آخر أيّام المدينة - الجزء الثاني
"آخر
أيّام المدينة" أو "الحضارة في آخر أيامها" كما قال "آخر الرجال المحترمين"
(2)
عبد الله البياري
البدايات
في كتابه "المُجتمعات المُتخيّلة" (1983) يناقش "بندكت
أندرسن" (1936 - 2015) فكرة الدولة القوميّة باعتبارها ظاهرة حداثيّة، ويرى
"الأمّة" فضاءً مُتخيّلًا لأنّ جميع أفرادها غير قادرين/قادرات على خلق
تواصل مباشر وعميق في ما بينهم/ن من خلال عمليّة "التخيُّل" ومضامينها
ومُحرّكاتها، باعتبارها ما يوحدهم/ن، لتُرسم بناءً على ذلك حدودُ الدولة.
عبر المُمارسات اليوميّة –الفرديّة والجمعيّة- يُخلق تسلسل
زمني/كرونولوجي يصوغ سرديّة المجتمع ويجعل منها حبكة متماسكة، يتحرك من
خلالها أفراده. واستمراريّة الممارسات القوميّة اليوميّة تضفي على سرديّة
المجتمع معنًى واضحًا، وذلك عَبْر مَوْضَعتها ضمن خطّ زمنيّ مستمر.
يدّعي أندرسون أنّ الزمن يتمركز في صميم الخطاب القوميّ
الحداثي للدولة. حيث الزمن الحداثي مُتجانس وخطّيّ يبدأ من الماضي، يمرّ في
الحاضر، ووجهته نحو المستقبل، وأنّ أساس تَخيُل جميع الأمم ورسم حدودها،
يسعى لإثبات هذا التسلسل والربط بين أزمنته وحقباته التاريخيّة، وبالتالي
فالممارسات القوميّة هي نتاج لأداءات الفرد والجماعة.
يرى أندرسون أنّ المجتمعات تعترف بالفرد كذات مستقلّة، بعد
أن يمرّ بسيرورة القوميّة، أي يتأمّم(nationalized)
.
أمّا جوديث باتلر (1956 - )، فترى أنّ ممارسة التجربة الشخصيّة للهُويّة،
أيّ هُويّة، هو (كتجربة) نتاج رزمة من الأفعال الأدائيّة والممارسات التي
تلائم المعنى والمتخيَّل؛ "فالهُويّة، كأيِّ ممارسة خطابيّة مبنيّة على
التفاوض، والهدم، والتفكيك، والبناء"
.
كل ما سبق يدفعنا للسؤال عن الحدود المتخيلة لمدينة كلٍ من
الشخصيات الأربعة في الفيلم: خالد، باسم، حسن وطارق. "خالد" (خالد عبد
الله) لم تدّجنه القاهرة بعد، في كل مشهد له فيها وفي كل ما يحكيه عنها،
ثمة اضطراب وغربة وحب بادٍ لحدود الوجع والقهر، فهو غريب في كل مشاهده فيها
وبين سكانها، حتى في أثناء بحثه عن شقة يبدأ منها علاقة جديدة مع القاهرة.
في حين علاقة بغداد مع المخرجَين العراقيين "حسن" (حيدر حلو) و"طارق"(باسم
حجر) تبدو مختلفة ومتناقضة ومرآويّة أيضًا. "طارق" الذي لا يستطيع أن يحيى
خارج بغداد، متسلحًا بكل الأمل والمنطق والقصص الشخصيّة، تقتله في النهاية
مدينته بعد أن أفرط في الدفاع عنها، في مقابل "حسن" الذي تركها للأسباب
نفسها متسلحًا بالأسلحة والذرائع نفسها، مهاجرًا إلى "برلين"، المقابل
الموضوعي لحدود الجماعة المتخيّلة (العراق)، والتي هي من الهشاشة، أن ترفض
(ألمانيا) قانونيًا عودة أو زيارة "طارق" لبغداد، وإلا أُبطلت أوراق لجوئه،
باسم "حمايته" منها، ومن نفسه، بعد أن أفقده اللجوء والخروج من بغداد عينه
المخرجة.
بالعودة لفكرة الزمن الخطي المستقر والممتد في هوية خالد
كقاهري، من الماضي، للحاضر ومنه للمستقبل، فإن حركة خالد على خط الزمن،
ومراوحته بين البدايات في الماضي وحاضره هي أزمة هويّة كممارسة مدينيّة،
ولعل هذا هو سبب انحسار المدينة/القاهرة، بالنسبة إليه بين "وسط البلد"
و"مستشفى السلام"، فحسب!
أزمة الهويّة تلك هي أزمة جماعة متخيلة من ناحيّة، وأزمة
دولة مختلقة من ناحيّة أخرى، لا تجد في ممارساتها المدينية اليوميّة حدود
تعريف مناسبة للأنا والحبكة والمعنى، الخاص بالجماعة العضويّة والدولة
المصريّة. ويتضح ذلك فضاحًا جليًا وعاريًا في المسافة بين القاهرة/مصر التي
يحكي عنها الراديو في مشاهد عدّة في الفيلم، وواقع أفرادها وسكانها
وقاطنيها، حتى بمشاهد تحديد الجماعة المتخيلة العضويّة، من خلال احتفالات
الشعب بالفوز بكأس أفريقيا، كما يظهر في الفيلم، فالسؤال عمن هو المصري،
وما هي/من هي القاهرة/مصر، أثقل من ثمالة فرحة كاذبة ومؤقتة.
لا يقع خالد وحده، ضحيّة هذا السؤال الوجودي عن الأنا
والبدايات والمعنى، من خلال المدينة، وإلا كان للفيلم نَفَسٌ "مهدويّ"،
يقدم "خالد" باعتباره مخلّصًا ومبشّرًا ومهديًا، يضيء ويقتحم ظلمات علاقة
المصريين/المصريات مع مدينتهم/ن. فجميع الشخصيّات تقريبًا وقعت فيه، وإن
كان لكل شخصيّةٍ طريقتها وتعابيرها؛ فـ"مريم" (مريم صالح سعد) –مثلًا- تبحث
عن إجابة حول مقتل والدها في جريمة فساد وقعت في إحدى مسارح هيئة قصور
الثقافة المصرية، بعد أن احترق المسرح وراح ضحية الحريق ما يزيد على خمسين
ضحيّة، منهم والدها، في الجريمة التي خرجت منها الدولة المسؤولة عن أفرادها
ومواطنيها بريئة من الجرم؛ تقول "مريم" بأنها في بعض اللحظات تحاول لمس
النار لتعرف ماذا أحس والدها حينها.
ليست "مريم" وحدها من تبحث عن استمراريّة ما لهذا الزمن
القاهريّ، ويقاتل/تقاتل من أجل المعنى عن الوجود، فـ"حنان" (حنان يوسف) في
أكثر من موضع تطالب خالد بأن يتجاهل الماضي، وأن يكمل يومه ومستقبله، كما
فعلت هي على الأقل من خلال "فرقة الرقص".
سؤال البدايات، هو وجهٌ لأزمة الزمن الحاضر والقلق من
المستقبل، ضمن جماعة متخيلة تفقد حدودها وجسدها. أو كما يشير عالم الاجتماع
الراحل "زيغمونت باومان" (1925 – 2017) في كتابه "الحداثة السائلة"(2000)،
بأن المدينة تتميز بأنها فضاءٌ للغرباء فحسب، فأيُّ متخيلٍ يجمع الغرباء؟!
الضجيج صورةً
ثمة عبارة رائعة يصف بها "باسم" (باسم فيّاض) القاهرة، وهو
مخرج شاب لبناني، يقول فيها إن القاهرة بالنسبة له ضاجّة وغنيّة بالصوّر
المغريّة للعين، صور كثيرة، من فرط كثرتها، تصاب العين بالـ"ضجيج". لعل هذا
هو أسلوب القاهرة تجاه قاطنيها – حذو أيّ مدينة تدّعي جماليّة وزمنًا
دائمًا-.
يقول المعماري اللبناني رهيف فيّاض: "أنظر حولك، هل من شيءٍ
ثابتٍ، تراه؟
ألا ترى أنّ كل قائم، هو إلى زوال؟ وأنّ كل ما يحيط بك، قد
تغيَّر؟
فلماذا هذا التوق إلى المجنون إلى الأبديّة؟
أنظر! بالأمس، في هذه الصحراء المديدة أمامك، كانت تقوم
مدينة، وفي المكان، حيث ينتصب الجسر العملاق، كانت تقوم بيوت صغيرة هادئة.
فماذا ستجني من ثباتك؟ وصلابتك؟
إقترب، ألا تسمع صوت الرياح القادمة؟ ألا يراودك ملمسي؟
ولمعان جسدي؟ وحرارة شفاهي؟ وأناقة معصمي؟
إقترب، أسرع، تبدو الرياح أسرع منك!"(1)
بهذا القلق الوجودي تعاملت القاهرة مع جماليتها كمدينة. هذه
السرعة المفرطة (الزمن) والكثافة للصور حدود الضوضاء، جعلت من القبح حالة
طبيعيّة تنبثق من الجمال وتهدد بالمزيد منه، فيغدو الفقد والخوف منه سؤالًا
مؤجلًا. وهنا تكمن جماليّة أخرى للفيلم، فمن ناحية "كادراته" (صوره) حتى
المدينية منها، تعيد كشف الجمال وتحرره من ضوضائه وكثافته. الفيلم الذي
تقارب مدته الساعتين، يكاد يكون تجميعًا لمشاهد جماليّة من المعاش اليومي
الذي تنهار حساسيتنا المدينية له باسم السرعة. ومن ناحية أخرى، كل مكررٍ في
المشاهد المدينيّة له فرادته في المعنى؛ فبائع الجرائد الذي يمر عنده خالد
أكثر من مرة، له موقع من المدينة والحكاية لا يكتمل المعنى من دونه، وكذلك
السيدة ذات الثوب الأسود والابتسامة الباهتة، وكأن السرد يقول: إذا كان
خالد بوجهه البسيط ومصريّته كشاب، لا يتميز ببنية مفتولة ولا وجه مفرط
الجاذبيّة، كباقي صناعة السينما عربيّا في أغلبيتها، هو أنا وأنت وهو، له
حكاية، فبائع الجرائد له حكاية، والشارع بأزماته المروريّة له حكاية..
وهكذا، في معادلة تفكيكيّة للضجيج الذي يفقد العين آدميّتها قبل حساسيّتها.
الضجيج؛ صوتًا
يمكن للمشاهد/ة أن يلاحظ بسهولة أن ثمّة سردًا
موسيقيًا/صوتيًا في الفيلم يستمد معناه من حالة الفصام والانفصال التي تقع
فيه القاهرة بين واقعها وما يقوله المذياع عنها، فالمخرج لم يستعن بديباجات
وكليشيهات صوتيّة ليشرح زخم الفضاء الصوتي للقاهرة، كما اعتادت أفلام
السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات أن تفعل، بتأثير من تكنولوجيا الصوت
في صناعة الأفلام الجديدة أيامها، أو حتى بحجة "الضرورة للسياق الدرامي".
المدى الصوتي للقاهرة في الفيلم، هو إعادة إحياء لها بشكل
ما أو بآخر، ولو أردنا تحليلًا ثقافيًا للسرد الصوتي في الفيلم، أمكننا
تحديد نقطّتي بداية له، وهما: الإشارة إلى "صوت الصمت في القاهرة" والحاجة
إليه، وكأن زخم القاهرة هو المقابل الموضوعي لصمتٍ داخل أهلها، واتجاهها؛
وكذلك غلبة صوت آلة الكمان على الموسيقا التصويريّة، في علامة على حالة من
الوحدة والتوحد غالبة على صوت أهالي القاهرة.
هذه المراوحة بين "الصمت" و"الكمان"، هي مراوحة بين مدينة
تدعي الحداثة، باعتبارها "أأمن مدينة في العالم"، وبين أزمة تحيق بسكانها
عندما يسألون/يسألن أنفسهم/أنفسهن؛ ماذا تعني لنا القاهرة؟ ولمَ نحن وحيدون
لهذا القدر؟!
يقول إريك هوبزباوم: "يبدو أنّ المجتمع الاستهلاكي يعتبر
الصمت جريمة. فالموسيقا ليس لديها ما تخشاه في القرن الحادي والعشرين.
أعترف أن موسيقا القرن الحادي والعشرين ستبدو شديدة الاختلاف لأذن المستمع
بالمقارنة بموسيقا القرن العشرين. فالالكترونيّات أدخلت عليها بالفعل ثورة
رئيسيّة، ما يعني أنها صارت مستقلة إلى حدٍ بعيد عن الموهبة الإبداعيّة
والمهارات التقنيّة للفنان الفرد. موسيقا القرن الحادي والعشرين ستنتج
أساسًا، وتصل إلى آذاننيا، من دون الكثير من التدخل البشري"(2).
بالعودة إلى الصمت والكمان، استعادة لفرادة الوجود البشري
وعنصر الصمت في زمن الحداثة والاستهلاك، واستنطاق لمدينة تغرق في ضوضائها.
فنَفَس تذرر الجماعة المصريّة إلى أفراد فاقدين ارتباطاتهم/ن الأفقيّة مع
مكانهم/ن هو علامة على صمتٍ داخلي تطغى عليه ضوضاء الخارج، ومدينة تتقزم،
على اتساعها، إلى فضاءات مغلقة، تكاد تقول الأغلبية سكان/ساكنات القاهرة،
بأنها لا تزال قادرة على ابتلاعهم/ن، وأن نموّها خرج عن حدود المُدرك
والمُتخيّل والمُعاش للمدن.
حين يُسأل "خالد" إلى أين يذهب؟ يجيب –بما معناه- أنه لم
يعد له مكان في القاهرة إلا "وسط البلد"، و"مستشفى السلام"، فاتساع المدينة
وجه لضيق أماكننا بها، ضوضاؤها وجه لصمتنا فيها.
فقد
الثيمة الأساسية المتقاطعة بين الأفراد والمدينة في الفيلم هي "الفقد"،
جميع أبناء المدينة يجمعهم الفقد بشأنها، فقدان والدة خالد المريضة لطفلتها
في حادث طرق بليبيا وما نتج عن ذلك من انهيارات شخصيّة وعائليّة، كادت أن
تودي بالعائلة إلى التفكك. وفقدان المغنّية مريم صالح لوالدها في الحريق
الشهير لمسرح بني سويف، وفقدان الفنّانة حنان يوسف لبيتها في الإسكندريّة.
الشخصيات التي عانت الفقد تراوح بين النسيان والتذكر في علاقتها بنفسها
ومكانها، فتصبح مركزية النسيان أساسية في تذكر العلاقة بين الفرد ومكانه/ا.
النسيان أو/و الغفران يدلّان معًا أو كلٌ على حدة، على أفق
الوجود المعنوي للشخصيّات في مدينتها، فبالنسبة للنسيان، ثمة إشكاليّة
الذاكرة والوفاء للماضي، كما هي الحالة مع "خالد" و"حنان" مثلًا، وبالنسبة
إلى الغفران، فهناك إشكالية الذنب والمصالحة مع الماضي، كما هو الحال مع
"طارق" و"مريم".
هناك خطّان متوازيان في السرد: الذاكرة والنسيان؛ ما يجعل
سؤال خالد لذاكرته وأمه وأصدقائه عن القاهرة، يستبطن تساؤلًا عن نسيانها،
فبقدر ما يبدو التذكّر فنًا، يغدو النسيان كذلك فنًا مقابلًا بذاته، كما
يقول هارلد فاينريش في "فن ونقد المنسي". واجب الذاكرة بقدر ما قد يبدو
"حضٌ على عدم النسيان"، إلا أنه وبالعفوية ذاتها للتذكر، هو إبعاد شبح
"ذاكرة لا تنسى أي شيء"، لأننا في داخلنا نعتبرها مخيفة.
في سياق الفيلم، الذاكرة والنسيان يقترحان شكلًا غنائيًا
ودراميًا للنزول إلى الهاوية، لا ننجو منه لا نحن ولا شخصيات الفيلم، ولا
مدننا جميعًا.
اضطراب و/أو بدء جديد
"قاعدة
مارتن هايدغر التي تقول إن الأشياء لا تكشف عن نفسها للوعي إلا عن طريق
الإحباط الذي تسببه. أي إفلاسها، واختفاؤها، ومخالفتها ما هو متوقع منها،
أو عدم وفائها بوعدها. وفي تجربة شهيرة أجراها الباحثان ميلر ودولارد،
لاحظا أن الفئران تبلغ قمة الإثارة والهيجان عندما يتساوى الوعد والوعيد،
أي عندما يصل وعيد الصدمة الكهربائيّة ووعد الطعام اللذيذ إلى حالة من
التوازن التام"(3).
"فالهيجان
الذي يصيب الفئران في تجربة ميلر ودولارد ينتهي في الغالب الأعم إلى توقف
الحركة، وإلى عجز عن الاختيار بين الرغبة والنفور، وبين الأمل والخوف، ومن
ثم العجز عن الفعل"(4).
تفتح مقولة الفيلم الأساسيّة، عن العلاقة بين
المدينة/المكان والأفراد/الخيال، الباب على مصراعيه أمام السؤال عن صيرورة
المدن وإلى أين تذهب بنا من جهتين:
أفقيًا، بين الأفراد بعضهم/ن بعضًا.
رأسيًا، في العلاقة مع السلطة في ظل ما يسمى عصر ما بعد
الدولة القوميّة.
"عموريّة
قاتلة. عموريّة استطاعت أن تقتلني أو أن توقع بي إصاباتٍ لا حصر لها، حتى
على ذلك البعد. كانت معي أينما ذهبت. كانت تراقبني، تنظر إليَّ، وتستمع إلى
الهمسات التي كنت أوشوش بها الفتيات اللواتي تعرفت عليهن. لم تكن عموريّة
وحدها"(5).
في الفيلم نشهد توتر علاقة "خالد" بمدينته وتماهيها بعلاقته
بفيلمه وحبيبته (ليلى)، وبكل شيء –تقريبًا- حوله. هذه الحالة من السلبية
التي باتت أساس كل تلك العلاقات هي لُب سؤال أثر المدينة/المكان فينا
كأفراد وومجتمعات تعتاش على الخيال لتحدد موقعها وفاعليَّتها في الحياة. في
مشهد مؤثر، يكشف غربتنا عن بعضنا في مدننا، يلمح "خالد" "ليلى" في أحد
مقاهي وسط البلد (المنطقة التي يراها فضاءه الآمن) ويهاتفها دون أن يقترب
منها، وحينما تتجاهل الرد على مكالمته يسير في طريقه. هل وصل "ضجيج" مدننا
كما أشار إليه "باسم" (باسم فيّاض) في الفيلم إلى أن أصبحنا فئران تجربة
ميلر ودولارد أمام كل هذا الزخم من الوعد والوعيد؟!
"عموريّة
ليست المسؤولة. الناس في عموريّة هم المسؤولون. قد تكون عموريّة
بامتداداتها السرطانيّة واتساعها غير المنطقي، ثم تلك الطريقة الغبيّة في
البناء، المستعارة من البداوة بشكلها دون أن تكون ممثلة لروح البداوة،
والتي تأخذ شكل البقع أو البثور الجلديّة في سطوحٍ وسلاسل غير منتظمة، قد
تكون عموريّة بهذا الشكل سببًا في خلق الفجوة بين الناس وما حولهم من طبيعة
وأشياء. لكن هذه المدينة لم تختر شكلها وأسلوب الحياة الذي يلائمها، كما لم
تختر هذا الامتداد والاتساع. البشر هم الذين اختاروا وقرروا. ونتيجة هذه
الاختيارات الفظة اكتسبت عموريّة هذا التجهم الذي يلمسه الإنسان، بل يُصدم
به في كل لحظة. الناس الأوائل في عموريّة، والذين تعاقبوا جيلًا بعد جيل،
وتركوا آثارهم في الأشياء المتواضعة التي خلّفوها، كانوا أكثر عقلًا ورأفة
بأنفسهم وبما حولهم.
نعم. ما كانت عموريّة لتأخذ هذا النسق من الامتداد
والاتساع، وما كانت لتكتسب هذه القسوة والوحشيّة لولا انبثاق هذه الثورة –
اللعنة فجأة، ودونما جدارة من أي نوع، ودونما استحقاق أيضًا. نامت عموريّة
ذات ليلة وقامت في الصباح لتجد نفسها شيئًا جديدًا"(6). طبعًا، مع لزوم
الإشارة إلى أن "الثورة- اللعنة" في الاقتباس، هي ثورة البترودولار وتغير
مفاهيم وقيم المجتمع تبعًا لها، وللهزيمة السياسية، وبالتالي فإن البديع
والمميز في "آخر أيام المدينة" أنه وإن كان قد صُوِّرَ بعد أحداث ثورة 2011
في القاهرة إلا أنّ ذلك لم يؤثر على نظرة المخرج، وبناء الدراما في السرد،
فنجا الفيلم من هذا النفس التبشيري، ليغدو أكثر واقعيّة، بلا شاعريّة
يهزمها واقعنا.
الهوامش:
1.
رهيف فيّاض، العمارة الغانيّة، والإعمار الموجع، ط1، بيروت: دار الفارابي،
1999.
2.
إريك هوبزباوم، أزمنة متصدعة، ترجمة سهام عبد السلام، الدوحة: المركز
العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2015.
3.
زيغمونت باومان، الحب السائل، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربيّة
للأبحاث والنشر، 2016.
4.
المصدر نفسه.
5.
عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا، عالم بلا خرائط، ط 5، بيروت: المركز
الثقافي العربي والمؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2005.
6.
المصدر نفسه. |