القاهرة
| «لا
أحب الأغنيات الوطنية. أراها دائماً أغنيات متهافتة، ضعيفة، يغنيها
أصحابها بلا إحساس بغرض الحشد، وفي مناسبات. بالتأكيد هناك
استثناءات، على رأسها صلاح جاهين، لأنه فقط صلاح جاهين، والاستثناء
الآخر شادية في أغنيتها «يا حبيبتي يا مصر»»! كنا مجموعة من
الأصدقاء يوم جمعة الغضب (28 يناير 2011) نحاول دخول ميدان
التحرير، قنابل الغاز تتساقط حولنا، ونحاول تجنب تأثيرها بطرق
مختلفة.
وسط الزحام تفرقنا، أصبح كل منا بمفرده، لكن الوجوه المحيطة
والأجساد تشكل جسداً واحداً صلباً وإن لم يعرف أصحابه بعضهم بعضاً.
فجأة، انبعث صوت شادية «يا حبيبتي يا مصر». صوت يشدو «ونقول
أحرار... ولازم ننتصر». شخص ما لم يفقد عقله بالقطع، تحرك بسيارته
مقترباً من الميدان مصطحباً معه «الكاسيت والسماعات»، أشعل حماسة
الجماهير بالأغنية. كثيرون منّا دمعت أعينهم من الكلمات. كنا نستمع
إلى الأغنية دائماً بعد انتصارات مباريات الكرة، باعتبارها النصر
الوحيد في مصر الحديثة.
لكن ها نحن نستعيد الأغنية في سياق آخر، مختلف، سياق ثوري يعبّر عن
حب الوطن بالجسد لا بالأغنيات، ولكن هذه الأغنية تحديداً مسّت
قلوبنا في تلك اللحظة. وكلما استمعت إلى هذه الأغنية، تقفز الى
ذهني مشاهد الميدان، تلك اللحظة التي لم تتكرر بعد ذلك!
فاطمة أحمد شاكر كما تقول شهادة ميلادها (8 فبراير 1931 ــ 28
نوفمبر 2017)، أو «فتوش» كما يناديها المقرّبون منها في الوسط
الفني، و«شوشو» كما يناديها أفراد عائلتها، ابنة الثامنة قادها عشق
شقيقتها الكبرى عفاف للفن إلى أن تقلدها، وتقلد أيضاً ليلى مراد
التي كانت مثلها الأعلى. لكن شقيقتها اعتزلت مبكراً، واستمر تشجيع
والدها الذي اتخذ موقفاً نقيضاً من شقيقتها عندما عبّرت له عن
رغبتها في دخول عالم الفن. انتقلت «فتوش» من مرحلة الطفولة الى
النجومية، لتحمل اسماً جديداً «شادية». تعدّدت الروايات حول صاحب
الاسم. قيل إنه يوسف وهبي عندما كان يعمل في فيلم «شادية الوادي»،
وقيل إنّه عبد الوارث عسر الذي لقّبها بـ«شادية الكلمات» لطريقتها
المتميزة في نطق الجمل الحوارية، وقيل أيضاً إنه المخرج حلمي رفلة
الذي اكتشفها كممثلة واختارها لتمثل فيلم «العقل في إجازة». وقد
شاركت في فيلمين قبل هذا الفيلم للمخرج محمد عبد الجواد؛ الأول
«أزهار وأشواك» حيث ظهرت بشكل عابر من دون أي حوار، ثم قامت
بالغناء في فيلم «المتشردة» (1947). أعجب رفلة بصوتها ليدعوها إلى
المشاركة في «العقل في إجازة». لم تكن قد تجاوزت السابعة عشرة.
وكان والدها يرافقها في كل خطواتها. كان أحد مشاهد الفيلم أن يقوم
الفنان محمد فوزي بتقبيلها. وعندما علم والدها، أوقف التصوير،
وانصرف بها. لجأ محمد فوزي ــ منتج الفيلم يومها ـ إلى اتحاد
النقابات الفنية شاكياً، ليأتي والد شادية ويشرح أسباب انسحاب
ابنته من التصوير: «لن أسمح لأحد مهما كان أن يقبّل ابنتي».
المفارقة أن أم كلثوم كانت أحد أعضاء اتحاد النقابات الفنية،
وأيّدت وجهة نظر والد شادية، فوافق فوزي مجبراً على حذف المشهد.
شهدت الفترة من بداية شادية السينمائية (1947) حتى قيام ثورة يوليو
(1952) مشاركتها في حوالى 42 فيلماً من مجموع 115 أدّت بطولتها،
وكان آخر أفلامها «لا تسألني من أنا؟» (1984). في مرحلة ما قبل
يوليو، أجادت أدوار الفتاة الدلوعة، ابنة الطبقة المتوسطة المغلوبة
على أمرها، التي تبحث عن الحب. لكنها مع بداية الثورة تنتقل نقلة
أخرى، متمرّدة على أدوار الدلع لتقدم شخصية الفتاة المقهورة. تشهد
سنوات الثورة، تحديداً الستينيات، نضجها الفني، لتشارك في عشرات
الأفلام التي تعبّر عن سنوات صعود الثورة، وانكساراتها وقضاياها
الرئيسية. في «زقاق المدق» (عن رواية نجيب محفوظ) جسّدت دور حميدة
التي حاول النقاد ربطها بمصر لحظة الاحتلال الإنكليزي. ثم لعبت دور
«نور» في «اللص والكلاب» (محفوظ) حيث جسّدت شخصية المومس، إلا أنها
كانت نقطة النور الوحيدة في حياة سعيد مهران، الذي خانه الجميع.
كانت هي النور وسط غابة لا مكان فيها إلا للصوص والكلاب. وفي «شيء
من الخوف»، أدّت دور فؤادة التي تتحدى الطاغية، وقوانينه وقراراته.
يتزوجها غصباً، لكنها تقاوم طغيانه، وتفتح باب الأسئلة حول
الأوضاع، ليثور عليه الجميع.
ظلّ صوتها صوت الشجن، بقدر ما هو أيضاً صوت الدلع وخفة الروح وفي
«ميرامار»، جسّدت شخصية «زهرة»، الفتاة الريفية التي تحضر إلى
الإسكندرية لتعمل في البانسيون، وتحتك بشخصيات من كافة أطياف
اللحظة السياسة. كانت هي أيضاً، أو بدت رمزاً لمصر، التي تتعرض
لأزمة لكنها غير قابلة للانكسار، وهو ما نجحت ملامح شادية وصوتها
في تجسيده ببراعة.
هكذا كانت ترصد الجانب المظلم من تلك المرحلة السياسية، لكنها
أيضاً لم تهمل جوانب أخرى في أفلامها التي بدت ساخرة مثل «مراتي
مدير عام»، «نصف ساعة زواج»، «عفريت مراتي»...
كانت «ثورة يوليو» زمن صعود شادية. وعندما انتهت الثورة وبدأت
إنجازاتها تتبدّد، اختفت شادية. وقفت للمرة الأخيرة على المسرح،
غنّت الأغنية الدينية: «جه حبيبي وخد بإيدي» (1986) وقررت بعدها
الاعتزال. قالت تبرّر قرارها: «آن الأوان لتلك المرحلة، وليكتفِ
جمهوري ممّا قدمته له، لا أريد أن انتظر حتى تهجرني الأضواء. أريد
أن أظل في ذاكرة الجمهور بأجمل صورة لي عنده». لم تخجل شادية من
ماضيها الفني، كما فعلت كثيرات ممن اعتزلن الفن. لم تتاجر بقرارها.
حافظت على صورتها. ظلّ صوتها صوت الشجن، بقدر ما هو أيضاً صوت
الدلع وخفة الروح!
####
مع بليغ حمدي... تنوّع ومغامرة
شيرين عبده
كان والدها مهندساً زراعياً، هاوياً للغناء يجيد
عزف العود والبيانو. لذا تعلقت الطفلة فاطمة بالغناء، وكان الأب من
الوعي والتفتح بحيث أسند إلى الفنان فريد غصن تعليم ابنته الغناء،
وإلى الفنان عبد الوارث عسر تلقينها أصول مخارج الألفاظ وتدريبها
على الإلقاء والتعبير الصوتي، ولم تخيِّب فاطمة ظنه في حسن التعلم،
وأكملت مشوار شقيقتها عفاف إلى احتراف الغناء، بل فاقتها موهبة.
لم يقف الأمر عند هذا الحد. تقدمت فاطمة إلى لجنة الاختبار في
«استوديو مصر» عندما كان المخرج أحمد بدرخان يبحث عن وجه جديد.
وحازت إعجاب اللجنة بعدما قامت بالغناء والتمثيل، لتصبح هذه الشابة
شادية، وتقدم للسينما ما يقرب من ١١٨ فيلماً إلى جانب مشوار غنائي
احترافي على التوازي. ولعل شادية المثل الحيّ على عدم صحة عبارة
«صاحب بالين كداب»، فقد برعت في كلا المجالين على حد سواء، وإن لم
تكن الجودة واحدة في ذات الوقت.
على الرغم من أن خبرتها في التمثيل تراكمت وازدادت طردياً مع
عمرها، وبالتالي زادت جودة ما تقدمه في السينما، إلا أن هذا لم
يحدث بالمثل لقدراتها الغنائية والأدائية التي فاتها التطور مع
الوقت. برغم ذلك، ميَّز شادية ذكاؤها في الاختيار وقدرتها على
المغامرة والتجربة بما لم تماثلها فيه زميلاتها في الحقبة الزمنية
التي امتهنت فيها الغناء، سواء من حيث موضوعات الغناء أو القوالب
الغنائية. شادية اختارت شخصيات عديدة لتغني من خلالها، بحيث أصبح
لها وجود في كل مناسبة داخل كل بيت على مستوى مصر وأغلب الوطن
العربي. الشابة العروس في «يا دبلة الخطوبة»، الأم في «سيد
الحبايب»، الابنة في «ماما يا حلوة»، والحبيبة الجريئة في «بحبك يا
اسمراني»، الحبيبة الخجولة في «مكسوفة منك»، السيدة الوطنية في «يا
حبيبتي يا مصر»، الغانية في «ايرما لادوس»، العدادة الحزينة في
«والله يا زمن».
وإذا تناولنا قطاعاً معيناً مميزاً من أعمالها الموسيقية، فسيكون
تعاونها مع بليغ حمدي الذي لحن لها الكثير.
وعلى غير عادته في الأغاني القصيرة، ابتعدت ألحانه عن التأرجح
الدرامي بين التراجيدية الحزينة واليوفوريا السعيدة جنباً إلى جنب
عبر المقطع الواحد، وتميزت بالوحدة المزاجية والإيقاع السريع على
طول الأغنية مثل «العين العسلية»، والتجريب في قوالب موسيقية خفيفة
أو غريبة مثل «أحبك قوي». وداخل الجملة اللحنية الواحدة، تميزت
بكثرة الحروف الموسيقية وسرعة الانتقال بينها، ما ناسب الطبيعة
المرحة لأداء شادية ومساحة وخامة صوتها. بينما ظهرت خصائصه اللحنية
المميزة لشخصيته الموسيقية بوضوح في الأغاني الطويلة التي لحنها
لها مثل «آخر ليلة»، متجاهلاً قدرات وخصائص ومساحة صوت شادية
المقيدة التي تميزت بالأداء التعبيري والخامة التي عوضت المساحة أو
الحرفية اللذين ينقصانها في كثير مما قدمت مع بليغ، خصوصاً الأغاني
الطويلة التي قدمت بشكل حي. واللافت عجزها عن إصابة النوتات
الصحيحة في تأديتها لكثير من ألحانه بشكل حي أو تسجيلاً، وهذا هو
الأمر الذي تغاضى عنه الأغلبية من الجمهور في اتفاق ضمني متجاوزاً
إياه للتركيز على أدائها وروحه وقدراتها التمثيلية.
خلد بليغ صوتها بروح الفولكلور حينما خلق له «الحنة يا قطر الندى»
و«آه يا اسمراني اللون» و«سلامة سلامة» وغيرها مما استقاه من روح
التراث المصري الصعيدي، وهو المنطقة المفضلة لديه التي يشتبك معها
بشكل متكرر في مختلف ألحانه للمغنين المصريين.
في 1986، قررت شادية الاعتزال والانسحاب من الساحة الفنية. تزامن
هذا مع أدائها لأغنية «خد بايدي» في الاحتفال بالليلة المحمدية.
وعلى الرغم من اختلاف تفسيرات أسباب الاعتزال وتطرقها المؤذي
لتفاصيل شخصية حياتية، إلا أن شادية موجودة بإنتاجها الموسيقي
والسينمائي الغزير المثير للخلاف.
*
مطربة مصرية
####
نجمة شباك وأسطورة زمنها!
محمد خير
القاهرة
| خلال
الأيام الأولى ـــ الأكثر صعوبة ودموية في «ثورة يناير» 2011 ـــ
خطر لأحد البرامج التلفزيونية أن يجري اتصالاً بالفنانة شادية
المعتزلة منذ عقود. جاء صوتها عبر الهاتف مذعوراً مرتبكاً كأنما من
عالم آخر: «ليه كده يا مصريين؟». كانت تتساءل عن السبب الذي جعل
المصريين «يعملوا كده ببعض».
ربما لم تكن تعي - في غيابها - آنذاك أنّ الصوت المهيمن على
الميادين الآخذة في الانتصار آنذاك، كان صوت أغنيتها «يا حبيبتي يا
مصر».
«يا
بلادي يا أحلى البلاد يا بلادي». كلمات محمد حمزة التي لحنها بليغ
حمدي، كانت تشدو في سماء الميادين يشغلها المصريون من أجهزة كاسيت
السيارات، صوتها العميق القوي الشادي في الأغنية، كان أحد الأوجه
العديدة لصوتها «الدلوع» في «يا دبلة الخطوبة»، فائق الحزن في «يا
عيني ع الولد»، عارم الجاذبية والعاطفة في «وحياة عينيك وفداها
عينيا».
في عبارة مكتوبة بخط اليد، تقول شادية رداً على قراء إحدى المجلات
الفنية في الخمسينيات إن «أمنيتها في الحياة» أن «يكون لديها دستة
أطفال حين تصل إلى عمر الخمسين». ليس مؤكداً نسبة العبارة إلى
شادية، لكن الأكيد أنها لم ترزق الأطفال رغم ثلاث زيجات أشهرها
اقترانها بصلاح ذو الفقار. لا تعطي الحياة كل شيء على ما يبدو، لكن
شادية أعطتها الكثير. لم يعرف عن فنانة غيرها تساوي الموهبة في
الغناء والتمثيل بهذا القدر. كانت نجمات السينما إما مغنيات يمثلن
أحياناً، كأم كلثوم وفايزة أحمد ووردة، أو ممثلات يغنين أحياناً
كهدى سلطان. وباستثناء الموهبة الفذة لسعاد حسني، لم يكن سوى شادية
تجمع بالقدر نفسه بين حنجرة ذهبية وطاقة تمثيلية خلاقة ومتنوعة.
عبّرت عن نفسها في فرصة نموذجية في فيلم «عفريت مراتي» (فطين عبد
الوهاب ـ 1968)، في دور الزوجة المهووسة بتجسيد شخصيات سينمائية
متنوعة.
كانت شادية «إيرما لادوس» المصرية خفيفة الظل قبل شهور من تقديمها
دور «فؤادة» أمام عتريس في الملحمة السينمائية الغنائية «شيء من
الخوف» (حسين كمال ـ 1969). لم يكن هذا الانتقال المذهل والمقنع
بين الأدوار والشخصيات والكوميديا والغناء والتراجيديا غريباً ولا
صعباً على «حميدة» المغوية في «زقاق المدق» (حسن الإمام ـ 1963)،
التي تحولت إلى المديرة الصارمة المحبة في «مراتي مدير عام» (فطين
1966)، ثم إلى عاملة الفندق البسيطة زهرة في «ميرامار» (كمال الشيخ
ـ 1969).
كانت تنقلاتها/ قفزاتها من هذا الدور، واللون، إلى ذاك، قفزات نجاح
مطلق، حوّلها إلى نجمة شباك ورمز أسطوري لفتيات الخمسينيات
والستينيات اللواتي كنّ يتنافسن في تقليد «قُصة شادية» أي تصفيفة
شعرها المميزة. كأن ذلك التنقل من السينما إلى ميكروفون الغناء لم
يكفها، فتقرر قبل اعتزالها بسنوات قلائل أن تحقق قفزة كبرى إلى لون
فني لم تجربه قبلاً.
الوحيدة التي جمعت بالقدر نفسه بين حنجرة ذهبية وطاقة تمثيلية
خلاقة
كانت مسرحية «ريا وسكينة» (حسين كمال ـ 1980) تجربتها المسرحية
الوحيدة، لكنها ــ كالعادة مع شادية ــ حققت نجاحاً ساحقاً،
الجمهور الذي لم يتوقف عن التدفق إلى مسرح «ليسيه الحرية» في وسط
القاهرة لم يأتِ بالأساس للاستمتاع بعملاقي المسرح عبد المنعم
مدبولي وسهير البابلي، بل لمشاهدة شادية على المسرح للمرة الأولى
تؤدي دور «ريا» الذي أجادت فيه وتألقت كأنها ولدت على المسرح.
العرض الذي يحكي قصة أختين قتلتا عشرات النساء في الإسكندرية قبل
أكثر من قرن، تحول إلى كوميديا غنائية استعراضية بفضل وجود شادية
أولاً وتألقها. غنت «حبك جننا يا اسمك ايه» لأربع سنوات استمر
خلالها العرض الساحق للمسرحية. أغنيات كتبها عبد الوهاب محمد
ولحنها بليغ حمدي، وغنتها شادية بمصاحبة النجمين مدبولي والبابلي،
جعلت من المسرحية عملاً أيقونياً دائم العرض والمتعة. بعد ختام
المسرحية، وعلى طريقة نجمات الماضي القديم، قررت شادية الاعتزال
وهي في القمة حيث لا تزال تحتفظ بالوجه الجميل. كانت قد وصلت
الخمسين ولم تحصل على «دستة الأطفال» التي أرادتها، لكنها حصلت على
ملايين المحبين الذين لم ينسوها رغم الغياب.
####
هكذا جسّدت خطاب يوليو النسوي
ناصر كامل
قد ينطبق هذا على أي إنسان. أما بالنسبة إلى
الفنان، فهو ضرورة لازمة: فمكانته تتحدد بالأساس حين يكون تعبيراً
دالاً على زمانه وواقعه، وحين يوضع بإزاء أقرانه ومجايليه، ويتضح
مدى تأثيره فيهم، ومن ثم تأثيره في محيطه الاجتماعي، وفي دوائر
أبعد مدى في ثقافته، وصولاً إلى الدائرة الأوسع التي تشمل المكان
والزمان المعيش والمستقبلي.
في ما يتعلق بالتراتبية، تخطت شادية حواجز رمزية ذات وقع سحري،
فتجاوز عدد أفلامها بوابة المئة الثانية، وعاشت طويلاً نجمة في
مجال الغناء والتمثيل. عمّرت فنياً، وصعدت إلى النجومية بلا تعجل
ولا ضغينة، وانصرفت من على خشبة المسرح بأداء لافت للغاية، ثم
احتجبت عن الأضواء بقليل من الصخب، واستعاد كثيرون أطيافها وهي ما
زالت حاضرة الوعي، قادرة على التلمس والتمييز بين التقدير والحب
الصادق والمبالغات المناسباتية.
منحتها الصحافة الفنية لقب «الدلوعة»، وكانت طريقة تصفيفها لشعرها
واختياراتها لأزيائها موضةً تقلد بقبول اجتماعي واسع، فلطالما سُمع
بين مختلف الطبقات الاجتماعية تعبير «قُصة شادية»، اللقب والنموذج
الذي تموضعت فيهما شادية لسنوات تتضح معانيه إذ يوضع بإزاء: سيدة
الشاشة، وسمراء السينما العربية، وعذراء الشاشة، وسندريلا، وهي
ألقاب: فاتن حمامة، ومديحة يسري، وماجدة، وسعاد حسني على التوالي.
مع فيلم «زقاق المدق» (1963) ثبّتت وجودها المتميز هذا: لون من
الغناء خاص، وأداء تمثيلي باهر في بعض المشاهد، ومقدرة على فهم
واستيعاب الشخصية ــ حميدة ــ والتعبير عنها. في تلك الأيام، كانت
شادية قد نالت بجهد متواصل ــ البداية في عام 1947 ــ مكانتها تلك،
وتبلورت شخصيتها الفنية نهائياً.
مرحلة البداية طالت قليلاً، وتميزت بتذبذب لافت بين الصعود
والتراجع، ليس فقط في أفيشات الأفلام وحجم الدور وتأثيره، بل في
نوعية الأفلام ومستواها، فراوحت الاختيارات بين الميلودراما ــ
النوع البارز والسائد؛ وربما في فترات، الطاغي في السينما المصرية
ــ وبين الكوميديا والرومانسية والاستعراض والغناء، ثم بدأت تتروى
وتدقق، وربما تطلب نوعيات وصياغات محددة.
حين نضع شادية إزاء ممثلات السينما النجمات من جيلها ــ هناك
ممثلات رائعات، لكنهن لم يصلن إلى النجومية ــ سناء جميل وسميحة
أيوب أبرز الأمثلة ــ ونقيم مكانتها بينهن، سيكون علينا أن ننحي
خصوصيتها باعتبارها مغنية، ولأنه يصعب تتبع كل مراحلهن الفنية،
فسنكتفي هنا بموضوعة واحدة، وفيلم واحد، وسيكون كافياً لمقاربة
يمتزج فيها الفن بالواقع الاجتماعي والسياسي.
سنختار أفلام: «الأفوكاتو مديحة» (1950)، «الأستاذة فاطمة» (1952)،
«أنا حرة» (1959)، «للرجال فقط» (1964). أفلام موضوعها الرئيسي عمل
المرأة وشروطه الاجتماعية، ولعبت الدور الرئيسي فيها: مديحة يسري،
فاتن حمامة، لبنى عبد العزيز، سعاد حسني ونادية لطفي. وسنضع تلك
الأفلام والممثلات، إزاء فيلم «مراتي مدير عام» (1966) الذي لعبت
بطولته شادية.
«الأفوكاتو
مديحة» و«الأستاذة فاطمة» على تقاربهما الزمني، لكنهما تعبيران
متعارضان نسبياً. ينزع الأول إلى التلون باللون الفني لصانعه ــ
يوسف وهبي ــ ويمتح من الميلودارما والوعظية الذكورية والطبقية
الزاعقة، يخلص إلى أن شروط عمل المرأة هي قبولها بأنها «مهيضة
الجناح» تحتاج أن يرشدها ويرعاها، وربما أن يؤدبها، الذكر، سواء
أكان أخاً أم زوجاً.
أما «الأستاذة فاطمة»، فهي النسخة الأكثر احترافية ـــ ونكاد
لجودتها أن نقول أصالة ـــ من «روميو وجوليت»، ونجرؤ على استخدام
«أصالة» لأن صناع الفيلم قلبوا التراجيديا إلى كوميديا أولاً،
وجعلوا الحب في الخلفية ثانياً، وأوجدوا موضوعة عمل المرأة ثالثاً،
لكن شكسبير كان حاضراً في البناء الدرامي وفي أبعاد وصراعات شخصيات
الفيلم وخطوطه الدارمية الرئيسية. هنا تختفي الوعظية، وتتنحى
الذكورية عن الصدارة خطوات، لكن التصالحية تظل حاضرة، فلا يتخلى
صناع الفيلم عن مقولة «الوظيفة الأهم للمرأة هي البيت وراحة
الزوج». في «أنا حرة»، يتقدم الوعظ ليكون مزيجاً من الزعيق السياسي
واللامعقولية الدرامية، وفي «للرجال فقط» تبهت المسألة النسوية
وتقترب الكوميديا من «الفارص»
Farce.
«مراتي
مدير عام» هو الصياغة الأكثر تعبيراً عن «خطاب يوليو النسوي»
بتوازناته القلقة. فنحن أمام حسم لعمل المرأة ودورها. هي عاملة
أولاً، ثم زوجة، لكننا نتابع البحث عن المدى الذي يمكن أن تذهب
إليه المرأة في عملها أولاً، وعن كيفية تأقلم الزوج والمجتمع مع
اتساع هذا المدى، ثانياً.
الفيلم جاء بعد سنتين من تعيين أول وزيرة في الحكومة المصرية ـــ
الدكتورة حكمت أبو زيد ـــ وهي ثاني عربية تتولى الوزارة. يصعب على
الكثير من المصريين أن يصدقوا أن العراقية الدكتورة نزيهة الدليمي
هي أول امرأة عربية تتولى الوزارة (1959)، كذلك يصعب عليهم أن
يصدقوا أن التلفزيون العراقي أسبق من المصري. وربما كانت التساؤلات
الاجتماعية المتعلقة ببعد المدى الذي وصلته المرأة في عملها،
حاضراً في أذهان صناع الفيلم: كاتب القصة ـــ عبد الحميد جودة
السحار ـــ معروف بأنه كاتب إسلامي محافظ، وله في تاريخ السينما
فيلمان بارزان: «أم العروسة» و«الحفيد»، خطابهما المُخفى، بصورة
جيدة، دعوة لمعارضة سياسات الدولة المعلنة الداعية إلى تحديد
النسل، وتمجيد في الأسرة الكبيرة العدد التي تفلح في تحدي الصعاب
بتماسكها.
«مراتي
مدير عام» محاولة توفيقية بين توجهات الدولة وقيم ذكورية سائدة
لكنه يقدم في «مراتي مدير عام» محاولة توفيقية بين توجهات الدولة
التي عينت وزيرة في الحكومة، وبين قيم ذكورية تعاني من صعوبة
التأقلم مع تلك التوجهات، وأحكام فقهية تضع شروطاً صارمة في تفاصيل
صغيرة، فلم يكن متصوراً أبداً أن يصرح أحد بأسئلة من نوعية: «هل
صوت المرأة عورة؟» في زمن «تحالف قوى الشعب العامل». لكن سؤال «هل
ينقض مصافحة المرأة الوضوء أم لا؟» ظل خيطاً درامياً طوال الفيلم
حسم في النهاية بموقف يرى أن الدين والفقه فيهما فسحة تتسع لآراء
فقيه متمايزة ترى أن المصافحة لا تنقض الوضوء. وهكذا تمت الصياغة:
عمل المرأة أصبح واقعاً اجتماعياً، لكن المدى الذي ستصل إليه متوقف
على مزيد من الرحابة الذكورية وتوفيق بين خيارات الدولة وتوجهاتها
والمجتمع وميراثه الثقافي والديني.
*
مخرج وناقد مسرحي مصري
####
ومضات من حياة «الدلوعة»
وليد أبو السعود
القاهرة
| رقيقة
وصادقة مع نفسها وحبها لفنها، فتوِّجت «دلوعة الشاشة العربية»،
لتكون من الأساطير الخالدة، رغم اعتزالها الحياة الفنية والعامة
منذ عام 1986، عندما قدمت آخر أغنياتها «خد بأيدي»، لتغادر المسرح،
وتعلن قرارها بالاعتزال. جاء ذلك بعد 39 عاماً من العمل قدمت
خلالها 112 فيلماً و170 أغنية و10 مسلسلات إذاعية ومسرحية واحدة.
اسمها الحقيقي، فاطمة أحمد كمال، ولدت في 8 شباط (فبراير) عام
1931، في حيّ الحلمية الجديدة في القاهرة، وترجع أصولها إلى محافظة
الشرقية.
المرحلة الأولى
أول مشاهد شادية التي أحبها من خلالها الجمهور مشهد البنت ثم
الشابة الجميلة صاحبة الصوت الملائكي الجميل المندفعة التي تحب بكل
ما تملك من قوة، وهي المرحلة التي استمرت فيها شادية منذ بدايتها
الفنية عام 1947 بفيلم «أزهار وأشواك»، وظلت تقدم هذه الشخصية على
مدار 14 عاماً حتى عام 1961. قدمت خلال هذه المرحلة نحو 86 فيلماً
أحبها الجمهور منها «نادية» و«معلهش يا زهر» و«الزوجة السابعة»
و«ساعة لقلبك» و«حماتي قنبلة ذرية» و«في الهوا سوا» و«أنا وحبيبي»
و«لسانك حصانك»، و«الستات ما يعرفوش يكدبوا»، و«بنات حوا»، و«لحن
الوفا» و«دليلة»، و«عيون سهرانة»، و«أنت حبيبي» وهو تعاونها الأول
مع يوسف شاهين و«المرأة المجهولة».
امرأة مرغوبة ومرهوبة
كبرت شادية البنت الصغيرة وأصبح عمرها فعلياً 28 عاماً ونضجت
خبرتها. قضت 14 عاماً تعمل في الوسط الفني، وظهر هذا على
اختياراتها، خصوصاً أنّها الفترة التي تعرفت فيها إلى مصطفى أمين
وقادها إلى عالم المثقفين والصحافيين الكبار، ليزداد وعي الفتاة
الصغيرة وتبدأ في ترتيب أولوليات ظهورها وطبيعته. بدأت مرحلة شادية
الممثلة الحقيقية بفيلمها «اللص والكلاب» ودور نور الفتاة المومس
التي أحبت بطل الفيلم. دور غير وجهة نظر نجيب محفوظ لشادية
واعتبرها ممثلة حقيقية وقوية.
استمرت هذه المرحلة على مدار ثمانية سنوات انتهت عام 1971 قدمت
خلالها 21 فيلماً انتهت بفيلم «نحن لا نزرع الشوك». فترة حققت لها
الخلود السينمائي بأهمّ أدوارها ومنها «ميرامار» و«الزوجة رقم 13»،
و«الطريق»، و«زقاق المدق» و«مراتي مدير عام»، و«كرامة زوجتي»،
و«أغلى من حياتي»، و«معبودة الجماهير»، و«عفريت مراتي»، و«شيء من
الخوف» و«نصف ساعة جواز»، و«معبودة الجماهير».
«معبودة
الجماهير» كبرت وصارت أماً
كبرت شادية سناً ووعياً وانتقلت لتلعب أدوار الزوجة الكبيرة السنّ.
استمرت هذه المرحلة على مدار 14 عاماً أخرى منذ عام 1970 وحتى عام
1984 آخر أعمالها. في هذه المرحلة، قدمت أفلاماً مهمة أيضاً، منها
«أضواء المدينة» و«رغبات ممنوعة»، و«الشك يا حبيبي»، ومسرحية «ريا
وسكينة» و«لا تسألني من أنا» الذي كان آخر أفلام شادية التي شاهدها
الجمهور.
«دلوعة
الشاشة» تمرّ بمحنة المرض وتخرج منتصرة
مرت شادية بمحنة سرطان الثدي وخرجت منها أقوى وأكثر التزاماً. في
هذه المرحلة، قدمت مجموعة من الأغنيات الدينية آخرها الأغنية
الشهيرة «خد بايدي» التي غنتها عام 1986. بكت وهي تقدمها، منهية
غناءها بإعلان اعتزالها. يومها قالت إنّها قررت الاعتزال «لأنني في
عزّ مجدي أفكر في الاعتزال، ولا أريد أن أنتظر حتى تهجرني الأضواء،
ولا أحب أن أقوم بدور الأمهات العجائز في الأفلام في المستقبل بعد
أن تعوّد الناس رؤيتي في دور البطلة الشابة، ولا أحب أن يرى الناس
التجاعيد في وجهي، ويقارنوا بين صورة الشابة، التي عرفوها والعجوز
التي سيشاهدونها. أريد أن يظل الناس محتفظين بأجمل صورة لي عندهم».
مرحلة الاعتزال
كرست شادية حياتها بعد الاعتزال لرعاية الأطفال اليتامى، خاصة أنها
كانت شغوفة لأن تكون أماً، إلا أنها لم تُرزَق أطفالاً.
الحاجة شادية
أصبح لقب شادية الرسمي الحاجة شادية، وارتدت الحجاب وظلت فخورة
بتاريخها الفني، رافضة أي محاولة لتشويهه، مؤكدة دوماً أنها فخورة
بكل لحظة فيه.
ثلاث زيجات
«أحمد»
و«منى» قصة حب حقيقية خلف الكاميرا بين الفنان صلاح ذو الفقار،
والفنانة شادية، تُعَدّ من حكايات الحب الأشهر في الوسط الفني. كان
أول لقاء في فيلم «عيون سهرانة» (1957)، وكانت «شادية» آنذاك زوجة
للفنان عماد حمدي الذي كان أول أزواجها. وكان شديد الغيرة عليها،
خاصة في الأيام الأخيرة من حياتهما الزوجية التي انتهت في أيار
(مايو) من العام ذاته.
ووفقاً لما نشره الكاتب المصري محمد سعيد، الذي أرخ لشادية،
سينمائياً عبر كتابه «أشهر مئة في الغناء العربى»، فإن علاقة الحب
بين شادية وصلاح ذو الفقار، لم تشتهر ولم تعرف للناس إلا عندما
قدما معاً فيلم «أغلى من حياتى» عام 1965، وقد صُوِّر في مدينة
مرسى مطروح. الفيلم شهد اللقاء الثاني بينهما، وأخذت قصته عن فيلم
«الشارع الخلفي» لجون جافن، وسوزان هيوارد، وهو فيلم رومانسي، يروي
قصة شاب وفتاة تحول الظروف دون زواجهما، وبعد سنين طويلة يلتقيان
ويتزوجها سراً حتى وفاته.
تزوجت شادية صلاح ذو الفقار مرتين: في تشرين الثاني (نوفمبر) 1967،
بعد قصة حب دامت شهوراً. تزوجا وعاشا حياة سعيدة جداً، لكن شادية
شعرت مرة أخرى بالحنين إلى الإنجاب، وحملت بالفعل للمرة الثالثة،
ومكثت في البيت قرابة خمسة أشهر حتى يثبت حملها، لكنها فقدت
الجنين، وأثر هذا بنحو سيئ في نفسيتها ووقع الطلاق بينهما في آب
(أغسطس) 1969.
وسعى بعض المقربين من شادية وصلاح ذوالفقار إلى إعادة الحياة
بينهما، ونجحت محاولات الوساطة في إعادة الزوجين مرة أخرى في أيلول
(سبتمبر) من عام 1969، ليقع الطلاق النهائي في منتصف عام 1973.
حلم الإنجاب هو أحد الأسباب التي أرّقت حياة شادية، وحرمتها أن
تهنأ بالسعادة. كانت دائماً نقطة خلاف بينها وبين أزواجها، فحين
تزوجت عماد حمدي، كان الاتفاق بينهما على تأخير الإنجاب أعواماً
عدة. لكن رغبتها الجارفة في تحقيق هذا الحلم دفعتها إلى مخالفة
الاتفاق، وحملت بالفعل، ولكن هذا الحمل لم يكتمل، وأكد لها الأطباء
خطورة الحمل على صحتها، وأن جسمها الضعيف النحيل لا يقوى على
احتمال الإنجاب. لكنها تمسكت بالإنجاب، وكان ذلك سبباً آخر للخلاف
مع عماد حمدي، والطلاق في ما بعد.
وفى زيجتها الثانية بالمهندس عزيز فتحي، لم يكتمل حملها، ما دفعهما
إلى تكذيب نبأ الحمل الذي كانت الصحف قد نشرته يوم 16 تشرين الأول
(أكتوبر) من عام 1958، ثم كان الحمل الثالث من صلاح ذو الفقار،
وفقدت الجنين أيضاً في شهره الرابع. بعد الطلاق الثاني بين شادية
وصلاح ذو الفقار، قررت ألّا تكرر تجربة الزواج مرة أخرى، وأن تعيش
لتربية أبناء أخوتها.
####
«الدلوعة»
بالصوَر
انقر هنا لتصفح الصوّر |