«شادية»..
أقوى من الزمان
رحلت «شادية»، رحلت بنت مصر «المعجونة» لحمًا ودمًا
بماء وتراب مصر، رحلت من ملأت قلوب الجميع بالحب، بكل أنواع الحب..
حب الوطن والابن والحبيب والزوج وفوق هذا حب الله، ورغم أنها
انسحبت منذ سنين معلنة أن رسالتها الفنية قد انتهت، فإن المصريين
كانوا يتمنون لو نالوا منها ومن فنها المزيد، فقد كانت مثل النبع
الذى لا يجف أبدًا والروح الممتلئة ببريق من الحياة لا يمكن أن
ينطفئ ولا حتى بالاعتزال والاعتكاف. كانت بجسدها الصغير قادرة على
احتضان جميع المصريين، لم تتهاون ولم تهدأ طوال 47 عامًا هى عمرها
الفنى ولم يخفت وهج أعمالها الغنائية والسينمائية من عام 1947 وحتى
الآن وأظن - بل أوقن - أنه لن يخفت أبدًا.
فى حياة كل مصرى ذكرى لأغنية أو فيلم من إبداع «شادية».. البنات
يجدنها حاضرة فى كل المواقف، إذا خذلك الحبيب استمعى إلى «فارس
أحلامى»، وإذا كنت منتظرة الحب فـ«شباكنا ستايره حرير»، إذا لم
تجرؤى على الاعتراف بالحب فعليك بـ«مكسوفة»، إذا أحببت ابن الجيران
فإليك «مين قالك تسكن فى حارتنا»، وإن كان ابن عمك فـ«غاب القمر يا
ابن عمى»، ولو اسمه حسن أو حسين فـ«سونة يا سونسون».. إذا جاء
اليوم الذى تنتظرينه فـ«يا دبلة الخطوبة» و«على عش الحب»، وعندما
تصبحين أمًا فبالتأكيد «سيد الحبايب»، أما الرجال فيعشقون هذا
«الدلع»، وهى تتغنى بـ«وحياة عينيك» و«يا سارق من عينى النوم»
و«معلش النوبة دى»، وإذا قرر الرحيل فربما ترده «خلاص مسافر» عن
القرار.
صوت «شادية» - رغم غياب جسدها - ملأ الميدان فى كلتا الثورتين.. لم
يتوقف الثوار عن سماع «يا حبيبتى يا مصر».. تلك المعشوقة الساكنة
فى القلوب أعطتنا كل شىء، الضحكة والدمعة، القوة والهوان، الرفض
والاستسلام، وأكثر من اعتنت بهم بنات حواء، حيث أنصفت المرأة بمجرد
وصولها لمرحلة النضج الفنى.. ارفضى الزوج المستهتر متعدد الزواج فى
«الزوجة 13».. اعملى وحققى ذاتك فى «مراتى مدير عام»، ارفضى
الخيانة الزوجية فى «كرامة زوجتى»، تمردى وكونى قوية قادرة على
الصمود أمام أى طاغية فى «شىء من الخوف».
«شادية»
التى تعاملت مع كل أنواع الأفلام، الجاد والكوميدى، والميلودرامى
والرومانسى الخفيف، والسياسى والفانتازى.. كانت تناسب أى شخصية
ترتدى ثوبها، بنت أفندى أو هانم أو فلاحة أو حتى فتاة ليل.. امتلكت
البراءة بقدر ما امتلكت المكر، والبساطة والتواضع بقدر التعقيد
والغرور.
«معبودة
الجماهير» منحتنا الكثير وكانت تستحق أن نمنحها تكريمًا وتقديرًا
أكبر مما نالته.. وداعًا معشوقة الجميع.. وداعًا ست الكل وحبيبة
الكل.. وداعًا «شادية».
####
الإعلامى «إمام عمر»:
«شادية» لم تتبرأ من فنها أبدا
كتب : هبة محمد علي
فى حوار أجراه الصحفى «جليل البندارى» مع الفنانة
شادية عام 1958 فى مجلة «آخر ساعة» بمناسبة عيد ميلادها سألها عن
أكثر ما يخيفها فى الحياة، فكانت إجابتها: «أخاف من الفئران،
والصحفيين، وقيادة السيارات فى الزحام»، ولعل وضعها للصحفيين ضمن
قائمة أكثر الأشياء التى تخيفها فى بدايات حياتها الفنية، كانت
ترجمته فى السنوات الأخيرة أنها قد وضعت سياجًا على حياتها الخاصة
لم يستطع أحد اختراقه، ورغم المحاولات العديدة لكثير من الأسماء
اللامعة فى عالم الصحافة والتليفزيون لإجراء مقابلات معها، فإن كل
تلك المحاولات قد باءت بالفشل.
لم يستطع الجمهور سماع صوت معشوقته مجددًا سوى من خلال بعض
المكالمات التليفونية التى أجراها بعض الإعلاميين معها بغرض
الاطمئنان على صحتها، ثم أعادوا بثها مرة أخرى فى برامجهم، لكن
يبقى الحوار الإذاعى الأخير لـ«شادية» قبل الاعتزال، والذى ظل حبيس
الأدراج لأكثر من 30 عامًا، بطلب منها كاشفًا عن جوانب كثيرة فى
شخصيتها، وعن قصة ذلك التحول الذى جعل الإعلاعى القدير «إمام عمر»
يختتم اللقاء بجملة (أشعر أننى أمام شادية جديدة).
«روزاليوسف»
حاورت «إمام عمر» كأحد شهود العصر على زمن الفن الجميل، وباعتباره
موسوعة حكايات فنية شيقة، ليحكى لنا عن علاقته الوطيدة بالفنانة
الراحلة «شادية»، وكواليس أفلامها، وحفلاتها، وعن سر حوارها الأخير
معه قبل الاعتزال، والذى أذيع العام قبل الماضى فى إذاعة الأغانى
لمرة واحدة، ثم عاد حبيس الأدراج مجددا.
·
فى البداية حدثنا عن علاقتك بـ«شادية»، وكيف تعرفت
عليها؟
-
التقيت شادية عدة مرات فى كواليس عدد من أفلامها، حيث كنت أسجل
لقاءات إذاعية مع أبطال تلك الأفلام، ومنها «زقاق المدق» عام 1963،
و«ميرامار»، و«شىء من الخوف» عام 1967، لكن الصداقة الحقيقية بيننا
بدأت فى السبعينيات، فى إحدى حفلات ليالى أضواء المدينة التى كانت
تنقلها الإذاعة على الهواء من الإسماعيلية، حيث أخذت ميكرفون
الإذاعة، وذهبت به إلى غرفتها فى الاستراحة طالبًا تسجيل لقاء
معها، ولكنها اعتذرت لأنها لا تحب أن تنشغل يوم الحفل سوى بما
ستقدمه على المسرح حتى لا تفقد تركيزها، ثم أردفت: (روح لأبو نور
هو هيقول لك كل اللى أنت عايزه) «وأبونور» هو الفنان «محمد
عبدالمطلب»، الذى كان يشاركها الحفلة، وبالفعل ذهبت وسجلت لقائى مع
«عبدالمطلب»، ولأنها سيدة راقية وحساسة، اعتقدت أنها أحرجتنى
برفضها للحوار معى، فتحدثت معى بعدما انتهيت من حوارى مع
«عبدالمطلب»، وسألتنى ما إذا كان حوارى موفقًا معه، ومن هنا بدأت
علاقتى الحقيقية بها.
·
من بين حواراتك المتعددة معها، احكِ لنا عن حديثها
معك قبل التسجيل؟
-
سأختار حوارى معها فى مسرح المتحدين، حيث كانت تؤدى مسرحية «ريا
وسكينة»، لأن كواليسه مختلفة، حيث كان هناك أحد البنوك وقتها
يستخدم أسلوب دعاية جديدًا، بأن يمنح بعض المشاهير خمسة جنيهات
ذهبية بمناسبة رأس السنة، على أن نقوم بالتسجيل معهم أثناء
الاستلام، وعندما ذهبت لها، اعتذرت عن قبول الجنيهات الخمسة،
واقترحت إهداءها لأول شخص يطرق باب غرفتها فى المسرح، وجلسنا نتحدث
بعض الوقت، حتى طرق الباب ماسح الأحذية فى المسرح، يسأل عن الفنان
«أحمد بدير»، لأنه أرسل له يريد تلميع حذائه، فقالت له أن «بدير»
يجلس مع «سهير البابلى» فى غرفتها، ثم طلبت منى إهداءه الجنيهات
الذهب، وهو ما حدث بالفعل، حيث كانت سعادة الرجل لا توصف، عرفت
يومها أنها كانت تخصص كل شهر 10 أظرف بها مبالغ مالية للعاملين
بالمسرح طوال مدة عرض «ريا وسكينة».
·
وماذا عن حوارك الأخير معها قبل اعتزالها، والذى ظل
حبيس الأدراج لمدة 30 عامًا؟
-
فى عام 1986 كانت ستغنى أغنية «خد بإيدى» لأول مرة فى حفل الليلة
المحمدية، الذى كان يقام بمناسبة المولد النبوى الشريف، وذهبت إلى
غرفتها قبل الحفل كعادتى، فوجدتها تقرأ القرآن الكريم، وعندما
انتهت طلبت منها تسجيل حوار قصير بمناسبة الأغنية الجديدة، ولكنها
قالت إن اللحن صعب جدًا، وأنها قلقة، وطلبت منى أن أذهب إلى منزلها
عصر اليوم التالى لإجراء الحوار، وفى بداية الحوار، وصفتها
بالفنانة العظيمة شادية، فردت: (لا تقل فنانة عظيمة.. عظيمة دى
كلمة كبيرة أوى.. قل فنانة وبس).. ثم سألتها عن آخر أغانيها «خد
بإيدى» فقالت: (قعدت سنتين قبل ما آخد خطوة الأغانى الدينية، ولم
تكن خطوة متسرعة أبدًا، فقد التقيت بالشاعرة علية الجعار وأنا
بالمدينة المنورة، واتفقنا وقتها على العمل سويا، وقدمت لى وقتها
أغنية خد بإيدى، فشعرت أن هذه بالضبط هى الأغنية التى أريد أن
أغنيها الآن، خاصة أن الأغانى الدينية كلها تشبه بعضها، وكلها
تعتمد على موسيقى الناى الحزين، مع أننا من المفترض أن نقول لربنا
أننا بنحبه بسعادة).. وعن المشاريع التى كانت تنوى القيام بها،
قالت: (نفسى أغنى أغانى دينية للأطفال، وأنا علمت ابن أخويا اللى
عمره سنة وتسع شهور الصلاة، وهو دلوقتى بيركع ويقول الله وأكبر
بحب، ونفسى أعمل أغنية تعلم الكبار والصغار مواقيت الصلاة بالضبط)،
كما تحدثت عن نيتها تحويل فيللتها فى الهرم إلى مدرسة ومشغل
للأيتام.. وعن علاقتها بالله قالت: (أنا بحب ربنا أوى، وبتقيه فى
كل خطوة، وكل لما أبقى متضايقة، أقول دعاء الرسول أحس أن صدرى
انشرح وكل همومى زالت)، وأضافت: (ربنا يخلى لنا الشيخ الشعراوى،
شرحه للمصحف بسيط وبفهمه).. وعن أعمالها فى السينما والتليفزيون
قالت: (لو فى عمل درامى قدامى يناقش قضية مجتمعية تهم الناس هعمله،
لكن أنا مبحبش الأعمال التاريخية).. واختتمت شادية حوارها الإذاعى
قائلة: (أنا غنيت كل أنواع الأغانى: الرومانسية والمرحة والسريعة،
وغنيت كمان فى حب الوطن وده أجمل حب إنك تحب مصر، وشعبها الجميل،
وناوية اتجه للأغانى الدينية، ومش هعمل عاطفى ثانى).
·
48
ساعة فقط تفصل بين تسجيل هذا الحوار وبين قرار الاعتزال.. احكِ لنا
عن تلك الساعات؟
-
انطلقت بعد انتهاء الحوار إلى الإذاعة وأنا فى قمة سعادتى، وذهبت
إلى مديرة الإذاعة وقتها «مديحة نجيب»، أحكى لها عن هذا الانفراد،
فقالت: (احرص أثناء المونتاج ألا تقتطع أى جزء مهم، واتصل بنبيل
عصمت فى أخبار اليوم لينشر لنا خبرًا عن موعد إذاعة هذا الحوار
المتفرد بصفته يوضح مرحلة جديدة فى حياتها الفنية).. بعدها قابلنى
صديق مشترك وقال: (اتصل بشادية لأنها تريدك فى أمر مهم).. اتصلت
فقالت لى: (أعلم أن الطلب سيزعجك، لكن لا تذِع الحوار الآن، فقد
قررت الاعتزال، وكل ما قلته لك من مشاريع تراجعت عنها، واحتفظ به
لديك).
·
ولماذا قررت إذاعته بعد كل تلك السنوات؟ وهل
استأذنتها فى ذلك؟
-
خلال تلك السنوات طلب منى العديد من الزملاء شراء الحوار، وعرضوا
عليّ مبالغ ضخمة من أجل ذلك، لكننى رفضت واخترت تقديمه على إذاعة
الأغانى العام الماضى، بمناسبة عيد ميلادها، حيث احتفلت إذاعة
الأغانى بها على مدار اليوم، وبالفعل اتصلت بابن أخيها «خالد
شاكر»، وأذن لى.
·
فى عام 2014، سجلت «شادية» كلمة لإذاعتها فى
احتفالية عيد الفن بمناسبة تكريمها من الرئيس «عدلى منصور»،
وحصولها على وسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى، وعلمت أنك من
توليت تلك المهمة الصعبة..كيف تم ذلك؟
-
بالفعل حدثنى «هانى مهنى»، حيث كان يتولى اتحاد رئاسة اتحاد
النقابات الفنية، وقال: (أنت الوحيد الذى ستستطيع إقناعها)، وعندما
ذهبت لزيارتها، لم تكن تتذكرنى جيدًا، ورفضت التسجيل، وقالت: (ليس
لديّ ما أقول)، فطلبت منى زوجة «خالد» ابن أخيها أن أعود فى المساء
فى وجوده لنقنعها سويًا، عاودت الزيارة، فطلب منى «خالد» ترك جهاز
التسجيل ومنحه فرصة لإقناعها، وفى اليوم التالى اتصل بى وقال:
(سجلت دقيقتين)، فقلت له: (وأنا لا أريد أكثر من ذلك)، وبالفعل
أذيعت كلمتها على المسرح يوم التكريم.
·
وماذا قالت فى تلك الكلمة؟
- (كل
سنة وأنتم طيبين، أنا سعيدة جدًا إنى معاكم فى عيد الفن.. خدوا
بالكم من مصر).
·
بعد وفاتها بساعات ظهر الفنان «حسن يوسف» يدعى أنها
تبرأت من أعمالها وكانت لا تحب مشاهدتها.. ما رأيك فى هذا التصريح؟
-
ليس حقيقيًا بالمرة، «شادية» كانت تدفع اشتراك النقابة حتى آخر يوم
فى حياتها، ولم تتبرأ من الفن، ولا من أعمالها طيلة حياتها، ويبدو
أن «حسن» يريد أن يطبق نموذج زوجته «شمس البارودى» على الجميع، فهى
الوحيدة التى طالبت بحرق أفلامها، وتبرأت منها.
·
وكيف كانت علاقتها بالفنانين؟
-
كانت جدعة مع الجميع طوال حياتها، وكان المقربون يطلقون عليها
(فتوش) لأن اسمها الحقيقى «فاطمة»، أذكر أن «تحية كاريوكا» قالت لى
فى إحدى المرات أنها اتصلت بها أيام فيلم «شباب امرأة»، وعرضت
عليها الدور، رغم أنه كان صغيرًا، وقالت لها أن «صلاح أبوسيف» شريك
فى إنتاج الفيلم، وأننا نريد أن نساعده، وبالتالى لن تستلمى أجرك
عن الفيلم سريعًا، فاستجابت على الفور، وقالت: «نكتب العقد فورًا،
ويعطينى مستحقاتى وقتما يريد»، فقد كانت علاقتها رائعة مع الجميع،
أما فى آخر أيامها، فقد كانت صداقتها قوية بـ«ياسمين الخيام»،
و«يسرا»، التى كانت تقول لها «يا ماما»، حيث توطدت العلاقة بينهما
منذ تصوير فيلم «لا تسألنى من أنا».< |