بعد صراع مع السرطان، انطفأ النجم المصري عن عمر ناهز ٧٠ عاماً،
ووري الثرى أمس في مقابر الاسرة في مدينة الاسكندرية، على أن يقام
العزاء بعد غد الأربعاء في مسجد الشرطة في الشيخ زايد
القاهرة
| هناك
في حي الورديان في الإسكندرية، ولد محمود عبد العزيز في الرابع من
حزيران (يونيو) 1946. في ذلك الحي الشعبي الذي نحت شخصيته على
ملامح كل السكندريين من عشاق البحر، عاش الطفل محمود طفولته
«بالطول والعرض». كانت عيناه مليئتين بالشقاوة كما روى عنه. وكلما
كبر، صار أكثر وسامة.
درس الزراعة وحصل على شهادة الماجستير في تربية النحل. ومن هنا عرف
قيمة الاختيار والتأمل، اللذين كانا رفيقي رحلته ومشواره. لماذا
النحل دون غيره؟ الإجابة ببساطة لأنّ الشاب خريج كلية الزراعة كان
مولعاً بهذا العالم، فمملكة النحل تقدس النظام، ولا يتوانى كل من
ينتمي إليها عن العمل والإخلاص والتفاني.
كان عبد العزيز يراقب سلوك الملكة واختياراتها عن كثب. لعلّ هذا
كان مفتاح شخصية الشاب الوسيم الذي صار واحداً من كبار نجوم
السينما المصرية والعربية.
منذ بداياته، كان يتحرك بدأب وإصرار وذكاء منذ اللحظة التي اختاره
فيها المخرج نور الدمرداش لدور صغير في مسلسل «الدوامة» مع محمود
ياسين ونيللي. توقع الجميع للفتى ذي العينين الملونتين والشعر
الأشقر، أن يكتسح «جانات» السينما في ذاك الوقت، ويقف بجوار حسين
فهمي، ونور الشريف وغيرهما من النجوم الذين كانوا يتصدرون المشهد
السينمائي في ذلك الوقت. بالفعل، تبنّاه المنتج رمسيس نجيب الذي
وجد فيه مشروع نجم مستقبلي يتمتع بملامح خاصة. هكذا، قدّمه في
بطولة فيلم «حتى آخر العمر» (1975) مع نجوى إبراهيم وعمر خورشيد،
عندما جسد دور طيّار أصيب بالشلل في معركة حربية.
بعدها، قدم عدداً من الأدوار التي تتسق مع وسامته ذات الملامح
الأرستقراطية. هو وحده كان يعلم أن بداخله طاقات تمثيلية لم
يكتشفها أحد، وأنه تركيبة مغايرة تماماً لكل النجوم على الساحة.
صحيح أنّه كان صاحب ملامح أرستقراطية، إلا أن تركيبته النفسية
شعبية وأصيلة جداً، تحمل تلك الخفة وسرعة البديهة التي تميز ولاد
البلد. جانب لم يره رمسيس نجيب في الـ«جان» محمود عبد العزيز، الذي
تربع على عرش الأدوار الرومانسية، وصار لقبه في تلك المرحلة «الشاب
الحليوة أبو دم خفيف».
لكنّ عبد العزيز ظلّ متيقناً بأنّ اللحظة المناسبة ستأتي وسيخرج من
عباءة الفتى الوسيم. في غضون ستّ سنوات فقط، أدّى بطولة 25 فيلماً
بأدوار ارتبطت بالشباب والرومانسية والحب والمغامرات. لكن منذ عام
1982، بدأ التنويع في أدواره، إذ قدّم فيلم «العار» الذي رسّخ
نجوميته، إذ اختاره المخرج علي عبد الخالق لأداء دور الطبيب ضعيف
الشخصية. بعدها، انطلق عبد العزيز، وأصبح تركيبة فريدة لا تشبه
أحداً، يلعب في منطقة خاصة جداً من الأداء التمثيلي العميق
والممزوج بخفة الدم التي تفجر الضحك، إضافة إلى القدرة على الغناء
وتأدية ألوان مختلفة. نوّع أكثر في أدواره، فقدم شخصية الأب في
«العذراء والشعر الأبيض» (1983)، وأيضاً في فيلم «تزوير في أوراق
رسمية» (1984)، ثم دور عميل المخابرات المصرية والجاسوس في فيلم
«إعدام ميت» (1985). وقدم شخصيات جديدة في «الصعاليك» (1985)
و«الكيف» (1985) الذي حظي بنجاح جماهيري كبير، وصار بخفته يمثل
تهديداً لكبار الكوميديانات، وباتت «إيفيهات» أفلامه الأكثر
تداولاً، خصوصاً أنّه مع كل دور جديد، كان يحلّق عالياً في سماء
النجومية.
تجربته الأهم كانت مع رأفت الميهي في مرحلة الفارس والفانتازيا
ذكاء محمود جعله يدرك منذ أولى خطواته الفنية، أن سرّ النجاح يكمن
في الصدق، وأنه كفنان عليه أن يقنع الناس والمشاهد بأن ما يقدمه
حقيقي، وأن يجعل المشاهد ينسى تماماً شخصيته الحقيقية، ويتماهى مع
الشخصية التى يقدمها، ويعمل جيداً على خلق وصياغة تفاصيل لا تنسى
لكل شخصية يقدمها. من يراه في «العار» بتركيبة الطبيب النفسي
المريض والمصدوم بوالده، لن يصدق أنّه الممثل نفسه في فيلم «الكيف»
مثلاً.
وقد يكون من الفنانين القلائل الذين أدركوا أهمية الاختيار، فهو لم
يقدم أفلاماً بمنطق الانتشار، بل يمكن بسهولة أن نقسم مشواره الفني
إلى مراحل: مرحلة الجان اللطيف، ومرحلة الأفلام السوبر كوميدي التي
حققت له جماهيرية عريضة وشعبية واسعة، ومرحلة الدراما والتألق في
أفلام درامية تحمل طابعاً ملحمياً مثل «البريء»، و«الدنيا على جناح
يمامة»، ومرحلة الفارس والفانتازيا في تجربته المهمة التي تدرَّس
مع رأفت الميهي. قدما معاً مجموعة من أهم أفلام الفانتازيا في
تاريخ السينما مثل «السادة الرجال» و«سيداتي آنساتي» و«سمك لبن تمر
هندي».
عاشق التمثيل والمخلص في مهنته، ظل طوال مشواره يتعامل مع الفن
بمنطق «الأسطى» صاحب الحرفة المميزة، التي لا يعرف سرها غيره. لذلك
كان ينسج دوماً أدواره بتلك الروح، ففي كل قطعة يضع بصمته الخاصة،
ومع كل خطوة كان يصنع أسطورته ويتجلى.
محمود عبد العزيز قيمة كبيرة في السينما المصرية، موهبته تبدأ من
اختيار الموضوع وحرصه على عملية الاختيار وعدم تكرار الشخصيات التي
يلعبها. وهذا وحده كان أكبر ضمان لاستمرار نجوميته، فهو لم يستهلك
نفسه أبداً، ولم يكن لديه مانع بأن يظلّ في منزله عاماً أو اثنين
أو حتى أكثر، طالما أنّه لم يجد الدور أو الشخصية التي يحبّها
ليقدمها. كان يمتلك قدرة كبيرة على التطور والدخول في مناطق
تمثيلية ربما لا يكون مصنفاً فيها، فهو دائماً قادر على إدهاش
متابعيه ومشاهديه، فدور الشيخ حسني الكفيف في «الكيت كات» سجّل
ذروة التجلي لموهبته... تلك الشخصية حوّلها عبد العزيز إلى واحدة
من الأيقونات الخالدة في تاريخ الفن العربي. عن شخصية الشيخ حسني،
قال في تصريحات صحافية: «هناك أنواع كثيرة من فقدان البصر قمت
بدراستها، فهناك من ولد فاقداً للبصر، وهناك من فقد البصر فى مرحلة
عمرية معينة. تعلمت هذا من أطباء العيون، تجولت في الشارع ورأيت
معطفاً أمسكت به وقلت «هذا هو» لأنه يناسب الشخصية، فالمعطف فيه
بقعة في منطقة الرقبة، وهو يناسب تركيبة شخص فاقد للبصر، فلا يخلو
الأمر من وقوع بقايا طعام على رقبته وصدره».
واصل سحره وتألقه في الدراما التلفزيونية أيضاً، عندما قدم دور
رأفت الهجان في أحد أنجح وأهم أدواره. وعنه، قال في أحد حواراته
الصحافية: «حينما قرأت ورق «رأفت الهجان»، ذهبت إلى المخابرات
العامة، وأخذت منها ملفاً فيه الأوراق الشخصية لهذا البطل وصوراً
له في مختلف مراحله العمرية، وأحضرت المجلات والصحف التي صدرت في
تلك المرحلة الزمنية وشاهدت فيها طريقة تصفيف الشعر والملابس التي
كان يرتديها كل من عاش هذه الفترة، خاصة أن رأفت الهجان كان شديد
الأناقة. إلا أنّ مفتاح الشخصية بالنسبة إليّ كان في جملة قرأتها
في أوراق المخابرات العامة المصرية عنه وهي بالعامية المصرية
«بيتكعبل في النسوان». بالنسبة إليّ، هذه الجملة شديدة الثراء في
التمثيل، جعلتني أصيغ تفاصيل الهجان من منطقة خاصة جداً، مما أعطى
الشخصية كل هذا السحر».
محمود عبد العزيز نجم صنع أسطورته الخاصة، وكلما تقدم به العمر كان
يزداداً بريقاً ولمعاناً، وسيظل حالة فريدة في تاريخ الفن العربي.
قدرة مدهشة على التلوّن والتجدّد:
عبقري الأداء والإحساس
علي وجيه
في رائعة «الزير سالم» (2000 – تأليف ممدوح عدوان، وإخراج حاتم
علي)، يصل خبر مقتل «كليب» إلى الزير، فيصرخ غير مصدّق: «أكليب
كلّه مات؟». لا أفضل من تعليق كهذا على فاجعة رحيل العملاق المصري:
«محمود عبد العزيز كلّه مات؟».
ذلك أنّ «الساحر» أو «زوربا المصري» أو «صانع البهجة» أو «النمس»
ليس بالممثّل الذي يمكن تعويضه. هو من تلك القماشة النادرة التي
صنعت نجيب الريحاني وأحمد زكي ويحيى الفخراني، مع تفرّد كلّ منهم
في التفاصيل. المشخصاتي المدهش يشعرك أنّه جايمس دين في البدايات،
ثمّ آل باتشينو في توهّج الثمانينات وبداية التسعينات، قبل أن يصير
جاك نيكلسون بنظاراته السوداء، التي ظلّ يرتديها بسبب حساسية الضوء
ومشاكل النظر. من لم يتأثّر بخبر انطفائه؟ أثره الوجداني العميق
منحه طريقاً مباشراً إلى قلوب الجميع. أداء رفيع. حضور طاغٍ. وسامة
محبّبة. عينان آسرتان. ابتسامة ساحرة. حسّ عفوي. خفّة دم لا تعرف
الافتعال.
محمود عبد العزيز مذهل في القدرة على التلوّن والتجدّد، من دون
فذلكة ولا تعقيد. آمن بشدّة أنّ الورق المتماسك أصعب ما في الأمر.
ثابر في البحث عن وصفته المضمونة للفيلم الناجح: المتعة والبهجة
ومخاطبة الوجدان وحبّ الحياة والتنوير. رفض المساومة ولعب أدوار لا
تحقّق المعادلة، حتى لو كلّفه ذلك الابتعاد لسنوات. بعد العثور على
الشخصية، يجيء أوان التحليل والأنسنة وإيجاد المفاتيح. فهم التمثيل
على أنّه الناتج النهائي لعجن الحياة، والاحتكاك بالأسفلت، ودراسة
تفاصيل الحس والمادة. أدرك أنّ العمق في البساطة والمعايشة. حقّق
السهل الممتنع، مستنداً إلى موهبة شديدة الجمال والأصالة. حافظ على
شغف البدايات وقلق التجارب الأولى، حتى آخر المشوار في مسلسل «راس
الغول» (تأليف وائل حمدي وشريف بدر الدين، وإخراج أحمد سمير فرج).
النشوء في حيّ «الورديان» بالإسكندرية علّمه الجلد، والإصرار على
التحقق. مثل عادل إمام وسمير غانم، درس في كليّة الزراعة، مسجّلاً
حضوراً لافتاً على خشبة المسرح الجامعي (لا ننسى أنّ يحيى الفخراني
خرّيج طب، وسعيد صالح حائز شهادة في الآداب). انتقل إلى القاهرة
عام 1973، إلا أنّه بقي إسكندراني الهوى. هو الذي صرخ على شاطئها
في مسلسل «محمود المصري» (2004 – تأليف مدحت العدل، وإخراج مجدي
أبو عميرة): «بحبّك يا بنت الذين. بحبّك أوي». بدأ بأجر 4 جنيهات
في مسلسل «الدوّامة» (1973 – إخراج نور الدمرداش). حطّ على كوكب
السينما من خلال «الحفيد» (1974) لعاطف سالم بدور زوج الأخت
الوسيم، فتنبأت الناقدة إيريس نظمي أنّه فتى الشاشة القادم. حلم
بلقاء المنتج رمسيس نجيب، الذي لم يتأخّر في طلبه ومنحه بطولة «حتى
آخر العمر» (1975) لأشرف فهمي. في تلك المرحلة، سجنه المخرجون ضمن
خيار «الفتى الوسيم» العاشق أو المغامر. عمل تحت إدارة أسماء مثل
حلمي رفلة وحسن يوسف وحسام الدين مصطفى وسيد طنطاوي وهنري بركات
وزكي صالح وأحمد يحيى وأحمد السبعاوي وسعد عرفة. لا اختراق يُذكَر،
باستثناء شغله إلى سعاد حسني في «شفيقة ومتولي» (1978) لعلي
بدرخان، و«المتوحشة» (1979) لسمير سيف. مع شعوره بالتأطير، راح عبد
العزيز يبحث عن أدوار أكثر عمقاً وتنوّعاً، مستغلاً ما ثبّته من
شهرة ومكانة.
«الكيف»
مدرسة أزليّة في الضحك العربي
أدرك طبيعة معدنه وجودة مخزونه. صرخ أنّ بداخله كوميدياناً لا يشقّ
له غبار. جاء الإنقاذ عبر تحفة «العار» (1982) لعلي عبد الخالق،
بعد رفض يحيى الفخراني لدور طبيب الأمراض العصبيّة، إلى جانب نور
الشريف وحسين فهمي (قدّم معهما أيضاً «جري الوحوش» لعلي عبد الخالق
عام 1987). من ينسى الختام المأساوي بانفجاره الهستيري على القارب:
«الملاحة والملاحة وحبيبتي ملو الطرّاحة»؟ أخيراً، فكّت العقدة،
وفتحت مغارة علي بابا. انهمك في نشاط محموم، دافناً صورته النمطية
إلى الأبد. أخرج أحلى ما لديه تحت إدارة حسن الإمام ومحمد خان
وحسين كمال ومدحت السباعي وإيناس الدغيدي وعمر عبد العزيز ويحيى
العلمي ورأفت الميهي وعاطف الطيب وداود عبد السيد. حلّق إلى فضاءات
أعلى، منوّعاً بين كوميديا الرومانس والواقعية الجديدة. كثيراً ما
برهن عن اقتدار كوميدي، من دون تهريج أو افتعال. «الكيف» (1985)
لعلي عبد الخالق مدرسة أزليّة في الضحك العربي. إيفيهات من قبيل
«بحبك يا ستموني مهما النّاس لاموني»، و«ادّيني في الهايف وأنا
أحبك يا ننس» مغروسة في الذاكرة. في «الكيت كات» (1991) لداود عبد
السيّد، بلغ ذروةً لا تُنسى، لاعباً «الشيخ حسني» ببهاء وفرادة. هو
البلبل الذي «غنّى وغنّى على ورق الفلّة»، كما أهداه سيّد مكاوي.
هذا التجلّي الأسمى للممثّل، في مستوى لم يبلغه سوى صديقه أحمد زكي
(حققا معاً شريطاً خلّاباً هو «البريء» لعاطف الطيب عام 1986، إلى
جانب عناوين أخرى). حتى الأدوار الأقل شهرة، أدلّة أخرى على حنكته
المتزايدة. في أوائل التسعينات، أنهى «القبطان» مرحلة حافلةً
بزلزال تلفزيوني، هو ثلاثية «رأفت الهجان» (تأليف صالح مرسي،
وإخراج يحيى العلمي). ألهب مشاعر الجمهور العربي، بسيرة تحبس
الأنفاس للجاسوس المصري المزروع في كيان الاحتلال. خبير هو بعالم
المخابرات وعمليات التجسس. «إعدام ميت» (1985) لعلي عبد الخالق،
و«فخ الجواسيس» (1992) لأشرف فهمي مثالان على ذلك. بعدها، عمل في
تجارب متفاوتة، لم تفتقد إلى إخلاصه المعتاد. تألّق في «الساحر»
(2001) لرضوان الكاشف، فاكتسب لقبه الفنيّ الأشهر.
مع الألفية الجديدة، سيطرت موجة «السينما النظيفة» وأفلام الشباب
وما إلى ذلك من متغيّرات. وقف محمود عبد العزيز متأمّلاً ما يحصل.
رأى أنّ الوضع «مش مزبّط». الفن مرآة لما يحصل من انحدار في السوية
والذائقة. هذه دورة حياة السينما التي اعتادها، ولكن لا بدّ من
ظهور فيلم جيّد مهما قست الظروف. عناده الفنيّ، وحرصه على عدم
الانزلاق، كلّفاه سبع سنوات من الانقطاع، حقق خلالها «محمود
المصري» في التلفزيون. شركة
good news
تمكّنت من إعادته إلى صالات العرض بـ «ليلة البيبي دول» (2008)
لعادل أديب، و«إبراهيم الأبيض» (2009) لمروان حامد. هنا، تفوّق على
نفسه بشخصية «عبد الملك زرزور» رغم مساحتها المحدودة. أنجز تكاملاً
مثالياً بين الفيزيك والحس الداخلي، بين شراسة بارون المخدّرات
الشعبي وانكسار العاشق الكهل. قال «دي دخلة إنّك لميّت وإنّهم
لميّتون»، و«الجرأة حلوة مفيش كلام»، فابتلع الفيلم بمن فيه. كان
ختام المسك، إذ لم يقدّم فيلماً بعده. في السنوات الأخيرة، دار
حديث جديّ عن مشروع لم ينفّذ، بعنوان «أوضتين وصالة» لشريف
البنداري. كذلك، أبدى رغبته في لعب شخصية إسلامية تعبّر عن الوجه
الحقيقي للدين، إضافةً إلى حلمه بالعودة إلى المسرح. غريب أنّ
صنّاع السينما المصريّة لم يستغلّوا نضجه اللامتناهي، فركن إلى
دراما رمضان.
محمود عبد العزيز طفل منذور للعب والانعتاق. أجاد البوح بتلقائية
فريدة. تجنّب استعمال كلمات مثل الكره والموت في كلامه. نادراً ما
تحدّث للصحافة، مفضّلاً التكريم والندوات العامّة. التقيناه في
مهرجان دمشق السينمائي عندما كان يحضّر لـ «إبراهيم الأبيض»،
فحدّثنا عنه بحماس الوجوه الجديدة. كان حريصاً على حضور الأفلام
المصريّة وتشجيع أصحابها، وارتياد النادي الرياضي في فندق الشام
عصر كلّ يوم. بشجن أليم، قال لـ «عم مجاهد» في «الكيت كات»: «بضحك،
وأغنّي في قعدة حلوة.. لغاية ما أموت». نعم، فعلها «الجنتل» قبل أن
يرحل «على جناح يمامة». وداعاً.
مشاركاته في الدراما التلفزيونية
لم يبتعد عن التلفزيون نهائياً، وحاول التواجد فيه، لكن ثقله ظلّ
في السينما. إذ يتلخّص مشواره في الدراما التلفزيونية بحوالي 12
مسلسلاً فقط، الا أنّها من الأعمال البارزة التي حفرت في ذاكرة
الجمهور.
أول مسلسل يحمل عنوان «الدوامة» (إخراج نور الدمرداش، تأليف
إبراهيم الورداني، وسيناريو وحوار شريف المنباوي)، أدى بطولته
محمود ياسين، ونيللي، وهياتم، ونادية الجندي، ويوسف فخر الدين.
وكان عبد العزيز يومها وجهاً جديداً. بعد ثلاث سنوات، قدم مسلسلاً
من بطولته بعنوان «شجرة اللبلاب» (1976)، للروائي المصري الراحل
محمد عبد الحليم عبد الله (كتب السيناريو والحوار محمد عبد الرحمن
ـ أخرجه عبد المنعم شكري).
انقطع عن التلفزيون لمدة 11 عاماً وركز على السينما فقط، إلى أن
عاد عام 1987، بمسلسل «رأفت الهجان» (تأليف صالح موسى، وإخراج يحيى
العلمي) الذي يعد نقطة تحوّل في مشوار «الساحر» في الدراما
التلفزيونية، سيما أنّ هذا المسلسل يعتبر الأبرز بين الأعمال التي
تناولت ملفاً من ملفات المخابرات المصرية من خلال شخصية «رفعت علي
سليمان الجمال» الذي تم زرعه داخل المجتمع اﻹسرائيلي للتجسس لصالح
المخابرات المصرية. بعدها قدم منه جزءين آخرين عامي 1990، و 1992.
في 1988، أدى بطولة مسلسل «البشاير» الذي كتبه وحيد حامد وأخرجه
سمير سيف، وشاركته البطولة مديحة كامل وسناء يونس وأمينة رزق. تدور
أحداث المسلسل حول، رجل مكافح يعود من الخارج، لتنفيذ مشروع زراعي
في قريته، وينقذ فنانة من حادث قريب من مزرعته ويقع في غرامها.
مجدداً، غاب عبد العزيز سنوات عن التلفزيون إلى أن عاد عام 2004
بمسلسل «محمود المصري» (تأليف مدحت العدل وإخراج مجدي أبو عميرة)
الذي حقق نجاحاً كبيراً، وشاركت في بطولته غادة عبد الرازق، وسمية
الخشاب، ومي عز الدين، وأحمد خليل، وهشام سليم، وحنان مطاوع، وشريف
سلامة، ومحمد نجاتي، ومادلين طبر.
وفي 2012، قدم مسلسل «باب الخلق» (تأليف محمد سليمان عبد المالك،
وإخراج عادل أديب) الذي شاركت في بطولته دينا، وسوزان نجم الدين،
وأحمد فلوكس، ومنة فضالي، وعبير صبري. وفي 2014، أدى بطولة «جبل
الحلال» (تأليف ناصر عبد الرحمن، وإخراج عادل أديب) الذي شاركت في
بطولته وفاء عامر، ونرمين الفقي، وكريم محمود عبد العزيز، وخالد
سليم، ومي سليم. وفي 2016، قدّم آخر مسلسلاته «رأس الغول» (إخراج
أحمد سمير فرج، وتأليف وائل حمدي وشريف بدر الدين) بمشاركة لقاء
الخميسي، وميرفت أمين وفاروق الفيشاوي.
ركب حصان خياله ومضى
خليل صويلح
هل مات محمود عبد العزيز فعلاً؟ الأمر لا يتعلّق بالمراثي بقدر ما
هو إعادة توصيف ضرورية لشخصية فانتازية لطالما رفضت أن تندحر إلى
الخلف رغم تراكم عناوين الأفلام اللاحقة. ذلك أنّ شخصية الشيخ حسني
التي لعبها هذا الممثل بمهارة استثنائية في فيلم «الكيت كات»، عصية
على النسيان أو التجاهل، كأننا نشاهدها للمرة الأولى في الإعادات
المتكرّرة للفيلم على الشاشات، أو أننا نكتشف ثراء هذه الشخصية
وقدرتها على العيش في الواجهة رغم هامشيتها في الحياة بقوة عمل
الفانتازيا بطاقتها القصوى.
كان الراحل إبراهيم أصلان قد كتب سيرة هذا الشيخ الضرير في روايته
البديعة «مالك الحزين» (1981) كواحدة من سير أخرى يعرف حيوات
أصحابها عن كثب، في حي إمبابة الشعبي. لكنه أضفى عليها بعداً
تخييلاً وضعها في مهبّ الكوميديا السوداء، ثم أتى داود عبد السيد
ليخلخل البنية السردية للنص الروائي، ويقتنص بعداً فلسفياً لمعنى
البصر والبصيرة. في الرواية، يورد إبراهيم أصلان تفصيلاً جانبياً
للغرفة يتعلّق بلوحة مرسومة بالأبيض والأسود شبه تالفة بتوقيع
بابلو بيكاسو عن فارس هزيل وتابعه، في إشارة إلى شخصية دون كيخوته،
لكن داود عبد السيد سيصنع منها نسخة أصلية ويمنحها للشيخ حسني،
معتبراً إياه دون كيخوته آخر في معاندته للقدر... لتأتي الأغنية
التي يؤديها بصحبة ابنه يوسف عن «حصان الخيال» علامة إضافية على
صناعة البهجة (لحّن الأغنية موسيقي ضرير آخر هو سيد مكاوي)، رغم
العواصف التي تعبث بمصير الأب والابن.
الشيخ حسني دون كيخوته آخر في معاندته للقدر
هكذا تراكمت ثلاث طبقات فوق قماشة السرد التخييلي في تظهير شخصية
الأعمى عمل عليها (الروائي والممثل والمخرج) في خلطة عجائبية لن
تتكرّر بسهولة في أرشيف السينما المصرية. مغامرة داود عبد السيد
إذاً، تتجلى في اكتشافه هذه الرواية الصغيرة أولاً، واختياره محمود
عبد العزيز دون سواه ثانياً، لقناعته بقدرة هذا الممثل على تجسيد
هذه الشخصية الصعبة، وسحبه من بساط الرومانسية نحو منطقة الأداء
الحرّ التي تتطلّب أن يعمل كممثل لا كنجم شبّاك يعتمد وسامته وحسب.
على المقلب الآخر، سنقع في الحيرة لجهة أكثر المشاهد ثراءً في
الشريط، نظراً لتنويعات اللعب التي فرضتها عشوائية المكان بعشوائية
موازية في سلوكيات الشخصية وشغفها بالمغامرة وعدم اعترافها بعاهتها.
كان دون كيخوته ضحية كتب الفروسية التي أشعلت خياله في القيام
بمغامرته المجنونة، فيما سيلجأ بطلنا إلى تعاطي الحشيش لإيقاد
مخيلته بمغامرات صاخبة. لا حصان لفارسنا المعاصر، لذلك سيحقّق
رغبته بامتطاء دراجة ناريّة ستخترق السوق الشعبي إلى أن ترتطم
بأقفاص الدجاج، في دلالة صريحة على توق الشيخ حسني تحطيم القفص
والتحليق عالياً غير عابئ بالخسران. مشهد الميكرفون المفتوح سهواً،
على صوت الشيخ حسني وهو يروي لأصدقائه ما يدور سراً في الحي، سيفضح
الجميع بما فيهم ابنه يوسف وعلاقته مع فاطمة، على أن مغامرته
الأعمق سنجدها في ذهابه إلى السينما بصحبة شيخ ضرير آخر لا يعلم أن
مرافقه أعمى أيضاً، وكيف يقنعه باختراع سيناريو آخر للفيلم وسط
دهشة المتفرجين في المقاعد المجاورة. وسترتفع وتيرة الفانتازيا إلى
مرتبة أعلى بمرافقة الشيخ نفسه في رحلة نهرية قبل أن ينقلب المركب
بهما. هذا التوق إلى العناد لن يتوقف إلى نهاية رحلته على دراجة
نارية بين العربات المسرعة في شوارع القاهرة إلى أن تقذف به إلى
نهر النيل برفقة ابنه الذي يحاول عبثاً إقناع أبيه بأنه أعمى.
«مالك
الحزين» يقف على ساق واحدة متفرّجاً على المستنقع من دون أن يعترف
بمحنته وبأنه يحارب طواحين الهواء برمحٍ مكسور وحاسة معطوبة.
سيكرّر محمود عبد العزيز التجربة بفضاء سردي آخر لا يقل أهمية عن
دوره في «الكيت كات»، كما في فيلم «الساحر» (2001) مع المخرج
الراحل رضوان الكاشف. هنا سيتوغل الممثل في متاهة بصرية أخرى، تبدو
كما لو أنها تتمة لشخصية الأعمى في «الكيت كات»، ذلك أن «منصور
بهجت» يتكفّل هذه المرّة بتعميم «نظرية البهجة» على محيط غارق في
الاكتئاب.
«راس
الغول» آخر إطلالة
محمد عبد الرحمن
القاهرة
| قبل
أيام من رمضان الماضي، أخطأ المسؤول عن حساب محمود عبد العزيز على
تويتر وكتب عن مسلسل «راس الغول» أنه آخر وليس ـــ أحدث ـــ
مسلسلات «الساحر». لكن الخطأ غير المقصود تحول إلى واقع. رحل
الفنان الكبير أخيراً بعد صراع مع المرض ليكون «راس الغول» هو
فعلاً آخر لقاء بينه وبين الجمهور.
رغم النفي المستمر للتفاصيل المسربة عن حقيقة مرض الفنان، لكن قلق
جمهوره ظل متواصلاً حتى إعلان خبر وفاته عن عمر ناهز 70 عاماً.
السبب أن تصريحات أبنائه حول إصابته بأنيميا حادة وورم في اللثة
وصعوبات في التنفس، لم تقنع محبي «الساحر» بسبب منع الزيارة عنه
وحالة السرية التي فرضتها أسرته على مقر إقامته في «مسستشفى الصفا»
في ضاحية المهندسين في الجيزة. سرطان في الرئة كان ذلك هو التشخيص
الذي تداوله الوسط الفني والصحافي قبل إعلانه رسمياً من قِبل
الأطباء، ليرحل الفنان المحبوب بعد صراع مع المرض ظهرت بوادره في
مسلسله الأخير «راس الغول» الذي حقق نجاحاً ملحوظاً منذ عرضه في
رمضان الماضي. ظهر الإجهاد والإعياء على وجهه في العديد من
المشاهد، وأكد بعض ممن شاركوا في العمل أن عبد العزيز أكمل تصويره
بصعوبة. هكذا، ودّع جمهوره من خلال شخصية «درويش» التي قدمها في
رمضان 2016. ويعد عبد العزيز واحداً من قائمة تضم أبرز نجوم
السينما المصرية في السنوات الخمسين الأخيرة، ويمكن اعتباره الآن
ثالث الراحلين من هذه القائمة بعد أحمد زكي (1949 – 2005) ونور
الشريف (1946 -2015)، وتضم القائمة أيضاً عادل إمام، وحسين فهمي،
ويحيى الفخراني ومحمود ياسين. تخرج عبد العزيز في كلية الزراعة في
جامعة الإسكندرية حيث ولد في المدينة الساحلية الشهيرة عام 1946،
ودخل الوسط الفني مبكراً مستغلاً ملامحه الجذابة، لكنه سرعان ما
عبّر عن موهبة تمثيلية فذة جعلته خلال سنوات معدودة يصل إلى
البطولة المطلقة. لكن اللافت أنّ عبد العزيز تألق بشكل واضح في
البطولات الجماعية التي شهدت مشاركة نجوم جيله مثل نور الشريف
وحسين فهمي ويحيى الفخراني، وتحديداً أفلام «العار» (1982) حيث
شخصية الطبيب النفسي المهتز والمضطر للعمل في تجارة المخدرات،
و«جري الوحوش» (1987) حيث قدم شخصية «صانع المفروشات» الذي يتنازل
عن عضو من أعضائه لأحد الأثرياء، و«الكيف» (1985) أحد أكثر أفلام
الثمانينات نجاحاً، وجسد فيه عبد العزيز شخصية «مزاجنجي» الشقيق
الفاسد لعالم الكيمياء. جاءت هذه الأفلام لتؤكد مكانة محمود عبد
العزيز بعد مرحلة الانتشار التي شهدتها حقبة السبعينات، حيث كانت
بداياته في أفلام «الحفيد» (1974) مجسداً شخصية صديق البطل الذي هو
نور الشريف، كذلك شخصية الشاب المتهم ظلماً في جريمة قتل في طائر
«الليل الحزين» (1977) أمام نيللي ومحمود مرسي وشويكار وعادل أدهم،
ومن أفلام حرب أكتوبر فيلم «حتى آخر العمر» (1975) مع نجوى إبراهيم
في شخصية الطيار الذي أصيب في الحرب، وشخصية عشيق سعاد حسني في
الفيلم الشهير «شفيقة ومتولي» (1978). قدم الممثل الراحل قرابة 96
فيلماً حقق معظمها نجاحاً جماهيرياً ونقدياً، إلى جانب 12 مسلسلاً
لكن يظل أبرزها على الإطلاق الأجزاء الثلاثة من مسلسل «رأفت
الهجان» التي بدأ عرضها للمرة الأولى عام 1987 من إنتاج التلفزيون
المصري. استخدم عبد العزيز في هذه الشخصية عصارة خبراته، وركز فيها
بشكل واضح لتظل عالقة هي وباقي شخصيات المسلسل في أذهان الجمهور
حتى الآن. تعد موسيقى المسلسل للراحل عمار الشريعي (1948-2012) من
أكثر شارات المسلسلات المصرية انتشاراً. وظل الاسم مرتبطاً بعبد
العزيز حتى قدم فيلم «الساحر» مع المخرج رضوان الكاشف (2001)، وهو
الفيلم الذي قدم للجمهور الوجه الجديد وقتها منة شلبي. هكذا، التصق
به لقب «الساحر» منذ ذلك الحين. قبل «الساحر» وبعد انتهاء مسلسل
«الهجان»، وجد عبد العزيز صعوبة كبيرة في العودة للدراما
التلفزيونية لأكثر من 12 سنة. خلال تلك الفترة، قدم العديد من
الأفلام التي لم تحقق نجاحاً تجارياً، لكنها تميزت بالقيمة الفنية
مثل فيلم «القبطان» (1997) مع المخرج السيد سعيد، وفيلم «الكيت كات»
الذي قدم من خلاله شخصية «الشيخ حسني» الشهيرة من توقيع داود عبد
السيد (1991)، إلى جانب تجاربه مع المخرج رأفت الميهي المختص في
سينما الفانتازيا. وقدم كذلك مع المخرج محمد كامل القليوبي فيلمي
«ثلاثة على الطريق» (1993) و«البحر بيضحك ليه» (1995). في نهاية
التسعينات، حاول عبد العزيز مجاراة سينما الشباب، لكن التجربة لم
تفلح في فيلم «الجنتل» (1996)، ليعود من جديد إلى الأفلام ذات
المضمون المميز بفيلم «سوق المتعة» (2000)، ثم يحن إلى الدراما
التلفزيونية مجدداً في مسلسل «محمود المصري» (2004)، ويبدأ في
الظهور كنجم كبير في أفلام الشباب وتحديداً شخصية عبد الملك زرزو
في فيلم «إبراهيم الأبيض» (2009) مع أحمد السقا وهي من الشخصيات
العالقة في أذهان الجمهور. كما شارك في فيلم النجوم «ليلة البيبي
دول» (2008) لكن الفيلم نفسه لم يحقق أي نجاح. وبعد ثورة يناير
ابتعد طويلًا عن السينما واكتفى بتقديم ثلاثة مسلسلات كان أولها
«باب الخلق» (2012) مع المخرج عادل أديب، ثم «جبل الحلال» (2014)
مع عادل أديب أيضاً، وأخيراً «راس الغول» مع المخرج أحمد سمير فرج.
وعلى خشبة المسرح، قدم 3 مسرحيات فقط أبرزها «خشب الورد» (1986)
أمام عبد المنعم مدبولي وأشرف عبد الباقي. ومن مسلسلاته أيضاً «البشاير»
(1988) حيث جسد شخصية أبو المعاطي شمروخ أمام مديحة كامل، وعرف عن
الساحر ابتعاده المستمر عن الأضواء والحوارات التلفزيونية ودعمه في
الوقت نفسه لتجربة ولديه الممثل والمنتج محمد وكريم الذي اكتفى
بالعمل في التمثيل وقلد والده في العديد من أفلامه الكوميدية. لكن
كلاهما لم يقترب بالطبع من تكرار تجربة «الساحر» على الأقل حتى
الآن.
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر
| MhmdAbdelRahman@
فقراء لا يدخلون الجنة
جمال جبران
تلك الصور التي نشاهدها في طفولتنا، الصور الأولى، لا تغادرنا
أبداً. تبقى تطاردنا في كل شيء نراه أو مع صاحب تلك الصورة على وجه
الخصوص.
وأول من أمس، حين سمعت بخبر رحيل محمود عبد العزيز، استرجعت ذاكرتي
على الفور تلك الصورة الأولى التي شاهدتها له في فيلم «فقراء لا
يدخلون الجنة» (سيناريو واخراج مدحت السباعي ـــ 1984). في طفولتي،
وكنّا فقراء وبالكاد أنجح في الحصول على قيمة تذكرة سينما. ريالان
فقط. لكنّ كنا فقراء إلى درجة ظهور هذا المبلغ على هيئة ثروة
مستحيلة لمن هم في مثل حالتي. ومع ذلك، كنت أنجح في الحصول عليه.
أبيع جرائد أو مياهاً مثلّجة أو أقوم بخدمة سيدة ثرية تسكن لوحدها
في بيت يجاور بيتنا، وكانت بحاجة لمن يقوم بخدمتها عن طريق
مساعدتها في شراء حاجيات وأحتفظ بالمال الذي كان يبقى وأذهب به إلى
السينما، في تلك الأيام الجميلة التي كان في صنعاء دور كثيرة
للسينما.
في يوم عرض «فقراء لا يدخلون الجنة»، حضرت متأخراً ولم أشاهده إلا
من منتصفه. لقيت صعوبة يومها في الحصول على "الريالين". وصلت على
مشهد البطل وهو يقوم بتنظيف أحد المراحيض وقد أضطر لهذا (سأعرف هذا
بعد تمكني من مشاهدة الفيلم من بدايته في مرة أخرى)، كي يتمكن من
توفير مبلغ ما لصديقته (آثار الحكيم) لتنجح في تسديد فواتير إيجار
المنزل المتراكمة عليها. لقد أجبره حبه على فعل ذلك. وهو قام بذلك
في وقت كانت هي فيه قد بدأت سيرها على طريق الخيانة والانتقال من
حضن رجل إلى آخر. أُجبرت على هذا في أول مرّة لكنّها خضعت عن طيب
خاطر في المّرات التالية.
وفي الحقيقة، لن تبقى في ذاكرتي فقط صورة عبد العزيز في حالته
المُهينة تلك وهو يقوم بوضع قلبه في الإهانة من أجل رضى المحبوبة،
لكن ستبقى صور أخرى من الفيلم كلّه. صور كثيرة ستقول في مجملها
بحالة العبث التي احترف بطل "رأفت الهجان" في تقديمها على نحو لم
يكن يقدر عليها سواه. تلك القدرة على قول أصعب الأشياء بأبسط
العبارات وأقدرها في لمس وعي الناس العاديين.
بداية من حالة الجنون التي ستحكم نهاية الفيلم بعد قيامه بقتل إحدى
شخصيات "فقراء"، الحالة نفسها التي ستبدو في "البحر بيضحك ليه"
وبأنها الطريقة الوحيدة التي ينبغي للواحد أن يسير عليها في تعامله
مع الحياة. حالة الجنون التي ستكون أيضاً في "جري الوحوش" كنتيجة
طبيعية للكائن الراغب في تجاوز المستحيل والتفوق عليه. إلى كل هذا
حالة الجنون في فيلم"الكيف" التي كانت تبدو في تلك الأغنيات
الشعبية التي ازدحم بها الفيلم وصارت شعارات يتم تناقلها إلى اليوم
للتدليل على حياة العبث التي صارت إليها الحياة نفسها مثال "احنا
اللى خلينا الشكرمون طاخ فى الترالوللى" و"احنا بالصلاة ع النبى
حلوين قوى مع بعض،لكن ساعة الغلط بنطرطش زلط، يعنى لحمنا جملى
مكندز مانتكالش، وان اتكالنا عضمنا ركب ماننقرش، وان انقرشنا نشرخ
فى الزور وماننبلعش". أمّا العبارة الأشهر حين قال "بحبك يا ستموني،
مهما الناس لاموني". وهي العبارات التي جاءت من تحتها أغنيات كثيرة
لن يكون من اليسير حصرها قامت بتشكيل موجة أغاني الميكروباصات
والكاسيتات التي تتم عملية انتاجها من كتابة وتلحين وتنفيذ، في
جلسة تحشيش واحدة.
وبعد كل هذا أعود:
عندما كان البطل يحاول مساعدة حبيبة قلبه على تجاوز سقوطها في
الخيانة، في ذلك الفيلم، كنت أنا أحاول بكل طاقتي الحصول على مبلغ
ريالين كي أتمكن من اللحاق لمشاهدة لفيلم من أوله. ولم أنجح. مع
ذلك ما زلت أغنيّ، كلما ظهرت صورة محمود عبد العزيز أمامي " بحبك
يا ستموني، مهما الناس لاموني
".
يمكنكم متابعة الكاتب عبر تويتر
| @jimy36@
الشاب السكندري عشق البحر والتجريب
محمد الخولي
كُثر مروا من هنا، ودخلوا دائرة النسيان بمجرد غيابهم، غير أنّ
هناك قلة قليلة ظلت باقية، فخلدت إلى الأبد. لم يبق هؤلاء من فراغ،
وإنما حازوا تلك الميزة غير الطبيعية، لأنهم أناس مختلفون.
محمود عبد العزيز واحد من هؤلاء الذين لن ينتهي ذكرهم، برحيلهم عن
عالمنا. فالساحر خلق عالمه لنفسه، ولن يستطيع أحد إبعاده عنه. هذا
الشاب السكندري، بكل ما تحمله تلك المدينة الساحلية من ميزات،
وثقافات، اختاره المخرجون في البداية لمجرد أنه شاب وسيم، يناسب
سينما السبعينات. لكن لأنه يملك مخزوناً كبيراً من الإبداع، صار هو
محمود عبد العزيز، الذي قدّم أعمالاً مميزة للسينما والتلفزيون
والمسرح، جعلته بالفعل واحداً من أعلام الفن المصري، يتعاون مع
أعظم المخرجين الذين عاصرهم على اختلاف توجهاتهم الفنية.
عندما قرّر محمود عبد العزيز مغادرة حيّ الورديان التاريخي في
الاسكندرية، والمجيء إلى العاصمة، كان في ذهنه هدف واحد: الخلود،
فبدأ مشواره السينمائي عام 1974 بالمشاركة في واحدة من كلاسيكيات
السينما المصرية، فيلم «الحفيد» (إخراج عاطف سالم). هذه المشاركة
كانت نقلة في حياته، إذ حصل بعدها بعام واحد، على بطولة فيلم «حتى
آخر العمر» وانطلق من هذا التاريخ في طريقه الطويل، إذ اصبح يشارك
في أكثر من عمل في العام الواحد. غير أن بدايته الفعلية كانت مع
دوره فيلم «العار» (1982).
لم يكن محمود عبد العزيز وحده على الساحة الفنية، لكنه كان يملك
أسلوباً مختلفاً عن الآخرين. لذلك، كان ما يقدمه من فن مختلفاً عن
كل ما كان يقدم في تلك الفترة، وابتدع طريقة في التشخيص لم يسبقه
إليها أحد.
ولعل من بين ما جعل محمود عبد العزيز في تلك القيمة، هي روح
المغامرة التي تصيب سكّان المدن الساحلية، لمرافقتهم البحر في
أوقات كثيرة. هكذا، رفض التقليد، وعشق التجريب، لذا كان من الطبيعي
أن يجرب مع مخرج كداود عبد السيد، الذي ينتمي إلى مدرسة أقرب إلى
الواقعية، وكان من الطبيعي أن يوضع العملان اللذان تعاون فيهما عبد
العزيز، وعبد السيد، في لائحة أفضل مئة فيلم عربي في تاريخ السينما
العربية. وهما فيلما «الكيت كات»، و«الصعاليك»، وهذا الأخير كان
العمل الروائي الأول لدواد عبد السيد.
لم يغلق محمود عبد العزيز بابه على تلك التجربة، فلديه الكثير
ليجود به، وهو الفنان الذي يحمل قدراً من الإبداع، وبالتالي بعضاً
من الجنون والعبثية. ومع المخرج الكبير رأفت الميهي، وجد ضالته،
فسينما الميهي اتخذت طابع الفانتازيا، أو «سينما المسخرة»، ومعه
فعلا تلك المسخرة، في «السادة الرجال» (1987)، و«سمك.. لبن.. تمر
هندي» (1988)، و«سيداتي آنساتي» (1989). وفي كل واحد من هذه
الأعمال، كان الميهي وعبد العزيز يقدمان وجبة دسمة من سينما
المسخرة، التي تكشف عبثية المجتمع، وثقافته الذكورية، خاصة في فيلم
«سيداتي آنساتي» الذي طرح فكرة عامة مفادها: ماذا لو تبادل الرجل
والمرأة الأدوار في الحياة، فهل سيتحمل الرجل ما تتعرض له المرأة
من مسؤوليات، وإهانات؟
مرت السنون، ونضجت موهبة محمود عبد العزيز، لكنه لم يتخلَّ عن
رغبته في التجريب، فقرّر المغامرة في تجربة مختلفة مع المخرج رضوان
الكاشف في فيلم «الساحر» (2001). تلك الحالة من الشبق الفني، جعلت
محمود عبد العزيز يلعب في منطقة بعيدة عن أبناء جيله، فتغلّب على
أغلبهم كونه أصبح فناناً شعبياً بامتياز. لذا كان من الطبيعي أن
يحزن الجميع على رحيله. فور الإعلان الرسمي، تحولت صفحات التواصل
الاجتماعي إلى سرادقات عزاء كبيرة. الجميع في الحقيقة كان يعزي
نفسه، ويعزي مرحلة هامة في التاريخ الفني. يعزي الشيخ حسني في «الكيت
كات»، ومنصور بهجت في «الساحر»، وأغنية «الكيمي كيمي كا» في
«الكيف»، وعبد الملك زرزور في آخر أفلامه «إبراهيم الأبيض» (2009).
في كل هذه الأفلام وغيرها، كانت لمحمود عبد العزيز جملة تحولت إلى
«قفشة» يستخدمها المصريون في حياتهم اليومية. ورغم مرور سنوات
كثيرة على تلك الأفلام، إلا أنّك من المعتاد أن تسمع في حوارات
المصريين جملاً كـ «أنت بتستعماني يا هرم»، أو «بحبك ياستموني مهما
الناس لاموني». وعند السخرية من أحد، ستجد من يقول للآخر: «أنت
صميم يا عربي». وفي المشاجرات الشعبية، ستسمع من يقول «حد ليه شوق
في حاجة؟». وفي الشوارع ستجد من يكتب على خلفية سيارته الأجرة «ده
احنا كسيبة ومخلصين وبنطلع القرش من بذر العنب»، وكل ما سبق هي جمل
نطقها محمود عبد العزيز في أفلامه، والتصقت بالذاكرة الشعبية.
لذا ودع الجميع محمود عبد العزيز بحفاوة، وتمجيد لأعماله وجمله.
وداع يؤكد أنّ هذا فنان تجاوز القوانين الطبيعية، فهو لن يموت ولن
يصبح مجرد ذكرى، بل سيكون حاضراً بقوة، سنجده في المستقبل، بـ«قفشاته»،
وتعابير وجهه وجسمه، التي ستبقى لأنها صالحة لكل زمان ومكان، وهذه
روعة وإبداع، فنان كبير كمحمود عبد العزيز. |