لم يصنع خيرى بشارة سوى عدد قليل جداً من الأعمال
السينمائية الروائية، 11 فيلما فقط خلال مسيرة تمتد لحوالى نصف
القرن، منذ تخرجه فى المعهد العالى للسينما عام 1967، ذلك العام
الفارق فى تاريخ مصر، وتاريخ السينما المصرية.. أول هذه الأعمال هو
«الأقدار الدامية» عام 1982 وآخرها «إشارة مرور» عام 1996 يعنى
منذ عشرين عاما حتى وقتنا الحالى.
قبل هذه الأعمال الروائية عمل خيرى بشارة كمساعد
مخرج، كما أخرج عددا من الأفلام التسجيلية، من بينها واحد من أفضل
الأعمال التى صنعت عن حرب أكتوبر وهو «صائد الدبابات»، وآخر عمل
«سينمائي» قدمه كان «ليلة فى القمر» عام 2011 وهو فيلم تجريبى ذاتى
يمزج بين الروائى والتسجيلى، لم يعرض سوى فى المهرجانات وبعض
العروض الخاصة، قبل أن يتجه فى السنوات الأخيرة إلى إخراج بعض
المسلسلات التليفزيونية «العادية»، والتى لا تحمل شيئا من روح ووهج
أعماله السينمائية التى دشنت اسمه كواحد من أنبغ أبناء جيل
الثمانينيات وأحد مؤسسى ما يعرف بـ«الواقعية الجديدة»، مع رأفت
الميهى وعاطف الطيب ومحمد خان وداود عبدالسيد ويسرى نصر الله.
هل قرر خيرى بشارة أن يصمت بإرادته بعد «إشارة
مرور»، أم إن صناعة السينما فى مصر هى التى قررت الاستغناء عن
صوته؟.
سؤال تصعب الإجابة عنه، حتى لو كنا متأكدين أن
الطرفين، بشارة وصناعة السينما فى مصر، شريكان متواطئان ومسئولان
عن هذه الجريمة!.
من ناحية كانت صناعة السينما فى مصر تمر بواحدة من
أسوأ فترات انهيارها فى منتصف تسعينيات القرن الماضى، وبدون الخوض
فى تفاصيل كثيرة يمكن أن نقول أن عام 1996 لم يشهد فقط آخر أعمال
خيرى بشارة ولكنه شهد نهاية عصر كامل، قبل أن يولد عصر جديد مختلف
كل الاختلاف فى العام التالى مع النجاح الكبير المفاجئ لفيلم
«إسماعيلية رايح جاي» وبداية موجة الكوميديا التى صنعت نجومها
وكتابها ومخرجيها وسيطرت على الساحة لأكثر من عشر سنوات.
من ناحية ثانية، لم يكف زملاء خيرى بشارة عن
المحاولة وراح كل منهم يبحث عن سبل للنجاة والاستمرار، ونجح كل
منهم بطريقته فى صنع فيلم على الأقل كل بضع سنوات.. هو وحده بدا
مستسلماً وعازفاً عن المقاومة وأتذكر أنه كان مغرماً فى ذلك الوقت
بمقال شهير لكاتب أمريكى عن ظهور وصعود الثورة الرقمية كان يحمل
عنوان «موت السينما»، وهى المقولة التى لم تزل تتردد بأشكال مختلفة
إلى اليوم، مرة بسبب الكاميرات الرقمية ومرة بسبب القرصنة ومرة
بسبب الفضائيات ومرة بسبب «اليوتيوب» وقنوات الأفلام على الإنترنت.
الثورة فى وسائل الاتصالات سبقتها وصاحبتها ثورة
أخرى سياسية واجتماعية ولا ننسى أن مقال «موت السينما» سبقه مقال
شهير آخر بعنوان «موت التاريخ» تنبأ فيه صاحبه بموت المجتمعات
القديمة والنظم الاشتراكية وانتصار الرأسمالية.
المدهش فى الأمر أن خيرى بشارة كان الوحيد تقريبا
بين زملائه الذى رأى العصر الجديد واحتضنه فى أفلامه بداية من
«كابوريا» وحتى «إشارة مرور»، ولو أن أحدا سألنى عام 1996 عن
المخرج المصرى الأكثر قدرة على استيعاب التطورات التقنية والسياسية
الحديثة والأكثر قدرة على الاستمرارية لكان خيرى بشارة أول اسم
يخطر ببالى.. مع ذلك كان هو الوحيد من بينهم الذى توقف عن صنع مزيد
من الأفلام.
أعرف جيدا أن توقف خيرى بشارة لم يكن نتاج قرار
منه، وكنت شاهدا شخصيا على بعض مشاريع الأفلام التى كان ينوى
صنعها، ومنها فيلم من بطولة نبيلة عبيد وفيلم آخر عن حياة وموت
الأميرة ديانا شاركت فى كتابة بعض مشاهده.. وهنا يجب أن يأتى النصف
الثانى من الإجابة وهو أن صناعة السينما المصرية فى التسعينيات
التى ساهم خيرى بشارة بقوة فى تطويرها ودفعها للأمام بمجموعة من
الأفلام الغنائية الكوميدية التى مزجت بنجاح استثنائى بين العناصر
التجارية والفنية.. هذه الصناعة لم تستوعب خيرى بشارة فى الوقت
الذى استوعبت فيه مخرجين أكثر تقليدية!.
لقد عدنا إلى بداية السؤال مرة أخرى، ويبدو أننا
نحتاج إلى تفسير آخر.
انتبه خيرى بشارة مبكرا إلى موجة «الأغنية
الشبابية» التى ظهرت فى الثمانينيات، وكان أول من استعان بنجومها
كممثلين فى أفلامه، منذ «يوم مر.. يوم حلو» عام 1988 الذى جمع فاتن
حمامة بمحمد منير وسيمون، ثم «كابوريا» الذى استعان فيه بأغانى
وموسيقى حسين الإمام التى تضج بالمرح والسخرية، مرورا على «آيس
كريم فى جليم» الذى لعب بطولته عمرو دياب وسيمون، و«أمريكا شيكا
بيكا» الذى شارك فى بطولته محمد فؤاد، وصولا إلى «قشر البندق» الذى
كان أول وآخر فيلم يشارك فى بطولته الموسيقى والمغنى حميد الشاعرى،
صانع النجوم وصاحب مصطلح «موسيقى الجيل» الذى وضعه كبديل لمصطلح
«الأغنية الشبابية» سيئ السمعة.. استعانة خيرى بشارة بهؤلاء
المطربين لم تكن فقط بهدف مغازلة جمهور الشباب، ولكن فى تصورى كانت
تهدف إلى تلوين أفلامه بروح وإيقاع هذه الموسيقى والأغانى
«الشبابية»، والتى تراجعت هى الأخرى مع نهاية الألفية الثانية،
واختفى بشكل نهائى أو مؤقت بعض نجومها ومنهم حميد الشاعرى وسيمون.
رغم الهجوم الشديد الذى تعرضت له «الأغنية
الشبابية» ونجومها وخاصة حميد الشاعرى، فإننا حين نستمع إليها
اليوم نشعر بروح ودبيب إيقاع نهاية الألفية ونستشعر نوعا مميزا من
الحنين يمزج بشكل عجيب بين البهجة والشجن.. وبين الخفة والقلق، بين
الجدية والسخرية، وهى نفس الروح التى نجدها فى أفلام خيرى بشارة
الأخيرة، خاصة التى شارك فى بطولتها مطربون.. وهذه الأغانى الخفيفة
الشجية قبل أن تحل عواصف الألفية الثالثة علينا بسينماها المفرطة
فى الضحك وأغانيها المفرطة فى الابتذال.
إنه مثل سيف، بطل فيلمه «آيس كريم فى جليم»، يحلم
بأن يكون ألفيس بريسلى عصره، ولكن يعجز عن أن يجد الموسيقى أو
الكلمات التى تستوعب ما يموج فى روحه من قلق وفرح.. وهو مثل صلاح
جاهين، الشاعر الذى كان يهوى رقص الباليه!.
إننا نكاد نشعر أن خيرى بشارة فى أفلامه الأخيرة لم
يعد يكفيه فن السينما ولا حكاياتها النمطية، خاصة السينما
المصرية.. وأنه كما لو كان يرغب فى أن يكون مغنيا أو راقصا أكثر
مما يرغب فى أن يكون مخرجا...لكن لا شروط السوق ولا نوعية
المشروعات الفنية التى تسمح بتقديمها هذه السينما ولا مزاج الجمهور
فى ذلك الوقت كان بمقدورهم استيعاب واحتضان سينما خيرى بشارة وروحه
المتمردة.
لماذا صمت خيرى بشارة؟
لأن الناس حاسين بالبرد، وفى قلبه شم نسيم!>
####
أفلام على طريق «خيرى»
لندن: د. خالد علي
«القليل
من المال والطعام.. الكثير من المغامرة والمتعة والشقاء.. تلك كانت
النية من الرحلة»..يمكن اختصار مصطلح «أفلام الطريق» أوRoad
movies
بهذا الوصف، ورغم اعتباره من أصعب أشكال الفيلم السينمائى، فإنه
عندما يتم إبرازه بحرفية، مع إتقان للغة الصورة، والتركيز على
المضمون.. تصبح تلك الأفلام بالتبعية من العلامات فى تاريخ
السينما.
الهوية:
«أمريكا
شيكا بيكا» عام 1993.. يليه «حرب الفراولة» عام 1994.. ثم «إشارة
مرور» عام 1996.. هذه الأفلام الثلاثة تمت بالتعاون مع الكاتب
والسيناريست «د. مدحت العدل» فى كتابة القصة والسيناريو والحوار -
وهى من إنتاج «شركة العدل» - هذه الأفلام تعتمد على محاولة خلق شكل
مختلف من أشكال «الحدوتة السينمائية» بطرح جديد فى الصورة والمضمون.
وقد اتفق مؤرخو السينما على الشكل العام لـ«أفلام
الطريق» - كما ظهرت فى هذه الأفلام الثلاثة- فسنجد مأساة بطل
الحكاية، حيث نراه فى رحلة، عبر زمن محدود نسبيًا، واستعراض
علاقاته مع من يحيطون به.. ويُمكن القول بأن هذه الأفلام الثلاثة
تتبع مسار بحث المواطن المصرى عن هويته تحديدًا فى التسعينيات،
وذلك فى ظل المُتغيرات السياسية، وفوضى الانفتاح، والمقاطعة
العربية لمصر، وهيمنة النظام الأمريكى، والحلم بالخلاص الذى لا
يمكن إدراكه إلا بالبُعد عن مصر.. البعد عن الوطن أو الهوية!
لهذا ما يُميز تلك الأفلام الثلاثة على وجه الخصوص
هو تصويرها لأبطالها وهم فى رحلة للهروب من واقع مصرى، مرير، مليء
بالإحباط، لا يتم الخلاص منه عادةً إلا بالرحيل (السفر إلى الخارج
مثلاً) .. فنجد تيمة الهروب بقوة فى فيلم «أمريكا شيكا بيكا»،
والذى يحكى قصة مجموعة من المصريين فى طريقهم لأمريكا سعيًا وراء
مستقبل أفضل بعيدًا عن مصر، حيث يجمعهم إيمانهم أن أرض الأحلام أو
الجنة الموعودة بعيدا عن مصر حيث يُمنون أنفسهم بأمريكا الـ «شيكا
بيكا»!.
السعادة:
من أهم خصائص تلك الأفلام الثلاثة - كعادة «أفلام
الطريق» - هو التحول الإنسانى لشخصيات الفيلم من خلال رحلتهم، حيث
يعيدون اكتشاف ذواتهم ليصلوا لقناعات مُغايرة عما كانوا يؤمنون به
ويسعون إليه فى بداية الرحلة.
فى رحلة أبطال «حرب الفراولة» إلى الغردقة تدور
هناك عملية البحث عن السعادة! .. يتغير مفهومهم جميعًا عن ماهية
السعادة،بل يدفعون ثمنًا باهظًا لسعيهم وراء هذا السراب المُسمى بـ
«السعادة»!
.
القهر والثورة:
فى فيلم «إشارة مرور» نجد أيضًا مجموعة من أنماط
المجتمع المصرى، الذين يُجبرون بسبب حادث مرور على التوقف فى «وسط
البلد» لعددٍ من الساعات، وبالتالى صدامهم الحتمى مع أجهزة الأمن
ومع بعضهم البعض.
على رأس تلك المجموعة نرى «ريعو / محمد فؤاد» -
مبيض المحارة ومُشجع كُرة القدم - والممرضة «سمية / ليلى علوي»،
والتى تعشق الغناء.. الاثنان من الطبقات المطحونة، والاثنان يقومان
بمحاولات مُستميتة للهروب من الواقع المُضنى، والتطلع للشُهرة، حتى
وإن لم يكُن لديهما أى موهبة حقيقية!.
فى الوقت نفسه نتابع مدرس التاريخ «زكريا القليوبى
/ د. سمير العصفوري» وزوجته «نعمات / إنعام سالوسة»، حيث يصل القهر
والإحباط بـ «زكريا» إلى محاولته الانتحار، وذلك عن طريق حرق نفسه،
وكأنه يعلن عن يأسه فى إمكانية تغيير الواقع.. يتشابه ذلك الجزء مع
واقع ثورات الربيع العربى، التى اندلعت بدايةً من تونس، فحادثة
المواطن الشهيرة الذى أحرق نفسه فى وسط المدينة كتعبير عن الإحباط
المتغلغل فى نفسية المواطن البسيط
.
الطبقية:
الصراع بين الطبقات فى شخصيات تلك الأفلام الثلاثة
«أفلام الطريق» يظهر جليًا فيها.
لهذا يبدو الطريق والرحلة فى أفلام «خيرى بشارة» لها معنى ورمز
لمحاولات الإنسان المصرى وسعيه عبر السنين لكى يهرب من الواقع
القاسى، وأن يكون لديه الأمل فى الخلاص.
القوة:
تِلك الأفلام حاولت أن تُرضى المُشاهد البسيط بأن
تُضفى صفات القوة والعنترية فى شخصيات مقهورة .. فمثلاً حينما يقتل
«حمامة» فى «حرب الفراولة» المليونير «ثابت»، فهذا انتصار - ولو
حتى انتصارًا دمويًا - للطبقة المطحونة.. واللجوء للنهاية السعيدة
(زواج «ريعو» و«سُمية» فى «إشارة مرور») هو انتصار أيضًا، حتى لو
أفقد هذا بعضًا من مصداقية الفيلم.
ورغم استخدام عوامل جذب للمُشاهد كاختيار «محمد
فؤاد» لدور البطولة فى «إشارة مرور» و«أمريكا شيكا بيكا»، وقُربه
من ملامح المواطن المصرى البسيط، فإن الفيلمين اعتمدا على البطولة
الجماعية، ولم يتم التركيز بشكل كُلى على مأساة «محمد فواد» الهارب
على الطريق.
وفى النهاية أفلام «خيرى بشارة» بما لها وما عليها
تبقى أفلامًا على طريقة أو على طريق «خيرى بشارة»، حيث الرحلة
المختلفة والجديدة والمُميزة.<
####
«د.
مدحت العدل» :
جنونى على الورق.. وجنونه على الشاشة
كتب : هاجر عثمان
من منا لم يسافر إلى الإسكندرية فى عز الشتاء،
ويُصمم على تناول الآيس كريم، ليتذكر «سيف» بجاكيته الجلدى الأسود
فى «آيس كريم فى جليم» ؟.. من منا لم يمر على «كوبرى استانلي»
ليتذكر كاميرا «خيرى بشارة» وهى تلتقط تلك القبلة الدافئة بين
«عمرو دياب» وحبيبته وسط صفارات الجماهير؟.. كتابة وأغانى «د. مدحت
العدل» وصورة «خيرى بشارة» كانت رفيقة الرحلة لجيل الثمانينيات..
بطموحه وأحلامه وأحزانه.. كاميرا «خيري» التى نشعر أنها معنا فى
كل زحام «إشارة مرور».. وعندما نشعر بالحنين والغربة والغضب
أحياناً من الوطن نغنى : «يعنى إيه كلمة وطن ؟».
أبطال «خيرى بشارة» و«د. مدحت العدل» فى أفلامهم
الخمسة؛ «آيس كريم فى جليم» 1992 «أمريكا شيكا بيكا»1993 «حرب
الفراولة» 1994 «قشر البندق» 1995 «إشارة مرور» 1996 .. أبطال
دفعوا ثمن أحلامهم، ويعبرون عنها أحياناً بالغناء.. البكاء..
السخرية.. حب الحياة.. حوارنا كان عن الرحلة مع الكاتب الكبير «د.
مدحت العدل» بمشاركة صديق العُمر المخرج «خيرى بشارة»
.
·
فى البداية.. احك لنا كيف التقى شاعر التفاصيل
السينمائية المخرج «خيرى بشارة» بك باعتبارك المؤلف وشاعر التفاصيل
الأدبية والغنائية ؟
-
عن «طريق عمرو دياب».. وكانت تجمعنا صداقة قوية وكتبت له عِدة
أغانٍ ناجحة آنذاك، وسألنى عن رأيى فى تجربته التى يحضر لها «آيس
كريم فى جليم»، وذلك من منطلق حُبى للسينما.. طبعاً كنت أعرف
«بشارة» جيداً من «العوامة 70» ، «يوم مر ويوم حلو»، و«كابوريا»..
كان حقًا مخرجًا موهوبًا، ومختلفًا، وكان قد شجعنى «عمرو دياب» على
التعاون معه، وقال لى كلمة واحدة أتذكرها جيداً : «خيرى مخرج جامد
جدًا» .. وأثناء التجهيز للفيلم، «خيري» كان يريد أُغنية عن
القاهرة، وكلف بها عددًا من شُعراء العامية، ولكن لم يعجبه أى
إنتاج لهم، فرشحنى وقتها «عمرو دياب» مع مؤلف أغانيه أيضاً المرحوم
«مجدى النجار» ( يضحك )، ووافق «خيري» على مقابلة الشاعر الدكتور
وليس الضابط.
·
وكيف تطور الأمر من كتابة أغنية لكتابة سيناريو
وحوار فيلم «آيس كريم فى جليم» ؟
-
عندما التقيت «خيري» فى مكتب المنتج المرحوم «إبراهيم شوقي»، قرأت
سيناريو الفيلم، وكان 4 ورقات فقط، وجمعنا نقاش طويل عن السينما،
وشعر باهتمامى وحُبى لها، فطلب منى كتابة جميع أغانى الفيلم، ما
عدا الأغنية الرئيسية «آيس كريم فى جليم» لرغبته هو نفسه فى
كتابتها.. وكان هناك موعد على الغداء فى اليوم التالى، لم أنَم
وقتها حتى انتهيت من كتابة : «أنا جوة دماغى حاجات هتغير وجه
الكون.. أحلام ألوفات ألوفات وهطولها فين ماتكون».. وأُعجب بها
«خيري»، وعرض مشاركتى له فى كتابة السيناريو، ولكنى رفضت فى
البداية، وقلت له أريد أن أكتب بمفردى، ولكن يمكنك تجربتى فى 10
مشاهد.. ونالت إعجابه جداً، وقد كان.. أكملت كتابة الفيلم حتى خرج
للنور، ومن وقتها أصبحنا أصدقاء على المستوى الفكرى والعائلى
والاجتماعى.
·
قبل الحديث عن «خيري» المخرج.. حدِثنا عن «خيري»
الصديق ؟
- «خيرى
بشارة» إنسان بمعنى الكلمة.. صداقتنا نجحت لأن بيننا أشياء كثيرة
مشتركة.. كلانا أبناء هذا الحى العريق «شبرا».. كلانا مجانين سينما
وفن.. جنونه يظهر على الشاشة، وأنا جنونى خفى ليظهر على الورق..
بنحب الحياة وعندنا حالة عشق للخروج دائماً برة الصندوق.
·
أفلام «خيرى بشارة» - قبل تعاونكما - وصفها النُقاد
بـ «أنها أحد أعمدة تيار الواقعية الجديدة مع رفاقه آنذاك مثل عاطف
الطيب، داود عبدالسيد، ومحمد خان».. فى أفلامكما الخمسة خلقتما
مساراً جديداً مُحيراً.. هل هو واقعية على مسرح الفانتازيا ؟.. أم
فانتازيا غنائية ساخرة ؟.. بِمَ تصفها ؟
-أصفها
بأنها «روح العصر».. بغض النظر عن التسمية أو المصطلح السينمائى،
أعتبر أن «خيرى بشارة» كأسلوب هو مخرج سابق جيله كله.. يتميز بجرأة
غير عادية فى طرحه للأفكار.. «خيري» هو العدسة التى عبرت بدقة عن
هموم، وأحلام، وتمرد الشباب، وروح الطبقة المتوسطة آنذاك.. من خلال
كتابتى ومن خلال «عمرو دياب» وفرقته، وهى ميزة عظيمة لـ «خيري» أن
يتعاون مع «عمرو دياب» وفرقته ومؤلف جديد، بل يغامر بهم لإخراج
فيلم.. كان صادقاً جداً.. نجح فى نقل الواقع المعاش لهذه السن
والمرحلة التى نواجه فيها العولمة وانهيار الاتحاد السوفيتى،
وقدمنا تحية فى الفيلم للشيوعى الجميل من خلال شخصية «زِرياب»..
«خيري» قدم وعبر عن أحلامنا ببساطة.. بِدون هِتاف أو خُطب.. كل
واحد كان بيدخل السينما كان بيلاقى نفسه فى شخصية من أبطال فيلم
«آيس كريم فى جليم».
·
الحِلم هو البطل فى أفلام «خيري».. «سيف» ورِفاقه
وحُلم الغناء فى «آيس كريم فى جليم».. و«المنسي» فى «أمريكا شيكا
بيكا» وغيرها.. دعنا نتحدث فى البداية عن «سيف».. هل رأيته فى
حياتك قبل ما تترجمه على الورق؟
- «سيف»
هو شخصيتى.. وهو «عمرو دياب» نفسه.. «عمرو» من «بورسعيد»، وأنا من
«المنصورة».. كلنا من الأقاليم.. كلنا عندنا نفس الطموح والرغبة فى
التحقق والنجاح، والقُدرة على مواجهة الصِعاب.. نقع ونقوم.. قدرة
على مواكبة الجديد، وألا ننفصل حتى بعد التحقق والنجاح عن جيل
الشباب، وهو ما جعل «عمرو دياب» رقم واحد حتى الآن.
·
ما الذى تتذكره من كواليس تصوير «آيس كريم فى جليم»
؟
-
لن يصدق أحد أن تصوير هذا الفيلم تم فى 4 أسابيع.. فيلم فيه
ممثلون جُدد.. 7 أغانٍ ورُباعيات مُغناة.. وخرج بهذه الحلاوة!.. بـ
80 علبة خام.. وتظهر هُنا شطارة المخرج، بل ورسالة للمخرجين
الشباب.. الصناعة لها سقف، لا يُمكنك تصوير فيلم 7 أسابيع، وتريد
أن يُحقق المنتج أرباحاً لتنتج عملاً آخر!.. أتذكر أننى كنت أكتب
مشهدًا، وأسافر لـ «خيري» موقع التصوير بالإسكندرية، ولا أنسى طلب
«خيري» من «طارق التلمساني» أن يجعل الإضاءة «آيس كريمي».. بألوان
الأزرق والأخضر والأبيض.. «خيري» أدخلنى عالماً سحرياً، تعرفت من
خلاله على رفاقه «داود عبدالسيد» و«محمد خان» رحمه الله.
·
«رصيف
نمرة خمسة» ورغم مرور 25 سنة فإنها ما زالت الأغنية الأكثر طلباً
فى حفلات «عمرو دياب» ؟
-
هى أغنية «القاهرة»، واللى أصلاً رشحنى لكتابتها هو «عمرو دياب»
نفسه.. لن تصدقى أننى كتبتها فى ساعة، فى طريقى للهرم لمقابلة
«خيري» بمنزل «حسين الإمام»، وقصتها عجيبة جداً، فبعد مهلة أسبوعًا
لكتابة الأغنية، لم أكتب حرفاً، وفى طريقى لهم للاعتذار عنها،
وأثناء مرورى بشارع «فيصل»، انطلق الخاطر.. شاهدتُ أناساً على
الرصيف.. قهاوى.. و«عبد الله رُشدى» المحامى الشهير، وكانت «يافطة»
لمُحامٍ فعلاً ولا أعرفه أصلاً !.. وبدأت أكتب مقطعًا تلو الآخر،
تذكرت وجوه الناس فى شبرا، وعم «نصحي» وغيره.. وخرجت من «رصيف نمرة
5» عن القاهرة وناسها وروحها.. الحلاقين.. بتوع البليلة.. تروماى
«روض الفرج».. وعندما وصلت طاروا بها جميعاً.. حاول «حسين الإمام»
تلحينها، ولكن«عمرو دياب» أراد اللحن على طريقة الشيخ «إمام»،
وفعلاً لحنها بدخلة العود الشهيرة.. وصورها «خيري» ككليب مُنفصل فى
حى شعبى وفى شوارع القاهرة الجميلة.
·
«أمريكا
شيكا بيكا» صنعته أنت وخيرى بشارة عام 1993 أى قبل انتشار مسألة
الهجرة غير الشرعية مُبكراً ؟
-
بالمناسبة مجلة «روزاليوسف» هى السبب.. كنت قد قرأت وقتها تحقيقاً
عن قصة واقعية لسمسار خدع مجموعة من المصريين بحلم الهجرة لبلد
أوروبى، وسرق فلوسهم، وتركهم وسط الغابات حتى تجمدت أطرافهم وتم
بترها.. ما لفت نظرى فى التحقيق النماذج المُسافرة، وكانت أكثر
صدمة.. فلاح فلان من كفر فلانى، مش بيعرف يتكلم إنجليزى أصلاً !..
قلت لـ «خيري» الفكرة، ووافق وتحمس لها جداً، وانطلقنا من فكرة حلم
السفر خارج مصر كإحدى نتائج الانفتاح الاقتصادى، واللى معاه قرش
يساوى قرش.. أكبر هجرة للمصريين منذ تاريخهم الفرعونى واستقرارهم
فى وادى النيل هى الخروج لـ «بلاد البترودولار».. الهجرة التى
عادوا منها بأفكار لا تشبه هويتنا المصرية، وأصبحنا نقول على
السُبوع «عقيقة».. على أساس إن ده الإسلام!.
·
حدثنا عن اختيار الممثلين.. هل كان «خيرى بشارة»
يستأثر بهذا الحق كمخرج أم كيف كان يسير العمل معه ؟
-
إطلاقاً !.. نعمل بروح عائلة ديمقراطية، نجلس ونفكر سوياً، ونختار
الممثلين، واختيار «محمد فؤاد» لـ «أمريكا شيكا بيكا» كان
كوميديًا، فكان هناك مطعم شهير بـ «المهندسين» يجتمع فيه كل
الفنانين والمخرجين، وفى إحدى المرات وأثناء جلوسى مع «خيري» - بعد
نجاح «آيس كريم فى جليم» - شاهدت «محمد فؤاد» بالمطعم، فذهبت
لتحيته، وطلبت منه أن يأتى ليُسلم على «خيري»، فرفض وقال أنه زعلان
منه لأنه أخرج فيلماً لـ «عمرو دياب» وهو لا !.. رجعت لـ «خيري»،
وحكيت له الموقف، وطبعاً عشان هو «خيري»، قام وسلم على «محمد
فؤاد».. وفى طريقنا للعودة للبيت، همس «خيري» وقال : «هو ده أحمد
المنسى.. روح الشباب المصرى الخارج من الحرب ومطحون ».. وبالفعل
ذهبت لـ «محمد فؤاد» فى نفس الليلة، وسهرنا للرابعة صباحاً لنقرأ
السيناريو.. ومن وقتها عشقه «خيري»، وجئنا به لدور «ريعو»، فهو
مُمثل موهوب، وموهبته أكبر مِمَا يقدمه الآن.. وبالمناسبة تم ترشيح
«أحمد زكي» لدور «المنسي»، ولكنه رفض لأن الفيلم بطولة جماعية.
·
أفلامك مع «خيري» رغم تحقيقها النجاح التجارى
والجماهيرى الكبير، فإنها تطرح أسئلة فلسفية وربُما وجودية كمعنى
السعادة فى «حرب الفراولة» مثلاً ؟
-
أقول لكِ.. قصة فيلم «حرب الفراولة» غريبة جداً.. أنا و«خيري» كنا
نقرأ كتاب «السعادة» للفيلسوف الألمانى «هيرمان»، ولم يقُل لأحدنا
للآخر، وكُنا نلتقى يومياً باستمرار.. وفى إحدى المرات بأحد
الكافيهات بـ «المهندسين»، وأثناء لقائنا بالأديب «الطيب صالح» -
وهذا لم نكشفه من قبل - فكان لدينا مشروع تقديم رواية «موسم الهجرة
للشمال» للسينما، ولم يكتمل.. «خيري» وقتها طلب منى كتابة فيلم عن
السعادة، فاندهشت، وحدثته عن الكتاب الذى كان يقرأه فى ذات الوقت،
واتولدت فكرة «حرب الفراولة» أثناء جلوسنا معاً.. أما تكنيك
الكتابة فكان سهلاً، وتم إنجاز الفيلم على الفور.
·
«قشر
البندق» تجربة مختلفة.. قدمتم خلالها مجموعة فنانين كثيرين..
حدثنا عن هذا الفيلم ؟
-
فوجئت بـ «خيري» يطلبنى قائلاً: «عايزين نعمل فيلم لبنت محمود
ياسين»، و«محمود ياسين» هو منتج الفيلم.. كنت قد شاهدت «رانيا» فى
أعمالٍ سابقة، ولكن أشفقت عليها من تحمل بطولة فيلم بمفردها،
فأوضحت لـ «خيري» ضرورة أن تكون حدوتة الفيلم جماعية، وحول «رانيا»
مجموعة ممثلين، وفى نفس الوقت كنت أسكن بـ «المهندسين»، وفى أحد
الأيام توقف شارع جامعة الدول العربية من الزحام أمام افتتاح أحد
محلات الوجبات السريعة الجديدة آنذاك، حيث تم الإعلان عن جائزة
لصاحب رقم الوجبة الفائز.. وكانت الجائزة «عربية».. ومن هنا لمعت
الفكرة فى عقلى.
·
«إشارة
مرور» يعتبره الكثيرون أنه آخر أفلام «خيرى بشارة» للسينما، رغم أن
هناك تجربة لاحقة «ليلة فى القمر»، ولكن لا يتذكر أحد سوى تلك
الإشارة المكتظة فى «وسط البلد» !.. فى رأيك لماذا ؟
-
هو فيلم واقعى، حدثت فكرته معى شخصياً؛ كعادة تجمع العائلة فى أول
يوم رمضان لدى أخى الكبير بـ «مصر الجديدة».. وكالعادة كان هناك
زِحام، وحاولت التحرك من «المهندسين»، ولكن لا مفر من الوقوف فى
الإشارة ثلاث ساعات، وبالمناسبة زوجتى كانت «حامل»، مثلما حدث مع
إحدى حكايات الفيلم، فيتكون وقتها ما يُسمى بـ «مجتمع الإشارة»..
من يوزع البلح على الصائمين.. من يحكى عن يومه وعمله.. كانت تجربة
مُوحية للكتابة، ووقتها طلب المنتج «حسين القلا» منا أنا و«خيري»
فيلماً بعد نجاح أفلامنا الأربعة.
·
كعادتك تتناول الإرهاب والتطرف، و«إشارة مرور» ليس
بعيداً عن هذا.. لدينا سقوط عامل الديلفرى فى البالوعة وكأن شيئاً
لم يحدث!.. هل كنت تقصد غفلة الدولة وقتها؟
-
بكل تأكيد!.. و«خيري» نجح فى تنفيذ المشهد بعناية.. الدولة كانت
عاملة نفسها مش شايفة إن التطرف والإرهاب منتشر فى المجتمع..
الإرهابى كان وسط الناس فى الزحام، والإرهاب مصيره فى البلاعة،
ولكن الإشارة لم تحدث بها سيولة غير لما الانفجار حصل.. وهى أزمة
الدولة دائماً، فهى تترك كل سيئ يكبر، والناس تموت، وبعدها تفكر فى
الحل.
·
وكيف تُقيم أداء الدولة فى حربها على الإرهاب
والتطرف حالياً إذا ما قارناه بالإرهاب الذى تناولته فى «إشارة
مرور» ؟
-
مصر تواجه حرباً حقيقية مع الإرهاب، ومن المؤكد أن «عبد الناصر»
واجه عدواً خارجياً، وكذلك السادات، لكنه صنع بيده عدواً داخلياً..
أما «مبارك» لا واجه عدوًا خارجيًا ولا داخليًا لأنه كان عامل هدنة
مع التيارات المُتطرفة، وقزم دور مصر خارجياً!.. ولكن «السيسي»
الوحيد الذى يواجه هذه الحرب داخلياً وخارجياً بكل عزم، عكس كل
الرؤساء السابقين، فخارجياً مازالت المؤامرات مستمرة ضد مصر، وهو
أمر مُرتبط بالتوازنات الدولية ودور مصر فى المنطقة ومحور تركيا
وإيران والسعودية.<
####
رسـائـل حُـب
كتب : محمد عادل
اتصلنا بالكثيرين للتحدث عنه، فتأثير «خيرى بشارة»
لم يكُن عِند الجيل القديم أو الوسط أو حتى مع من عمل معه فقط.. بل
هو مُمتد حتى لمن لم يعمل معه وللجِيل الأصغر.. شهادات من أجيالٍ
مُختلفة تُثبت أننا لسنا فقط نُحب «خيرى بشارة»، بل نعشقه ونعشق
أعماله حتى اليوم
.
رغدة
«خيرى
بشارة» مُتفرد.. مُغرد خارج السرب.. استطاع فى التسعينيات أن يخرج
مما كانت تتجه إليه السينما وقتها، ليظهر أعلى قمة مختلفة.
«كابوريا»
بالنسبةِ لى - كما يعرف الجميع - نقلة مهمة جداً، وكان السبب فيها
أننى قابلت مخرجاً يهتم بالتفاصيل، فالفيلم قد نُفِذّ فى أربعة
أسابيع، فكنا نواصل الليل بالنهار وكنا مسرورين بهذا
.
روحه حلوة.. مختلف.. فنه له طعم ونكهة.. يُفاجئك
بمراقبته لك حتى وأنت خارج إطار الفيلم !.. فعندما يجدك قد قمت
بتفصيلةٍ ما فى الحياة العادية، يطلبها منك ليُوظفها فى فيلمه !..
وعندما تقوم بعمل مشهد بأداء مُميز، يحاول أن يُؤخر كلمة
Stop
وكأنه لا يُريد للمشهد أن ينتهى حتى يُخرج كل ما بداخلك
!.
غنى بالوعى والتجربة، فحينما طرح علىّ التصوير
بالديجيتال فى «ليلة فى القمر»، لم أكُن مستوعبة فكرة الديجيتال،
كانت التجربة مُتعثرة وصعبة، لكنه أقنعنى بجُملة واحدة: «أدينا
بنفِن» .. وافقت، واندهشتُ وقتها أنه لم يكُن سواى وهو و«طارق
التلمساني» واثنين آخرين، فقط هذا هو طاقم العمل الذى سينجز فيلماً!.
أنا أذهب إلى الجحيم لو طلبها منى «خيرى بشارة»،
فهو المخرج الوحيد الذى إذا طلب منى أن أعمل معه فى عملٍ ما
سأُوافق فوراً حتى ودون قراءة النص، فأنا تشربت أُسلوبه، وفهمت
تفكيره، وأصبحنا على موجة واحدة حتى لو لم نتقابل لسنوات، ولقد
تعلمتُ منه الكثير.. «هو فكني»! .. لقد كان لدى الكثير من الأقفال
التى استطاع أن يفكها الواحد تلو الآخر ببساطة!.. دافئ.. كريم..
مِعطاء.. يستحق التتويج وليس فقط التكريم، فهو رمز من رموز السينما
العربية.
لديه خِفة دم كبيرة.. يسعد بنجاح الآخرين.. هادئ،
وفى الوقت نفسه مثل الأطفال فى عصبيته.. داخل «خيري» تشبُع وحياة
كاملة، لهذا لا يُفاجئنى بأنه لا يلقى بالاً كثيراً بإجراء حوارات
أو بجوائز أو غيره، فإرثه الإنسانى عبقرى وباقٍ
.
أحمد مجدى
حينما خرجت من دار العرض بعد مشاهدتى لفيلم «ليلة
فى القمر»، كنت أسير وأنا أرقص بشارع «عماد دين» ! .. كنت سعيداً
بأنى شاهدتُ فيلماً جميلاً ومُختلفاً، فالفيلم أعطانى أملاً بأنه
من الممكن صناعة فيلم أخاذ بإمكانياتٍ بسيطة، وأن مُخرجًا مثل
«خيرى بشارة» له باع كبير فى السينما المصرية قد قام بهذه الخطوة
كمواجهة لما تفرضهُ الصناعة بشكلها المعروف.
بعدما خرجت من دار عرض «سينما كوزموس»، ووصلت لشارع
«طلعت حرب»، وجدت أمامى «خيرى بشارة» فجأة وهو يسير على قدميه
بخطواتٍ أبطأ منى !.. شعرتُ وقتها بأن الكون يضع الظروف وكل شيء فى
مكانه الصحيح.. شعرتُ وقتها بسَكينة داخلى، جعلتنى أُسيطر على
انفعالاتى، فحافظتُ على سرعة خطواتى حتى وصلت إليهِ .. قلت لـ
«خيرى بشارة»: «أنا لسه خارج من فيلمك وعجبنى».. بتواضعه المعتاد
ولطفه المعهود أبدى سعادته.. لا أتذكر الحديث الذى دار بيننا
وقتها، فكنا نتحدث ونحنُ نسير معاً كأننا صديقين، حتى وصلنا إلى
مُفترق الطرق، فودعنا بعضنا البعض.. لكن لا يُمكن أن أنسى سحر هذا
المشهد بداخلى، منذ مشاهدتى للفيلم بمفردى فى قاعة السينما!.
أحلم بأن أعمل مع «خيرى بشارة»، لكن يجب أن يكون
هذا فى إطار شخصية جديدة، عصرية، وتُعبر عنى.
أنوشكا
للأسف لم أعمل معه، لكن إذا سألتنى أى من أفلامه قد
أثرت فى وسأُشاهدها باستمرار سأقول لك «الطوق والإسورة» و«يوم مر
ويوم حلو»، فالأول غيَّر من شكل «شريهان» تماماًً، والثانى غيَّر
فى شكل كل من عمل فيه.
قد تبدو اختياراتى مفاجئة، فبحُكم كونى مُطربة قد
يقول أحدهم أنى قد أميل لفيلم مثل «آيس كريم فى جليم» أو «حرب
الفراولة».. لكنى أنظر إلى أعماله من منظورى الذى يخصنى، فكلما
تعمقت أكثر فى المهنة أبتعد عن السطحية فى المشاهده أو الحكم على
الأعمال حتى وإن كانت كوميدية، وفى فيلميه اللذين أشرت إليهما أشعر
بأنه يُخاطب عقلى أكثر، وعلى الصعيد الإنسانى أحترمه جداً خاصةً
أننا تقابلنا أكثر من مرة.
وفاء عامر
علاقتى به بدأت منذ فيلم «آيس كريم فى جليم»، الذى
شاهدته بعد امتحان لى فى الإسكندرية وفى شهر ديسمبر، وكأن اُغنية
الفيلم تعبر عنى «آيس كريم فى ديسمبر .. آيس كريم فى جليم»!
.
كان «عمرو دياب» وما زال حديثنا وقتها، وكنت أتساءل
قبل مشاهدتى الفيلم: إشمعنى «عمرو دياب»؟.. لكن بعد المشاهدة عرفت
الإجابة
.
حين يتحدث إلينا، نجده يحب الموسيقى والغناء
والطرب، فهو دائماً متابع بنهم سواء الجديد أو القديم أو حتى
الغربى.
لن أتحدث عن أعماله، فأعماله تتحدث عن نفسها، لكنى
أُلاحظ أنه يحتضن الإبداع والمبدعين دائماً، فإذا وجد «حدوتة
إبداعية» احتضنها، وأنا مدينة له بالكثير فى مسلسل «ملح الأرض»
وحالياً فى مسلسل «الطوفان» لأنه احترم إبداعى.
أحمد وفيق
علاقتى به بدأت منذ مُشاهدتى لفيلميه «كابوريا»
و»آيس كريم فى جليم»، فكانت أفلامه بداية تكويننا كشباب فى تلك
الفترة، حيث هنالك لغة فنية فى التعامل مع موضوعات تبدو جامدة، فـ
«كابوريا» عن ذلك الشخص الضائع، لكنه يقدمه بشكل آخر وليس بشكل
معين أو معتاد وتقليدى.
هو مختلف تماماً عن «محمد خان»، حتى فى مفرداته،
ولقد عملت معه فى مسلسل «ريش نعام»، وهو قيمة فنية متكاملة، وأتذكر
أنه طلب منى أن نتقابل فى الزمالك للحديث عن المسلسل، وذهبت فى
الموعد وانتظرته، حتى وجدته، تأخر عن موعده ساعة ونصف كاملة، وفجأة
وجدته أمامى، وحينما سألته عن سبب تأخره، قال لى أنه أتى لى سيراً
على الأقدام من «وسط البلد» حتى الزمالك لأنه يحب التأمل!.
وحينما عملت معه، أحببت أفلامه أكثر، فهو رغم كونه
قيمة فنية كبيرة لكنه بنفس الوقت أبسط ما يكون.
####
مُـخـرج مِـنـنـا
كتب : رقية قنديل و هبة شوقي
عوامة تطفو فوق سطح النيل فى «العوامة 70»: قصر
عملاق قاتم فى إحدى مدن الصعيد فى «الأقدار الدامية».. قرية صغيرة
أكثر قتامة فى «الطوق والأسورة».. حوارى وأسواق شبرا القديمة
المكدسة فى «يوم مر ويوم حلو».. مزارع ومنازل «كريمة» المجتمع فى
مقابل أزقة «الغلابة» فى «كابوريا».. شوارع المعادى «المودرن»
الهادئة فى «آيس كريم فى جليم».. صحراء مخيفة تتجول فيها «نادية
الجندي» فى «رغبة متوحشة».. شوارع وغابات رومانيا الكثيفة فى
«أمريكا شيكا بيكا».. «يسرا» على رصيف كوبرى قصر النيل فى «حرب
الفراولة».. أبطال «قشر البندق» فى أحد الفنادق الفاخرة.. وأخيراً
إشارة شارع «طلعت حرب» فى «إشارة مرور».
أماكن اختارها «خيرى بشارة» لتصوير أفلامه.. كان
الشارع دائماً هو البطل الرئيسى، وتصوير أى مشهد فى الشارع يمثل
تجربة مريرة لأى مخرج.. ما بالك ومشاهد بعض أفلام «خيرى بشارة»
بأكملها أو على الأقل 90 % منها كانت فى شوارع حقيقية.
ذهبنا إلى الأماكن التى صور فيها أفلامه.. حاولنا
نقل صورة حية من الشوارع.. تحديداً من ذكريات أهالى ثلاثة أحياء
عنه.. «شبرا».. «المعادي».. و«وسط البلد».
البداية كانت فى حى «شبرا»، حيث كان تصوير فيلم
«يوم مر ويوم حلو».. تحدثنا مع صاحب المطعم «مدحت» و«أيمن»
الفكهانى، بالإضافة إلى «محيي» و«جورج» من سكان منطقة «روض
الفرج».. قالوا لنا: «نعشق أفلام خيرى بشارة لأنها واقعية وتمثل
المجتمع، ونتذكر تصوير الفيلم بمنطقة السوق القديم بشارع على محمود
طه، فقد كان أبطال الفيلم يمرون بجوار سور الحديقة العامة
بالمنطقة، ويتجولون هناك، وكان حديث السكان وقتها عن أيام التصوير
ومشاهدة فاتن حمامة ومحمد منير».
فى شارع (9) بـ «المعادي» كان تصوير فيلم «آيس كريم
فى جليم».. تجولنا هناك، ووجدنا أحد المحلات الذى ظهر فى الفيلم
كمحل للبقالة وبيع الجرائد، حيث يقرأ البطل «عمرو دياب» إعلاناً عن
مسابقة غنائية.. والآن قد تحول نشاط هذا المحل من البقالة إلى بيع
المأكولات «تيك آواي».. تحدث الحاج «إسماعيل» عن يوم التصوير فى
المحل قائلاً: «تفاجأت بدخول عمرو دياب ومعه خيرى بشارة، وإذا
بعمرو دياب يضع يده على كتفى ويقول: تسمح لنا نصور فى المحل عندك،
كنت وقتها أصغر بخمسة وعشرين عاماً، فطلبت منهما أن يستئذنا أخى
الأكبر، والذى وافق على التصوير، ليكون بعدها يوماً من أجمل
أيامنا».. ويضيف الحاج «إسماعيل»: «آيس كريم فى جليم فيلم جميل،
وكان مُعبراً عن الشباب فى تلك المرحلة، وعمرو دياب كان مطرباً
وممثلاً محبوباً، وأفلام خيرى بشارة أفلام خفيفة، وتعبر عن الواقع
فى شكل بسيط، يصل للمواطن العادى، فى حين أن غيره من المخرجين
يُعقدون الأمور ويُقدمون أعمالاً درامية لا علاقة لها بنا ولا
بمجتمعنا وكأنهم يعيشون فى كوكب آخر»!.
الحاج «مسعود»، والذى قال لنا إنه من أقدم سكان
شارع (9) أحب أن يقول: «خيرى بشارة أعرفه من خلال أعماله، وأحبه
كثيراًً، فحين شاهدت فيلمه أمريكا شيكا بيكا وجدته قد لمس جراحنا
ولكن بلطف، وكان هذا جرح جميع الشباب فى تلك الفترة وحتى هذه
اللحظة، فالشباب يسعون للهجرة والسفر، ولكن الكثير منهم يصطدم
بالواقع، وبرأيى هذا من أفضل الأفلام التى تناولت هذه القضية
بمهارة وحِرفية فى شكل كوميدى، على الرغم من أنه واقع أليم، وهذا
الفيلم أبكانا جميعاً.. خيرى بشارة مُخرج مِنا».
فى شارع «طلعت حرب» بحثنا عن المحال القديمة التى
ربما مازال يتذكر أصحابها أيام تصوير «إشارة مرور»، وتوقفنا عند
أحد البازارات.. محل قديم للغاية، سألنا عُمال «البازار» عن «خيرى
بشارة»، فوجدناهم يعرفونه.. قال «جمال»: «آه عارفه طبعاً وبيجى
هنا ومعاه المدام وبيشترى مننا تُحف، وفاكر فيلم إشارة مرور اللى
كان بيتصور فى ميدان التحرير، لكنى كنت صغيرا وقتها».
وصلنا
إلى مكتبة «مدبولي» الشهيرة لنتحدث مع «نادية مدبولي» و«محمد
مدبولي»، فوجدناهما أيضاً يعرفان «خيرى بشارة»، خاصةً وهو يتردد
على المكتبة، بل ويتذكرون أيضاً بعض اللقطات التى بقيت فى ذاكرتهم
عند تصوير فيلم «إشارة مرور».. وأضاف «محمد»: «مازلت أتذكر جلسات
ليلى علوى وسامى العدل كل ليلة أثناء التصوير فى الميدان».>
####
«خيرى
بشارة»: لم أحقق من أحلامى إلا القليل
كتب : شيماء سليم
إذا كان «خيرى بشارة» شخصاً يبدو من الخارج صلباً..
عنيداً.. عصبياً.. مغروراً.. فإن من يقترب منه - وفى أقل من خمس
دقائق - سيدرك العكس تماماً.. سيدرك كم هو رقيق - سهل.. هادئ..
ومتواضع.
لا يجرى«خيرى بشارة» - فى العادة - حوارات صحفية..
لكنه تحمس لكسر تلك العادة مع «روزاليوسف».
قررنا أن تكون الأسئلة من قلب أفلامه.. لنصل إلى
عشرة أفلام بعشر أسئلة تتوجه لـ «خيرى بشارة» ليجيب عنها.
كنا فى انتظار إجاباته وكنا ننتظر أن نستخلص هموم
البشر ومعنى الحياة عنده.
·
من «الأقدار الدامية»: هى العائلة غير القادرة على
مواجهة أقدارها؟
-
الأقدار حتمية بحكم السياق الاجتماعى والتاريخى، ومن ثم لن تتمكن
العائلة من الإفلات من مصيرها التعس.
·
من «العوامة رقم 70»: مسقط رأسك عايز يعرف.. ألم
تشعر بالحنين؟
-
الحنين إلى الماضى يوقفه دائماً العشق المتجدد مع الزمن الحاضر..
الماضى ابتعد فى الذاكرة، وصرت متحرراً من أوهامه، ولا أملك سوى
اللحظة.
·
من «الطوق والإسورة»: لما رُحت البر الغربى اتحررت
من الطوق وقطعت السلاسل؟
-
التحرر من الأطواق والأساور ليس له علاقة بالخارج، وإنما ينطلق
أساساً من الداخل.. من عقل الإنسان وفكره ومشاعره.
·
من «يوم مر ويوم حلو»: سألت نفسك قبل كده: أنا زى
ما بسعد ناس بتعِس ناس؟
-
حين أدرك أننى سببت ألما لأحد، سرعان ما أعيد تقييم نفسى.. وهذا ما
حدث حين استوقفنى فى «إشارة مرور» رجل فاضل، أبدى إعجابه بـ«يوم مر
ويوم حلو».. قال لى إنه أصيب بعدها بذبحة قلبية.. لقد وُلِدَ فيلم
«كابوريا» من رحم تلك اللحظة.
·
من «كابوريا»: لو معاك فلوس كثير.. هتعمل بيها إيه؟
-
أنا عموما مُبذر، ولكنى الآن أقل تهوراً من الماضى.. أنا أشعر أن
الفلوس خدعة كبرى، ولم أفهم حكمتها حتى وقتنا هذا وبعد ذلك العُمر.
·
من «آيس كريم فى جليم»: إمتى قلت: هأجل أحلامى
شوية؟
-
لم يتحقق من الأحلام إلا القليل، ولكنى على قناعة كاملة بأن
Whatever Will Be Will Be
ما سوف يكون سوف يكون.. وعليَّ ألا أتوقف عن الأحلام.. وما يتحقق
منها جميل.. وما لا يتحقق لا يزعجنى.
·
من «أمريكا شيكا بيكا»: يعنى إيه كلمة وطن؟
-
الوطن هو قدرك.. الوطن هو المكان الذى يُولد فيه الإنسان، وينمو
وهو يرضع ميراثاً وألماً وفرحاً وتقاليد وعادات وأحلاماً وتناقضات
وثقافة المكان.. الوطن ليس اختياراً.. وإنما قدر.. مثل الدين
تماماً.
·
من «حرب الفراولة»: السعادة هى إيه؟
-
السعادة أن تتحرر من أوهامك، وتعثر على الفرح الحقيقى.
·
من «قشر البندق»: هو الأكل أهم حاجة؟
-
ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
·
من «إشارة مرور»: هو إحنا لسه ماشيين بالتكُالة؟
-
للأسف مازلنا جميعاً نقاوم التكُالة عبثاً ودون جدوى.> |