانين الفلسطينيين، بينهم الممثل محمد بكري، وغيره من فلسطينيين وعرب وأجانب تحلقوا لرقص ما يشبه الدبكة، بينما المغني يزجي التحايا لمن هم خلف الجدار، في إشارة إلى جدار الفصل العنصري، فيما كانت أجساد نجوم السينما الفلسطينية تتمايل على أنغام "يا ظريف الطول" في عاصمة السينما الفرنسية، التي انتشرت الزغاريد الفلسطينية في قلبها.

محمد الجبالي تحدث عن التجربة بحميمية حين نشر على صفحته في موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك": في أقل من خمسة أيام صرنا أكثر من عائلة، اجتمعنا على حب الوطن، ولكن خارجه، وهذا أمر يوجع ويشعرك بحالة من القهر بسبب نظام الفصل العنصري الذي خلقه الاحتلال الإسرائيلي ما بيننا وفصل وجودنا الفلسطيني عن بعض، مضيفًا بالعامية "ملعون أبو الحدود يلي منعتنا انو نجتمع بفلسطين" .. و"لهذا السبب دورنا مهم وضروري كفنانين وصناع أفلام أن نوصل قصصنا ووجعنا وهذه المعاناة التي نعيشها إلى كل العالم، وأن نحقق كل أحلامنا وأهمها حلمنا في التحرير".

وأضاف الجبالي: "اجتمعنا ع هدف واحد في مهرجان كان السينمائي، وحققناه وأثبتنا لكل العالم أحقية وجودنا كفلسطينيين في ظل القهر والجرح اللي نعيشه داخل وخارج البلد، والشكر موصول لكل حدا ساهم بنجاح جناحنا الفلسطيني من صناع أفلام وفنانين وعلى رأسهم المبادرين في مؤسسة الفيلم الفلسطيني.. هدفنا  في الفترة الجاية أن نكمل هذه المسيرة، وأن نتحول مع الوقت إلى حاضنة لكل الشباب".

المخرج وديع حنني قال بدوره: أهمية هذا الجناح أنه جمع القصص الفلسطينية، قصص النجاح القادمة من كافة أنحاء العالم.. فيلمي يكمل أفلام الآخرين، والعكس، والنقاشات التي خضناها مع بعضنا البعض في غاية الأهمية، ويمكن البناء عليها، وهذا ينقلنا من الحديث مع بعضنا، والذي نفتقده أحيانًا، إلى الحديث مع العالم.. الطاقة الموجودة في هذا الجناح (الخيمة) استثنائية ومحفزة.

أما المخرج رائد أنضوني فقال: تبدو فكرة جناح فلسطين ضمن مهرجان كان السينمائي قيمة مضافة للتعريف بالسينما الفلسطينية والشعب الذي ينتج هذه المعرفة.. هذا مشروع حقيقي وجامع للسينما الفلسطينية سواء في فلسطين أو كل مكان بالعالم، حيث أن الثقافة والسينما هنا تتجاوز حدود السياسة.

وفي إثر النجاح الكبير، الذي حققته مؤسسة الفيلم الفلسطيني في مهرجان كان السينمائي بدورته الحالية، أعلن وزير الثقافة الفلسطيني أن وزارة الثقافة ستعهد بمهام ومسؤولية بناء وإدارة قطاع السينما الفلسطيني خلال الأعوام الثلاثة المقبلة لـ "مؤسسة الفيلم الفلسطيني". وفي سياق تدشين الجناح الفلسطيني في مهرجان كان السينمائي، تم نقاش الخطوط العامة للمهام المستقبلية للمؤسسة.

وستقوم "مؤسسة الفيلم الفلسطيني" بالإشراف على ترويج الإنتاج السينمائي الفلسطيني في العالم من خلال التعاون مع مجموعة من العاملين في هذا المجال على الصعيد الوطني من طريق إقامة اتفاقيات إنتاج مشتركة، بما يسمح بالتأسيس لأرضية تحتضن بيئة سينمائية مستدامة على تواصل بنظيراتها في العالم. 

محليًا سيركز نشاط المؤسسة على إنشاء صندوق فلسطين السينمائي، على أن يتم إسناده ببنية تحتية جديدة تمكنه من تقديم التدريب اللازم للجيل المقبل من المهنيين السينمائيين، والترويج لفضاء إنتاجي مستقل قادر على تقديم روايات حول فلسطين من فلسطين والعالم.

كما ستقوم المؤسسة، بالتعاون مع شبكة مهرجانات الأفلام الفلسطينية في العالم، بتأسيس بنية تحتية حيوية لتوزيع الأفلام على مستوى عالمي وتهدف إلى الوصول إلى خطة للحفاظ على إنتاج سينمائي فلسطيني مستدام خلال السنوات المقبلة.   

"مؤسسة الفيلم الفلسطيني" هي جسم داعم للإنتاجات السينمائية عن فلسطين ومن حول العالم من خلال توفير الاستشارة والتطوير اللازمين للأفلام وتقديم نصائح حول التمويل والتشبيك مع المواهب والخبراء السينمائيين. تؤمن المؤسسة بتقاليد تاريخ السينما والممارسات السينمائية المستقلة والسينما الملتزمة بكونها أداة للتغيير الاجتماعي. وهي تقوم بعروض أفلام، واستعراض تجارب لمبدعين من فلسطين وخارجها في السينما، ونشر ملصقات فنية وأخرى وطنية، وإيصال رسائل سياسية وثقافية إلى العالم، وحضور إعلامي قد يكون جيدًا نسبيًا على المستوى الدولي، لكنه، للأسف، يبقى ضعيفًا على صعيد الإعلام المحلي الفلسطيني، وكأن القائمين على الحدث لم يكن يهمهم الإعلام الفلسطيني، لربما من باب أننا لا نريد أن نخاطب أنفسنا، أو من باب إهمال الإعلام المحلي، أو أن التقصير هو من وسائل الإعلام المحلية التي لم تكن ممثلة في المهرجان، وإن كان ذلك ممكنًا عبر المؤسسة الرسمية الفلسطينية، أو عبر المؤسسات الإعلامية نفسها، وهذا كله يبقى من باب التأويل، أو محاولته.

ضفة ثالثة اللندنية في

01.06.2018

 
 

"شجرة الإجاص البريّة" رائعة جيلان التي تجاهلتها لجنة تحكيم كانّ

هوفيك حبشيان

بلغ المخرج التركي المعلم نوري بيلغي جيلان مرتبة متقدمة في السينما بحيث يمنحك الأشياء على دفعات، عليك ان تصبر لتنال. بهذا، يتماهى مع جوهر الحياة نفسها التي تحمل ما تحمله من شقاء وصمود وارادة، تلك...

لقراءة هذا الخبر، إشترك في النهار Premium بـ1$ فقط في الشهر الأول

النهار اللبنانية في

01.06.2018

 
 

إنتصار السينما النسوية في مهرجان « كان » الحادي والسبعين

مهرجان « كان » ـ ( هنا روما )

كتابة – أحمد شوقي

قبل عام من الآن، وفي المؤتمر الصحفي التالي لإعلان جوائز مهرجان كان السينمائي وتتويج فيلم  «المربع» للسويدي روبين أوستلوند بجائزة السعفة الذهبي، كبرى جوائز المهرجان وأرفع جائزة سينمائية سنوية، برر المخرج الإسباني بيدرو آلمودوفار رئيس لجنة التحكيم منح الجائزة بأن الفيلم “يقف في وجه ديكتاتورية الـ «الصائب سياسياً» المسيطر على العالم”، في تصريح جريء من فنان وإنسان لم يعرف أبداً المواءمات. اليوم وبعد عام واحد فقط يبدو أن كفة «تصويب» السينما سياسيًا قد مالت من جديد.

الحسابات تغيرت مع اختيار النجمة الاسترالية كيت بلانشيت لرئاسة لجنة تحكيم الدورة الحادية والسبعين للمهرجان، والتي أقيمت في المدينة الفرنسية بين 8 و19 مايو ـ أيّار الماضي. اختيارٌ في حد ذاته يرتبط بموجة النسوية المشتعلة من نهايات العام الماضي، والتي انطلقت من هوليوود وحملات كشف المتحرشين وبلغت ذروتها في حفل الأوسكار قبل أن يعلن المدير الفني لمهرجان «كان» تييرّي فريمو على اختيار امرأة لرئاسة لجنة تحكيم “أغلبيتها من النساء”. معلومة لو لم تكن موضوعة في الحسبان خلال الاختيار لما اهتم فريمو بذكرها والتأكيد عليها خلال تقديم اللجنة في حفل افتتاح المهرجان.

تتويج مضمون للمخرجات

فوز مخرجة بإحدى الجوائز كان أمرًا محسومًا سلفًا، ليس لأن هناك توجيه للجنة فهذا أمر مستحيل، ولكن لأن اختيار المحكمين في أي مكان يحمل داخله اختيار ضمني للفائزين. وطوال أيام المهرجان كان الصحفيون يقارنون بين الأفلام الثلاثة لمخرجات المشاركة بين 21 فيلمًا في المسابقة لاختيار الأفضل بينهم ووضعه كمرشح محتمل. لجنة بلانشيت زايدت على التوقعات وتوّجت فيلمين من الثلاثة، فأعطت اللبنانية نادين لبكي جائزة لجنة التحكيم الخاصة عن فيلمها «كفرناحوم»، ومنحت جائزة السيناريو إلى لإيطالية أليتشي روهرڤاكير عن «ألْعازَرْ السعيد» مناصفة مع الإيراني الممنوع من السفر جعفر بناهي (موقف سياسي آخر) عن فيلمه «ثلاثة وجوه».

حتى الفيلم الثالث لمخرجة «بنات الشمس» للفرنسية إيفا حسّون، والذي وضعته كل مؤشرات النقاد وتقييمات الأفلام في ذيل قائمة أفلام المسابقة بل والمهرجان بشكل عام، فقد سألت صحفية كيت بلانشيت عن سر عدم فوزه بجائزة، فتجاهلت بلانشيت عدم منطقية السؤال وأجابت بمنتهى الدبلوماسية: هو فيلم رائع لكن من الصعب أن نمنح كل الأفلام جوائز. والحقيقة إنه ليس فيلمًا رائعًا على الإطلاق، بل هو عمل سيء المستوى قولًا واحدًا، عمل استشراقي سطحي يقدّم نسخة نسوية على الطريقة الأمريكية للمقاتلات الأكراد اللاتي تواجَهْنَ مع تنظيم داعش، نسخة فشلت حتى أن تكون جذابة كفيلم حربي جماهيري، لكنها ـ لأسباب صارت مفهومة ـ وجدت طريقها لأكبر منافسة سينمائية في العالم.

إدارة مهرجان «كان» لم تكتف بمنح «بنات الشمس» مكانًا لا يستحقه في المسابقة على حساب عشرات الأفلام الجيدة التي يحلم أصحابها بهذا المكان، بل ميزت الفيلم عن باقي أفلام المسابقة بتنظيم احتفال خاص قبل عرضه العالمي الأول، ودعوة 82 امرأة من صانعات السينما والممثلات تتقدهم رئيسة لجنة التحكيم وعضواتها، للسير متشابكات الأيدي على السجادة الحمراء والتقاط صورة جماعية للمطالبة بالمساواة بين الجنسين، في الوقت الذي سار فيه المخرج المصري الشاب أبو بكر شوقي وزوجته المنتجة دينا إمام وحدهما قبل عرض فيلم «يوم الدين» في المسابقة نفسها، لأن الإجراءات لم تتم في الوقت اللازم لوجود بطلي الفيلم خلال العرض!

بين الأحقية والأولوية

لا نقول هنا أن فوز المخرجتين في نهاية المهرجان لم يكن مستحقًا، ففيلم «ألْعازَرْ السعيد» يقوم على نص بديع حقًا يستحق الإشادة، وفيلم نادين لبكي على ما فيه من ميلودرامية واستجداء للمشاعر يظل فيلمًا جيد الصنع قادراً على التفاعل مع الجمهور العريض. لكن الأمر الأكيد هو أن توقيع المخرجة الأنثى سهّل المهمة على الفيلمين، اللذين لو حملا إلى المهرجان، دون أي تعديل، توقيع مخرج ذكر لكان اختيارهما للتتويج أصعب، خاصة بوجود أفلام رائعة تجاهلتها لجنة التحكيم مثل الفيلم الكوري «احتراق» للكوري الجنوبي لي تشانج دونج (وزير الثقافة الأسبق في بلاده) الفيلم الذي منحه الاتحاد الدولي للنقاد جائزته في نهاية المهرجان ولم تمنحه لجنة كيت بلانشيت أي جائزة، وكذلك «شجرة الآجاص البرية» للتركي نوري بيلغي جيلان، الذي تحطم رقمه القياسي بعد خمس مشاركات متتالية في مسابقة كان الدولية فاز فيها جميعًا بجوائز رسمية.
غير أن الأمر يظهر بصورة أوضح في مسابقة نظرة ما، والتي فازت بجوائزها الرئيسية أفلام ممتازة، فنال «حدود» للإيراني السويدي علي عباسي جائزة المسابقة، وفيكتور بولستر بطل «بنت» للبلجيكي لوكاس دون جائزة التمثيل، ونال الأوكراني المخضرم سيرجي لوزنيتسا جائزة الإخراج عن «دونباس». ولأنه لا يجب أن تخرج جوائز دون فائزة أنثى فقد مُنحت جائزة السيناريو لفيلم «صوفيا» للمغربية مريم بن مبارك
.

نظريًا، ينبغي أن نُسعد بالجائزة التي تذهب لمخرجة عربية، لكن عمليًا وأخلاقيًا لا يجب السير وراء الجوائز والاحتفاء بفيلم متواضع المستوى مثل هذا، لولا موضوعه وكونه من إخراج امرأة عربية ربما لما كان من الممكن أن يُختار لمسابقة نظرة ما المهتمة بالأساس بعرض التجارب ووجهات النظر المغايرة.

يبدأ شريط «صوفيا» بمراهقة في عشاء عائلي نكتشف مع نهايته كونها بصدد وضع وليدها الذي لا يعرف أحد إنها تحمله، لتبدأ رحلة التعامل مع الوليد وسط مجتمع محافظ ونظام قانوني لا يسمح بالعلاقات خارج إطار الزواج ويحكم على من يمارسها بالسجن. فيلم يمتلك موضوعًا قيمًا لكنه تعامل معه بتخبط واضح على المستوى الدرامي، فلم نُدرك موقف الفتاة التي سنعرف لاحقًا بأنها تعرضت إلى الاغتصاب لكنها لم تعلن عن المغتصب وأدّعت أن شابًا آخر هو والد الطفل، بما يجعل السيناريو أحد أضعف عناصره، لكن لجنة الأمريكي بينيتشو ديل تورو قررت منح هذا العنصر تحديدًا جائزتها.

في النهاية هي آراء كل لجنة، وما نقوم به هو محاولة تحليل هذه الاختيارات وفهم دوافعها. وإذا كانت موجة النسوية العاتية تجتاح كل المحافل السينمائية هذا العام، فإن أملنا يبقى دائمًا في أشخاص، مثل بيدرو آلمودوفار، يرفضون الانحناء أمام أي شيء بخلاف الفن الجميل.

موقع "هنا روما" في

02.06.2018

 
 

بورتريه للياباني كوريه ايدا "المسعَّف" في كانّ

هوفيك حبشيان - المصدر: "النهار"

يروي هيروكازو كوريه ايدا انه لم يعش طفولة صعبة. كبر بسرعة، وأحرق مراحل النمو التقليدي. والده لم يكن يعمل، يهرب من المنزل عندما يحين موعد دفع المستحقّات المالية. أمه هي التي اعتادت ان تدقّالأبواب لجمع الفلوس بهدف اطعام العائلة. روى هذا الفصل من حياته لصحيفة "ليبيراسيون" الفرنسية في كانّ يوم عُرض فيلمه، "الابن سرّ أبيه". انه تفصيل صغير ولكن يساهم في فهم سينما هذا الرجل الخمسيني الهادئ والحكيم الذي يحني برأسه أمام إطراء لعمله، والذي فاز حديثاً بــ"السعفة الذهب" في مهرجان كانّ السينمائي (٨ - ١٩ أيار) عن فيلمه "سارقو المتاجر"، وهو الياباني الخامس ينال هذه الجائزة في تاريخ المهرجان. هذه التفاصيل القليلة عن حياته تشرح كذلك هوسه بالأسرة والعلاقة بين الأجيال التي نسجها في عدد من أفلامه. يجب القول انه واحد من أنشط السينمائيين اليوم، فهو صوّر تقريباً فيلماً كلّ عام منذ مطلع العقد الحالي.  

"لا يزالون يمشون"، هو أول فيلم شاهدته لكوريه ايدا عند عرضه في مهرجان نانت السينمائي في العام ٢٠٠٨. يومذاك كانت مرت أكثر من عشر سنين على بداياته، وسبق له ان أنجز "مابوروسي" (عُرض في موسترا البندقية) و"بعد الحياة" الذي وُزِّع في أكثر من ٣٠ دولة حول العالم، ونال عنه جائزة "المنطاد الذهب" في نانت. أما "مسافة" (٢٠٠١) و"لا أحد يعلم" (٢٠٠٤) فذهبا إلى مهرجان كانّ، في المسابقة الرسمية. "لا يزالون يمشون" هو الروائي السادس لمخرج ينبثق من صميم الثقافة اليابانية.

ذات يوم صيفي، يجتمع أفراد عائلة يابانية في مناسبة يتبين انها تخليد لذكرى الأخ البكر الذي كان توفي قبل ١٥ عاماً أثناء محاولته إنقاذ طفل من الغرق. الفيلم ميلودراما متقنة الاخراج أنجزها كوريه ايدا مستعيناً بمَشاهد، إيقاعها يوحي بنعمة العيش في الريف الياباني حيث يحلو التسكع والتأمل واعادة النظر في جوهر الحياة. وهذا ما ستفعله الشخصيات، حواراً، نقاشاً وتطاولاً على "مقامات" بعضها بعضاً. تناغم رائع يولده الفيلم مترجحاً بين الكوميديا الخفيفة والأسى العميق والحوارات الغزيرة.

بعد "مابوروسي"، باتت فاجعة فقدان أو اختفاء فرد من أفراد العائلة لازمة درامية في سينما كوريه ايدا. مع اصرار على ضرورة نسيان أمر الأموات على مرّ الوقت والوقوف إلى جانب الأحياء الذين "لا يزالون يمشون”. تبرز أهمية هذه الوفاة على صعيدين إثنين، لأنها تشير إلى جروح قديمة غير قابلة للشفاء من جهة، وتحقق الوئام بين أفراد الأسرة من جهة أخرى، إذ تحققت الأماني لدى جمع شمل العائلة إلى مأدبة الطعام! ولا يكاد الأولاد يصدّقون هذه الحادثة المأسوية، مثلما يعجز الأحفاد عن فهمها واستيعابها. هذا كله ويظهر للمشاهدين أفراد العائلة من كبار السنّ وهم يتخاصمون على مرأى من الجميع. الخلافات المتشعبة والقصص المتداخلة، هذا ما يتراءى لنا من خلال لقطات طويلة، لكن مع قطع ووصل وليس بدونهما. لقطات غير متحرّكة بل ثابتة في مكانها. يبذل النصّ والإخراج جهودهما لتوفير مناخ شديد الخصوصية، يتأقلم المشاهد معه شيئاً فشيئاً، وهذا الشيء قمة في "الحشمة" الإخراجية والذوق والادراك. يسلّط السيناريو الضوء على جوّ من الاستياء الشديد حيث تكثر الأسرار غير المباحة، لكن المخرج يمضي في التقاط المَشاهد التي يصعب التعبير عنها بالكلام، ويحوّل اسلوبه من دون ان يبدي وجهة نظره حيالها، بل يكتفي بتصوير الممثلين الذين يتبادلون أطراف الحديث، ونظرات الاستياء. كذلك لا ينبغي الاغفال عن لحظات الصمت حين يبدو الأشخاص كأنهم مكبّلون ومقيّدون، وهذا من طبائع الكائنات المعزولة في سينما كوريه ايدا.

في "الابن سرّ أبيه" (٢٠١٣)، المسألة برمتها تتعلق بالأبوّة التي تعبر أجزاء كبيرة من فيلموغرافيا كوريه ايدا. هنا يقدّم وصفاً دقيقاً وخاصاًجداً لهذا الهاجس. يُقال انه يوم عُرض الفيلم في كانّ عام ٢٠١٣، حيث نال جائزة لجنة التحكيم، ترك الفيلم أثراً عميقاً في رئيسها ستيفن سبيلبرغ، حدّ انه سارع إلى شراء حقوقه فور خروجه من الصالة. كان يمكن لكوريه ايدا ان يقع بسهولة في الميلودراما البكائية على طريقة المسلسلات، لكنه يتلافى ذلك ببراعة.

"الابن سرّ أبيه" عن عائلتين من خلفيتين اجتماعيتين مختلفتين. الأولى ثريّة، الثانية متواضعة الحال. كم ستكون الدهشة كبيرة عندما تعلم العائلة الثريّة ان الصبي البالغ من العمر ستّ سنوات الذي تربّى في كنفهما ليس ابنهما البيولوجي، وان ابنها البيولوجي تربّى في عائلة متواضعة، اذ تم استبداله من طريق الخطأ في المستشفى. وهذا يعني ان العائلة الثانية لم تربِّ ابنها البيولوجي كذلك. ما العمل في مثل هذا الظرف؟ هل ينبغي الركون إلى العلاقة الزمنية أو رابط الدمّ؟ ما الذي يحدّد الأبوّة والأمومة؟ هل يجوز أصلاً استبدالهما بعد مرور ستّ سنوات؟ واقع آخر يفرض نفسه: نمط عيش العائلتين الذي يبدو جدّ مختلف: ربّ العائلة الثريّة مهندس يولي الدقّة أهمية قصوى، كلّ شيء معدّ سلفاً في حياته، خلافاً لربّ العائلة المتواضعة الذي يقضي وقتاً أطوال مع أولاده. يجيد كوريه ايدا كيف يخلق مجموعة من المعضلات ولا يزيح عنها حتى الاحاطة بها من كلّ الجهات، معتمداً مبدأ "الحقيقة تكمن في التفاصيل".

بالتأكيد، نحن حيال فيلم عن علاقة الأهل بأولادهم، لكن كوريه ايدا يجعلها تذوب في اهتمامات أخرى ينكبّ عليها الفيلم. فالحكايات التي ينسجها المخرج القدير تبعتد طوعاً من السياسة والتحليل النفسي وعلم الاجتماع لتحفر عميقاً في الكائن الحيّ. مرةً جديدة، في حديث إعلامي، قال كوريه ايدا انه ملتزم موضوع التبادل بين الأجيال، وهذا يتأتى من طفولته التي اتسمت بالقلق؛ قلق ان تخرج أمّه لتدبير المال ولا تعود. هو وأشقّاؤه كانوا يتساءلون عن مصيرهم اذا حصل مكروه ما للأم التي كانت مرجعيتهم الوحيدة.

يطرح الفيلم السؤال الآتي: متى يصبح الإنسان الأب الحقيقي لطفله. يستكشف كذلك المجتمع الياباني في مرحلة ما بعد كارثة فوكوشيما. خطرت الفكرة على بال كوريه ايدا وهو يراقب ابنته البالغة ستّ سنوات، فسأل نفسه ما الذي يربطه بها؟ هل هو رابط الزمن أم رابط الدم؟

مع مقاربته للعائلة بحساسية يايانية وخصوصية يمتاز بها الشرق الأقصى، كان من البديهي المقارنة بينه وبين مخرج اليابان الأسطورة ياسوجيرو أوزو. الا ان كوريه ايدا يتكلّم عن تأثّره بفيديريكّو فيلليني. يعترف لـ"الاكسبرس" بأنه كان في التاسعة عشرة عندما شاهد "ليالي كابيريا" للمرة الأولى وكانت آنذاك صدمة كبيرة له. أكثر من أي شيء آخر، أحبّ الحنان الذي يستثمره فيلليني في تعامله مع شخصياته. وفي هذا الاعتراف، مرةّ أخرى، نجد الينبوع الفكري الذي ارتوى منه كي يقدّم لنا شخصيات لا تشوهها يد الرسام. وعلى رغم التأثيرات الأوروبية، يبقى كوريه ايدا يابانياً، روحاً وثقافةً. "في مفهومنا"، يقول، "لا ننظر إلى الزمن باعتباره شيئاً خطيّاً، بل دورياً. لهذا السبب، حكاياتي تستغرق الوقت الذي تستغرقه الدورة وتنتهي على انطلاقة جديدة".

ثالث الأفلام التي يمكن التوقف عندها هو "سارقو المتاجر" الذي كرس نهائياً كوريه ايدا كقامة كبيرة في السينما المعاصرة كونه فاز عنه بـ"سعفة" كانّ قبل أيام. منذ عرضه الأول، شدّ هذا العمل الانتباه بصدقه والتزامه وقدرته على استدراج المُشاهد إلى أسئلة من عمق الواقع المعيش. الحكاية مرةً أخرى بسيطة. عائلة أفرادها من السارقين يستقبلون في منزلهم طفلة. في البداية، تبدو فكرة ضمّها إلى العائلة غير منطقية، لكنها تصبح واردة ما إن يصبح معلوماً انها طفلة متروكة لمصير أهلها الذين يسيئون معاملتها. هذا كله، في طبيعة الحال، يغدو مناسبة لتصوير الفقر والعلاقات البشرية المكلومة والأسرار العائلية بأقل قدر من استدرار للعواطف. لا نعلم كيف سيتم استقبال الفيلم في اليابان، لكن واضح هنا انه لا يرسم أفضل صورة عن هذا البلد. منسجماً مع ما أدلى به خلال تسلمه الجائزة، يؤمن كوريه ايدا بـ"سينما جامعة".

مسألة السرقات الصغيرة في المتاجر، أي على نطاق ضيق، مسألة محرّمة في المجتمع الياباني. وهي الحيلة التي يلجأ اليها الأب أوسامو وابنه شوتا لتدبير أمورهما المعيشية. كوريه ايدا يصوّر هذا بلا أي رغبة في كسب التعاطف، بل بجفاف كامل، والتزام جاد لصنع سينما تنطوي على شخصيات لها ما لها وعليها ما عليها. "سارقو المتاجر" يلجأ كذلك إلى بعض الظرافة للتخفيف من حدة الحكاية. لا يحتاج إلى أكثر من أربعة جدران كي يرتقي سينمائياً ويحلّق في فضاء الليريكية من دون ان يبدو مفتعلاً، عبر استخدام جيد للضوء والحركة والتقنيات التي يعرف المخرج كيف يمسك بخيوطها، فيصبح بيت العائلة مسرحاً تتولد فيه الحكايات. يقتصد الفيلم بكلّ شيء، حتى بالموسيقى، فيترك للمُشاهد مساحة واسعة ليحزن أو يبكي أو يضحك. مجدداً بعد "الابن سر أبيه"، يطرح كوريه ايدا أسئلة حول التناسل. مقاربته للعائلة قد تولّد نقاشاً في بلد "محافظ" مثل اليابان، قال فيه برلمانيون أخيراً ان الاهتمام بالأطفال شأن النساء اللواتي عليهن انجاب ٣ أطفال، لا أقل من ذلك.

النهار اللبنانية في

04.06.2018

 
 

خالد محمود يكتب:

«ثلاثة وجوه».. رسالة بناهى الساحرة لسينما تتمسك بحرية الاختيار

المخرج يصر على الظهور بنفسه فى العمل ليؤكد أنه يستطيع إنجاز أفلام على الرغم من منعه

يبقى المخرج الإيرانى جعفر بناهى احد الاسماء المثيرة للجدل والاعجاب ايضا، وذلك بما يقدمه من نوعية خاصة من السينما الايرانية تحمل صورتها رؤية فنية ساحرة ومميزة وحداثية فى أفكارها الاجتماعية التى تلقى بظلالها على مشاهديها، بما تطرحة من تساؤلات تأملية كبيرة حول حاضر المواطن الايرانى. بناهى أيضا يصر على الظهور فى أفلامه بنفسه كمحرك للأحداث وشاهد عيان فى نفس الوقت، كاسرا قيد التصوير بخروجه فى المناطق الريفية بشمال إيران وكسر القيود التى كانت تجبره على التصوير داخل شقة أو سيارة وهى الرسالة الكبيرة التى يريد أن يوصلها لمن حكموا عليه بالمنع من العمل وعدم مغادرة البلاد لمدة عشرين عاما بأنه يستطيع إنجاز أفلام.

وكما فعل مهرجان برلين من قبل وتلقى فيلم بناهى «تاكسى» وفاز بالجائزة الكبرى، عرض مهرجان كان السينمائى الدولى فى دورته الـ71 فيلم بناهى الجديد «ثلاثة وجوه» فى غيابه بعد أن فشلت محاولات إدارة المهرجان فى إقناع السلطات بإحضاره للعرض.

الفيلم الذى عرض فى المسابقة الرسمية ونافس على السعفة الذهبية، وبالفعل فاز بجائزة افضل سيناريو بالتساوى مع الايطالى «سعيد مثل لازارو»، يتناول لحظات مصيرية لعدة شخصيات تبحر فى واقع معقد فى محاولة لكشفه ووضع عبثى وايضا كلام كثير غير محكى، والكل يلعب دوره الحقيقى فى الفيلم أو ربما الحياة، حيث نرى بناهى يستقل بنفسه سيارة رباعية الدفع، ترافقه فى رحلته ممثلة مسلسلات معروفة فى ايران تدعى «بهنار جعفرى»، وذلك بعد أن تلقت جعفرى فيديو على وسائل التواصل الاجتماعى يظهر فى نهايته انتحار فتاة اسمها «مارزية»، وخلاله تحكى فى رسالة لها وللعالم قبل ان تضع حدا لحياتها انها نجحت فى اختبارات التمثيل بالمدرسة العليا بطهران، لكن عائلتها تمنعها من الاستمرار وخوض التجربة والبعد تماما عن التمثيل، وترجوها الشابة أن تساعدها فى إقناع عائلتها المحافظة بالموافقة على التحاقها للدراسة.

كان مشهد الفيديو هو المشهد الاستهلالى للفيلم والذى تلقاه الجمهور كصدمة، يمهد لحكاية كبيرة يطرحها، أكبر من مجرد حكاية مارزية، فالقضية هنا هى نظرة المجتمع للفنانات.

رحلة جعفرى والمخرج بناهى كانت من أجل اكتشاف ما وراء هذا التسجيل، ويصل الثنائى إلى قرية مارزية، حيث يلتقيان بسكانها البسطاء فى البيوت وعلى المقاهى وفى الطريق والذين يشعرون بالسعادة والاستياء معا من زيارة هذين الشهيرين، لكننا نرى حياتهم اليومية الطبيعية البكر، كيف يفرحون وما الذى يؤلمهم، بينما يسأل بناهى وجعفرى عن الممثلة الشابة مارزية وكان لديهم إحساس بالمسئولية، والذى يبدو فيما بعد ان مارزية نفسها ربما قدمت سيناريو انتحارها واخرجته بهذه الطريقة لتلفت اليها الأنظار والاهتمام بحثا عن حلول للخروج من دائرة الممنوعات والمحاذير التى تقف حائلا دون تحقيق حلمها وأخريات.

دراما الفيلم سارت بإنسانية وتلقائية شديدة، بطزاجة الحوار وواقعية الصورة، أما الفكرة التى طرحها سيناريو بدا وكأنه سيناريو الحياة نفسها، وقد استحق السعفة الذهبية كأفضل سيناريو، فهى أهمية الانتصار للنساء واحلامهن، فى عالم تسيطر عليه ليس فقط الذكورية، بل وأفكار ظلامية، وذلك بإصرار نموزج كشخصية بهنار جعفرى على ان مارزية وغيرها يجب ان تكون مرفوعات الرأس، والرسالة تسلمها للجيل الجديد من الحالمات بالتمثيل وهى حرية الاختيار.

«ثلاثة وجوه» هو انعكاس لتشريح مجتمعى، الوجه الأول هو نموذج الخوف كبت الاحلام، والثانى هو من يحاول ان يفتح المجال لهذه الأحلام، والثالث ربما يكون غير موجود على الشاشة لكنه محسوس من مشاهدها، وهو شبح الانغلاق فى ايران الذى بات من الماضى، فنحن امام مخرج معارض يصور ويعمل، ويبحث عن ممثلة من جيل قادم، ليذيب مخاوفها، موجها رسالة ضد نبذ المجتمع لفنانيه وأن السينما المستقلة ستستمر وستحافظ على استقلال أفكارها وانتاجها تحت أى ظرف ومع أصوات جديدة، وهو ما أكدته رسالة بناهى للمهرجان «الضغط سيتواصل».

مشهد الفيلم على الشاشة كان له مردود مشهد آخر داخل قاعة العرض، حيث تم استقبال أبناء المخرج وممثلات الفيلم بالتصفيق لدى دخولهم القاعة بعدما انتظرتهم وزيرة الثقافة الفرنسية فرنسواز نيسن بأعلى درج المهرجان.

واتفق مع وصف ديبورا يون فى مجلة «فاريتى»، بأن الفيلم يجسد سينما إيرانية ساحرة خالصة. حداثية بالتأكيد فى رسالتها المتحررة عن حرية الاختيار».

جدير بالذكر أن هذه هى المرة الأولى التى يشارك فيها بناهى فى المسابقة الرسمية لمهرجان، حيث اختير فيلمه الأول «البالون الأبيض» فى قسم «أسبوعى المخرجين»، وفاز بجائزة الكاميرا الذهبية التى تمنح لأول فيلم لمخرجه.

كما فاز عام 2003 بجائزة لجنة التحكيم فى مسابقة «نظرة ما» عن فيلم «دم وذهب»، وعرض فيلمه «هذا ليس فيلما»، خارج المسابقة عام 2011.

ودعى بناهى عام 2010 إلى المشاركة فى لجنة تحكيم المهرجان، إلا أنه لم يتمكن من المجىء إلى «كان» بعدما تم منعه فى بلده.

الشروق المصرية في

04.06.2018

 
 

"فتيات الشمس" لإيفا هوسّون: بلادة الاقتباس

نديم جرجوره

تستند الفرنسية إيفا هوسّون (1977) ـ في كتابتها سيناريو "فتيات الشمس" الذي أخرجته أيضًا، المُشارك في المسابقة الرسمية للدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018) لمهرجان "كانّ" السينمائي ـ إلى حقائق معروفة عن فتيات ونساء يزيديات يتعرّضن للاغتصاب أو البيع على أيدي مقاتلي "داعش". لكنها تجعلهنّ مقاتلات كرديات، لديهنّ ماضٍ قريبٍ وأليمٍ للغاية (لتعرّضهنّ، هنّ أيضًا، للاغتصاب والبيع على أيدي "جهاديين إسلاميين" غير محدَّدي الانتماء المليشياوي أو التنظيمي)، قبل تحوّلهنّ إلى مقاتلات بقيادة بَهَار (الإيرانية غولشفته فرهاني)، التي تُقرِّر تحرير بلدتها من هؤلاء الجهاديين انتقامًا منهم، وسعيًا إلى إنقاذ وحيدها المراهق من تدريباتهم العسكرية.

لكن المأزق الدرامي، الذي ينتبه إليه نقّاد أجانب، كامنٌ في أن لا وجود لتعابير "يزيديات" أو "كرديات" أو "داعش"، في حين أن المناخ العام يوحي بأن المقاتلات كرديات، وبأن الجهاديين الإسلاميين، الذين لن يظهروا أمام الكاميرا (باستثناء أسير واحد) منتمون إلى "الدولة الإسلامية".

النصّ السينمائي غير راغبٍ في التزام هوية المقاتلات، بقدر انجذابه إلى سرد شيءٍ من أحوال بيئة تواجه تطرّفًا دينيًا يمارس أقسى أنواع التعذيب والقتل، في جغرافيا ملتهبة منذ 7 أعوام وأشهر قليلة. لكن النص نفسه عاجزٌ عن امتلاك حيويته السينمائية، والإخراج مُصاب بوهنٍ منعكسٍ في تبسيط المعالجة وبعض الأخطاء، إلى جانب بهتان التمثيل. أما التصوير (ماتياس ترويلستروب) فيبقى أفضل الاشتغالات الفنية والتقنية والدرامية، خصوصًا أن جغرافية المكان عاملٌ مُساعد على إقامة توازنٍ سينمائي بين جمالها وقسوتها وسحرها في أوقاتٍ مختلفة من اليوم، وألم الذات ووجع الروح المتوغّلين في أحوال المقاتلات، كما في أحوال الصحافية الفرنسية ماتيلد (ايمانويل بيركو)، المُقتلعة عينها اليُسرى إثر إصابة قديمة أثناء إحدى مهماتها في دول غارقة في الحروب الداخلية.

في مقابل استلهام حكايات فتيات ونساء يزيديات في كتابة السيناريو، تستوحي إيفا هوسّون شخصية ماتيلد من شخصية الصحافية الأميركية ماري كاترين كولفن (1956 ـ 2012)، المقتولة أثناء قصف وحشي لجيش النظام الأسديّ في "حي بابا عمر" في حمص (22 فبراير/ شباط)، بعد تسلّلها إليها لتغطية وقائع "الثورة السورية" للصحيفة البريطانية "صنداي تايمز".

هذه الوقائع غير مُترجمة سينمائيًا بفعالية وجمالية مطلوبتين. الثقل الإنساني حقيقي، لكن التعبير البصري عنه غير قادرٍ على إيفائه شرطه الفني. التداخل الواقعي بين خيبات ذاتية لنساءٍ متنوّعات الانتماء الاجتماعي والوطني والثقافي، واللحظة الحرجة في مواجهة تنظيمات جهادية تخوض حروبًا لكنها تقع في فخّ الجرائم؛ هذا التداخل غير متمكّن من امتلاك براعة الصورة السينمائية في التقاط ركائزه وأسئلته.

أما التمثيل، فباهتٌ ومُدّع، إذْ تبدو معظم الممثلات (وجود شخصيات رجالية عابر وغير أساسيّ) خاضعات لتصنّع الانفعال، أو لسطحية البناء الدرامي لكلّ شخصية. الناقد الفرنسي توماس سوتينال يطرح تساؤلات عديدة في مقدّمة مقالته ("لو موند"، 13/ 5/ 2018): "أليس شنيعًا أن الممثلين لا يتكلّمون لغة شخصياتهم، وأن جزءًا من التاريخ (بخصوص ما يحدث للإنسانية) الذي يمرّون فيه "مستوحى" فقط ممّا حدث؟". يُضيف سوتينال: "بعد مشاهدة "فتيات الشمس"، هناك قابلية للإجابة بـ"نعم، هذا شنيع، بقدر ما يمكن للاختيار السينمائيّ أن يحمله من نتيجة"، مُشيرًا إلى أن اللجوء إلى المتخيّل الروائيّ "عندما يستدعي الفيلم مأساةً غير منتهية بعد يتطلّب واجبات أكثر منها حقوقًا". 

وإذْ تصف اليزابيت فرانك ـ دوما الفيلم بأنه "تافه" و"ضائع بين سيناريو فاحش وإخراج برّاق" ("ليبراسيون"، 13/ 5/ 2018)، فإنّ مقالة جوردان مينتزر ("هوليوود ريبورتر"، 12/ 5/ 2018) تعتبره فيلمًا "مؤلمًا"، بينما "دقّته القليلة للغاية تُفسد نواياه، الجديرة بالثناء". تُضيف المقالة أن أفضل المشاهد في "فتيات الشمس" كامنةٌ في قيادة غولشفته فرهاني كتيبتها، وأسوأها حاضرٌ عند استسلام العمل لهستيريا السيناريو، من دون تناسي الموسيقى المثيرة للدموع و"الجديرة بفيلم من إنتاج والت ديزني"، وبعض الحوارات المضحكة، علمًا أن "حلّ العقدة السردية" يبدو "قسريًا" و"متصنّعًا".

النيّة السليمة غير مُنتجة لأي إبداع، فالإبداع محتاج إلى مخيّلة وإمكانيات غير متوافرة في "فتيات الشمس" لإيفا هوسّون.

العربي الجديد اللندنية في

04.06.2018

 
 

فيلم السعفة الذهبية: «سارقو المتاجر».. ومسائلة الإنسانية في دراما عائلية

مهرجان « كان » السينمائي الدولي – (هنا روما )

كتابة – أحمد شوقي

بعض الأفلام، عندما تنال جائزة في مهرجان، يُثار الكثير من الجدل حول أحقيتها في الجائزة أو حول أسباب فوزها أو ارتباطها بشأنٍ راهن أو قضية تشغل العالم، أو غيرها من العوامل التي تجعل بعض لجان التحكيم تنحاز لأفلام بعينها. مثال: فوز فيلم نادين لبكي الجديد «كفرناحوم» بجائزة لجنة تحكيم مهرجان «كان» الحادي والسبعين، والذي تعرضنا له بالتحليل في الأسبوع الماضي.

على الجانب الآخر يُحاط فوز بعض الأفلام بقبول الجميع، يُسعد الكل بالانتصار لعمل بديع، بل وتصير جائزة لذلك الفيلم دليلًا على قيمة ومصداقية لجنة التحكيم والمهرجان بشكل عام. والمثال هو تتويج فيلم «سارقو المتاجر» للياباني كوري – إيدا هيروكازو بجائزة السعفة الذهبية، أكبر جوائز مهرجان «كان» وأرفع الجوائز السينما السنوية قدراً بشكلٍ عام.
إعجاب واضح وشبه إجماع ناله فيلم كوري – إيدا منذ عرضه الأول، ليضعه النقاد ضمن أهم الأفلام المرشحة للسعفة، مع فيلم آسيوي آخر هو «احتراق» للكوري الجنوبي لي تشانج دونج عن رواية هاروكي موراكامي. نال فيلم «احتراق» رقمًا قياسيّاً في تقييم مجلة سكرين إنترناشونال بحصوله على 3.8 من أصل أربع درجات (رقم لم يتحقق منذ إطلاق المجلة لتقييمها)، لكنه خرج بلا جوائز من لجنة كيت بلانشيت رغم فوزه بجائزة الإتحاد الدولي للنقاد (فيبريسى). أما فيلم كوري إيدا والذي جاء ثانيًا في تقييم سكرين بـ 3.2 درجة فكان نصيبه السعفة الذهبية
.

أستاذ الدراما العائلية في عالم جديد

عبر أفلامه الماضية تمكن كوري – إيدا من وضع نفسه على قمة هرم مخرجي الدراما العائلية ليس فقط في القارة الآسيوية وإنما في العالم أجمع. وفي أفلام منها «الولد على سرّ أبيه Like Father Like Son» و«بعد العاصفة After The Storm» تغلغل الياباني المخضرم في التكوينات والديناميات الخاصة بالأسرة لا سيما في الطبقات الوسطى: علاقات الأزواج والمنفصلين، صورة الأب لدى الابن، المسؤولية ومن يحملها، وغيرها من الأمور التي تبدو نظريًا غير ملائمة لفيلم مشوّق، لكن كوري – إيدا، بقدرته الفريدة على النفاذ للنفس البشرية، خلق منها حكايات ممتعة.

لا جديد في «سارقو المتاجر» فيما يتعلق باختيار الموضوع: الأسرة مرة أخرى. لكن الجديد هو الانتقال إلى طبقة مختلفة، إلى عالم الفقراء أو ساكني العشوائيات اليابانية إن جاز لنا التعبير. الفيلم يبدأ بمشهد طريف لأب وابن يتعاونان لتنفيذ سرقة لأحد متاجر السوبر ماركت. سرقة يبدو من إحكامها إنها ليست مرّتهم الأولى. يلتقطان بضائع خفيفة معظمها مأكولات بالإضافة لبعض الاحتياجات المنزلية، ويخرجان دون مشاكل لكنهما يقابلان في طريقهما ما سيمهد لمشكلة الفيلم.

طفلة رقيقة قريبة إلى القلب تجلس باكية وسط طقس شديد البرودة، يأخذانها لتقضي الليلة في منزلهم وهناك يكتشفان أن جسدها مليء بالكدمات والحروق فتظهر فكرة إبقائها معهم بدلًا من إعادتها إلى والدين فعلا بها ذلك. رفض مبدئي لتحمّل عبء بطن جديد يريد أن يمتليء بالطعام، يسقط سريعاً أمام ملائكية الطفلة ليكتمل أفراد الأسرة: أب وأم وابن وجدة وعمة، وطفلة جديدة.

لينطلق كوري إيدا ـ بهدوء شديد وحميمية لا تقاوَم ـ بإيقاعنا تباعاً في حب هذه المجموعة من البشر الذين يمارسون سرقة المتاجر بشكل مستمر، ويمتلكون دفئاً ساحراً يحكم العلاقات بينهم، دون شروط أو أحكام (الأخت على سبيل المثال تمارس عملًا أقرب للدعارة). حالة عامة من التسامح تجعل هذا البيت الفقير نموذجاً لما يمكن تصوّره عن تكاتف أفراد اسرة ودعمهم بعضهم البعض. إلاّ أن شعوراً ما يسيطر بأنّ هذه الهدنة لا يمكن أن تدوم، وأن هذا التلاعب الطفولي بالواقع أضعف من أن يسير بلا عوائق، وهو ما يحدث بالتأكيد.

الأخلاق على المحك

لن نسهب طويلًا في سرد الأحداث تفادياً لإفساد المفاجأة على من يترقب مشاهدة فيلم السعفة الذهبية، لكن ما يهمنا هو قدرة كوري – إيدا هيروكازو على تحويل دفة الدراما، من اليوميات الرقيقة لهذه الاسرة ذات الطبيعة الخاصة، إلى تحقيق بوليسي يندلع في الفصل الأخير من الفيلم كصفعة على وجوه الجميع. تحقيق مركز ثقله ليس الوقائع التي يتم التحقيق فيها، وإنما ما بناه الفيلم معنا من علاقة وطيدة على مدار أكثر من نصف زمن أحداثه. علاقة تجعلنا نقف حائرين في منتصف الطريق بين التعريف القانوني لمسمّيات مثل الأسرة والأبوة وجرائم مثل السرقة والاختطاف، وبين ما لمسناه بأنفسنا من أن الحقيقة، غالبا ما، تتناقض مع القوانين.

طبيعة السؤال الأخلاقي الذي يضع به كوري – إيدا شخصياته ( ويضعنا معهم) على المحك لا يختلف كثيرًا في جوهره عن معظم أفلامه السابقة، بل إنه يزرع سؤالاً مماثلاً خلال مسار الفيلم عندما تختل قناعة الابن بمشروعية السرقات الصغيرة التي يقومون بها. لكن ما ميّز «سارقو المتاجر» وجعل منه عملًا مُتّفَقٌ على أحقيته بجائزة كالسعفة الذهبية، هو كونه ـ بخلاف مضمونه الزخم ومساءلته للإنسانية ـ عملًا سينمائيًا من طراز فريد. عملٌ مشغول بإحكامِ صانعٍ متمرس، يجيد تقسيم حكايته إلى مراحل يتلاعب في كل منها بمشاعر المشاهدين على طريقته.

من الطرافة إلى التعاطف إلى المحبة إلى الصدمة والتفهّم، خطوات نخوضها مع هذه الأسرة أو شبه الأسرة، والتي شكّلها كوري – إيدا موظّفاً مجموعة مذهلة من الممثلين، بداية من الطفلة القادرة على إيقاع أقسى القلوب في حبها بنظرة، وصولًا إلى الجدة التي تمثل في حد ذاتها أحد الأركان الرئيسية لما يطرحه الفيلم من أسئلة. ناهيك عن إنه فيلم ينجح فيما يميز الأعمال الكبيرة: يأخذنا إلى عالم آخر، حالم وممتع على قسوته وواقعيته، ولا ينسى في خضم طرحه لأفكار مطلقة أن الأصل في السينما هو كونها ممتعة.

«سارقو المتاجر» فيلم العام باعتباره الفائز بأكبر جوائزه، لكنه، وبينما استمدت أفلام أخرى عبر التاريخ قيمتها من جوائز كان، فإنّ فيلم كوري – إيدا هيروكازو كان الاختيار الذي منح لجنة كيت بلانشيت قيمة وتقديرًا وأسباباً للتفهم رغم غرابة بعض الاختيارات الأخرى.

موقع "هنا روما" في

05.06.2018

 
 

"كتاب الصورة" لجان ـ لوك غودار: مرثية لعالمنا

محمد هاشم عبد السلام

في تكريم خاص واستثنائي، منح أعضاء لجنة تحكيم الدورة الـ71 (8 ـ 19 مايو/ أيار 2018)لمهرجان "كانّ" السينمائي، المُخرج الفرنسي السويسري جان ـ لوك غودار (باريس، 3 ديسمبر/ كانون الأول 1930) "سعفة ذهبية خاصة"، لم تُمنح سابقًا لأحد، عن "كتاب الصورة" (2018)، المُشارك في مُسابقتها الرسمية. 

هذا الفيلم الأخير لغودار عبارة عن مزيج لقطات مأخوذة من أفلام روائية ووثائقية، ومقاطع فيديو، وتقارير وريبورتاجات إخبارية، وإنْ سادت لقطات الأفلام الروائية على غيرها. لقطات من السينما الصامتة والمُعاصرة، بالأبيض والأسود كما بالألوان لمخرجين عديدين، أمثال بيار باولو بازوليني وألفريد هيتشكوك وصلاح أبو سيف وناصر خمير ويوسف شاهين، وغودار نفسه. هذه كلها مصحوبة بمقاطع مُبتسرة من أغنيات عالمية مُتنوّعة وتعليقات صوتية، لا تشرح ولا تُفسِّر هذا "الخليط الغوداري" الخالص، من حيث اختيار اللقطات والمُوسيقى، وتنفيذ المُونتاج، والتعليق الصوتي. خليط فيلمي ليس روائيًا بالتأكيد، ويصعب إدراجه في النوع الوثائقي بأشكاله المعروفة والمختلفة. 

ربما يُخيَّل لمُشاهِدين كثيرين أن فيلمًا كهذا يسهل إبداع أو تكوين ما يُشبهه، وأنّ قوة الفيلم والمديح الذي حظي به مردّهما فقط اسم جان ـ لوك غودار ومكانته في تاريخ السينما. طبعًا، يُمكن لأي فنان ـ مع جهد شاق ـ أن يصنع ما هو مُشابه لـ"كتاب الصورة". لكن، هل ستكون النتيجة النهائية مُماثلة له؟ بالتأكيد لا. فالخبرة والرؤية البصرية والذوق الفني والانتقائية، وقبل هذا كله، الغرض الفلسفي، يتباين بعضها مع بعضها الآخر. الفرق الجوهري أن غودار مُؤمن بما يصنعه، وأن تلك هي طريقته التي اختارها لإيصال ما يريد. لذلك، ليست مُفتعلة أو خالية من الإبداع. بالتأكيد هي صعبة على مستوى التلقّي بالنسبة إلى مُشاهِد عادي أو غير عادي، لكن من قال إن غودار، بأعماله كلّها لا سيما الأخيرة منها، يبغي ما هو سهل؟ 

صعوبة "كتاب الصورة" ليست نابعة من بنية الفيلم فحسب، ولا من المغزى الفلسفي ـ السياسي الذي يسعى غودار إليه، بل من تصدّيه أساسًا، بطريقة بصرية، لقضية فلسفية عميقة وخطرة، وهي "فلسفة الصورة". صحيحٌ أنّ طرحًا مُتعلّقًا بـ"فلسفة الصورة" ليس حديثًا، إذْ تناوله فلاسفة ومفكّرون عديدون، كجيل دولوز وميشال فوكو وجاك دريدا؛ إلاّ أن طرح جان ـ لوك غودار مُعبَّرٌ عنه بالصُوَر أكثر منه بالكلمات. أيضًا، لم يخشَ غودار، في أكثر من موضع في "كتاب الصورة"، طرح تلك القضية الجدلية الشائكة، المُتعلّقة بأهمية أو أفضلية الكتاب مُقارنةً بالصورة: أيهما أصدق وأكثر فاعلية؟ أيهما سيُكتَب له الاستمرار؟ لمن ستكون الغلبة، في النهاية: للكتاب أو للصورة؟ 

الثلث الأخير من "كتاب الصورة"، الذي (الفيلم) يُعتبر "مرثية" غودار لعالمنا بمآسيه وآلامه كلّها، مُكَرَّس للعالم العربي. بوعيه السياسي وحسّه الفني وقراءته التاريخية، يُدرك غودار أن مرثيته، أو لوحته الـ"كولاجية" البصرية، لن تكتمل لو أَسقَطَ منها العالم العربي، بتاريخه وصراعاته وأديانه وثرواته، إلخ. صحيح أنه في أجزاء من الفيلم، عند طرح قضية الإرهاب والعنصرية والقتل والفاشية، عَرض لقطات لجرائم "داعش"؛ إلا أن طرحه قضايا العالم العربي مُختلف ومُميّز. كذلك تعليقاته ـ المتراوحة بين السُخرية والتعاطف، وبين السخط والاستنهاض، وصولاً إلى الثورة وتسليط الضوء على مفهومها ـ لم يتم التركيز عليها إلا مع الانتقال إلى الجزء الأخير المُرتبط بالعالم العربي. 

تقنيًا وفنيًا وتركيبيًا، لم يختلف "كتاب الصورة" كثيرًا عن "وداعًا للّغة" (2014)، المُشارك في المُسابقة الرسمية للدورة الـ67 (14 ـ 25 مايو/ أيار 2014) لمهرجان "كان" أيضًا، والفائز فيها بجائزة لجنة التحكيم، مناصفة مع "الأم" لكزافييه دولان. هذا التشابه يستدعي المُقارنة بينهما، علمًا أن الفرق الوحيد كامنٌ في أن لـ"وداعًا للّغة" بنية شبه روائية، غامضة بعض الشيء، لكن الحبكة أو القصة تمنحه ترابطًا داخليًا كبيرًا. والأهم أنها تجعله سهل الفهم والاستيعاب إلى حدّ كبير؛ بينما لا وجود لحبكة أو قصة أو أداء تمثيلي في "كتاب الصورة". 

في الفيلمين، يسهل رصد أساليب تقنية كثيرة مُستخدمة، وإن أفرط غودار في استخدامها إلى حدّ بعيد في "كتاب الصورة"، ولعلّه بلغ الذروة في استخدام كلّ أداة تقنية، وفي توظيفها داخل بنية العمل نفسه. 

دور المُونتاج ملحوظٌ في "وداعًا للّغة"، لكنه "البطل" في "كتاب الصورة"، وعلى نحو قاطع. إذْ يستحيل عدم مُلاحظة الاستخدام المُتنوّع للمونتاج في فيلمٍ بنيته قائمة، من البداية إلى النهاية، على هذه التقنية. المُونتاج هنا غير سلس لتحقيق الانتقال بين ذلك السيل المُتدّفق من الصُوَر. فهو بالغ الحدة، وعن عمد. ويندر أن يترك دقيقة واحدة تمر لصورة أو لقطة أو مقطع تجعل المُشاهد يتماهى بها أو يندمج معها. الشيء نفسه ينطبق على الغناء والمُوسيقى والتعليق الصوتي، الذي تعَمَّد أن يكون مبتورًا أو غير مُترجم في أجزاء كثيرة. 

كما أن غودار تلاعب بغالبية اللقطات المُنتقاة في فيلمه الأخير هذا. لم يكتف بعرضها المُتلاحق، الذي خلق تضادًا أو تطابقًا أو تداخلاً أو تقاطعًا بصريًا، بل عبث كذلك ببنية الصورة أو اللقطة نفسها. مثلاً: تلاعب بالألوان، بـ"تفتيح" لقطاتٍ أو "تعتيمها" أو تلوينها، أو بدرجات السطوع أو التباين. هناك أيضًا السُرعة الخاصة باللقطات، بتسريع بعضها أو بإبطاء بعضها الآخر. أحيانًا، يُزيل الصوت نهائيًا عن لقطة ما. هذا مُونتاج بصري للّقطة من داخلها، إن جاز التعبير. والفيلم، كما "وداعًا للّغة"، مُقسَّم إلى أجزاء أو فصول، مُتفاوتة الطول، وذات عناوين فرعية أو أرقام، أو الاثنين معًا. كما استعان باقتباسات متنوّعة لأندره مالرو ومحمود درويش وآرثر رامبو، وغيرهم. 

كأيّ فيلم، إما أن يُحبّ المشاهدُ "كتاب الصورة" ويستمتع به، وإما أن يكرهه ولا يرغب في تذكّره. لكن الفيلم، في الحالتين، يُثير أسئلة كثيرة تصعب الإجابة عنها، خصوصًا أن فيه حِكمًا فلسفية، من الضروريّ التوقّف عندها، والإمعان في التفكير بها، بدءًا من عنوان الفيلم: إشكالية الكتاب أم الصورة؛ والعلاقة بينهما: أهي تجاور أم تكامل أم تنافر أم هيمنة. ينطبق الأمر أيضًا على وصفه للعالم العربي كـ"عالمٍ قائم بحدّ ذاته"، و"الغرب لم يفهمه". فهل هو مُحِقٌ بهذا؟ 

أخيرًا، هناك اختبار مدى صدقية مقولته الصادمة: "إننا لم نحزن أبدًا بما يكفي كي يُصبح العالم أفضل".

العربي الجديد اللندنية في

06.06.2018

 
 

فيلم «امرأة شابة» للفرنسية ليونور سيراي:

رحلة صاخبة صوب النضج

لندن ـ «القدس العربي» من نسرين سيد أحمد:

في فيلمها الروائي الطويل الأول «امرأة شابة» تقدم المخرجة الفرنسية ليونور سيراي صورة رسمت بحساسية بالغة وتفهم وتعاطف كبيرين لشابة في بدايات الثلاثين من العمر، هي شابة قد يربكنا تخبطها، وقد نود لو أننا نوقفها عن صياحها الغاضب في بداية الفيلم، لنقول لها إنه آن الأوان لأن تنضج، ولكننا في الوقت ذاته نتفهم غضبها ونتفهمها عبر رحلتنا مع الفيلم. 

قلب الفيلم النابض ومحوره هو الثلاثينية ذات الشعر الأحمر بولا، التي تلعب دورها بطاقة إبداعية متفجرة وبحضور طاغ لاتيشا دوش، التي تجد نفسها في مواجهة حياة يباغتها عدم قدرتها على التعامل معها، فلا تجد ملاذا إلا في الصياح في الجميع، حتى من يحاول مساعدتها. نجد بولا في بداية الفيلم تناطح الحياة حرفيا، ففي لقائنا الأول بها على الشاشة، نجدها تصيح بغضب وتضرب رأسها بقوة في أحد الأبواب، حتى تصاب ويدمى رأسها. بولا مزيج من الغضب والتناقضات التي تزعجنا، والتي نتعاطف معها في آن. نراها تحمل غضبها وإحباطاتها ومحاولاتها للعثور على نفسها، كما تحمل القطة البيضاء التي ليست لها، ولكنها تعتبرها جزءا منها، تحاول التخلص منه أحيانا ولكن لا تلبث العودة له مجددا. تمضي أياما تتقاذفها المنازل والطرقات والملاهي في باريس، محاولة جمع شتات نفسها والتوصل إلى نضج لم تصله بعد، هي رحلة تتحول فيها من فتاة يعوزها الكثير من الفهم للحياة إلى امرأة تمسك بناصية حياتها. 

ترسم سيراي، التي كتبت أيضا سيناريو الفيلم والتي حصلت على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان 2017 عن الفيلم الذي يعرض حاليا في دور العرض اللندنية، شخصية بولا، لتبدو لنا كما لو كانت تعيش مراهقة دامت طويلا أكثر مما ينبغي، في ثورة فورة صبا امتدت فجاوزت الحد. هي لا تعرف الحياة ولا تعرف باريس، التي وجدت نفسها فيها بمفردها على حين غرة، فقد انفصلت مؤخرا عن صديقها الذي يكبرها في العمر والثروة والمعرفة، ذلك المصور الشهير الذي أغرم بها وهي في صباها، وحملها معه في أسفاره إلى أمريكا اللاتينية أعواما لتكون حبيبته وملهمته، ولكنه عاد إلى باريس لينفصل عنها، ليتركها في مواجهة حياة لم تواجهها من قبل دونه، وفي مدينة لا بيت لها فيه ولا مصدر دخل. تجد نفسها فجأة بلا مأوى ولا قوت ولا سند ولا هوية حقيقية أو شخصية تفهم مكوناتها. لكن أزمة بولا الحقيقية ليست في العثور على المأوى والطعام، بل العثور على ذاتها وفهم من هي. بولا ذات تكوين وراثي مختلف، وهو ما اختارته سيراي عمدا في الفيلم، فهي تحمل ذلك التركيب الوراثي النادر لشخص تحمل كل عين من عينيه لونا، فلها عين زرقاء والأخرى بنية، وهو وصف دال تماما على شخصية بولا، فهي تنظر للدنيا بمناظير متعددة، أو فلنقل إنها لم تحدد بعد كيف تنظر للحياة أو كيف تجد لنفسها مغزى أو هوية محددة. عين زرقاء والأخرى بنية، يجعلان الناظر إليها يحدق فيها ملياً، ولكنه لا ينفر منها على اختلافها، فهي جميلة رغم اختلافها، أو فلنقل بسبب اختلافها هذا. هي في مرحلة التجريب بحثا عن هوية، تجرب أعمالا مختلفة وشخصيات مختلفة علها تستقر عند هوية ما. تقابلها فتاة في المترو تظن أنها «سارا» التي كانت صديقتها في أيام الطفولة في المدرسة، فتصبح سارا لعدة أيام وتتقبل الاسم والصداقة والهوية. تحاول رسم ملامح لشخصيتها لتتلاءم مع الأجواء التي تجد نفسها فيها. رغم حياتها التي تشبه الدوامة الصاخبة، نجدها تصف نفسها بأنها هادئة متأنية ومنظمة في مقابلة للحصول على عمل. هي في الواقع لا تكذب ولا تنتحل شخصيات، ولكنها تحاول فهم ذاتها عن طريق تبني شخصيات أخرى. بولا غريبة في مدينة غريبة عنها، مدينة تتحدث لغتها في بلد هو موطنها الأصلي، ولكنها تشعر بالانفصال التام عنه وعن نفسها فيه. هي مزيج صاخب من الصفات والسمات التي تبحث لنفسها عن إطار يجمعها. نراها يوما في حفل تنكري وقد خطت شاربا وهميا على وجهها، وهذا بالضبط ما تقوم به في حياتها: ترسم صورة تنكرية لنفسها علها تجد فيها حقيقة ذاتها. نراها تتبنى هويات مختلفة، وترسم لنفسها صورا مختلفة.

القدس العربي اللندنية في

06.06.2018

 
 

وثالثهما حمارهما:

رحلة أبو بكر شوقي للبحث عن عدالة «يوم الدين»

كتابة: أدهم يوسف

ترجمة: محمد الحاج

بعد انتهائي من مقابلة المخرج أبو بكر شوقي ومنتجة فيلمه، دينا إمام، أثناء هذه الدورة من مهرجان «كان»، انطلقتُ لموعدي التالي؛ ندوة نقاشية عن فيلم لمخرجة كينية، يعرض ضمن مسابقة قسم «نظرة ما». بالقرب من الندوة وجدتُ شوقي يجري مقابلة مع صحفي أجنبي. صراحة، لم أستطع منع نفسي من الاستماع إلى محادثتهم، خاصة عندما سمعتُ الصحفي يسأل شوقي عن «الرسائل السياسية والدينية» وراء فيلمه الأول المرشح للسعفة الذهبية «يوم الدين» (2018).

لاحقًا حينما التقيت شوقي مجددًا، طلبتُ منه التعليق على هذا السؤال، فقال: «هناك توقع من الأفلام القادمة من الشرق الأوسط أن تتناول السياسة أو الدين، وأنا لا أريد فعل ذلك. ليس لأنهم غير ذوي صلة، لكن لأني أشاهد أفلامًا من الولايات المتحدة وأوروبا وآسيا، أفلامًا ليست سياسية، وتعجبني. لم لا يمكن لأفلام الشرق الأوسط ألا تكون سياسية بشكل تقليدي ويمكن اعتبارها أفلامًا مسلية ومهمة في الآن ذاته؟». وأضاف: «أينما وجدتُ حكاية جيدة سأذهب».

ثلاثة أفلام عربية أخرى كانت في هذه الدورة؛ فيلم نادين لبكي «كفر ناحوم» (2018)، وهو دراما لبنانية حول الأطفال الفقراء والمهاجرين في مناطق الإسكان غير الرسمي في بيروت؛ وفيلم جايا جيجي «قماشتي المفضلة» (2018)، وهو فيلم يتناول قضايا كالجنسانية والثورة السورية، ما يضمن نجاحه عند المتفرجين الغربيين، وأخيرًا فيلم مريم بن مبارك «صوفيا» الذي يتناول موضوع الحمل خارج الزواج في المغرب. وسط كل هذا، يقف «يوم الدين» بسردية مختلفة، لكنه يمتلك مع ذلك قدرة على خلق صلة بينه وبينه المشاهد، تتجاوز سياقه ليصل للعالمية.

في فيلم شوقي يذهب كل من بشاي، وهو جامع قمامة قبطي مصاب بالجذام (ويلعب دوره راضي جمال الذي عاني من الجذام في الواقع)، وأوباما (أحمد عبد الحافظ) وهو طالب يتيم من أصول نوبية، وحمار يدعى حربي، في رحلة لصعيد مصر، بحثًا عن عائلة بشاي التي تركته في مستعمرة جذام وهو طفل.

من النادر أن يصل الفيلم الأول لمخرجه إلى المسابقة الرسمية لمهرجان كان، ومع أن هذا بحد ذاته سبب كافٍ للفخر، لكن شوقي يمتلك سببًا آخر. ففيلمه سيُعرض للمرة الأولى في ذات القسم مع فيلم معلمه المخرج الأمريكي «سبايك لي» الذي درّس له خلال فترة دراسته بمدرسة «تيش للفنون» بجامعة نيويورك، حيث يعمل «لي» مديرًا فنيًا للدراسات العليا بقسم السينما. قال شوقي: «هذا الأمر جعل تواجدي  بـ«كان» أكثر خصوصية». فازفيلم «لي» في نهاية الأمر بالجائزة الكبرى.

«يوم الدين» هو مزيج من النكهات والتأثيرات. فمن ناحية يستدعي إلى الذهن قصصًا عربيًا قديمة مثل جحا وحماره. ومن ناحية أخرى ينتمي إلى نوع أفلام «الطريق»، ليأخذنا في رحلة بين الأماكن المهمشة في مصر.

يقول شوقي: «لطالما أردت العودة إلى مصر لأصور جوانب مختلفة من البلد، وأضعها على الساحة الدولية. عندنا الكثير من ينابيع الحكايات غير المستهلكة، والقصص غير المحكية التي بحاجة فقط لأن تُكتشف».

لم يكن فيلم «يوم الدين» مرة شوقي الأولى في تناول قضية الجذام، ففيلم تخرجه من المعهد العالي للسينما بمصر،  كان بدوره فيلمًا وثائقيًا قصيرًا عن منشأة للمصابين بالجذام في أبو زعبل بعنوان «المستعمرة» (2008)، وهوفيلم يصوّر في 15 دقيقة عددًا من البورتريهات لأشخاص يعيشون هناك. يتذكر شوقي قائلًا: «جاءتني فكرة «يوم الدين» حينها».

رغم أن شوقي أدرك وقتها أن سُكّان المستعمرة لا يعيشون في حالة بؤس دائمة بسبب مرضهم، حيث تعلم أكثرهم التعايش مع المرض، إلا أنه أراد، بحسب قوله، التأمل في «فكرة كون الناس منبوذين ومعزولين في مكان ما، ليس لأنهم مقهورون، بل لأنهم غير مقبولين».

يقول شوقي: «الجذام ليس حالة مرضية  فقط، بل حالة اجتماعية أيضًا، لأنه عند مرحلة معينة يمكن أن يكون المرض معديًا. وبعدما يتعافى المريض، سيكون عليه التعايش مع نظرة الناس السلبية، بسبب الندوب التي يخلّفها. في فيلمي، أردت أن أظهر المصابين بالجذام بمعزل عن هذه الندوب، كأناس عاديين».

رغم أن العديد من مصابي الجذام المتعافين يفضلون العيش في المستعمرة، بسبب اعتقادهم أنها تقدم لهم حياة أفضل من تلك التي قد يحظون بها في الخارج، إلا أن بشاي في الفيلم، وبعد وفاة زوجته، يقرر أن ينطلق بعيدًا في رحلة.

يظهر في فيلم شوقي، تأثره الواضح بالأخوين «كوين»، اللذين يعترف شوقي أنهما من أبطال طفولته، بسبب قدرتهما على صنع أفلام شديدة الأصالة عن أماكن ذات خصوصية شديدة، وقادران في الوقت ذاته «على لمس إنسان يعيش على الطرف الآخر من الكوكب وجعله يتوحد مع شخصياتهما».

على سبيل المثال، وفي فيلمهما «يا أخي أين أنت؟» (?O Brother, Where Art Thou) يتبع الأخوين كوين ثلاثة مساجين هاربين على الطريق في ريف مسيسيبي خلال فترة الكساد الكبير، وهو مقتبس بتصرف عن المرجع الرئيسي لكل قصص أفلام «الطريق»: الأوديسة لهوميروس.

وفي فيلمهما «رجل جاد» (A Serious Man) يصوِّران الحياة المتداعية لرجل من المجتمع اليهودي في ضواحي منيابوليس عام 1960. هكذا، تقوم قصصهما على شخصيات استثنائية في أوضاع استثنائية، وهم عادة منبوذون أو غير مفهومين، ومع ذلك حققت أفلامهما نجاحًا عالميًا عبر السنوات. «بالنسبة لي هذه هي السينما كما تنبغي أن تكون»، يقول شوقي. «هدفي كصانع أفلام هو أن أصنع، أن أكون، شيئًا على هذه الشاكلة. أن أصنع أفلامًا عن عالم لا يمتلك الناس الذين يعيشون خارجه أي صلة به وأن أنجح في صنع هذه الصلة».

للمفارقة، يتعرض بشاي وأوباما للإهانة طوال رحلتهما، من أناس يعتبرون مهمشين أيضًا في عرف المجتمع، كمحتجزين في قسم الشرطة، أو فقراء في مستشفى عام، أو ركاب قطار من الدرجة الثالثة. لكن من الناحية الأخرى، نحن نعرف أن الكيمياء بين بشاي، الذي يظن أنه في الأربعين من عمره، وأوباما صغير السن، ليست علاقة أب بابنه، وإنما هي علاقة رفقة يخلقها وضعهما كاثنين تعرضا للتمييز.

رغم ذلك، ينجح شوقي في أن يبث في شخصياته بعض القوة. فرغم تعثر رحلتهما على الطريق بسبب الهجمات العشوائية والحوادث والسرقة والجوع، فلا يزال بشاي وأوباما يمتلكان قرارهما في تطور الدراما.

جاءت معالجة الفيلم للفكرة مختلفة عن التناول السينمائي المعتاد للفقراء والمهمشين، الذي يصورهم بوصفهم ضحايا، في أفلام تزدحم بمشاهد إدمان المخدرات والجنس التجاري، وإلقاء اللوم على ظروف المعيشة الصعبة، وعلى السياسات الحكومية. في «يوم الدين» يفرد شوقي المساحة لبشاي وأوباما ليكونا بطلين مسموح لهما باتخاذ القرارات وتحمل عواقبها.

يوضح شوقي: «الهدف هو صنع فيلم عن أقليات تحاول أن تنجو، لا من حياة عسيرة عليهم فقط، وإنما عسيرة في عمومها. وأنا أردت فقط أن أعطيهم صوتًا. بهذا المعنى، فـ«يوم الدين» ليس عن الجذام، وإنما بالأحرى عن شخص يحاول البقاء ويحاول الوصول لإجابة عن سؤاله».

يعود اختيار شوقي  لعنوان الفيلم: «يوم الدين» لشيء ما لمسه في تعامله مع المصابين بالجذام في مصر. «الناس في المنشأة متدينون بغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين. يتجاوزون صعاب الحياة عبر الإيمان بيوم الحساب، فيومها لن يحاسب الناس على مظهرهم وإنما على شخصياتهم. بالنسبة لي هذه فكرة عميقة. لا يبدو على أحدهم أنه يسأل (لماذا أنا؟)».

هذا الحس الإيماني يظهر بوضوح في شخصية بشاي. يقول شوقي أن راضي، الذي يلعب شخصية بشاي، يمتلك روح مليئة بالطاقة الطيبة. «عادة حينما يقابلك مرضى جذام للمرة الأولى لا يمدون أيديهم بالسلام لأنهم خائفين من أن تكون مشمئزًا من مصافحتهم. لكن الشيء الأول الذي فعله راضي حينما التقينا كان أن مد يده إليّ».

على مدار ورشة امتدت لأربعة أشهر، وأثناء تحضيره لموقع تصوير الفيلم، أقام شوقي علاقة متينة براضي. كان الدور الرئيسي في الفيلم مكتوبًا في الأصل لامرأة، لكنها ماتت قبل بدء التصوير، فذهب الدور لراضي.

لكن الاستعانة براضي، كممثل يقف للمرة الأولى أمام الكاميرا لم تكن سهلة، ليس فقط لأنها تجربته الأولى، ولكن لأنه لا يستطيع القراءة والكتابة، ما طرح تحديًا أمام طاقم العمل. فمثلًا من المعروف، أن على الممثلين الالتزام بعلامات معينة في موقع التصوير، لضمان عدم خروجهم من المشهد، ولأن جميع الممثلين في «يوم الدين» غير محترفين، فكّر فريق العمل في طريقة أُخرى، لتعويض انعدام خبرتهم، وتبنوا طريقة تصوير «متمردة». كيَّف الفريق الكاميرا مع حركة الممثلين عوضًا عن العكس. يقول شوقي: «بدلاً من وضع الكاميرا على حامل وجعل الممثلين يعملون بناءً على ذلك، قمنا بالعمل في خدمتهم». ويضيف: «هم الذين وجَّهونا».

بالإضافة إلى التقاط لحظات الذروة والهبوط في رحلة بشاي وأوباما، ورصد أدق التغيرات في الشخصيات، يقدم شوقي، بمساعدة التصوير المتميز لفديريكو سيسك، مشاهد طبيعية لمصر غنية بصريًا، تتداخل الطرق الأسمنتية فيها بالصحراء الصفراء، والخضرة السخية بأكوام القمامة.

يستغل شوقي مواقع تصويره بطريقة، يظهر فيها تأثره بـ«فيم فيندرز»، أحد رواد أفلام الطريق (من أعماله: أليس في المدن Alice in the Cities  وباريس تكساس ParisTexas)، وأيضًا بفيلم «وحوش البرية الجنوبية» (Beasts of the Southern Wild) وهو دراما أمريكية من إخراج وكتابة وموسيقى بن زيتلن. يقول شوقي: «أشعر أن مصر، كخلفية، تكاد تمتلك شخصيتها الخاصة».

نلاحظ أيضًا في لقطة أُخرى، تأثر شوقي بفيلم «الرجل الفيل» (The Elephant Man) لديفيد لينش. ففي أحد المشاهد التي تحدث في قطار الدرجة الثالثة، المتجه إلى قنا حيث تعيش عائلة بشاي، ينفجر بشاي غضبًا في أحد الركاب الذين يضايقونه، قائلًا: «أنا انسان!»، في تحية للمشهد الأيقوني في فيلم لينش.

رغم أن فكرة الفيلم داعبت شوقي منذ أخرج «المستعمرة»، فإنه لم يبدأ الكتابة الفعلية قبل 2013، بانيًا رسالة تخرجه من جامعة نيويورك على المشروع. رافقته منذ بداية الرحلة، منتجة الفيلم دينا إمام، وهي أيضًا زوجته.

حصل شوقي ودينا على  تمويل فيلمهما من عدة مصادر، فأولًا فازا بجائزة ريتشارد فيج لإنتاج الأفلام الخاصة بجامعة نيويورك، والتي شكلت قيمتها جزءًا ضخمًا من الميزانية.  ولأنهم لم يستطعا الحصول على أي تمويل من مهرجانات أو منح أمريكية أو أوروبية أو شرق أوسطية، لجآ للتمويل الجماعي. تقول دينا: «لم يرغب أحد في إعطائنا المال، لذا أطلقنا حملة تمويل جماعي عبر منصة كيكستارتر. تلقينا مساعدات من أصدقائنا وأهلنا أيضًا، وبالطبع وضعنا جزءًا من مدخراتنا في المشروع كحل أخير».

تستطرد دينا: «كنّا صنّاع أفلام للمرة الأولى بدون شركة إنتاج كبيرة أو نجوم كبار، صعَّب ذلك علينا إنجاز الأشياء، من تأمين التمويل إلى استخراج تصاريح التصوير مرورًا بأخذنا على محمل الجد أصلًا».

أضافت دينا إمام، أنهما أيضًا هي وشوقي، عملا في السلسلة التليفزيونية الأمريكية القصيرة «البرج المخيف» (2018)، ما وفر لهما بعض المال لإنتاج الفيلم.

لكن بعد انتهاء التصوير أوقف شوقي ودينا العمل على الفيلم، حتى يستطيعا جمع بعض الأموال لتمويل مرحلة ما بعد التصوير، ولكن هذه المرة لم يلجآ للتمويل الجماعي: «لم نشعر أن من الصواب سؤال الناس عن أموال مجددًا بعدما أعطونا بعضها منذ ثلاثة أعوام».

لهذا، في العام الماضي ذهبت دينا إلى «كان» تحاول التعرف على شبكات علاقات، تسهّل عليهما إنهاء مرحلة ما بعد التصوير. وبالفعل قابلت هناك محمد حفظي رئيس شركة الإنتاج والتوزيع المصرية «فيلم كلينيك»، والرئيس الجديد لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي.

طبقًا لشوقي، كان حفظي على دراية بالفيلم، حيث شاهد أول 20 دقيقة منه، حين عُرض في «منصة الجونة السينمائية» في الدورة الأولى لمهرجان الجونة. وقتها فاز الفيلم بمنحة تقدر بخمسة آلاف دولار لإتمام عمليات ما بعد التصوير، و قرر حفظي المشاركة في الفيلم كمنتج مشارك وموزع في الشرق الأوسط.

نجا «يوم الدين» من انتقادات النقاد المصريين الداعمين للدولة الذين عادة ما يحضرون مهرجان «كان»، لكننا ما زلنا لا نعرف إن كان سيتم استقباله جيدًا عند عرضه في مصر، وبخاصة أنه يصوّر قطاعات محرومة في المجتمع المصري وتجري أحداثه في مناطق مقفرة. قبل عامين حينما وصل فيلم «اشتباك» لمحمد دياب لقسم «نظرة ما» في نفس المهرجان، تعرّض لهجوم قاسٍ من بعض الإعلاميين متهمين إياه بتقديم «صورة مشوهة عن المجتمع المصري» في أغلب أعماله، وبخاصة فيلمه «678»، والذي تناول قضية التحرش الجنسي في القاهرة.

في رده على احتمالية التعرض لنقد شبيه يقول شوقي: « سأخبرهم أمرًا واحدًا. كنت في «كان»، بفيلمي الأول في مسابقة رسمية، وهو أمر نادر الحدوث، ولم يدعو أحد فيلمي بالفيلم الذي يسيء لمصر. بل دعاه الجميع ببساطة (الفيلم المصري)».

أما دينا فردت قائلة: «صورنا في مواقع حقيقية بقدر الإمكان، فإن أتى من يقول أننا نقدم صورة مشوهة عن الواقع، فهو لا ينظر حوله جيدًا».

مدى مصر في

07.06.2018

 
 

"الحد الفاصل" الفيلم الذي نال الإجماع في مهرجان كان

أمير العمري

فيلم "الحد الفاصل" يبدو للوهلة الأولى أشبه بدراما الرعب، لكنه سرعان ما يكتسب الكثير من المعاني الإنسانية الكبرى حول أفكارنا المسبقة عن الآخر.

كان فيلم “الحد الفاصل” Border الذي فاز بجائزة أفضل فيلم في مسابقة قسم “نظرة ما” بمهرجان كان الأخير، فيلما غريبا وفريدا ليس له مثيل من بين كل أفلام المهرجان، بل ويمكن القول أيضا إنه عمل غير مسبوق رغم بعض التشابه البسيط في إحدى أفكاره، مع “الرجال إكس”، وقد حصل الفيلم على الإجماع بتفوقه الفني.

يمتلئ الخيال الشعبي الاسكندنافي بالكثير من قصص الكائنات الغريبة التي تسكن الأرض، وتحاول التواصل مع الإنسان أو السيطرة عليه أو الإضرار به وربما الانتقام منه أيضا، يمكنها أحيانا التخفي والاختلاط بالإنسان، وتظل تتمتع بقوة أو قدرات خاصة، قد تسبب الكثير من الارتباك والفوضى.

إنها كائنات تسكن منطقة تقع بين الأحلام والواقع، بين الهواجس والكوابيس الليلية وبين الحياة الأرضية الطبيعية، وحول هذا “الحد” الفاصل بين العالمين، وأهمية الاختيار بين الانتماء لعالم الخير أو عالم الشر، يدور فيلم “الحد الفاصل” Border، وهو الثاني لمخرجه الدنماركي -من أصل إيراني- علي عباسي، ومن الإنتاج المشترك بين السويد والدنمارك.

الفيلم مقتبس بتصرف عن رواية الكاتب السويدي جون أفيد لينكفيست “دع الشخص الصحيح يدخل” Let the Right One In التي أصبحت من أكثر الأعمال رواجا وقت صدورها في السويد عام 2005، ويصفها النقاد بأنها تجمع بين “الرومانسية والخيال المرعب والواقعية الاجتماعية”، والحقيقة أن الفيلم يمزج بين هذه الأساليب كلها ويضيف إليها الكثير من  الصور المستقرة في الخيال الشعبي الاسكندنافي عن “الكائنات غير الإنسانية”، كما يستخرج منها مجازا عن العلاقة المرتبكة بين الاسكندنافي، أو بين الإنسان عموما، و”الغريب” أو “الآخر”.

كائن غريب

يبدو الفيلم للوهلة الأولى أشبه بدراما الرعب، لكنه سرعان ما يكتسب الكثير من المعاني الإنسانية الكبرى حول أفكارنا المسبقة عن الآخر، وكيفية تعاملنا مع من نظنه مختلفا عنا، كما يتساءل الفيلم: هل يمكن للكائنات المتناقضة في تكوينها أن تنتمي للعالم المتحضر بمفاهيمه الإنسانية أم أن من الأفضل لها أن تعود إلى عالمها الذي تحكمه قوانينه الخاصة، وهل الغريزة أقوى من المكتسب؟ وكيف يمكن أن نعرف ما يخفيه المرء، وأن شكله الخارجي لا يعبر عما في داخله؟

والأهم هنا ونحن بصدد تناول عمل سينمائي هو الأسلوب: الصورة والضوء والمؤثر الخاص والجو العام والأماكن المختارة بعناية بحيث تضفي على الفيلم طابعا تغريبيا، أو تجعله يبدو كما لو كان يدور بين الواقع والخيال، في سياق ما يعرف بـ”الواقعية السحرية” طبقا لما يراه مخرجه، ويبرز بشكل مدهش تعاون المخرج مع مدير التصوير ومصممي الديكور والممثلين.

ويقوم السيناريو الذي اشترك في كتابته المخرج مع إيزابيلا إيكلوف ومؤلف الرواية الأصلية، على شخصيات محددة المعالم مع بعض التفريعات التي تخدم الشخصية الرئيسية وتعمقها وتدفع الأحداث إلى الأمام من خلال خيوط، متعددة، لكنها تصب كلها في اتجاه واحد.

هناك أولا “تينا”، عندما تراها للمرة الأولى ستدرك أنك أمام “كائن” غريب كل الغرابة، فهي ضخمة، طويلة، لديها وجه منتفخ يمتلئ بالبثور والقرح، أسنانها البارزة مصبوغة باللون الأصفر، وجلدها ممتلئ بالوشم ولديها أيضا كما سنعرف، ندبة قديمة في أسفل ظهرها.

وهذه المرأة الغريبة الصامتة تعمل في شرطة جمارك المطار، فهي تتمتع بحاسة شم خارقة، تجعلها تمتلك القدرة على معرفة ماذا يخفي أي شخص من شرور وممنوعات سواء في حقائبه أو ضميره.

تينا تقف مع زميلها، تراقب القادمين، تتشمم وهي تحرك أنفها وشفتيها كالكلب، تحدق في كل من يمر أمامها، تستوقف هذا أو ذاك، ومع تفتيش الحقائب اليدوية قد يعثر على أشياء ممنوعة (كمية ضخمة من الخمور يحملها مراهق) أو صور إباحية للجنس مع الأطفال يحملها رجل، ومن هنا تستعين بها الشرطة في تعقب عصابة يشك أنها تختطف الأطفال وتعتدي عليهم، وهو أحد الخيوط الواقعية في الفيلم.

تينا تقيم مع صديقها رولاند في كوخ خشبي على حافة الغابة بالقرب من البحر خارج بلدة سويدية ساحلية، لكن رولاند لا يلقي بالا إليها فهو أكثر اهتماما بكلابه الثلاثة واحتساء البيرة ومشاهدة التلفزيون، وعندما يحاول ذات ليلة ممارسة الجنس معها ترفض. أما والد تينا العجوز فهو يتفادى الحديث عن الماضي مع تينا بدعوى أنه لا يتذكر جيدا، ربما كان يخفي سرا.

وتلمح تينا ذات يوم رجلا يمر عبر حاجز الجمارك بالمطار يحمل حقيبة، تتشمم، تشعر بوجود شيء غريب يخفيه هذا الشخص واسمه فور ‘Vore’، وبتفتيش حقيبته تعثر فقط على أنبوبة بداخلها مجموعة كبيرة من يرقات إحدى الحشرات.

لكن الأهم أن فور كثير الشبه بتينا نفسها، فهو مثلها غليظ الملامح، متغضن الوجه، ضيق العينين، وهي تشعر بوجود شيء ما يخفيه، لكنها تشعر في الوقت نفسه بانجذاب غريب نحوه.

ومع تطور الحبكة يذهب فور ليستأجر غرفة في منزل تينا الخشبي، تقترب تينا أكثر فأكثر من فور الذي يعلمها كيف تأكل مثله الصراصير والحشرات، تسير تينا وحدها في الغابة ليلا، تأنس لها الذئاب وغيرها من الحيوانات المفترسة، تبدو وكأنها قد توحدت مع الطبيعة.

الانتقام من البشر

يعترف لها فور بأن كليهما لا ينتمي للجنس البشري، وأن الإنسان هو من أرغمهما على العيش كبشر بعد أن قضى على كل علاقة لهما بالماضي، أي أباد القبيلة التي ينتميان إليها، لذلك فهو يستخدم الإنسان من أجل تدمير الإنسان.

تلح تينا على والدها “المفترض” لكي يكشف لها عن مصير والديها الأصليين، يعترف لها في لحظة شعور بالشفقة بأنه تبناها مع زوجته، وكان غرضهما طيبا، وبأن والديها دفنا في مكان ما، في مقبرة جماعية لتلك المخلوقات، تشعر هي بالغضب الشديد، لقد تيقنت من صحة ما قاله لها فور، تنهي علاقتها برولاند، تطرده وتلقي بجهاز التلفزيون في الخارج، لقد بدأت تدرك حقيقة أصلها وماضيها.

فور الذي يرغب في الانتقام من البشر يقوم بخطف الأطفال وتحويلهم بفعل قوة ما لا ندرك كنهها، إلى كائنات مماثلة له، وهو يرتبط بجماعة تمارس تلك الطقوس الشريرة سرا على نحو يذكرنا بفيلم بولانسكي “طفل روزماري”، ولدى فور ندبة أسفل الظهر مثل تينا، هي ما تبقى من أثر لذيل تم استئصاله.

ولكن بينما تغلغل الشر في فور، تميل تينا للخير، ترفض العنف واختطاف الأطفال، فهل ستستمر هكذا، أم ستجد نفسها في نهاية المطاف راغبة في التوحد مع من ينتمي إلى نوعها نفسه لتحقّق الحرية التي تنشدها؟

هذه هي الخطوط العريضة للفيلم الغريب الذي يشمل مشاهد بديعة مرعبة للكائنين الغريبين وهما يتجردان من ملابسهما ويسبحان في البحيرة، ثم يمارسان الجنس للمرة الأولى مع النوع نفسه، وهي مشاهد فيها من الغرابة بقدر ما فيها من الرعب بسبب التكوينات البصرية البديعة التي خلقها المصوّر ومسؤول المؤثرات الخاصة، وتصطبغ الصورة بالضباب مع مسحة من زرقة الليل، والكثير من الأبخرة والظلال وكتل الظلمة التي تحيل الغابة حيث يلتقي الكائنان الغريبان، إلى عالم سحري.

ينجح علي عباسي في المحافظة على الترقب والإثارة ودفع المشاهدين للتساؤل طيلة الوقت عمّا سيكشف عنه المشهد التالي، ورغم الخيوط الفرعية كعصابة اختطاف الأطفال، العلاقة مع الأب، العمل مع الجمارك والتعاون مع الشرطة.. الخ، إلاّ أن الفيلم لا يحيد قط عن مساره الرئيسي، وينجح المخرج في إكساب الموضوع دلالات أكثر عمقا من مجرد الغرابة والسحر الخاص المستمد من قصص الخيال الشعبي “الشمالي” في اسكندنافيا، يقرب المشاهد إلى الشخصيات الغريبة، كما يقربها من العالم الواقعي اليوم وما يحدث فيه من انتهاك لبراءة الأطفال.

ويجعل في النهاية التحول الشرير الذي يحدث كما لو كان لعنة أو ثمنا باهظا يتعين على البشرية أن تدفعه بسبب ممارساتها القذرة، واستبعاد الآخر، وإبادة الأجناس بدعوى الحفاظ على المدنية.

ولا شك أن عنصر التمثيل هو الذي يجعل للفيلم كل هذا التأثير القوي ويجعله يرسخ في الذاكرة.

 هناك أولا الممثلة السويدية البارعة إيفا ميلاندر التي قامت بدور تينا بحيث ذابت تماما في الشخصية وأصبحت قادرة على التعبير بالوجه والفم والعينين والشفتين، في شتى المواقف المختلفة، تنتقل بين المشاعر المختلفة ما بين الحب والخوف والقلق والغضب والرقة والشفقة، وكانت تخضع يوميا لمدة أربع ساعات أمام عملية الماكياج التي اقتضت تركيب قناع من السيليكون فوق وجهها وتشويه الأسنان وجعل الجلد يبدو متغضنا ممتلئا بالحفر والندوب. وقد خضع زميلها الممثل الفنلندي إيرو ميلينوف الذي قام بدور فور، لعمليات مماثلة، وأجاد دور ذلك الكائن القادم من الخارج الذي وجدت فيه تينا الشريك المثالي الذي يمكنها التماثل والاندماج معه، ويبقى في النهاية اللغز الأكبر.. لغز عالمنا الذي يمتلئ بالأسرار!

كاتب وناقد سينمائي مصري

####

عن"المنزل الذي بناه جاك"

أمير العمري

فيلم مصاغ في قالب خارج الواقع وأقرب للكوميديا، يعكس الجنون الذي يعبر عن رؤية الفنان للعالم في الوقت الراهن.

أتفهم كثيرا أن يغادر نحو مئة شخص من ضيوف مهرجان كان السينمائي العرض المسائي الأول لفيلم “المنزل الذي بناه جاك” للمخرج الدنماركي الشهير لارس فون تريير. وأن يغادر عدد مماثل من النقاد والصحافيين العرض الصحافي للفيلم صباح
اليوم التالي، فهناك دائما من يغادرون الأفلام أثناء عرضها، ومن يبقون ويصفقون بحرارة في النهاية كما حدث في العرض الرسمي للفيلم
.

فون تريير معروف بأفلامه الصادمة، شخصيا لم يعجبني فيلمه “نقيض المسيح” الذي وجدته عملا فيه الكثير من الاصطناع، تماما مثل فيلمه “مهووسة جنسيا” الذي لم أجده معبرا عن ذات الفنان الذي أخرج قبل 22 عاما تحفته الأثيرة “تكسير الأمواج” دون أن يتجاوزها قط.

ورغم التحفظات، إلاّ أنني أعتبر فون تريير مبدعا سينمائيا كبيرا، يتمتع بالجرأة، يبحث في المناطق الصعبة من النفس البشرية، ويعرف كيف يسيطر على مادته البصرية والدرامية وأن يستولي على مشاعرك ويتلاعب بها كيفما شاء.

وقد أعجبني فيلمه “ميلانكوليا” (2011) وشعرت أنه ربما لم ينل ما كان يستحقه ربما بسبب تصريحات مخرجه التي أزعجت إدارة مهرجان كان، ومنع على إثرها من المشاركة، لكنه عاد مؤخرا لكي يوجه انتقامه الشخصي من الجميع: المهرجان والسينمائيون والجمهور، ويلقي في وجوههم بكل ما يملك من جموح في تعبيره عن العنف، عما بلغه الإنسان -الأميركي أو الأوروبي- من تطرف وميل للعنف، كما لو كان مدفوعا بقوة شريرة في أعماقه نحو تدمير نفسه، وهذا هو المغزى الأساسي لفيلمه الجديد الذي أثار غضب الكثيرين عن “السفاح” الذي يتفنن في قتل ضحاياه.

صحيح أن في الفيلم مشاهد صادمة، لكنني لا أجدها أكثر عنفا ممّا شاهدناه في أفلام أخرى مثل “الوجه ذو الندبة”، حيث يقوم شخص بقطع رقبة غريمه باستخدام منشار كهربائي، أو “البرتقالة الآلية” تحفة ستانلي كوبريك أو “العائد” لتارانتينو.

أيا كان الأمر فقد صدمني أكثر أن يكتب الناقد الأميركي روجر فريدمان بعد أن غادر الفيلم قبل انتهاء عرضه “غادرت فيلم فون تريير، هذا فيلم قذر لم يكن يجب أن يصنع من الأصل، الممثلون مذنبون”، أو أن يصفه ناقد “الغارديان” زان بروكس، بأنه “مثير للغثيان”.

فالفيلم من الناحية الفنية يعتبر “أوبرا للدمار الإنساني”، صحيح أنه يمتلئ بمشاهد القتل وقطع الأثداء والأطراف والتمثيل بالجثث.. إلخ، لكنه مصاغ في قالب (خارج الواقع) وأقرب للكوميديا، يسبح في فضاء اللامعقول، ويعكس الجنون الذي يعبر عن رؤية الفنان للعالم في الوقت الراهن، وهو أيضا أفضل كثيرا من حيث البناء وانضباط الإيقاع وتقديم الشخصية في تطورها، من “راقصة في الظلام” (2000) للمخرج نفسه الذي كتب عنه ناقد “الأوبزرفر” الراحل الكبير فيليب فرنش، قائلا “عندما نزلت العناوين النهائية لفيلم ‘راقصة في الظلام’ في مهرجان كان، تصورت في البداية أن صيحات الاستحسان والتصفيق لهذا الفيلم الموسيقي الاسكندنافي الذي صور في السويد والدنمارك باللغة الإنكليزية، ليست إلاّ على سبيل السخرية”.

ويضيف “فكيف يمكن أن يعجب أحد أو يتأثر بهذا الفيلم التافه الممل العقيم؟ وقد ذهلت عندما حصل مخرجه ومؤلفه (الذي أعجبني الكثير من أفلامه السابقة) على السعفة الذهبية وحصلت بطلته بورك على جائزة أحسن ممثلة، وعندما قرأت أن جهاز العرض السينمائي تعطل أو انقطع التيار الكهربائي أثناء عرض الفيلم بمهرجان إدنبره السينمائي، قلت لنفسي: نعم.. ربما كان الله في السماء أو عامل الكهرباء في الأرض، يقول كفانا هذا العبث!”.

كاتب وناقد سينمائي مصري

العرب اللندنية في

08.06.2018

 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2018)