«آخر
أيام المدينة» الاغتراب في قاهرة تامر السعيد
بواسطة
آلاء حسانين
إعداد وحوار: آلاء حسانين
(كان أملي هو أن أصنع فيلماً يتعدد بتعدد مشاهديه، بحيث إذا
شاهد الفيلم ثلاثون شخصاً، فإننا نكون أمام ثلاثين فيلماً، ولا أعرف إذا
نجحت بهذا الأمر أم لا، لكن تمنيت أن يسمح الفيلم لكل مشاهد بإعادة تركيبه
على طريقته، بحيث يشتبك الفيلم مع الجمهور، ويحصل كل منهم على قصته)...
تامر السعيد
وأنا أشاهد فيلم آخر أيام المدينة لتامر السعيد، طرأ على
بالي غريب كامو (مارسو) ووجدت بداية شبهاً بينه وبين خالد، بطل تامر
السعيد، وهو يعبر مدينته صامتاً، غير متفاعل مع شيء حوله، ولو سئل عن ذلك،
فربما لن يستعير قول مارسو إذ يقول: (إنني لا أجد شيئاً ذا أهمية أقوله،
فأصمت.) بل خالد، ربما سيصمت عند هذا أيضاً.
صمت خالد هو المعادل العكسي لصخب القاهرة في الفيلم، وهو ما
يمنحه التوازن، كما أنه التعبير الأمثل عن كل ما تراه عيناه، أعني إذا ما
اضطر أن يشتبك مع القاهرة، لأنه لا يتفاعل مع محيطه إلا للضرورة.. ينسل من
بين الزحام كأنه يعبر فوقه، يمر على الأحداث أو تمر عليه، دونما تفاعل..
لكن صمته ليس نابعاً من هدوء داخلي، بل على العكس، فهو ممتلئ بالصخب الذي
لا يعرف كيف يتعامل معه، كما أنه محاط بالوحدة.. فعلى الرغم من أن لديه
أصدقاء تربطه بهم صداقات عميقة، وحبيبة، وأم، وأمكنة يلجأ إليها، إلا أنه
وحيد كُليّاً، ومعزول. ولا شيء بإمكانه أن يفعله ليوقف ذلك، لأنه يتصدع،
كما المدينة من حوله.. ويتداعى معها: رفاقه يتفرقون في الأرض، وحبيبته تفلت
منه، وأمه على وشك أن تموت.
ويعي خالد بأنه لا يملك أن يفعل شيئاً ليوقف انجراف
المدينة، ولا يمكنه أن يرتق حياته بمعزل عنها، لأنه في المحصلة الأخيرة
مجرد فرد آخر، سينزلق حتماً إذا ما بدأ سيل المدينة الكبير، وستجرف حياته
معه، مثل خشبة أو جرذ ميت. وبناء على ذلك، يقف متفرجاً، ويلام ممن حوله على
كونه سلبياً، ولا يعيش.. لكنه يلتزم الصمت هنا أيضاً، إذ كيف سيقول لهم إن
الطوفان قادم، وإن الأمل نفسه، ستسيل محاجره السوداء على وجه المدينة.. وإن
الناس سيعلّقون أنفسهم، ليس على الكروم هذه المرة.. بل على جذوع ميتة،
ويابسة.. إذا وجدوها.
يعيش خالد مُثقلاً بالخوف واليأس، ومتجاوزاً لهما في الآن
ذاته، أو مُتجاهلاً. فهو لم يحرق نفسه هلعاً، ولم يتشدق على النقيض، بأمل
كاذب ينبع في الأصل من هلع آخر، ففريقا الأمل واليأس كلاهما خائفان،
ويعجلان في انهيار المدينة. أما خالد، فيمشي فيها وهو يبصر الخراب الذي
سيحل، ينظر إلى الأبنية ولا يرى سوى ركام، يعرف يقيناً أن المدينة آيلة
للهدم، وأن جميع الأنبياء ماتوا، وإذا ما أنصتنا قليلاً، فإننا سنسمع صهيل
القيامة القادمة على خيول سوداء.
وللتعامل مع هذا الوضع، يختار خالد أن يراقب، وأن يُسجل،
ليس بدافع التغيير، أو الرغبة فيه.. فهو يعرف أنه ما من جدوى من ذلك، لكنه
يرفع كاميرته ويصور، دون أهداف أو خطط واضحة، غير أن يحفظ وجه المدينة،
الذي سيشيخ قريباً. يصور أمه وهي تحتضر، يصور أصدقاءه، إذ يجتمع بهم في
القاهرة بعد انقطاع طويل، يصور حبيبته التي خنقتها القاهرة، ودفعتها
للمغادرة، كما يصور شخصيات أخرى، طالباً منهم أن يحكوا وحسب.. لا يريد أن
يغير شيئاً، أو أن يعالج شيئاً، أو أن يحيي شيئاً، لكنه ربما يريد أن يقبض
على شيء قد يزول سريعاً. وبما أن الأشياء كلها تتركه، وهو مستسلم لذلك،
فيكتفي، متجاوزاً ليأسه، أن يحتفظ ببعض الذكريات، قبل أن يفلت يده.
ذات ليلة هرع خالد إلى أحد أصدقائه، فسأله بينما يعد له
القهوة: ما بك؟ أجاب بنبرة هادئة وممتلئة: لا شيء، الأشياء فقط كثيرة. ومن
هذا الزخم يمكن النظر إلى خالد، فهو يقول لا شيء، بينما صوته يجيء محملاً
بالأشياء كلها. ولا عجب أن اسم الفيلم الأولي كان: قصة طويلة عن الحزن،
فالحزن الناجم غالباً عن الخسارة، هو ما يوحد بين الشخصيات، ويختلفون فقط
في طريقة تعاطيهم معه.
ففي المشفى، تحكي أم خالد عن خسارتها لابنتها الصغيرة في
حادث أثناء عودتهم من ليبيا، فتقول: حتى الآن، ما زلت أشعر بها تركض خلفي
وتمسك بثيابي. ورغم مرور عدة عقود على هذا الحادث، إلا أنها ما تزال تجره
خلفها، وتحمل كل ليلة جثة ابنتها الميتة وتضعها في الفراش.
يسأل خالد أمه: هل تتألمين؟
فتقول: نعم، ثم تسأله، ما بي؟
فيجيبها: لا شيء، فقط كبرتِ في السن.
وقد تكون غرفة الأم في المشفى هي أكثر الأمكنة التي يشعر
خالد بالأمان فيها، فهو من حين لآخر يهرب إليها من الوحش الذي تمثله
المدينة، كأنه -بتعبير سيلفيا بلاث- يزحف عائداً إلى الرحم.
ثم يغادر مرة أخرى ليعيد الاشتباك مع القاهرة، وليكمل بحثه
الأبدي على منزل، إذ يقول له أصدقاؤه ساخرين: أنت لا تغادر، فقط تبحث إلى
الأبد.. فبشكل يوميّ، يقوم بجولة برفقة سمسار عقارات على شقق في محيط وسط
البلد، لكنه لا يجد ما يناسبه، ينتقل من شقة إلى أخرى وهو يقول: لا، ليست
هذه. وبصوت متعجب يقول: كل ما أريده هو حجرة وصالة!
فرغم ضآلة ما يبحث عنه، إلا أنه يشقى في إيجاده.
عم يبحث خالد بالضبط؟ فهو لا يكف بالدوران حول نفسه، في
مدينة لا أول لها ولا آخر، يتجنبها مثلما يتجنب حبيبة قديمة، إذ تقول له
حنان، وهي إحدى شخصيات الفيلم، إن حبه للقاهرة مشوب بالحزن، وتلومه لأنه لا
يعيش حياته، فهو حتى لا يفتح نوافذ منزله، لكن كيف سيقول لها إن النوافذ
ستسمح للمدينة بالدخول، وإنه يريد منها أن تبقى في الخارج؟
يتحرك خالد في دوائر محددة، فرغم أن القاهرة مدينة شاسعة،
غير أنه بالكاد يخرج من منطقة وسط البلد، فهو يألفها، ويعرفها، وفيها،
تتضاءل حتمية ضياعه.
يطلب خالد من حنان أن تحكي عن منزل أمها، الذي على وشك أن
يهدم، لكنها لا ترغب بأن تتحدث عن الماضي، وتطلب منه أن يغادر ماضيه، ويجلس
قبالة الحاضر.
وهذا بالضبط ما بعث به إليه صديقه العراقي حسن، إذ يجيء
صوته من الماضي مسجلاً فيقول: خالد، صديقي، اعبر البداية، ابدأ من المنتصف،
افتح باب روحك للهوا، وعيش!
لكن كيف يعيش خالد وسط هذه المدن المحقونة بالموت؟ كيف يعبر
الشوارع دون أن يدوس على الجثث، التي كانت، والتي ستجيء؟ كيف يمكنه على
الأقل ألا يرى الدم يتقطر من مواسير المياه في الشارع؟ وهذا بالضبط ما
ناقشه أصدقاؤه الثلاثة باسم وطارق وحسن حين جمعت بينهم القاهرة، وهم صناع
أفلام من العراق وبيروت، إذ خاضوا نقاشات طويلة عن الأوطان في ليل يقطر
شجناً..
فباسم، وهو عراقي اختار مغادرة بغداد إلى برلين، يقول لهم،
ربما مبرراً تفضيله وثيقة المهاجر على البقاء في العراق: فكرتكم عن مدنكم
عاطفية للغاية، بالنسبة لي، بغداد هي فكرة، أستطيع أن أحملها في أي مكان،
أن أزرعها مثل أية نبتة، وستثمر.
ثم يحاول إقناع حسن ليترك بغداد ويذهب معه إلى برلين،
فيقول: لا تدفع الثمن! تعال إلى برلين وجرب حياتك هناك. غير أن الآخر يثور
غاضباً: هل حياتي مجرد حقيبة أحملها فقط وينتهي الأمر؟
وعلى مدار الفيلم يحتد النقاش بينهما، فهما يحبان بغداد، كل
على طريقته. لكن طارق لم يستطع تحمل رؤية مدينته تتغير، وتفجرت رغبته
بالمغادرة بعدما مرت من أمامه ذات يوم سيارة تحمل جثة في صندوقها، وخيط
طويل من الدم يسيل منها ويمتد على طول الطريق. أما حسن، فقد بقي، لأنه
أراد، بعاطفة شديدة، أن يمسح هذا الدم الممتد منذ مئات السنين.. ولم يستطع.
ينتهي الفيلم بصوته قادماً من بعيد عبر الهاتف، يقول: خالد.. ثم يصمتُ
طويلاً، وأخبار عن انفجارات في بغداد تتردد عبر محطات الأخبار.
من منهما كان مُحقّاً؟ ولأجل ماذا انقضت ساعات نقاشهما
الطويلة في ليالي القاهرة، ما دام البقاء في الوطن ليس أفضل من مغادرته،
وإن قدم لك المنفى امتياز أن تختار موتك.
أما باسم، الذي يحمل في يده كاميرا على الدوام ويحاول
التقاط كل شيء في القاهرة، إذ يقول: هذه القاهرة تمنحك صوراً طارفة، ولا
أظن بأن هناك مدينة في العالم تستطيع أن تمنحك أكثر من عشرين ألف صورة في
الثانية مثلما تفعل القاهرة. أظن أن المرء إذا جلس هنا لوقت أطول، فإنه
سيتوقف عن الرؤية، لأن هذه الصور ستتحول إلى ضجيج. ثم يتنهد حين يُسأل عن
عدم تصويره لبيروت حتى هذه اللحظة ويقول: لأن بيروت كذبة، أخاف إذا صورتها
أن أكتشف أنني بلا مدينة، حينها سأضطر أن أذهب أنا أيضاً إلى برلين.. ثم
يضحكون ساخرين، والذي يضحك هنا، هو الحزن، المرثية الطويلة التي يُنشدها
الفيلم، فخالد إذ يمشي في القاهرة، في مدينة مزدحمة بكل شيء، إلا أنه
بالكاد يختلط مع محيطه، بالكاد يتحدث مع أحد، ويشتبك في أي نزاعات.. يمر من
بين الاشتباكات، يرى أناساً يُضربون بقسوة في الأزقة.. عربات للأمن تأتي
وتذهب، متظاهرون ومشجعون لكرة القدم، نيران في كل مكان، وهو لا يفعل شيئاً
غير أن يمر، ويشاهد فقط.. مهما تغيرت الظروف الخارجية، مهما تبدلت، فعلى
مدار أكثر من عشر سنوات، وخالد، يشاهد فقط، ويبحث عن شقة.
تقول له حنان، إحدى شخصيات الفيلم: لا أريد أن أعيش في
الماضي. رافضة بذلك أن تحكي حكايتها، أو بالأحرى، حكاية منزلها في مدينة
الإسكندرية الذي على وشك أن يهدم.
وإضافة إلى ذلك، يحاول خالد التقاط ترسبات الزمن على وجه
مدينته، ربما ليبقى بعيداً عن صراعاته الداخلية، التي تظهر جلية في كل ما
حوله، فالقاهرة هنا، ليست محيطاً خارجياً فحسب، بل هي مرآته. بكل
تناقضاتها، بالزحام، بالباعة المتجولين، بالمانكان العارية التي صارت تُغطى
بالجرائد، وهذا يعكس تحول المدينة في فترة ما، لكن خالد لا يحاول التعامل
مع هذا التغيير، ليس مثل أصدقائه الذين حسموا أمرهم مع مدنهم، أحدهم
غادرها، والآخر اختار أن يموت فيها، والثالث تجرأ وقام بتصويرها أخيراً، بل
وواجه خوفه القديم بأن مشى لأول مرة في زقاق ضيق، كان شاهداً على حرب ما.
حتى حبيبته، ليلى، حسمت أمرها مع المدينة وقررت تركها،
وتركه.. فيما رنين الهاتف المتروك دون إجابة هو ما يجمع بينهما، ويفصل
أيضاً.
أما مريم، وهي إحدى شخصيات الفيلم الذي يصوره خالد، والتي
حكت عن والدها الذي مات في حريق مسرح في بني سويف فتقول: أحياناً وأنا أصنع
القهوة أقرب يدي من النار، لأعرف كيف يبدو الأمر.. تحسم أمرها هي أيضاً بأن
تنتقل من شقتها لأجل أن تعيد جمع أشلاء روحها. وهذا الفعل الذي لم يقدر
عليه خالد، فأشلاؤه متناثرة في شقته، وفي المدينة، وفي حياته التي يحاول أن
يُركب قطعها، ما بين أمه التي تحتضر في المشفى، وذكرى أخته التي ماتت في
طفولتها، ووالده الميت الذي يحاول أن يعرف عنه أكثر، فيذهب ليلتقي بزملائه
ويسألهم عنه، لكنه يفاجأ بأنهم لا يتذكرونه.
البعض يقول إن آخر أيام المدينة هو فيلم عن الخسارة، ليست
فقط لأنها عامل مشترك بين جميع الشخصيات بما فيهم المدينة، بل أيضاً لكونها
قدراً محتماً، لا يمكن الفرار منه حتى بالذهاب إلى برلين. والبعض الآخر
يقول إنه فيلم عن الصداقة، حتى تامر السعيد نفسه، الذي يشير إلى أن في
الفيلم احتفاء غير معهود بالأصدقاء، لأنهم أحد أسباب النجاة الرئيسية في
حياته، وأيضاً في حياة الفيلم، الذي ما كان ليظهر لولا وجود أصدقاء يؤمنون
به ويدعمونه.
هناك أيضاً من يرى أن الفيلم عن المدينة الكبيرة، أو عن
الشعور بالعزلة في المدينة القاهرة. وليس من الصواب في نظري أن يكون للفيلم
موضوعاً محدداً، أو هدفاً، أو مغزى.. لأن الفيلم أولاً قد يحمل كل ذلك،
وأكثر. وثانياً ربما لأنه لا وجوب لشيء في الفن، فهو المكان الذي تختفي فيه
الحدود، وهو إحدى المساحات الضئيلة، التي يستطيع فيها المرء أن يكون أي
شيء، أو لا يكون حتى.. دون أن يضطر إلى تبرير نفسه، أو عمله.
وبالحديث عن الحدود، يقر تامر السعيد بكرهه التام لها، حيث
يقول إن المطارات مثلاً هي أكثر الأمكنة التي يكرهها، لأنها تذكر الناس
باختلافهم الذي قد يكون شكلياً وواهياً.. لذلك حاول في فيلمه أن يموه
الحدود تماماً، الحدود بين الدرامي والوثائقي، بين الواقعي والخيالي، بين
الكلام الذي قيل والكلام الذي لم يمنح الفرصة ليُقال، فصار صمتاً.
وبالرغم من أن خالد هو بطل فيلم آخر أيام المدينة، غير أن
تامر السعيد يقول إن الفيلم ليس عن خالد، فقد قصد تامر السعيد أن تكون
شخصية خالد مسطحة، بحيث يمكنه أن يكون كل واحد فينا، فخالد ما هو سوى
انعكاس للخوف فينا، وبتعبير أفضل، هو (الشبح) الذي نخشى كلنا أن نصيره
مثلما يقول، كما أنه حلقة وصل بين جميع شخصيات الفيلم، بما فيهم المدينة.
ومن الملاحظ أن الفيلم يضم شخصيات نسائية عديدة، فيقول
المخرج تامر السعيد: النساء في الفيلم رغم ظهورهن البسيط، غير أنهن فاعلات،
وقد كنتُ محظوظاً بمعرفة العديد من النساء المؤثرات في حياتي واللواتي
تعلمت منهن الكثير. كما يضيف: كل شخصية في الفيلم تمثل نفسها، فليلى مثلاً،
لا تعبر عن النساء في مصر أو ما شابه، بل عن ليلى فقط، وما يهمها أو
يحزنها، وكذلك بقية الشخصيات. فالقصص عرضت بشكل إنساني بحت، ورغم انزعاج
البعض من الشخصيات الرجالية في الفيلم، إلا أنها شخصيات إنسانية حقيقية لم
تخجل من التعبير عن ضعفها وحزنها وهشاشتها.
وإذا صح أن يكون الفيلم عن شيء ما، فهو عن المدينة التي
تقهر أبناءها، وبالعودة إلى سنة بداية صناعته أي 2007، فيقول تامر السعيد:
بدأت بصناعة الفيلم في ذلك الوقت لأني أردت أن أكتشف ماذا تعني لي المدينة،
كما أنني كنت مأخوذاً بسؤال: من تقهر القاهرة الآن؟ لأن سبب تسمية القاهرة
بهذا الاسم هو أنها تقهر الأعداء.
استمرت رحلة تامر السعيد في صناعة الفيلم عشر سنوات، وآخر
أيام المدينة ليس فيلماً واحداً، بل مجموعة أفلام تضم قصصاً حقيقية لشخصيات
إنسانية عديدة، وتطرح أسئلة كثيرة عن علاقة الأفراد بمدنهم، بماضيها الثقيل
وحاضرها الهش ومستقبلها المجهول.
وبرأيي فإن أية كتابة ستكون قاصرة أمام تحفة سينمائية عظيمة
مثل آخر أيام المدينة، حيث يعده البعض أهم فيلم مصري في العقد الأخير، لكن
ربما نشير إلى بعض الأشياء المميزة في الفيلم، مثل شريط الصوت الذي اشتغل
المخرج عليه بالتوازي مع اشتغاله على صورة الفيلم، فصوت آخر أيام المدينة
يمكن أن يعد فيلماً منفصلاً، حاول فيه تامر السعيد أن يخلق من صخب القاهرة
وشجن أبنائها هذه السمفونية الآسرة، فيقول إنه اشتغل مع فريقه على الصوت
فقط مدة عام كامل.
كما نشير أيضاً إلى اختيار اللون الأصفر الترابي للفيلم،
مما منحه حساً غبارياً، يستطيع معظم من يشاهده أن يستعيد هيئة أجواء
القاهرة الخانقة.
والآن، وبعد عشر سنوات من صناعة الفيلم، الذي عرض لأول مرة
في مهرجان برلين عام 2016، من يستطيع أن يلوم خالد؟ الذي صرناه كلنا بشكل
أو بآخر. ففي عالم يتداعى، يُعد بقاء المرء حياً فقط هو إنجاز جبار يستحق
أن يُحتفى به.
حصل فيلم آخر أيام المدينة على جوائز عديدة منها: الجائزة
الكبرى لأحسن فيلم وجائزة لجنة تحكيم الشباب في مهرجان أفلام القارات
الثلاث الذي عقد بمدينة (نانت الفرنسية)، كما حصل على جائزة (كاليجاري) في
مهرجان برلين 2016، وجائزة أحسن إخراج في مهرجان بوينس آيرس في الأرجنتين،
والجائزة الكبرى لأحسن فيلم في مهرجان آفاق جديدة في مدينة فروسلاف
البولندية، وأحسن فيلم روائي طويل في مهرجان سان فرانسيسكو للفيلم العربي
في الولايات المتحدة الأمريكية، كما حصل على جائزة النقاد في مهرجان كان
السينمائي 2016.
وما يزال فيلم آخر أيام المدينة يحصد العديد من الجوائز حتى
الآن، ويعرض في بلدان مختلفة وينال استحسان الجماهير، ومن المؤكد أن
السينما العربية ستتذكر هذا الفيلم طويلاً. |