بين الخيانة والهزيمة.. مصائر الأبطال في أفلام
محمد خان
محمد المصري
ذات مرة، قال المخرج الإيطالي مايكل أنجلو
أنطونيوني إن "صانع الأفلام يخرج فيلماً واحداً في حياته كلها،
ويظل يكرره إلى ما لا نهاية"، وكان ما يقصده تحديداً أن هناك فكرة
حاكِمة في ذهن كل مخرج، تعيد تقديم نفسها بأشكالٍ مختلفة، ولكن
الجوهر يكون متماثلاً. وبعيداً عن دقة تلك الجملة، أو حتى صحة
نقلها عن "أنطونيوني"، إلا أن المؤكد هو وجود تفاصيل وأفكار
و"تيمات" درامية متكررة في أفلام أي مخرج، سواء بحركة واعية نحو
الأشياء، أو من دون وعي لأن هذا ما يشغله وينجذب إليه.
وفي أفلام المخرج المصري محمد
خان هناك
تيمات واضحة منذ بداية مسيرته: الانشغال بالمكان، جرأة التصوير
الخارجي، والتعامل مع المدينة، الشخصيات المطحونة والمهمشة، قصص
الحب غير المكتملة، ومحاولات المهزومين للتعامل مع واقع أكبر منهم.
ولكن أيضاً هناك أشكال درامية خفية تتكرر دائماً وبأشكال مختلفة
داخل الأفلام، ومن بينها الطريقة التي تعامل بها مع الصداقة كعنصر
محوري في حياة أبطاله.. وأحياناً ما يكون صُلب حكاية الفيلم نفسه.
"سَلِيم
يا شمس؟"
على الأغلب حين يتم تناول الفيلم الأول لـ"خان"
"ضربة شمس" (إنتاج 1978) يكون العنصر الأساسي المتناول هو أهميته
التاريخية؛ سواء لثوريته في شكل الصناعة والتصوير في شوارع القاهرة بحرية
ودون خوف وبشكل غير معتاد وقتها، وكذلك بدايته لما سُمّي بعد ذلك
"الموجة الواقعية الجديدة في السينما المصرية". ولكن
بعيداً عن تلك الأهمية التي اكتسبها الفيلم أكثر مع الزمن، فإن
الجوهر الأساسي لـ"ضربة شمس" هو أنه "فيلم عن الصداقة". النقطة
الأولى التي تدعم ذلك هو أن الحدث الانقلابي الرئيسي الذي يحوّل
دفة البطل -في منتصف الفيلم تماماً.. كبناء كلاسيكي للحكاية- هو
قتل صديقه "فتحي" وهو يجلس خلفه على "الموتوسيكل"، دوافع التورّط
والرغبة في الانتقام تتشكل من نقطة أنه "صديق يأخذ حق صديقه"، كل
ما هو خلاف ذلك عن العصابة والتهريب مجرد تفاصيل لا تتدخل أبداً في
تحديد أولويات البطل.
ولكن السبب الأهم في كون "الصداقة" محور الفيلم
الرئيس هو ما يُتوّج ويتضح في المشهد قبل الأخير: شمس وحبيبته سلوى
في مترو الأنفاق، الخالي تماماً في الصباح الباكر، انتهوا لتوّهم
من معركة طاحنة مع "العصابة"، أجسادهم مُنْهكة ويشعرون بنهاية
الكابوس، يحضر مُراد، صديق شمس ووكيل النيابة الذي كان السبب في
تورّطه منذ البداية داخل تلك القضية حين أرسله لتصوير أحد الأفراح
دون إخباره بوجود عصابة تهريب وجريمة منظمة في كواليس الحدث، مما
أدى بعد ذلك لكل التتابعات الدموية التي مرّ بها، يذهب "مراد" نحو
"شمس وسلوى"، يسأله -في آخر جملة منطوقة بالفيلم-: "سليم يا
شمس؟!"، فينظر له شمس -بتداخل موسيقى كمال بكير ذات النغمة
الحزينة- دون أن يرد، يمد مراد يده، فينزل شمس ويمسك بحقيبة
التهريب ويعطيها له، ثم يغادر عربة المترو دون حديث.
هذا المشهد يمتلك شاعرية مُفرطة في اختصار إحدى
القراءات المحتملة للفيلم، وهو أنه حكاية عن "صداقة مُهْدَرَة"،
شمس يُدرك في مشهد أسبق أن هناك "لعبة جرت عليه من قِبَل مراد الذي
لم يخبره بحقيقة الفرح"، وفي تلك اللحظة الختامية، يبدو أن كل شيء
تغيَّر في حياة البطل بناء على الليلتين اللتين عاش فيهما أحداثاً
عصيبة؛ لا علاقته بمدينته صارت كما هي -كما نشعر في المشهد الأخير
على كوبري المشاة بميدان
التحرير-
وعلاقته بصديقه انتهت.. كأنه بالحقيبة التي يمنحها له يقول إن ذلك
الشيء الوحيد الذي تبقى.
"بت
يا هِند.. احلفي إني هشوفِك تاني"
ومن "ضربة شمس"، تتكرر "تيمة الصداقة" أكثر من مرة
في أفلام "خان" التالية، تشكل أحياناً محوراً رئيسياً في بناء
حكاية الفيلم؛ مثل "نص أرنب" (إنتاج 1983) الذي يُبنى على العلاقة
بين موظف البنك "يوسف" واللّص "رفاعي"
(محمود
عبد العزيز وسعيد
صالح)، يتابع المشاهد تطور علاقتهما منذ البداية (بمطاردة بين
شوارع القاهرة على خلفية حقيبة مسروقة) مروراً بتورطهما سوياً
والشراكة الغريبة التي تنشأ بينهما: "انتَ وِرك وأنا وِرك"؛ أمر
يبدأ من احتمالية الخروج بمكسب مالي مشترك، ولكنه يتطور مع الوقت
ومع المشاهِد، يغير في شخوصهم -بقدر ما تسمح طبيعة العمل كفيلم
جريمة هزلي بالأساس-، وحين تتجه الأحداث نحو النهاية يكون العُنصر
الذي يُغلق القوس هو مَصير أحدهما وتصرُّف الآخر بناء على ذلك،
تنعدم قيمة "المال"/"الحقيبة" حينها رغم أنها المُحرك الأولي،
وتتضاءل أمام تلك الدفعة التطهرية ليوسف في خِتام، كرد فعل على
صورة "رفاعي" الأخيرة في "الأسانسير".
في فيلم "أحلام هند وكاميليا" تمر حياة الصديقات
بالكثير من الصعود والهبوط، تتغير علاقتهن العاطفية، ويبقى الجوهر
الحقيقي الذي يدور حوله كل شيء هو تلك الصداقة
في فيلمي "أحلام هند وكاميليا" (إنتاج 1988) و"بنات
وسط البلد" (إنتاج 2005)، تكون الصورة أوضح في علاقة بطلاته الأربع
ببعضهن، يعمل الفيلم طوال الوقت على خلق "ذكريات" -بصرية وحوارية-
بينك وبينهن، سواء حدث ذلك في أزقةمصر الجديدة
والسلالم الخلفية للعمارات في الفيلم الأقدم، أو في محطة مترو
"السادات" وشوارع وسط البلد في الأحدث.
يبدأ الفيلمان بتلك الصداقة، وينتهيان عندها، تمر
حياة الصديقات بالكثير من الصعود والهبوط، الصدمات واللحظات
السعيدة، تتغير علاقتهن العاطفية (باختلاف الطبقة والزمن)، ويبقى
الجوهر الحقيقي الذي يدور حوله كل شيء هو تلك الصداقة، ومن المُلفت
مثلاً كيف أن الصورة الختامية للفيلمين متقاربة جداً: البطلتان
وابنة إحداهن معاً، مع استبعاد مكرر -بعيداً عن اختلاف الأسباب
أيضاً- للعنصر الذكوري من الصورة.
"أنا
عارف.. عارف يا عبد الله"
وحتى حين لا يكون محور "الصداقة" محرك أساسي للعمل،
فإنها تتواجد بقوة داخل الأحداث، وتمتلك جاذبية وتأثيراً واضحاً.
علاقة "فارس" بـ"عبد الله" في "الحرّيف" (إنتاج 1984) تتشكل كجزء
من علاقات البطل العديدة على مدار الأحداث، لا تمتلك خصوصية وربما
تبدو في بعض الأحيان علاقة "جيرة"، ولكن مع منتصف الفيلم (تحديداً
في المنتصف مرة أخرى!) يخلق "خان" -وبشير الديك- تتابعاً من أربعة
مشاهد بين عبد الله وفارس: خروجهما معاً من القسم، "زقة" لأحد
العابرين في ميدان العتبة تنتهي بدموع عبد الله، الأكل معاً في
"كشري لوكس" في باب اللوق، وأخيراً العودة إلى السطوح.
هذا التتابع -الشاعري جداً أيضاً- يفتح قوساً ما عن
تلك "الصداقة"، وحين يُغلق القوس بمشهد السطوح الطويل، ومحاولة
"فارس" ثني "عبد الله" عن احتجاز زوجته وأبنائه، وجملته الهامسة ب
أنه "يعرف": "عارف يا عبد الله"، قبل أن ينتهي كل شيء بانتحار
الأخير من فوق المبنى (في تتابع يقطعه "خان" بصوت حاد ومزعج جداً
للمترو قادماً نحو الشاشة) يكون إحدى الدفعات الختامية التي تجعل
بطل "خان" يترك "زمن اللعب" ويقبل العمل في تهريب السيارات.
في "سوبر ماركت" (إنتاج 1989)، يقدم "خان" أيضاً
شكلاً غير معتاد للصداقة في الأفلام المصرية، العلاقة بين "أميرة
ورمزي" (أداء ممدوح عبد العليم ونجلاء فتحي) تبدو منفتحة جداً أكثر
من المعتاد، ينفي عنها أي بعد عاطفي منذ البداية، ولكنه لا يحاول
التأكيد أبداً على أبعاد الجيرة والتربية المشتركة، لا تتحدث معه
بجملٍ مباشرة من قبيل "إنك مثل أخي" (كما يحدث في الأفلام
المصرية)، بقدر ما تنساب علاقتهما وتمتلك المشاهد بينهما طريقة
طبيعية -ومرة أخرى غير تقليدية- من وصل الأصدقاء.
وفي بُعدٍ آخر موصول بـ"تيمة" الفيلم الحاكِمة،
يجعلهما "خان" (وسيناريو عاصم توفيق) أقرب لبوصلة أخلاقية مشتركة
موصولة ببعضها؛ "رمزي" بموسيقاه وأفكاره التي لا تزال تحمل بعض
السذاجة عن العالم، و"أميرة" التي تأخذ خيارات أقل مادية من
طليقها، لذلك ففي النهاية حين نصل إلى ما يعتبره الفيلم
"تنازلاً/سقوطاً" لشخصية أميرة من خلال علاقتها بالدكتور عزمي، فإن
النظرات المتبادلة الصامتة الأخيرة بين اثنين من الأصدقاء القدامى
تحكي كل شيء يريده "خان" من الفيلم: لقطة
Track in
على وجه "رمزي" يجلس على السلم بإرهاقٍ ونظرات حزينة، لقطة قريبة
لأميرة وفي الخلفية دكتور عزمي (Out
of Focus
ولكن يشغل الجزء الأكبر من الشاشة بهيمنة واضحة)، لقطة أقرب لوجه
"رمزي" ونظرات الإحباط/الهزيمة في عينيه، لقطة أخيرة وسريعة
لـ"أميرة" ونظرتها تنخفض لأسفل قبل أن يغلق باب "الأسانسير".
وتنتهي الحكاية.
وبعد؛ فمن المُلفت كيف أنه في الوقت الذي كانت
مصائِر أغلب أبطال "خان" -خصوصاً في أفلامه الأقدم- تنتهي
بالهزيمة، وأغلب العلاقات العاطفية الكبرى تصل لمصيرٍ مُغلق (موت
أو سَجن أو مُفارقة.. أو على الأقل يسير أطرافها مُحملين بثقل ما
جرى)، فإن مصائر الصداقات أيضاً لم تبتعد عن ذلك الحِس الخفي
الحزين والمزاج القاتِم الذي يسربه "خان" في نهايات أفلامه. فقد
تبقى تلك الصداقات أحياناً في ختام الحكاية (كهند وكاميليا وبطلات
بنات وسط البلد) ولكنها على الأغلب تُهدر؛ ويفارق الناس الطرق التي
مشوها سوياً ذات مرة. |