ملف خاص|
مؤلفو أعمال محمود عبد العزيز الأخيرة يكتبون عن
الساحر
خاص
لايستطيع أحد أن ينسى الساحر محمود عبد العزيز الذي حُفرت أعماله
في قلوب وعقول المشاهدين العرب، منذ أول ظهور له في «الحفيد»،
وصولا إلى الطيب «فضل الغول»، هذا الملف رغم أنه في محبة نجم خالد
كتب عنه الكثيرون، إلا أن عشاقه وكتاب أعماله الأخيرة وأصدقاءه هم
أفضل من يكتبون عنه:
رسالة لمحمود عبد العزيز من تلميذه ناصر عبد
الرحمن !
عصام الشماع:الصديق الذي عاد محمولا على
الأعناق إلى الوديان
شريف بدر الدين: خسرنا رجل التواضع والموهبة
والمرح!
محمد سليمان عبدالملك:منجم الحكايات وأستاذ
البهجة!
محمد الشماع: هذا هو الفارق بين الفنان
محمود عبدالعزيز والنجم عادل إمام
سليمان القلشي: الهجان كلمة السر
حميدة أبو هميلة: قطعت بينا يا أستاذ
رامي المتولي: فيلسوف الشارع
رسالة لمحمود عبد العزيز!
ناصر عبدالرحمن
كنت بتعمد وجانبى التليفون
أسمع صوتك وإنت بتنادينى
وبتسأل عملت إيه؟
كنت متخرج يدوب بدبدب
وحضرتك عملاق كبير بتطبطب
يا أستاذ
تقولى تيجى دلوقت متضايق
نتكلم وتضحك
وتعصر الليمون على الجعران
ونتعشى عسل وأنشوجه
وتعدى السنين
نتقابل ونجدد الحواديت
كان محمد ابنك وضى عنيك ف الثانوية
وكان كريم ابنك وحبيب قلبك ف المدرسة
عيونهم وقلبهم معاك ما بيلتفتوش لغيرك
من وقتها من عشرين سنة 98
وإنت بتخبى هيبتك وبتظهر حنانك
بقولك إيه!
اللى تحبه الناس يحبه ربه
يا أبو هيبة خيالك اللى بتحلم بيه
إنت فى حنانه دلوقت
ربك ميزك بالاتنين الضحك والبكاء
من النهاردة
مافيش على البساط بكا
على البساط حب وجمال
الصديق الذي عاد محمولا على الأعناق إلى الورديان
عصام الشماع
الساحر نام. وما هى إلا غفوة سوف يستيقظ بعدها ويعيش أبدًا خالدًا
فى الفن والوجدان.
الساحر نام غارقا فى الأحلام. ربما يقابل البسطاء، ويفجر فيهم
الضحكات من القلب كما تعود. ربما كان مهمومًا هناك يقاوم اليأس
والانكسار كما فعل مع الشيخ حسنى فى «الكيت كات». قد يكون هناك فى
حى الورديان بالإسكندرية يلعب الكرة طفلا أو يغازل الفتيات شابا
على بحر الماكس.
ربما هو الآن «رأفت الهجان» يكشف سرًّا عن العدو الإسرائيلى ويرسله
إلى المخابرات. قد يشاغب زوجته وحماته ويدير الغسالة الكهربائية فى
الليل ليزعجهما، ويشاهد فيلمًا لإسماعيل يس، ويقلده فى مشهد من
أمتع مشاهد فيلم «الشقة من حق الزوجة».
ربما يسخر فى مرارة فوق مركب فى الملاحات ويغنى «الملاحة وحبيبتى
ملو الطراحة.. حسرة علينا يا حسرة علينا»، فى نهاية فيلم «العار».
ربما كان يغنى للكيميا ويدلعها بـ«الكيمى كيمى كا»، كما غنى
مزاجنجى فى «الكيف».
إنه ساحر كل الناس الفقراء والصعاليك والأغنياء. كان يحمل قدرة
فائقة على الحوار مع الجميع. لا تصدقوا من يدعى أنه كان أقرب
الأصدقاء. ولكن صدقوا أن الناس كلها هى أقرب الأصدقاء. كل الذين
عرفوه عن بعد أو عن قرب أو حتى تبادلوا معه سلامًا عابرًا هم أقرب
الأصدقاء.
ليس من المبالغة أن أدعى أن من شاهدوا أفلامه كانوا أيضا أقرب
الأصدقاء. كان على المستوى الإنسانى معجزة بكل المقاييس. سهلا
بسيطا عميقا دافئا ومتفجرا ومسكونا بحب الحياة والناس، ورغم أنى
كتبت له ثلاثة أفلام «دنيا عبد الجبار»، و«الجنتل»، و«النمس»، وهى
كل تعاملى معه فنيا، ولكن سنوات عمر معرفتى به والتى اقتربت من 30
عاما، وقربى منه كصديق هى تاريخى الحقيقى مع هذا الفنان والإنسان
الطيب بلا افتعال. الجدع بلا تصنع. المبهج بلا حدود.
«الساحر» هو اسم لفيلمٍ من إخراج الراحل المبدع رضوان الكاشف، ولكن
ولترتيب الأقدار أن يكون اسم الفيلم هو وصف موح ودقيق وعميق لمحمود
عبد العزيز الإنسان. هو فعلا ساحر، فكل من اقترب منه وكل من تحدث
إليه، وكل من رآه، وقع عليه سحره. وقع فى مجال مغناطيسى روحانى
شفاف يجعله مجذوبا مشدودًا لروحه.
لا تستطيع غير أن تحبه. لا تستطيع سوى أن تقترب وتنجذب وتفرح
بأسره. الفنان الحقيقى لا يموت. فقط ينام ويرسل أحلامه ووجدانه إلى
ذاكرة الشعوب عبر الضوء فى أجهزة الاستقبال الإلكترونية وألياف
الأعصاب الإنسانية. سيجلس هذا الجيل والأجيال القادمة يعيد مشاهد
وكلمات ونكات وضحكات الفنان ويستعيد كل موقف صنعه الفنان فى مأساة
أو ملهاة. يأخذ العبرة وينتشى ويفرح.
سيعيش الساحر أطول منا جميعا سيرى أجيالا لن نراها ودولا لن تدركها
أعمارنا الصغيرة. سيكون شاهدا على عصور سوف تأتى، وسيكون فتى أحلام
لفتيات لم تولد بعد، وسيصبح مثلا لفتيان لم يتزوج أباؤهم بعد.
نم أيها الساحر وارْتَحْ. نم بعد طول عناء. آن للجسد المرهق وللنفس
الحائرة والعقل المكدود أن يهدأ وينعم بالسكون الوديع الصافى.
محمود الشاب الذى خرج من منطقة الورديان بالإسكندرية ليفتح حصون
الفن فى العاصمة، ويصبح أحد أهم رؤساء دولة التمثيل فى الوطن
العربى عاد أخيرا محمولا على الأعناق منتصرا إلى موطنه الأصلى
والأصيل فى الورديان. عاد بأكاليل الحب والفخر كبطل منتصر وسط هتاف
محبيه «لا إله إلا الله».
ستبقى أيها الساحر فى قلوبنا وفى ذاكرة أحفادنا، وسيزداد شوقنا
إليك مع الأيام والأزمان. وسنحبك بقدر ما أحببتنا، ولكنها الدنيا
وقوانين الحياة التى قضت بأن الله وحده هو خالق الميلاد والموت وهو
وحده الذى بيده الأمر كله. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
خسرنا رجل التواضع والموهبة والمرح!
شريف بدرالدين
بالطبع كان لى شرف التعاون مع النجم الكبير الراحل محمود عبد
العزيز فى آخر عمل ظهر به على شاشة التليفزيون وهو مسلسل «راس
الغول» الذى تم عرضه فى شهر رمضان الماضى، واكتشفت فى كواليس تحضير
وتصوير المسلسل ذكاءه وحرصه الشديد على العمل، فكان دؤوبًا بشكل
يتنافى مع المرحلة العمرية التى يمر بها، فحرصه كان حرص صاحب
التاريخ، أما دأبه فكان دأب أى شخص يعمل للمرة الأولى، إذ يهتم
بجميع تفاصيل العمل، الذى شارك فيه خطوة بخطوة منذ أن كان فكرة.
اهتمامه بمراقبة ومتابعة التنفيذ كان يدفعه فى بعض الأحيان لأن
يهاتفنى فى أوقات متأخرة من اليوم ليقترح على بعض التفاصيل التى
يمكن إضافتها للعمل، وذلك دون أن يتعامل على أنه نجم العمل لكن
بمشاعر صاحب عمل خائف على كل المشاركين فيه، فكانت طريقته فى العمل
تعتمد على الاقتراح لا الفرض، وذلك عبر أسئلة استشارية بسيطة، إذ
اتسمت معاملته بالتواضع والمحبة، هذا بخلاف روحه غير الطبيعية،
والتى تصنع بهجة فى أى مكان يتواجد فيه.
خلال فترة تصوير «راس الغول» كنت أتوجه إلى الموقع من وقت لآخر،
وذات مرة وجدته مرهقًا بدرجة ملحوظة، فسألته عن سبب هذا الإرهاق
فأجابنى بأنه ضغط على نفسه وتعافى عليها فى مشهد أكشن قام بتصويره،
ولهذا السبب تعرض وقتها لمزق فى عضلة ساقه، حيث صمم أن يجرى تصوير
هذا المشهد بنفسه، والذى كان يضم جريا ومواجهة عنيفة بينه وبين أحد
أبطال العمل الدرامى، وعندما اقترحت عليه الاستعانة بدوبلير رفض
وأخبرنى «العيال الصغيرة بتتنطط أنا مش هعرف أتنطط زيهم؟!»، ورغم
آلامه هذه لكنه كتمها فى داخله، ولم يفصح عنها لمدة 24 ساعة، حتى
لا يتوقف التصوير.
ملاحظات الراحل محمود عبد العزيز غالبًا كانت متعلقة بالرغبة
الملّحة فى دقة القصة، خصوصا أنها كانت معتمدة على تفاصيل كثيرة،
لذا كان يلفت انتباهنا إلى بعض التفاصيل حتى لا تسقط سهوًا منّا،
فكان حافظًا وواعيا لسيناريو وحوار المسلسل، وتعرفت على ذلك خلال
تحضيره لأحد المشاهد، فكان حافظًا للجمل الحوارية التى سوف يرددها،
والجمل أيضًا التى تخص الفنان الذى سيقف أمامه فيه، ويعلم جيدًا
المشهد التالى والسابق له، وأنه فى هذه المرحلة سيرتدى شكل ملابس
محدد هو كذا، عكس مرحلة أخرى، إذ لم يظهر عليه أى مرض، إنما فقط
الإرهاق والتعب من التصوير، وكذلك المعاناة الطبيعية لأى شخص فى
عُمره، ورغم ذلك كنت أجده فى أداء أعلى من أشخاص كثيرين فى نفس
سنّه، كان يتحرك ويجرى ويصور لمدة 12 ساعة يوميا، عكس آخرين لا
يستطيعون الالتزام بهذه الأمور.
نشاطه وحركته كانت ملحوظة لأى شخص يقترب منه أو يتواجد فى نفس
مكانه، ومعروفًا عنه أيضًا كرهه لجلسة كونه مريضا، وكذلك الجلسة
الاعتيادية فى المنزل، لذا نجده فى حالة عدم تصويره لأعمال جديدة
إما يقرأ عملًا معروضًا عليه، وإما يحضر له، أو مشغولًا بأمر ما.
خسارتنا للعظيم محمود عبد العزيز على المستوى الإنسانى أكبر من
خسارتنا له على المستوى الفنى، فهو ساند كثيرا من الممثلين
والمؤلفين والمخرجين الموجودين على الساحة، لأنه كان من المؤمنين
بأن القادم من الشباب أفضل، وكان يعلم جيدًا حتى أسماء الممثلين
الجدد، ويطلبهم بالاسم ليشاركوا فى أعماله، وكان هناك أمل أن
نتعاون مجددًا فى عمل جديد، لكن وفاته حالت دون ذلك، رحمه الله
ويلهمنا وأسرته الصبر على فراقه.
منجم الحكايات وأستاذ البهجة!
محمد سليمان عبدالملك
سأظل فخورا للأبد بكونى جزءا من مسيرة عملاق مثل الأستاذ محمود
عبدالعزيز بعمل درامى استغرق منا عامين كاملين لإنهائه وهو مسلسل
«باب الخلق».
كان الأستاذ طوال مدة عملنا نموذجًا للالتزام بدوره كممثل لا يتدخل
إلا فى ما يتعلق بتفاصيل أدائه وتذوقه الفنى للعمل ككل.
المشهد الذى يتدخل فيه لحل الأزمة بين مسلمى ومسيحيى الحى والذى
يهتف فيه بحرقة: فوقو يا إخوانا... استغرق منه مجهودا نفسيا وعضليا
كبيرين.. أعيدت كتابته أكثر من مرة وظللت أعيد كتابته حتى هتف
المخرج «أكشن».. وحتى يخرج فى تلك الصورة، صورناه على مدار يومين..
وكان الأستاذ رحمه الله يهمس لى فى الكواليس: المشهد ده مهم.. وكل
ما تحصل أزمة كبيرة فى البلد هيذيعوه عشان الرسالة اللى فيه توصل..
وهو ما تحقق بالفعل فاتصل بى يوما كى يقول لى بروحه المرحة حتى فى
أحلك الأوقات: مش قلت لك؟
مرح الأستاذ محمود كان استثنائيا.. كانت لديه قدرة خارقة على إشاعة
أجواء الضحك والبهجة.. كنت عندما أزور موقع التصوير وأسمع صوت
الضحكات العالية من غرف الممثلين أعرف أنه موجود.. وكان يجيد دراسة
الشخصيات ويعرف كيف يقلدها جيدا بصورة كاريكاتيرية.. إنه منجم من
الحكايات والذكريات التى لا تنتهى، ورغم أنه سريع الملل فإن جلسته
لا يمل منها أحد أبدا.
عشقه للإنتيكات والأشياء القديمة كان يعكس ذوقه الفنى الراقى
والمتفرد.. وهو مثقف وقارئ نهم، أمتع أوقاتى معه كانت ونحن نناقش
كتابا أو رواية.. رشحت له يوما رواية من إصدار قصور الثقافة عثرت
عليها بالصدفة وفتنتنى، وتواصلت مع مؤلفها.. قرأها الأستاذ محمود
وطلب منى أن يتحدث مع المؤلف بنفسه وقد كانت فرحة صديقى المؤلف
وقتها لا توصف.. هذا هو الأستاذ محمود عبدالعزيز المشع بطاقة الفن
والفرحة.. رحمه الله وأسكنه جناته.
الفارق بين الفنان محمود عبدالعزيز والنجم عادل
إمام
محمد الشماع
- التجريب والمغامرة سمة مشروع الساحر.. و«الجمهور عايز كده» مقولة
يؤمن بها الزعيم
- «بلحة» شخصية لم تظهر سوى دقيقتين فى «الدنيا على جناح يمامة»..
لكنها صارت أيقونة فى تاريخ السينما
- مر الاثنان بمرحلة رأفت الميهى.. لكن عبدالعزيز تشبع بها فنيا
بينما تركها إمام بعد فيلم واحد
المقارنة بين أى شخصين فى مجتمع مثل المجتمع المصرى قد تكون غير
محببة، وغير مقبولة فى بعض الأحيان، فمقارنة رئيس بآخر، أو سياسى
بآخر، أو حتى لاعب كرة بآخر، يختلف عليها الكثيرون، وعادة ما
يخرجون من هذا المأزق الوهمى بعبارة «أصل ده له طريقة، وده له
طريقة مختلفة خالص»، فما بالك إذا كانت المقارنة بين نجمين من نجوم
الفن.
فى صحافة هوليوود وعواصم السينما المتقدمة يقارنون دى نيرو بآل
باتشينو بشكل عادى واعتيادى، ويقارنون ميريل ستريب بميج رايان
بأريحية مطلقة. يعددون مواطن القوة والضعف لديهما، ويضفيان شرعية
على المقارنة بطريقة كل منهما فى الأداء. قد ينتصرون لأحدهما وقد
يتركون الحكم للقارئ.
لذا فإن المقارنة بين الراحل محمود عبدالعزيز والفنان الكبير عادل
إمام، مشروعة، حتى لو كان الساحر بيننا الآن.
لا يختلف اثنان على موهبة كل منهما فى التمثيل، إلا أن مشروع
الساحر يختلف كلية عن مشروع الزعيم، وهو بالمناسبة مشروع يشبه
شخصية كل منهما الحقيقية، فعبد العزيز، وباختصار، ابن بلد، كان
يجيد النظر والتأمل فى الشخصيات التى تدور من حوله، كانت عينه
بمثابة كاميرا سينمائية تنظر إلى الشخصية أو الحدث الذى يمر أمامه
بطريقة فنية بحتة. كان الساحر أحد الحكائين الظرفاء، يعشق
المغامرة، ويهوى التأنى إلى درجة القلق والتوتر فى بعض الأحيان، ما
جعل مشروعه أقرب إلى مشروع الفنان عنه إلى مشروع النجم.
أما مشروع الزعيم فيشبه شخصيته أيضا، وهو مشروع نجومية، فكان عادل
إمام منشغلا منذ بداياته، بمشروع النجم عادل إمام، وليس الفنان
عادل إمام. كان يضع كرسى الزعيم أمامه ونصب عينيه، لم يتخل عن حلمه
الدائم بأن يكون رقم 1 فى الأجر وفى التوزيع وفى إيرادات شباك
التذاكر. عادل إمام، شخص ذكى استطاع أن يستثمر فطنته وموهبته
الربانية فى اختيار الشخصيات المناسبة فى المراحل المناسبة، وخير
مثال هى مرحلة وحيد حامد وشريف عرفة، التى بدأت بـ«اللعب مع
الكبار» وانتهت مع «النوم فى العسل»، وهى المرحلة التى أعادته على
القمة من جديد، بعد فترة عدم اتزان فى منتصف الثمانينيات وأواخرها.
والفارق بين النجم والفنان، كالفارق بين السماء والأرض. فالأول، لا
يهوى التجريب ولا يحب المغامرة. أداؤه يميل إلى الثبات، واختياراته
تميل إلى مقولة «الجمهور عايز كده». أما الثانى، فهو فنان بكل ما
تحمله الكلمة من معنى. يحب المغامرة ولا يجد حرجا من العمل مع
الجميع، ولا يجد غضاضة فى التعاون مع الأجيال الصاعدة، وهو يميل
أكثر لما يفهمه البسطاء عن نظرية «الفن للفن».
لذا، تجد التاريخ التمثيلى لعادل إمام متنوعا بين الصعود والهبوط،
وفقا لمتغيرات وطبيعة الجمهور. قدم الكوميديا عندما كانت الكوميديا
هى الحصان الرابح، وقدم الأكشن فى مرحلة غزو أفلام أميتاب باتشان
الهندية، وقدم التراجيديا مجبرا، وفى أعمال لا يهوى ذكرها كثيرا،
كـ«الحريف» و«حب فى الزنزانة». ربما أعمال قليلة للغاية توفرت فيها
كل شروط النجاح والصمود مع متغيرات الزمن وهى أفلام «المشبوه»
و«اللعب مع الكبار» و«طيور الظلام» وأخيرًا «عمارة يعقوبيان». فضلا
عن تجربته الناجحة فى المسرح، والتى لم ينجح فيها الساحر.
أما تاريخ محمود عبدالعزيز فملىء بالتجريب، منذ بداية بطولاته
الحقيقية مع «الصعاليك» الذى أخرجه داوود عبدالسيد فى أوائل
الثمانينيات، وكذا «البرىء» و«الدنيا على جناح يمامة» ومن قبلهما
«أبناء وقتلة» مع عاطف الطيب، و«الكيف» مع على عبدالخالق،
و«الساحر» مع رضوان الكاشف.
ملحوظة: لم يعمل عادل إمام مع أسماء المخرجين المذكورة فى الفقرة
الماضية أى عمل.
قدم عبدالعزيز للسينما شخصيات لا تنسى مثل «بلحة» فى «الدنيا على
جناح يمامة» الذى لم يتعدَ ظهوره على الشاشة فيه دقيقتين، إلا أنه
صار علامة فارقة فى تاريخ الفن السابع. وفى «العار» استطاع بمشهد
واحد وهو مشهد النهاية أن يكون كـ«ولد الكوتشينة» الذى يظهر فى
نهاية النزال فيلتهم كل الأوراق، برغم أن المعركة التمثيلية بين
حسين فهمى ونور الشريف كانت مستعرة طوال الفيلم.
هذا هو الفنان، الذى يستطيع بمشهد أو مشهدين أن يترك علامة مع
الناس.
مر الساحر والزعيم بمرحلة يمكن أن نسميها مرحلة «رأفت الميهى»، لكن
الأول استطاع أن يتشبع بها فنيا. فقدم عبدالعزيز مع الميهى 3 أفلام
هى «السادة الرجال» و«سيداتى آنساتى» و«سمك لبن تمر هندى»، بينما
اكتفى إمام بفيلم واحد وهو «الأفوكاتو».
صنع الاثنان طفرات كبرى فى الإيرادات المصرية، خلال عقود
الثمانينيات والتسعينيات، ومعهما بالقطع نادية الجندى وأحمد زكى.
نعم، كانت أفلام إمام الأكثر نهمًا لشباك التذاكر وخصوصا الكوميدية
منها مثل «بخيت وعديلة» و«الواد محروس بتاع الوزير»، وكذا
عبدالعزيز بـ«الجنتل»، ما جعلهما متقاربين فى الأجور إلى حد كبير.
أخيرا، إذا كان هناك سيناريو تخيلى لجائزة أفضل ممثل فى الأفلام
التى صنعت فى تاريخ السينما المصرية، فلاشك أن دور محمود عبدالعزيز
فى «الكيت كات» سيكون الأكثر حظا فى الفوز، وقد ينازله عادل إمام
فى «الإرهاب والكباب». وإذا كان السيناريو خاص بالأعمال
التليفزيونية فسيكون عبدالعزيز فى «رأفت الهجان» هو الأفضل، وقد
ينازله إمام فى «أحلام الفتى الطائر».
الهجان كلمة السر
سليمان القلشي
بعد حالة الحزن العميق التى انتابت الشارع المصرى بالإعلان عن وفاة
الفنان محمود عبد العزيز.. ظللت أتساءل مع نفسى: لماذا حزن
المصريون لهذه الدرجة على وفاة محمود عبد العزيز فى الوقت الذى
فارق فيه الحياة فنانون عظام كان آخرهم الفنان المبدع نور الشريف
ولم نرى من الناس هذا الحزن الكبير؟!
نعم محمود عبد العزيز فنان كبير وعظيم وقدم للفن الكثير من الروائع
التى لا يمكن أن تُنسى ولكنْ هناك فنانون رحلوا عن دنيانا ومع ذلك
لم يحزن عليهم المصريون لهذه الدرجة التى حزنوا بها على محمود عبد
العزيز وجدت نفسى تذهب سريعا إلى رأفت الهجان، ذلك المسلسل الرائع
والأسطورة الفنية العالمية التى لا يمكن بأى حال من الأحوال أن
ينساها المصريون ولا يمكن لأى مصرى أن يتابع هذا المسلسل العظيم
مرة واحدة فما زال المسلسل يعرض منذ ثمانينيات القرن الماضى على
الشاشات والجميع يجلس أمامه كأنه يراه لأول مرة، أنا شخصيا أرى أن
تجسيد محمود عبد العزيز دورا كدور رأفت الهجان بهذا العمق الفنى
العظيم والأداء المبهر لنا كمشاهدين ومتألقا للدرجة التى جعلت
شخصية محمود عبد العزيز تذوب فى شخصية رأفت الهجان والهجان تلك
الأسطورة المصرية الوطنية التى قدمت للوطن أروع قصة إنسانية على
قدر كبير من الحرفية الفنية العالية!
عندما مات محمود عبد العزيز وجدنا أنفسنا نحزن على موت الهجان،
ومحمود عبد العزيز والهجان شخصيتان امتزجتا سويا ولا يمكن بأى حال
أن نفرق بينهما، حتى مع كل الشخصيات الفنية الرائعة التى قدمها
محمود عبد العزيز على الشاشة، منها الساحر ومحمود المصرى والعار!
لكن فى النهاية محمود عبد العزيز فى ذاكرتنا الفنية والإنسانية هو
الهجان.
حزننا اليوم على محمود عبد العزيز هو حزن على فراق الفنان العظيم
الذى لا يمكن أن ينسى.. حزننا اليوم حزننا على فقدان الهجان.
قطعت بينا يا أستاذ محمود!
حميدة أبو هميلة
إنه يتغير بالكامل.. لا تصبح عيناه مثله، ولا يصبح صوته يشبهه، ولا
تشويحة يديه معتادة، يبدو كمن يرتدى رجلا آخر، يرتديه كاملا من
الداخل إلى الخارج، من الثياب وحتى أعمق طبقات الروح.. كل الكلام
صار صغيرا، وكل عبارات الوصف أقل من إيماءاتك حتى، أيها الممثل
الذى لا يكترث إلا بما يحب، الكوميديان حينما كان الكل يذوق لوعة
الغرام والحرمان على الشاشة، العاشق، حينما كان الجميع يلهث وراء
حكايات رجل الأكشن، الجاد جدا فى موسم سينما الضحك على الدقون..
لست تشبههم، ولم يشبهك أحد يوما.
محمود عبد العزيز.. أى مساء ضبابى حمل هذا الخبر؟! هذا الكبير
غادرنا.. «قطع بينا»، مثلما يقول التعبير الدارج، يليق به كثيرا
هذا التعبير، لم يكن مجرد رحيل، ولكنك «قطعت بينا يا أستاذ
محمود».. النجم الأشقر الذى لم يجد المصريون فنانا يشبههم إلى هذا
الحد فى محبتهم للحياة برغم الأسى سواه.
مؤكد كلمة الرثاء لا تليق بك، من كان مليئا بالحياة على الأرض فى
السماء حتما سترافقه دعوات المحبين، سيكون محاطا برعاية المتذكرين،
وبمن أحبوه عن بعد وعن قرب، وعن تقدير، سيبقى كل هؤلاء على العهد،
إنهم الممتنون فعلا لموهبته، ولقربه منهم بهذا الشكل، ولإخلاصه
لشخصياتهم التى قدمها على الشاشة دون رتوش، كان يأسر النقاد
بأدائه، وكان يتوحد معه الجمهور.. رجل الأداء الذى ليس به هفوة،
التلقائى حتى فى تنهيدات «الكاركترات».
محمود عبد العزيز الذى كان يكفينا حضوره بيننا حتى لو لم يقدم أى
جديد، كان يكسر كل فترة من الزمن القواعد، ويعود بعمل يليق بهيبته،
يملأ الشاشة بطلته وقوة وحضوره، وسيطرته الكاملة على الكادر، سطوة
هائلة لم تمنعه يوما من الوصول لذروة الأداء الكوميدى الأكثر
اختلافا فى جيله، وفى أجيال كثيرة بعده، كان فريد النمط لم يلق
بالا لوسامته، ولا لكل من يلهثون وراءه يرمون تحت أقدامه
سيناريوهات رومانسية يصلح هو بطلا لها، لكنه رفض وقاوم ولم يعجبه
أن يكون محبوسا فى دور العاشق المعذب دوما، وانتصر فعلا لمشروعه،
وتدريجيا ربح معركة شرسة جدا، معركة مع ملامحه.. حتى أصبح جديرا
بلقب المزاجنحى والقبطان والنمس والجنيتل، والساحر.
فيلسوف الشارع
رامي المتولي
- أنا أعمى ياغبى؟!.. ده أنا أشوف أحسن منك فى النور وفى الضلمة
كمان
يتخطى محمود عبد العزيز المكانة الطبيعية لأى ممثل فى الوجدان
المصرى، التفاعل مع شخصيات أفلامه حيوى يتخطى الأجيال المختلفة،
طريقة أداءه جعلت الكثير من الجمل الحوارية الطى قدمها فى الأفلام
تصبح علامات وربما تعطى دلالات مختلفة تستند إلى طبيعة ما قدمه
وليس المعنى الأصلى، عند هذه النقطة يعتبر الممثل قدم معجزة،
فمحمود لم يكتفى بتلقى الإعجاب والإشادة بما قدمه أو أن يجود فى
أدائه ليحظى بالمركز الأول ويحافظ عليه، الساحر خطط أن ينال الخلود
ويعيش طويلًا ليس فقط على شاشة السينما أو التليفزيون أو حتى بصوته
فى الإذاعة، لكن فى الوعى العام لجماهيره، يتندرون بجمل شخصياته من
الأفلام، وتصبح الأدوات التى يستخدمها كممثل دلالات على مشاعر
ومقاصد مختلفة.
- عادل.. انزل معايا الملاحة.
- الملاحة.. الملاحة وحبيبتى ملو الطراحة.
فيلم «ريا وسكينة» إنتاج عام 1953 وإخراج صلاح أبو سيف بالتأكيد
واحد من علامات السينما المصرية، وأغنية الراحل شفيق جلال «بنت
الحارة» التى صاحبت مشاهد قتل الشخصية التى لعبتها زينات علوى فى
الفيلم، ومع تصاعد حده المشهد يصدح شفيق جلال «والملاحة والملاحة
وحبيبتى ملو الطراحة»، ليصبح المشهد علامة وهذه الجملة تحديدًا
علامة، لكن ليس بعد 1982 عام عرض فيلم «العار» الذى قدم من خلاله
محمود عبد العزيز شخصية طبيب يدعى عادل، يعمل أبوه الراحل وأخوه
الأكبر فى تجارة المخدرات دون أن يعلم هو وأسرته إلا بعد أن يموت
الأب ويخبره الأخ بالحقيقة ويقع على عاتقه الاختيار بين طريقين إما
يشترك مع أخويه فى عملية تهريب وبيع للمخدرات ليحصل على نصيبه من
الميراث ويرفض، وعلى الرغم من الصراع الأخلاقى الذى يقع فيه عادل
ورفضه للموقف الذى يتعارض مع قناعته كطبيب مهمته إنقاذ المرضى لا
المشاركة فى منحهم السموم.
الصراع الأخلاقى فى شخصية عادل قدمه محمود بنعومة شديدة لدرجة أنه
لم يكن ملاحظا وربما يكون الأقل وسط باقى ممثلى الفيلم بشخصيته
المترددة وملامحه المعذبة الميالة للبكاء طوال أحداث الفيلم، لكن
مع نهاية الفيلم يتغير كل شىء، ويصبح هو البطل وينتهى المشهد
بانهياره تحت ثقل الضغط النفسى والعصبى، ليصاب بالجنون لتتحول جملة
الغزل الشهيرة فى الأغنية الشعبية فى الوعى المصرى لمرادف الجنون
ويتحول أداء محمود لعلامة مميزة ربما ميزت الفيلم ككل لتصبح الجملة
التى يؤديها الساحر منغمة مع أداء جسدى وتعبير بالوجه الماركة
المسجلة لفيلم «العار» ومشهد هام فى أفلام سينما الوعظ بمصر.
- زحمة يا دنيا.. زحمة وتاهو الحبايب.
- زحمة ولاعادش رحمة.. مولد وصاحبه غايب.
أغنية المطرب الشعبى الشهير أحمد عدوية «زحمة يا دنيا زحمة» لاقت
شعبية واسعة وضخمة فى مصر وقت صدورها، والجميع كان منقسما بالفعل
حول عدوية مع مناقشات حول الفن الهادف والإسفاف، لكن الشهرة
المدوية للأغنية تحولت على يد الساحر لمسار آخر مختلف، فيلمه
«الشقة من حق الزوجة» إنتاج عام 1985 بخلاف أنه مميز ومحبب لدى
الكثيرين إلا أن مشهد الغسيل أصبح وحدة منفردة، وتغير تذوق الأغنية
لتتحول إلى اسكتش طريف مقرون دائمًا بمشهد الغسيل.
الفيلم الذى يعرض المشكلات الناجمة عن الوضع الاقتصادى المتردى فى
مصر وقتها والذى اضطر سمير أن يبحث عن مصدر لزيادة دخله بأن يعمل
كسائق تاكسى، الأمر الذى يعرضه -مع مضايقات حماته- إلى ضغط تؤدى
لانفصاله عن زوجته ليتدخل القانون بتمكين الزوجين من الشقة ليعيشا
تحت سقفها أغرابا، ومن هنا تبدأ حرب بين سمير وحماته ليرحل أحدهما
ويترك الشقة للآخر، ومشهد الغسيل هو رد سمير على إزعاج حماته له،
المشهد تقريبا دون كلام سوى صوت عدوية والأغنية وهو يشدو «زحمة»
التى يمكن استخدامها على مستويات فى التعبير عن الفيلم، بالإسقاط
على أزمة الزيادة السكانية والتضخم، أو الزحام الذى تشهده شقة
الزوجين بوجود حماة سمير التى تزيد من حياته سوءا، بينما استخدمها
محمود بأداء جسدى فى السخرية من الوضع مسقطًا على الشعب المصرى
الذى يسخر عندما تتأزم أحواله، لتغيب الأغنية تماما أمام سطوة عبد
العزيز على الرغم من جماهيريتها الطاغية فى شكلها الأصلى.
- بتستعمانى يا هرم
- أنا أعمى يا غبى.. ده أنا أشوف أحسن منك فى النور والضلمه كمان
الشيخ حسنى الرجل الضرير بطل «الكيت كات» إنتاج عام 1991، الشخصية
التى لعبها ولعب عليها محمود عبد العزيز ليقدم واحدا من أفضل
أدواره على الإطلاق، الحديث عن الأداء الجسدى والاقتراب الشديد من
تجسيد الإعاقة فى السينما بشكل لا يحمل أى تنفير أو يقترب حتى من
المنطقة الشائكة الفاصلة بين تجسيد معاق جسديا والسخرية من أصحاب
الإعاقة خاصة وأن الفيلم فى النهاية كوميدى، ليس المقصود بل تغيير
النظرة للمعاق وقلب المصطلحات والأماكن التى أجادها عبد العزيز هى
المقصودة، ولعل التضاد الذى تحمله جملة الشيخ حسنى فى الفيلم «بتستعمانى
يا هرم» هو أكثر ما يبرز ذلك، فالبطل بالفعل كفيف لكنه غير مقتنع
بذلك وبمنطق «الفلهوة والنصاحة» المصريين هو أقدر وأذكى من الهرم
(نجاح الموجى) تاجر المخدرات، لذلك تصبح كلمة بتستعمانى جملة تضفى
قوة وهيبة لصاحبها البطل الخارق الذى لا تهزمه الحياة والمصاعب،
وهو ما أكدته آخر جمل الفيلم بعد سقوطه -الشيخ حسنى- فى النيل
ووجهه لابنه يوسف (شريف منير) ليؤكد على نفس المعنى. |