في مشهد مهيب ودعت المحروسة كنزا غاليا من كنوزها
الفنية.. نهاية حزينة لحياة حافلة بالعطاء كتبت سطورها أسطورة
التمثيل وأسطورة الغناء بحروف الألم والحزن.. رحلت عن دنيانا بعد
أن رفعت الراية البيضاء وفاضت روحها إلي بارئها بعد صراع طويل مع
المرض اللعين، وأطفأ القدر مشوار حياة نجمة بكل المقاييس.. ملأت
الدنيا فنا وإبداعا ـ خصوصا أنها أدت شخصية البنت المرحة.
خفيفة الظل في بداية حياتها الفنية في ساعة لقلبك، العقل في أجازة
ـ معلهش يازهر، حماتي قنبلة ذرية كما أدت أدوار البنت الشقية في
الهاربة ، التلميذة ، أنا وحبيبي ولم تتوقف في إثبات قدرتها علي
تقديم كل الشخصيات ببراعة فائقة بدليل ماقدمته من علامات سينمائية
في أفلام اللص والكلاب ، زقاق المدق، الطريق ، شيء من الخوف ،
ميرامار.
قد ظلت شادية لها سحرها الخاص الذي ظلت تتمتع به في ظل مراحلها
الفنية حتي اعتزلت في عامها الخمسين، وفضلت هجرة الأضواء وهي في
قمة مجدها وكرست حياتها للعبادة وترسيخ الجانب الإنساني في رعاية
الأطفال الأيتام والفقراء وذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة ـ وظلت
نموذجا يحتذي في كل جوانب العطاء، وسكن الحزن كل بيت في مصر
والعالم العربي وهم يودعون صوت مصر فاطمة أحمد كمال شاكر »شادية»
النموذج المشرف تمثيلا وغناء وسلوكا من مسجد السيدة نفيسة إلي
مثواها الأخير ويدعون لها بالرحمة وأن يسكنها الله فسيح جناته.
لقد تنوع الأداء عند الفنانة شادية.. فهي لم تكتف بالتمثيل الذي
تميزت فيه، إنما ساهم في شهرتها الفنية الغناء ،وانطلقت تقدم
نوعيات الأفلام الرومانسية المتميزة بالثنائيات مع عماد حمدي، كمال
الشناوي، عمر الحريري ، شكري سرحان ،ومن خلالها أصبحت نجمة الشباك
الأولي في فترة الخمسينيات بعد تألقها في مجموعة أفلام راقية منها
أشكي لمين، أقوي من الحب ، أرحم حبي وهذا الفيلم الأخير له قصة
غريبة لايعرفها إلا قليلون، حيث اتصل مجهول بمنتج الفيلم حلمي رفلة
وأمره بأن يحرق الفيلم الذي بذل فيه جهودا مضنية استطاع فيه أن
يقنع شادية وعماد حمدي بالعمل معا في هذا الفيلم، وفي إطار هذه
الورطة أشارت المنتجة نادية رفلة ابنة المنتج الكبير إلي أن شادية
طلبت من والدها ألا يبلغ الشرطة، وأن يواجه التهديد باستئجار خزائن
خاصة في البنوك لحفظ نيجاتيف الفيلم فيها ـ وتم توزيع فصول الفيلم
علي هذه الخزائن وأشارت عليه بالاتفاق مع سائق تاكسي تابع لاستديو
التصوير أن يمر عليه صباح كل يوم، ليذهب للبنك وينقل من الخزائن
التي استأجرها فصول الفيلم المطلوبة ويسرع بها إلي استديو مصر،
ويظل يلازمها في المونتاج والمكساج والمعمل حتي ينتهي العمل فيها
ثم يعيدها إلي الخزائن وينقل غيرها وهكذا، وزيادة في الحيطة أشارت
عليه بعلم كونترتيب من الفيلم وحفظه وبهذا التفكير الناضج من عقلية
شادية المتيقظة لم يحرم الجمهور من مشاهدة الفيلم في موعده المحدد
بل إن ماحدث كان سببا رئيسيا في تحقيق الفيلم نجاحات مدوية.
وشادية صوت مصر، قدمت أغاني جميلة في حب الوطن ولم يغب صوتها عن كل
معارك الكفاح المصري والعربي ومنها في ذلك الجانب بأرض وادي النيل
من أغنيات فيلم الدنيا حلوة ـ »جيش الوطن» المصري أفندي، أمانة
عليك أمانة يامسافر بورسعيد وهذه الأغنية قدمتها شادية خلال حرب
العدوان الثلاثي علي مدينة بورسعيد في 29 أكتوبر 1955 ـ ثم سبع
سواقي التي قدمتها بعد نجاح ثورة 23 يوليو 1952 وأغنية مصر
والسودان ، يسقط الاستعمار ـ ياجاي من السودان، قولوا لمصر تغني في
عيد تحريرها ـ الجيل الصاعد، الوطن الأكبر، صوت الجماهير ، فجر
جديد، يابنت بلدي وقدمتها شادية مع حصول المرأة العربية علي أول حق
لها في الانتخاب والترشيح لعضوية البرلمان ،وهذه الأغنية أصبحت
اللحن المميز لأشهر برنامج في الإذاعة المصرية »ربات البيوت» أغنية
ياوابور يامولع ـ صعيدي ولا بحيري عقد لولي وقدمتها شادية خلال
مشاركتها بالغناء في حفل غنائي بنادي الصيد البحري بالإسكندرية ـ
حضره الزعيم الراحل جمال عبدالناصر يوم 26 يوليو وهو العيد القومي
للإسكندرية الموافق لخروج آخر ملوك مصر فاروق من قصر رأس التين في
طريقه إلي منفاه.
وقدمت للأطفال 13 أغنية جميلة منها يانورعنيا ، سيد الحبايب
،هونينا ناموا، ياختي عليك، وقدمت أربع أغنيات في مسرحيتها
الوحيدة التي أشهرها شبكنا الحكومة ـ حبك جننا يا اسمك إيه وفي
هذا الإطار قدمت ست أغنيات دينية منها اللهم اقبل دعانا ـ خد بإيدي.
####
«أغنية
لا تموت»..
فوزي وحليم وبليغ وعشق خاص للست
ميلادي الفني كان في فيلم "العقل في أجازة"، كنت من
المعجبين بمحمد فوزي وكانت المرة الأولي التي عرفته فيها يوم أن
شاهدت فيلم "مجد ودموع" وهو يمثل مع نور الهدي، وذهبت مرة أخري، بل
ومرات كثيرة لمشاهدة نفس الفيلم، أعجبتني ملامحه كما أعجبني صوته
الجميل، وأحببته أكثر مع أغاني "الماضي المجهول" التي غنتها ليلي
مراد وكانت من ألحانه.
ولم أكن أعرف أن القدر سيحقق لي أمنية كبري.. أمنية الوقوف وجها
لوجه أمام مطربي المفضل محمد فوزي في فيلم واحد.. كان حلمي رفلة
يبحث في ذلك الوقت عن وجه جديد يسند إليه البطولة الغنائية أمام
محمد فوزي في فيلم "العقل في أجازة".. وهو أول إنتاج سينمائي لمحمد
فوزي..وأيضا أول إخراج لحلمي رفلة.. وكان بالنسبة لي أول فرصة
بطولة علي الشاشة.
والذي حدث أن أحمد بدرخان تحدث عني مع حلمي رفلة قال له إنها تجيد
التمثيل وصوتها جميل.. واستدعاني حلمي رفلة وأجري لي اختبارا أمام
الكاميرا.. وكادت أعصابي أن تحترق وأنا أنتظر النتيجة.. وقلت لحلمي
رفلة إنني أجيد الغناء أيضا.. وغنيت له "بتبص لي كده ليه".. وقلت
له أيضا إنني أمثل في فيلم يخرجه "محمد عبدالجواد".. لكن حلمي رفلة
رد قائلا.. "مش معقول أرشحك لدور بطولة في الوقت الذي تظهرين فيه
ككومبارس في فيلم آخر"..
وأسرع حلمي رفلة إلي التليفون وطلب محمد عبدالجواد واستأذنه في عدم
ظهوري في فيلمه.. وقال له محمد عبدالجواد.. "إن المشهد الذي تظهر
فيه لايستغرق سوي دقائق معدودة ولو حذفناه فإن الفيلم لن يتأثر
بشيء".
ووافق محمد عبدالجواد علي انسحابي من فيلمه من أجل حلمي رفلة الذي
وقع معي عقدا ولكني عندما وقعت علي العقد باسمي "فاطمة شاكر" قال
لي حلمي رفلة.. اكتبي الشهيرة بشادية.. وكان حلمي رفلة هو الذي
أطلق عليّ اسمي الفني الجديد "شادية".. وقال مبتسما "مبروك ياشادية"..
وكان دوري في الفيلم هو دور فتاة ريفية تحضر إلي القاهرة لتقيم مع
أقاربها ولكن الكراهية تملأ قلوب هؤلاء الأقارب عندما تصبح فجأة
(وارثة) وغنية جدا أما (محمد فوزي) ابن الأسرة فقد كان الوحيد
المتعاطف معي.. ويتزوجني في نهاية الفيلم وأحببت محمد فوزي.
وجاء اليوم الذي تحققت فيه أحلامي.. اليوم الذي وقفت فيه لأول مرة
أمام مطربي المفضل محمد فوزي.. ووجدته إنسانا رقيقا مهذبا.. وكاد
الإعجاب يتحول إلي حب.. لكنه حب التلميذة للأستاذ الذي كان دائما
يوجهني بإرشاداته وانتزع من قلبي الخوف.. وشعرت معه بالأمان تحت
الأضواء الساطعة.. ولم أعد أتهيب الكاميرا وأخشاها وهي تقترب من
وجهي..
ولم أعد أيضا أشعر بتلك القشعريرة التي كانت تسري في جسدي كلما
وقفت أمام محمد فوزي.
ولم يكن آخر فيلم ألتقي فيه مع الفنان محمد فوزي.. بل التقينا بعد
ذلك في فيلم "الروح والجسد".. وفيلم "صاحبة الملاليم" وكانت أول
أغنية يلحنها لي هي "وقفوا الخطاب علي الباب ياأمة".. وكانت أيضا
أول تسجيل بصوتي.. وأول أسطوانة تحمل اسمي في الأسواق.. وكونا معا
دويتو وظللنا فترة نغني معا.. وأصبحت صداقتنا أقوي بهذا الارتباط
الفني مع إنسان أحترمه كثيرا.
####
سأترك الأضواء قبل أن تتركني ..
حــان وقـت الاعتزال
وفي ختام مذكراتها أعلنت شادية إعتزالها بهذه
الكلمات.. »إنه أصعب وأخطر قرار في حياة الفنان.. لذلك يحتاج إلي
شجاعة.. فالشجاع هو الذي ينسحب في الوقت المناسب، يختفي وهو في قمة
القوة والنجاح والمجد، وقبل أن تنحسر من حوله الاضواء، وقبل أن
يبتعد عنه جمهوره، وحتي لا يضطر هذا الجمهور أن يحييه ويصفق له
بدافع الشفقة وليس بدافع الإعجاب».
لكن كل شيء لا بد أن تكون له نهاية.. هذه هي إرادة الحياة.. نجوم
تنطفئ.. ونجوم أخري تأخذ مكانها وتضيء الكون والحياة بنور الفن..
وجوه معروفة تختفي ووجوه أخري أخري تبدأ نفس الرحلة.. والناس لن
يظلوا طول العمر يصفقون لشخص واحد.. وعندما يختفي من عالم
الأحياء.. ونسمع الذين يقولون لقد كان عظيما، وكان رائعا ولن
يتكرر.. وأن مكانه لا يملؤه أحد.. وأنه.. وأنه.. ثم نكتشف بعد أيام
أو شهور قليلة أن هذا كله ليس إلا كلمات عاطفية وأن نجوما وأسماء
أخري بدأت في الظهور وتأخذ مكان الذين رحلوا، بل ويبادلهم الجمهور
حبه وإعجابه كما كان يفعل مع الراحلين.. هذه هي الحياة.. وسيظل
الإنسان ضعيفا عابرا.. مهما طال بقاؤه فلا بد أن يرحل في النهاية.
وأنا لا أحب أن يعامل الفنانون مثل الخيول.. عندما يكبرون نطلق
عليهم الرصاص من شدة حبنا لها وإشفاقنا عليها.. إنه الحب القاتل..
ولا أحب أن يعامل الفنانون مثل الموظفين الذين يجب أن يحالوا إلي
المعاش في سن معينة حتي لو كانت طاقتهم لاتزال شابة متجددة،
وأحيانا يظل الفنان يفرز رحيق الفن حتي سن السبعين والثمانين..
سبنسر تراسي مثلا أو شارلي شابلن أو يوسف وهبي أو عبد الوارث عسر..
منذ عدة سنوات اكتشفت فجأة أنني بدأت أكرر نفسي.. كل حفلة جديدة هي
تكرار للحفلات السابقة.. وكلمات الأغاني متشابهة.. وحتي الميكروفون
الذي أغني أمامه لا يتغير .. ونفس الفرقة الموسيقية ولا يحدث لها
أي جديد.. بل إن أعضاءها لا يغيرون حتي ترتيب جلوسهم .. وحتي نفس
الديكورات التي أقف وسطها أثناء هذه الحفلات لا تتغير هي الأخري
أبدا.
لا يوجد.. لا يوجد.. وأعصابي لم تعد تتحمل وذلك كله .. والصبر كما
يقولون له حدود.. ونفذت قراري الذي اتخذته لا عودة.. لا عودة.. فما
الجديد الذي سأضيفه؟ ومرت أربع سنوات من العذاب .. فابتعاد الفنان
عن فنه هو أقصي عقوبة لنفسه. إنه كمن يحكم علي نفسه فجأة بالإعدام،
لكني ضعفت.. نعم ضعفت.. وعدت مرة أخري إلي البلاتوهات والشاشة
والأضواء.. وكدت أن أنسي قرار الاعتزال الذي اتخذته، ولم يكن قرار
الاعتزال خاصا فقط بالحفلات الغنائية بل حاولت أن أطبقه كذلك علي
أفلامي السينمائية.. وتوقفت فترة عن التمثيل بعد فيلم »أضواء
المدينة» الذي كانت له ظروفه الخاصة التي شرحتها.. وقلت لنفسي ما
دمت لا أجد القصص والأدوار الجديدة.. فقد آن الأوان لكي أقول لا
للمنتجين والمخرجين.
لا زوج أحبه ويحبني.. ولا طفل أعطيه كل عطفي ورقتي.. ولا شيء سوي
الصمت الثقيل والوحدة القاتلة.. والوحدة فظيعة.. والفراغ أفظع..
وشعوري بالقلق لا يزداد إلا إذا كنت بلا عمل.. إنني أحس بانقباض
شديد في معظم هذه الليالي.. وفجأة أجد نفسي قد انتفضت من نومي في
الثالثة أو الرابعة صباحا.. وأسأل نفسي لماذا أنا قلقة؟ لماذا كل
هذا الانقباض؟ هل السبب عدم وجود الزوج الوفي الذي يعيش لي وأعيش
له حتي آخر دقيقة من عمري؟ أم هو عدم وجود الطفل الذي أجد فيه صورة
المستقبل الذي أصبح بالنسبة لي مقبضا مزعجا؟ أم أن السبب هو البقاء
بلا عمل وإلحاح فكرة الاعتزال علي عقلي؟ ألا يكفيني هذا العذاب
الذي التهم سنوات عمري.
وأمي العزيزة سعيدة.. تروح وتجيء داخل الشقة بنشاط غريب علي
عمرها.. إنها ليلة مولدي.. وهي دائما تنتظر هذه الليلة.. لأحتفل
بمرور عام جديد آخر في حياتي.. ولأقف مع الألوف لأدعو معهم في هذه
الليلة التي تسستجاب فيها الدعوات.. يارب احمني من الشعور
بالوحدة.. فلا زوج ولا ابن.. ولا ابنة.. وهذه إرادتك.. ولا اعتراض
لي عليها.. وأن قلب الأم التي حُرمت من مشاعر الأمومة هو الذي
يناجيك .. وروح الزوجة التي حُرمت من السعادة هي التي تبتهل إليك،
يارب حاولت أن أفهمهم لكنهم لم يفهموني، يارب أعطيتهم كل مشاعري
المخلصة بلا حساب فلم آخذ منهم غير التجاهل والنكران، إنني لا أحمل
لهم في قلبي حقدا ولا أضمر لهم شرا.. يارب هذه حياتي أمامك.. بكل
حلوها ومرها.. فسامحني إذا كنت أخطأت.. وساعدني إذا كنت ضللت
الطريق.. وحقِّق لي في أيامي القادمة السعادة التي عشت أبحث عنها..
يارب .. يارب.
####
دموع »الدلوعة«
الفشل يلاحقني فشلت في زواجي ثلاث مرات.. صفحات من
مذكراتها
إيريس نظمي
كانت إذا وُجدت في أي مكان تملأ الدنيا فرحا ومرحا
وسعادة.. لكن الواقع كان غير ذلك.. كان مليئا بالحزن والألم
والدموع..
حين بدأت أكتب مذكراتها كانت أيام شتاء.. وكانت شادية تكره وقت
الغروب وهو الوقت الذي كنت ألتقي فيه بها.. فتقوم بإسدال الستائر
لكي لا تري جو الشتاء الكئيب.. ومن تحت البطانية أجلس أمامها وهي
تروي لي ظروف حياتها ومآسيها.. يضفي علي هذا الجو الدرامي صوت
الناي الحزين المنبعث من عازف الناي الذي يجلس علي النيل نوعا من
الحزن والشجن.
فشلت شادية في زواجها ثلاث مرات.. وكانت أمنية حياتها أن تصبح
أما.. وأن يرزقها الله بطفل.. لكن القدر لم يشأ.. وفقدت شادية أعز
حلم في حياتها.
ووسط هذا الضباب الكثيف والشعور بالفشل ظهر في حياتها فريد الأطرش،
وكان الحب الكبير في حياتها.. لكن هذا الحب وصل إلي طريق مسدود
بسبب »الشلة» التي كانت تسهر عنده يوميا والكرم الزائد عنده الذي
كان من الصعب أن يتنازل عنه.
حين جاءت أول فرصة عمل معه ورشحني المخرج يوسف شاهين للمشاركة في
بطولة فيلم »ودعت حبك» اكتشفت أنه إنسان آخر غير الذي كنت أعرفه من
قبل.. إنه إنسان طيب وحنون جدا وكريم إلي أبعد الحدود.. إن قلبه
طيب كقلب طفل.. كما اكتشفت أيضا أنه خفيف الظل علي عكس ما كان
يُشاع عنه.. أشياء بسيطة تفرحه أما النقد القاسي فكان يبكيه..
ووجدته مثالا للرجل »الچينتلمان» الذي يعامل المرأة باحترام..
أحببت فريد الأطرش.. وكانت ذكريات رائعة تلك التي قضيتها معه.. لم
يكن يكدرها سوي غيرته التي كان يشعلها في قلبه بعض المقربين له من
الذين لاحظوا انشغاله بي عنهم.. أمضيت معه أياما حلوة مرحة.. لكنها
كانت حياة مرهقة قلقة غير مستقرة من الصعب أن يغيرها.. حياة مليئة
بالسهر والأصدقاء والكرم الزائد الذي لا ينتهي.. كان يريد الناس
باستمرار من حوله.. الاستقرار بالنسبة له شيء صعب.. أما بالنسبة لي
فهو شيء ضروري.. وبدأت أشعر أن حياتنا لا يمكن أن تستمر بهذه
الصورة.. وقررت الهروب منه بحثا عن الاستقرار.. ظننت أن ارتباطي
برجل آخر هو الحل الوحيد.. لذلك تزوجت عزيز فتحي.. وكان هذا القرار
المتسرع أكبر خطأ ارتكبته في حياتي.. أمضيت عشرة أشهر زواجا منها
خمسة شهور في المحاكم وطلبني في بيت الطاعة.
• • •
رغم فارق السن بينهما تزوجت شادية عماد حمدي »فتي الشاشة الأول»
وأمضت معه أربعة أعوام ذاقت فيها حلاوة الحياة ومرارتها كما تقول:
»إنه مثال للرجل الذي ترتاح إليه المرأة وتشعر إلي جانبه
بالاطمئنان.. كنت أتمني أن أنجب أطفالا في ذلك الوقت لكني لاأزال
صغيرة ولابد أن أهتم أولا بعملي رغم حبي الشديد للأطفال ومشاعر
الأمومة القوية في داخلي.
لكن الغيرة القاتلة بدأت تهدد حياتنا، فعماد أصبح يغضب بسرعة كلما
شاهدني أتحدث مع شخص آخر.. إنني بطبيعتي إنسانة أحب المرح والضحك
وهو بطبيعته إنسان جاد ووقور.
إن فارق السن بيننا كان له دوره في فشل هذا الزواج.. وبدأت
الخلافات تدب وتصل إلي صفحات الجرائد والمجلات.. وأصبحنا في حالة
توتر.. ووجدنا أن الانفصال بالطلاق هو الحل.. وافترقنا.
• • •
النجاح في العمل ليس هو كل شيء بالنسبة للمرأة.. إنها مهما نجحت في
عملها وحتي لو وصلت إلي منصب المديرة أو الوزيرة فهي تشعر أن هذا
النجاح لا قيمة له إذا لم تكن قد أنجبت أطفالا.. الأمومة أعظم شيء
في حياة المرأة بل هي حياتها كلها.
إن الرجل قد يجد نفسه في نجاحه، في عمله.. لكن المرأة لا تجد نفسها
إلا في تجربة الأمومة.. وهذا الشعور بالنقص لن يزول إلا يوم أن
تصبح أما مثل كل الأمهات وأنجبت طفلة جميلة أو طفلا وديعا تعطيه
حبها ووقتها بل وحياتها نفسها.. أمنية تحققها كل يوم عشرات
الأمهات.. لكن حياتي غير المستقرة حرمتني من هذه الأمنية.
وتجري سنوات العمر بسرعة وأشعر بالفزع عندما أتصور نفسي وصلت إلي
سن الأربعين أو الخمسين دون أن يكون لي طفل أو طفلة يملؤون عليّ
بيتي وحياتي.. لقد حققت كممثلة نجاحا لم أكن أحلم به.. لكن من هو
الرجل الذي سأنجب منه طفلي وأعرف معه معني حياة الاستقرار.
• • •
رن جرس التليفون: آلو أنا صلاح ذوالفقار.. فتذكرته إنه ذلك الشاب
الذي قدمه شقيقه المخرج عز الدين ذوالفقار في فيلم »عيون سهرانة» وهو يريد أن أشاركه بطولة فيلم »أغلي
من حياتي».. كان صلاح يعمل بصدق وإحساس لدرجة أنني أحسست أنها تكاد
أن تكون قصة حياته.. وحرّكت المناظر الخارجية التي اختارها شقيقه
المخرج محمود ذوالفقار في مرسي مطروح أحاسيسي علي النحو السريع
لهذا الحب في قلبي وقلب صلاح.. وعادت إلينا مشاعر المراهقة وأصبحنا
نجري ونمرح ونتصرف كالمراهقين.. إن دور صلاح ذوالفقار في فيلم
»أغلي من حياتي» ليس فقط هو الذي جعلنا نعيش كزوجين في بيت واحد مع
الاستقرار.. بل هو أيضا الذي ارتفع باسم صلاح ذوالفقار إلي مصاف
كبار النجوم.
كان النظام من أهم مميزات صلاح.. لقد تعوّد النظام الدقيق في عمله
كضابط بوليس.. وبدأ ينظم لي حياتي المرتبكة.. فتولي مهمة الضرائب
التي كانت من أكبر مشاكلي.. لكن كان الصوت العالي من أبرز عيوبه..
فقد كنت أستيقظ فزعة بسبب صوته الغاضب وشجاره مع الطباخ.
كانت فرصة للإنجاب بعد أن قدمت (150فيلما).. من حقي أن أستريح
قليلا وأن أهتم بحياتي الخاصة بعد هذه الرحلة الفنية الطويلة
الشاقة.. وبدأت أنفذ هذا القرار بدقة عندما بدأت أشعر بحركة الجنين
في أحشائي.. شعور جديد لم أعرفه من قبل يستولي علي قلبي وكل
أحاسيسي.. ونمت علي ظهري كما أمر الطبيب سبعة أشهر عن طيب خاطر
وأنا أحلم بالطفل.. ولم يعد باقيا سوي شهرين.. وبدأت أعد الأيام
الذي سيخرج فيه الجنين إلي الوجود.. ومع منتصف الليل شعرت فجأة
بآلام مبرحة ونقلوني بسرعة إلي المستشفي.. فغبت عن وعيي.. لم أشعر
بشيء.. وعندما أفقت كان بطني ساكنا هادئا لا حركة فيه.. وكدت أصرخ
لكن الذهول قيّد لساني.. ما هذا الكابوس المزعج.
لم أفق من ذهولي إلا في اليوم التالي عندما عدت إلي البيت وتمددت
فوق السرير والحزن يعتصر قلبي ومن حولي صلاح وأختي وبقية الأهل..
وبكيت كما لم أبكِ من قبل.. في نفس الوقت سمعت صوت الناي.. ولكن
صوته اليوم حزين وهو يعزف »واحشني وانت قصاد عيني».. فمع هذا الصوت
كنت سأدلل طفلي.. وانفجرت مرة أخري بالبكاء.. وكأن عازف الناي شعر
بمأساتي فتوقف عن العزف مع غروب الشمس الذي أحسست فيه بغروب الأمل.
• • •
مر وقت طويل قبل أن أتماسك وأعاود حياتي العادية وبدأت أنشغل
بمجموعة من الأفلام الكوميدية التي كانت بدايتها الناجحة »مراتي مدير عام» و»الزوجة
13» و»عفريت مراتي» و»كرامة زوجتي».. رد فعل طبيعي للحالة التي
انتابتني.. كنا نؤدي معا أنا وصلاح دور الزوجين في البيت وعلي
الشاشة أيضا.. واستطعنا بذلك أن نتعرض لمشاكل المرأة العاملة وهي
مشاكل جديدة علي الشاشة.
وكان فطين عبدالوهاب.. رحمه الله.. مخرج هذه السلسلة الكوميدية من
الأفلام الناجحة.. كان بالنسبة لي صديقا عزيزا يحاول في كل وقت أن
يرفِّه عني بضحكاته لينقلني إلي جو مرح بعيدا عن أحزاني.. ذلك
الفنان الساخر الطيب صاحب القلب الكبير الذي يتسع لكل آلام البشر..
بل هو نوع نادر من الرجال الذين التقيت بهم في
حياتي.. إن البعض يقولون إن الصداقة بين رجل وامرأة أصبحت شيئا
مستحيلا في هذا الزمان.. الصداقة المخلصة البعيدة عن الأغراض
والمنزهة عن الأخطاء.. فدائما نسمع أن الرجل والمرأة لا يجتمعان
إلا إذا كان الشيطان ثالثهما.. لكني أقول لهؤلاء الذين يتصورون
الصداقة بين الرجل والمرأة نادرة الوجود.. أقول لهم »إن فطين
عبدالوهاب كان ذلك الصديق الوفي والرجل الذي يحترم المرأة دون غرض
شخصي.. وتطورت صداقتنا من خلال العمل.. وبمرور الوقت تفاهمنا
وتقاربنا أكثر.. كان يفهم بسرعة مذهلة ما يدور في عقلي قبل أن أنطق
به.. وينفذ لي ما أريده قبل أن أطلبه.. كان يشعر بأحاسيسي الداخلية
دون أن أشكو.. يعرف إذا ما كنت حزينة أو سعيدة أن العمل معه متعة
شديدة.. وذلك بالرغم من أنه كان يعاني من أشياء كثيرة أخفاها في
صدره منها انفصاله عن زوجته ليلي مراد وكانت حالته النفسية سيئة
وأيضا حالته الصحية.. وكان وقتها يخرج فيلم »أضواء المدينة».. كنا
نتألم ونحاول أن نخفي عنه دموعنا وأشفاقنا عليه.. وكان لابد أن
يتأثر الفيلم بذلك كله.. لكن فطين ظل يعمل حتي آخر يوم في حياته..
وبعد رحيله كنت أتحاشي أن أمشي في شارع عدلي الذي كان يعيش فيه..
رحل فطين عبدالوهاب.. لكن تظل أفلامه تعيش في ذاكرتنا ووجداننا.
• • •
من أجمل ما قالته لي شادية: »الشموع تنطفئ بعد أن تضيء للناس طريق
الحياة».
تصادف أننا أنا وهي من مواليد برج الدلو.. وربما نتمتع بنفس
الصفات.. فبرج الدلو هو برج العطاء وأصحابه هم الذين يعطون بسخاء
ولا يأخذون شيئا.. »لقد أعطيت الكثير ولم آخذ شيئا.. ولكن تبقي من
الإنسان الذكري.
لقد حان وقت الاعتزال.. وسأترك الأضواء قبل أن تتركني»..
• • •
لن أنسي أبدا يوم ذهبت لأؤدي واجب العزاء لشادية في وفاة شقيقها
الذي كان كتوأم لها.. الذي توفي متأثرا بمرض السرطان.. لكني لم
أجدها بالمنزل وقالوا لي إنها ذهبت إلي المسرح.. ذهبت شادية لتؤدي
دورها »ريا» في هذه المسرحية الناجحة »ريا
وسكينة» التي شاركها فيها سهير البابلي.. ومدبولي.. وأحمد بدير..
كم يعاني الفنان الملتزم بالمسئولية.. فما ذنب الجمهور الذي
ينتظرها بشوق.. فحتي (حرية الحزن) والبكاء لا يستطيع أن يتمتع
بها.. وذهبت إلي المسرح لأشاهدها وهي تقدم البهجة والسعادة
لجمهورها بينما قلبها يدمي بالبكاء.
####
عزيز فتحي .. طلبني في الطاعة
والقوي السياسية .. زوجتني الكاتب الكبير
وفي مذكراتها التي نشرتها »آخر ساعة» بقلم الكاتبة
إيريس نظمي، روت شادية تفاصيل زيجاتها الثلاثة..
بعد فشل قصص الحب والزواج في حياة الفنانة الراحلة شادية قالت في
مذكراتها هل أفعل مافعلته جوليت .. هل انتحر مثلها بعد فشلها في
الزواج من روميو؟ أم هل أفعل مثلما فعلت فاتنة السينما مارلين
مونرو وانتحرت بعد فشلها في الحب والزواج؟ لكنني وجدت أن المشكله
لن تحل بكاس شراب أو انتحار، لن تحل إلا بالعمل وتحت الأضواء وداخل
الاستديوهات والبلاتوهات وأمام الكاميرات فقررت أن أمضي كل وقتي
حتي لا أصبح وحدي
.
أول »دقة» قلب لشادية كانت للضابط أحمد، ابن الجيران، الذي كان له
الفضل في اندفاعها نحو السينما بعدما تلقّت خبر رحيله في العرض
الأول لأحد أفلامها خلال مشاركته في حرب فلسطين في العام 1948،
فكثّفت من نشاطها السينمائي كجزء من الصدمة العاطفية التي تلقتها.
إلا أنها وبعد سنوات، تزوجت من عماد حمدي الذي كان يكبرها بأكثر من
20 عاماً، لتعقد قرانها في العام 1953 رغم رفض عائلتها. هذا الزواج
عمّر ثلاث سنوات، فانتشرت حينها أقاويل أشارت إلي أنّ شادية هي مَن
تعيله، بعدما ساءت ظروفه المادية، فضلاً عن غيرته الشديدة عليها
انتهت بصفعها أمام أصدقائهما في إحدي الحفلات، فكان القرار الآن.
أما قصة الحب التي لم تنسها شادية فهي تلك التي عاشتها مع الراحل
فريد الأطرش، إذ تحولت مشاهد الحب بين الثنائي إلي حقيقة في فيلم
»ودّعت حبك» الذي كان الشرارة الأولي بينهما، وفق مذكرات الأطرش
التي دوّنها الكاتب المصري فوميل لبيب.
بيت الطاعة
وكان زواجي السريع من عزيز فتحي نوعا من الهروب، لقد قررت أن أهرب
من حب فريد الأطرش بالزواج ظننت أن ارتباطي برجل آخر هو الحل
الوحيد وكان ذلك القرار من أكبر الأخطاء التي ارتكبتها في حياتي..
إنني إنسانة مندفعة.. والاندفاع في العمل مفيد للفنان.. لأنه يقربه
من النجاح.. أما الاندفاع في اتخاذ القرارات الخاصة التي تمس حياه
الإنسان الخاصة فغالبا ما يكون خطرا كبيرا عليه، لكن آخر ما كنت
أتصوره أنه سيطلبني في (بيت الطاعة) يوم بائس جدا ذلك الذي ذهبت
فيه بصحبت والدي إلي المحكمة.. لكن المحامي الخاص قال لي (لابد أن
تذهبي لأنهم سيواجهونك بعزيز فتحي.. ويجب أن تقولي كل شيء).
وفي السابعة صباحا كنا نقترب من محكمة الجيزة وفوجئت بأناس كثيرين
لا أعرفهم في انتظاري وهم يحدقون في وجهي بذهول .. ويبدو أنهم
تصوروا أني جئت للاشتراك في تصوير أحد الأفلام داخل المحكمة..
لكنهم لم يجدوا كاميرات ولا مخرجا ولا ممثلين آخرين غيري إنها أول
مرة أقف فيها أمام القاضي بدون سيناريو مكتوب فالقاضي ليس ممثلا
والقضية ليست وهمية.. وأنا المتهمة أو أنا التي يجب أن أدافع عن
نفسي لابد أن أقول إني مظلومة لا تصدقوا كل ما قاله لكم.. اسمعوا
مني الحقيقة، أنصفوني منه لقد حول حياتي إلي جحيم ياسيادة القاضي..
أهان مشاعري أمام الغرباء... أحرجني كثيرا ياحضرات المستشارين.. لم
يفهم أني إنسانة قبل أن أكون فنانة تعمد أن يضايقني أمام الضيوف
لكي يثبت لهم أنه الرجل صاحب الكلمة الأولي.. وأنني لا أساوي شيئا
إلي جانبه.. إنه يريد أن ينتقم مني ياسيادة القاضي لا تصدقوه
ياحضرات المستشارين... واسمحوا لي أن أحكي بقية قصتي معه.. وواصلت
شرح مشاكل حياتي مع عزيز فتحي.. التعارف السريع الذي حدث بيننا،
وبدأ القاضي يناقشني في أمور حياتي أمام كل هؤلاء الناس الذين لا
أعرفهم ووجدوا أنفسهم فجأة يعرفون كل أسرار حياتي الزوجية.. وكم هو
شيء جميل أن يشعر الإنسان بأنه يمتلك حياته الخاصة وبأن أسرارها
وخباياها ملك له وحده، أما لو أصبحت هذه الأسرار والخبايا حقا لكل
راغب في الحديث عنها فإن الحياة نفسها تصبح بلا طعم أومعني بل
يصبح مذاقها مرا جدا، وأصر عزيز فتحي إصرارا عجيبا علي ذهابي إلي (
بيت الطاعة).. وكان الطلاق من عزيز فتحي هو النهاية الوحيدة التي
تريحني من هذا العذاب الذي أوقعت نفسي فيه بسبب تهوري واندفاعي.
بكاء السماء
سافر فريد إلي لبنان هربا من حبه لي لكن صورته كانت تطالعني في كل
مكان أذهب إليه وصوته واسمه كان يتردد باستمرار من حولي، بل كنت
أجده في الأماكن التي زرناها معا وعشنا فيها أوقاتا سعيدة، وعاد
فريد الأطراش إلي القاهرة بعد غيبة طويلة في لبنان لكي يمثل فيلمه
الأخير (نغم في حياتي) كانت صحته قد بدأت تتدهور وسالت عنه
بالتليفون لأستفسر عن صحته، وقالوا لي إنه يعاني من آلام (النقرس)
وذهبت إليه وكانت أول مرة أدخل فيها بيته بعد سنوات طويلة من
الفراق وكان فريد الاطرش يجلس مع جلال معوض وليل فوزي زوجته وابتسم
فريد وقال لي (نفسي آكل بامية من إيديكي يا شادية) وفي اليوم
التالي عدت إليه وطهوت له البامية مع أنه كان ممنوعا من أكلها بأمر
الطبيب وقال لي فريد يومها (عندك مانع تغني معايا ياشادية في
لبنان) وقلت له علي عيني يافريد، وعدت إلي الفندق ..ودق جرس
التليفون ووجدت فريد يقول لي (سأعود للغناء مرة أخري ... تعالي)
وما الذي حدث له أنه لايريد أن يتوقف أبدا عن الغناء، هذا انتحار
كيف يتحمل قلبه المريض كل هذا الإجهاد؟ وعدت لأقول له كفي يا فريد
، لابد أن تستريح وجلست في الكواليس وأنا أتطلع إليه وكأني أراه
المرة الأولي في حياتي، شابا باسما يتحدي المطر ويغني للحب وسط غضب
الطبيعة تحت دموع السماء التي تسقط بغزارة إشفاقا عليه من النهاية
المؤلمة التي كانت تزحف نحوه فليس هناك قوة في العالم تستطيع أن
توقفه عن الغناء حتي لو كان الموت نفسه، وانقبض قلبي وكاد يتوقف
وأنا أسمعه وهو يقول للجمهور:
(هذه
آخر مرة أغني لكم وهذه آخر أغنية) وبعد أن انتهي من الأغنية قلت له
(ما الذي تقوله يافريد.. أنت دائما تقول كلاما يوجع القلب) وأحسست
وأنا أصافحه بأن يديه باردتان كالثلج وقبلني فوق خدي كانت الساعة
الخامسه صباحا... لولا أن دوري في الغناء كان قد حان لما كنت تركته
أبدا صاحب القلب الدافئ واليدين الباردتين وقال لي فريد (لازم تيجي
بعد انتهائك من الغناء سأنتظرك علي مائدة الإفطار) كان نور الفجر
قد بدأ يظهر، أنها أول مرة أغني فيها تحت نور الفجر وانتهيت من
الغناء في السادسة صباحا وأنا أشعر بإرهاق شديد فالضغط الذي أشكو
منه بدا يرتفع فجأة بسبب صعودي إلي هذا المكان المرتفع فوق الجبل،
لقد غنيت اتعودت عليك يا حبيبي» وكأني كنت أغنيها له.»
ابني
بدأت أعطي كل حناني لخالد ابن شقيقي.. إنه التعويض الوحيد لمشاعر
الأمومة المكبوتة داخلي.. هو ابني.. أقصد مثل ابني.. وابن أخي
يعتبر ابني بالنسبة لي مثل التوءم.. وكان طاهر قد تزوج فتاة تركية
من استانبول وأنجب منها خالد.. ولم يدم الزواج أكثر من ثلاثة
أعوام.. قررت الزوجة أن تعود بعدها إلي بلدها استانبول بسبب مرض
أمها، وقبل عودتها إلي تركيا جاءتني وقالت لي: »سأعود إلي بلدي
استانبول.. وسأترك لك خالد أمانة عندك.. وأنا اعلم أنك ستراعينه
أكثر مني.
وكأن الله أراد أن يعوضني عن حرماني الطويل من مشاعر الأمومة..
ورزقني بهذا الطفل الجميل ابن أخي طاهر الذي وافق علي أن يظل ابنه
معي ومع أمي يملأ علينا حياتنا بهجة.
مراكز القوي
ذات ليلة دعيت إلي بيت المخرج محمود ذو الفقار ، وأثناء الزيارة
فوجئت به يعرض عليه دور امرأة في الستين من عمرها، وقلت له أريد
فرصة لكي أفكر ، وتردد وطال التفكير خصوصا بعد أن شاهدني الجمهور
في أدوار البنت الجميلة الدلوعة، هل أظهر للجمهور في دور امرأة
بشعر أبيض ووجهي الذي تغطيه التجاعيد وبدون أن أقدم أغنية واحدة
في الفيلم، لأني سوف أمثل فقط ولن أغني
.
لم أكن أتصور أن المرأة المجهولة سوف تكون أشهر امراة علي الشاشة ،
كان المكياج دقيقا جدا لدرجة أنني لم أصدق أنني أنا المرأة
المجهولة ، لدرجة أن أمي جاءت تسأل عني في إحدي مرات التصوير ومرت
بجواري ولم تعرفني، وبدأت تسأل عني الجميع وأنا أقف بجوارها، ولم
أستطع منع نفسي من الضحك وقالت »هذه ضكحة ابنتي» وقالت لي وهي تضحك
هذه المرأة تشبهني.
أذكر أنني ذهبت مع عطيات وصيفتي إلي مقاهي شارع كلوت بك لكي نبحث
عن مثل هذه الشخصيات التي تدور حولها روايات الكاتب الكبير نجيب
محفوظ داخل المقاهي والبنسيونات، كنت أضع علي وجهي نظارة سوداء
كبيرة وأضع فوق رأسي إيشاربا كمحاولة لإخفاء ملامحي الأصلية وحتي
لا يعرفني أحد أو يسيء فهم وجودي في شارع كلوت بك الذي التقيت فيه
بالشحصية التي أبحث عنها صاحبة اللبانة والعيون النعسانة السهتانة
التي استفدت منها كثيرا في تمثيل شخصية كريمة في فيلم الطريق.
في هذه الفترة تعرفت بالكاتب الكبير الذي أعتبره مسئولا عن حياتي
الجديدة العاقلة، حياة المرأة الناضجة التي أصبحت تفكر بعقلها قبل
أن تفكر بقلبها
.
دعوة من رئاسة الجمهورية وصلت إلي الكاتب الكبير لحضور حفل عشاء مع
الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، لكن الكاتب الكبير لم يستطع أن
يخفي دهشته فالدعوة ليست موجهة له وحده بل هي أيضا موجهة إلي
»زوجته شادية
».
ورفع الكاتب الكبير سماعة التليفون يتحدث إلي الرئيس الراحل جمال
عبدالناصر في ذلك الوقت ليقول إنه ليس متزوجا، فقال له الرئيس جمال
عبد الناصر بل إنك متزوج شادية.
قال الكاتب: أنا لست متزوجا.
قال له الرئيس: معلوماتنا تؤكد ذلك.
قال الكاتب: ومن الذي حصل علي هذه المعلومات؟
قال الرئيس: مخابرات صلاح نصر.
وضحك الكاتب الكبير وقال: كنت أرجو من مخابرات صلاح نصر قبل أن
تزوجني تأخذ رأيي.
تقول شادية: لم أكن أتصور أن هذه الصداقة تهم أحدا سوي الكاتب
والمرأة، وفوجئت بأنها أصبحت إحدي المسائل العليا في الدولة،
وفوجئت بمقال في جريدة الدولة علي أربعة أعمدة يهاجم الكاتب الكبير
لأنه صديقي وتقول له »حرام عليك، أن فريد الاطرش يبكي في كل مكان
فأعد له المرأة التي يحبها، كأن ذلك الكاتب الكبير ركب دبابة
واقتحم بيت فريد الاطرش وخطفني من هناك».
ثم فوجئت بشائعات كثيرة بعد ذلك تملأ البلد بأن الكاتب الكبير
منعني من الغناء في الحفلات وفي التليفزيون بينما الواقع أن الكاتب
الكبير يلح عليّ أن أغني، وقد كنت قد رأيت أن أعتزل الغناء وأتفرغ
للتمثيل، وكانت أم كلثوم توسط الكاتب الكبير عندي أن يلح عليّ في
قرار العودة إلي الغناء لأنه كان له رأي طيب في صوتي وإلحاح أم
كلثوم عليّ وحسن ظنها بصوتي هو الذي جعلني أعدل عن قراري وأعود
للغناء، لكن الشائعات استمرت تطاردني بأن الكاتب الكبير هو الذي
أمرني بالعودة إلي الغناء، وعندما بحثت في ذلك وجدت أن هذه
الشائعات ليست شائعات من الشارع، إنما هي شائعات يرددها مسئولون،
وكان المقصود هو حملة كراهية ضد الكاتب بالذات.. ثم علمت قيام أن
بعض المسئولين يتصلون بالصحف في البلاد العربية وينشرون فيها شائعة
منعي من الغناء وشائعة زواجي ولكنني صمدت وقيل لي إنني برئية وأن
الكاتب بريء وأن المقصود من هذه الحملة هو تغطية علي صداقة كبيرة
بفنانة كبيرة
..
كانت صداقتي بذلك الكاتب الكبير من أجمل فترات حياتي، فترة عاقلة
رائعة وجدت فيها نفسي الضائعة التي كانت معرضة للضياع أشد لو لم
أعرف ذلك الكاتب الكبير صاحب العقل الراجح والقلب الحنون الذي
تعلمت منه دروسًا في الحب والحياة لن أنساها أبدا، إنني أدين له
بالكثير بل إنه المسئول الأول عن ذلك النضج والعقل الذي بدأ يظهر
في تصرفاتي وأداوري وأفلامي وعلاقاتي بالناس من حولي، لكنها كانت
مرحلة عمل ونشاط ونجاح.. لا أريد مجنون شادية الذي يهدم حياتي فوق
رأسي وقد جربت قبل ذلك نوعا من الحب والجنون وحب الغيرة والشك وعدم
الثقة لكن الرجل العاقل هو الذي يقدم الحب العاقل.
لكن الصديق العاقل لم يكن يحبذ فكرة الزواج وكان صعبا أن أقنعه
بالزواج مني لأن زواجي منه قد يسبب له الكثير من المشاكل، غريبة
هذه الحياة مجانين الحب هم الذين تزوجتهم بسهولة، أما عقلاء الحب
فهم غير القادرين علي الزواج مني، لكن رغم ذلك لم أكن حزينة،
فالكاتب الكبير أعطاني الكثير، وكانت أمنيتي أن أتزوج منه ويكون لي
أولاد، لكنني وجدت في ذلك الوقت أن عمله هو بيته، وحياته هي عمله،
وأولادة هي الأعمال الأدبية التي يقوم بها، فـانسحبت لأنني أريد
بيتا حقيقيا، وأولادا حقيقيين، وحياة علي الأرض. |