المخرجة هالة خليل تريد توصيل رسالة ملخّصها أن الثورة التي انفجرت
كبركان هادر في يناير 2011، لم تنتصر، وبالتالي عجزت عن أن تقدم
شيئا للفقراء.
قليلة هي الأفلام التي يبرز فيها دور التمثيل بحيث يطغى على
الإخراج، أو بالأحرى، على المخرج، رغم أنه من النادر أن يبرز أداء
ممثل ما، أو ممثلة، دون أن يكون هناك مخرج جيد يعرف كيف يتحكم في
أداء الممثل، وينتزع منه ما يريده تماما. وهذا شأن الفيلم المصري
الجديد “نوّارة” للمخرجة هالة خليل.
ينتمي “نوّارة”، وهو الفيلم الروائي الطويل الثالث لهالة خليل، إلى
السينما الواقعية التقليدية التي أرسى دعائمها المخرج الكبير
الراحل صلاح أبو سيف، وسار على نهجه مخرجون كثيرون فيما بعد. وليس
عيبا أن يكون الفيلم تقليديا في بنائه، ففي تاريخ السينما الكثير
من الأفلام التقليدية التي حفرت لها مكانا عميقا في ذاكرة عشاق
السينما، فالمهم أن يوفّق المخرج في التعبير عن موضوعه، وأن يجيء
الفيلم مقنعا ومعاصرا. ويتمتع فيلم هالة خليل بالكثير من الصدق
والإقناع، كما يبدو شديد المعاصرة.
هالة خليل تخاطب جمهور السينما السائدة في مصر كما فعلت في فيلميها
السابقين، فهي تعبر من خلال الفيلم الجماهيري، فهو أساسا، أحد
أفلام “القضية الاجتماعية”، لا يسعى بالتالي إلى التحرر من الأشكال
الفنية التقليدية، ونحت أسلوب سينمائي حداثي أو ما بعد حداثي، بل
الاستفادة من الشكل التقليدي من أجل مخاطبة جمهور الفيلم السائد
بنفس جديد، وأفكار جديدة، فالفيلم هنا محكوم بسوق سينمائية ذات
مواصفات محددة. وهالة خليل تنسجم في هذا مع مخرجين من أمثال محمد
خان وعاطف الطيب ومجدي أحمد علي وخالد يوسف، رغم الاختلافات
الطبيعية فيما بينهم.
الرسالة السياسية
تريد هالة خليل من خلال “نوّارة”، توصيل رسالة ملخّصها، أن الثورة
التي انفجرت كبركان هادر في يناير 2011، لم تنتصر، وبالتالي عجزت
عن أن تقدم شيئا للفقراء، لأنها ببساطة وقعت في أيدي “الثورة
المضادة” وهو انطباع يخرج به المشاهد من الفيلم رغم أن أحداثه تدور
في مرحلة ما بعد الثورة مباشرة في ربيع 2011.
من الناحية السياسية لا غبار على الفيلم فرسالته واضحة تماما. إلا
أن هناك إفراطا في صنع المقارنات المباشرة بين الطبقة الجديدة
والطبقة المهمشة الفقيرة، والمبالغة في التصوير النمطي لفكرة كيف
أن الأثرياء بطبعهم أشرار أنانيون
ولا يلتزم الفيلم بقصة بقدر ما يركز على وصف حالة مجتمع منقسم
انقساما طبقيا حادا، وتعمد إلى المقارنة التي تصل إلى أقصى مدى
ممكن، بين عالم الفقراء المهمّشين الذين يكافحون من أجل البقاء،
وعالم الأثرياء الجدد الذين أثرَوْا على حساب الشعب باستغلال
النفوذ والسرقة والنهب العام، وأصبحوا الآن يتحصنون وراء أسوار
التجمعات السكنية الجديدة التي أقاموها وحصّنوها وجعلوا لها بوابات
خاصة، وحراسا، واستعانوا بالكلاب الشرسة المدربة على الفتك
بالغرباء.
“نوّارة” فتاة شابة مكافحة يتيمة الأبوين، تعيش مع جدتها التي
تتحامل على نفسها وتختلق لنفسها فرصة لبيع بعض المأكولات البسيطة
لأطفال الحي العشوائي الذي يعاني من غياب مياه الشرب النظيفة،
والذي يقع فريسة لمسؤولين حكوميين يطلقون الوعود الوهمية بتوصيل
مياه الشرب ويحصّلون الرسوم والرشاوى من أهالي الحي، دون أن يفعلوا
شيئا. وفي أول مشاهد الفيلم تحمل وعاءين ضخمين بعد أن تملأهما
بالماء من صنبور عمومي وتشق طريقها بصعوبة بالغة وسط الحواري
والبيوت المتصدعة البدائية، لكي تروي عطش جدّتها وتتمكن من طهي بعض
الطعام بسرعة.
ونوّارة (منة شلبي) تعمل خادمة لدى أسرة مسؤول حكومي كبير سابق
ونائب برلماني حالي من “الطبقة الجديدة” هو “أسامة” (محمود حميدة)،
وزوجته السيدة شاهنده (شيرين رضا) وابنته خديجة (رحمة حسن). وهي
متزوجة بشاب نوبي يدعى “علي” (أمير صلاح الدين) منذ خمس سنوات
لكنهما لا يستطيعان العيش معا بسبب عدم توفر مسكن للزوجية، ورفض
“علي” العيش مع والدته وأخواته في شقة ضيقة بنفس الحي العشوائي
الشعبي الفقير.
تقابلات ومقارنات
لدينا إذن شخصيات عدة ينتقل الفيلم بينها، مصورا تلك الحالة
الاجتماعية المأزومة من خلال التقابلات المباشرة أحيانا، في تصوير
الفرق بين حياة الأثرياء وحياة الفقراء، حد الانتقال من حمامات
السباحة الفسيحة التي تمتلئ بالماء، إلى أهالي الحي العشوائي وهم
يتصارعون مع ممثلي البلدية من أجل توصيل مياه الشرب أو يناضلون من
أجل ملء حاويات صغيرة بالماء، كما نرى أيضا كيف أن الجدة العجوز
المريضة (تقوم بالدور ببراعة رجاء حسين) تكاد تلفظ أنفاسها من شدة
العطش.
ليس هدفنا سرد تفاصيل الفيلم وكيف تستمر معاناة الشخصيات رغم قيام
الثورة، فلسنا هنا أمام إحدى تلك القصص الرومانسية التي كان يكتبها
للسينما إحسان عبدالقدوس أو يوسف السباعي مثل “ردّ قلبي”. فالمسألة
لا تتعلق بكيف ينتهي التناقض الطبقي بالتصالح الطبقي، بعد أن يصبح
ابن الفقراء ضابطا يصل بالثورة إلى السلطة، وتصبح ابنة الإقطاع
وعائلتها “أسيرة” تحت رحمة ضباط الثورة، وينتصر الحب في النهاية،
ويتم التقارب بعد أن أصبح ابن البواب حاكما، وابنة الإقطاع مجردة
من الثروة.
أما فيلم “نوّارة” فربما يكون من أكثر أفلام السينما المصرية جرأة
في وصمه ثورة الضباط بالفشل، وتصويره كيف أدّى حكم مستمر منذ أكثر
من ستين عاما، إلى جعل الفقراء أكثر فقرا، وإحلال الأغنياء الجدد
ومن بينهم بالطبع طبقة الضباط، محل طبقة “الباشاوات” والإقطاعيين
القديمة.
يقتنع أسامة بضرورة السفر إلى الخارج مع أسرته خشية القبض عليه بعد
القبض على حسني مبارك، ويأتي “حسن” بصحبة والده، إلى قصر أسامة لكي
يفتش عن الثروة المفترضة لشقيقه، ويعتدي بالضرب على “نوّارة” (التي
يتعيّن عليها أن تدفع أيضا ثمن الصراع الشرس على الثروة) لكي ينتزع
منها اعترافات مفترضة تتعلق بمكان الثروة التي أخفاها شقيقه، بعد
أن أبقت “شاهنده” على نوّارة وطلبت منها الإقامة داخل القصر
والحفاظ عليه بالتعاون مع الحارس “عبد الله”. وينتهي المشهد بقيام
حسن بقتل الكلب “بوتش” الذي استطاعت نوّارة ترويضه وكسبته إلى صفها
بعد أن كان يهاجمها.
وبعد أن يقتل حسن الكلب يصرخ (نحن أسياد البلد وسنظل أسياد البلد).
إنه أحد رجال الطبقة التي أصيب بالسعار بعد الثورة، والتي يشي
الفيلم بعودتها إلى السيطرة رغم اضطرار المجلس العسكري الذي تولّى
السلطة بعد رحيل مبارك، بالتحفظ المؤقت على أموال بعض المسؤولين
السابقين ومنهم “أسامة” نفسه، ولا شك أن المتفرج يعرف أن هذا
التحفظ على الأموال بل وسجن بعض الشخصيات العامة، لن يستمر بعد أن
يستقر الوضع للسلطة الجديدة التي أجهضت ثورة الشعب.
تصوير نمطي
من الناحية السياسية لا غبار على الفيلم فرسالته واضحة تماما. إلا
أن هناك إفراطا في صنع المقارنات المباشرة بين الطبقة الجديدة
والطبقة المهمّشة الفقيرة، والمبالغة في التصوير النمطي لفكرة كيف
أن الأثرياء بطبعهم أشرار أنانيون (شاهنده زوجة أسامة لا تمنح
“نوّارة” عشرين ألف جنيه كنوع من الكرم -أو كما تقول لها- كهدية
زواج، فنوّارة تزوجت منذ 5 سنوات!)، بل لكي تبقيها في خدمتها أثناء
غيابها إلى حين عودتها.
وأيضا لكي تبعد “علي” عن القصر حتى لا يطّلع على ما لا يجوز
الاطّلاع ليه فيطمع في محتوياته، وكيف أن الفقراء- حسب دروس أفلام
صلاح أبوسيف القديمة- شرفاء و”جدعان” ويتمتعون -رغم فقرهم-
بالشهامة والاستقامة على العكس من الأثرياء، ولذلك يعيد “علي”
الساعة الثمينة التي سرقها من قصر أسامة بك، ثم يواصل حمل والده
المريض المشرف على الموت فوق دراجته النارية، والتردد على
المستشفيات الحكومية المتدنية بلا أدنى أمل في الحصول على العلاج
الناجع.
أفضل مشاهد الفيلم تلك التي تصور من خلالها هالة خليل ببارعة،
علاقة نوّارة بالكلب، كيف تبدأ هجومية من جانب الكلب، ثم تتحول إلى
صداقة بعد أن تقرر نوّارة أن تواجهه وتقدم له الطعام بنفسها.
ولا شك أن هذه العلاقة المصورة بشكل بديع من ناحية الإخراج
والتصوير، تكتسي أيضا بأبعاد رمزية، فالكلب يدافع عن نوّارة عندما
يعتدي عليها حسن (وهو غالبا ضابط شرطة)، يتعامل معها باعتبارها
كائنا أدنى، كما يتعامل معها “أسامة” الذي لم يكن يرغب في مغادرة
البلاد، متمسكا بفكرة أن كل شيء سيعود إلى أصله، وهي فكرة تتكرر
كثيرا على لسانه في الفيلم وتحمل الكثير من الحقيقة، وكأنها تأكيد
على ما وقع بالفعل.
ولعل مما يؤخذ على الفيلم ذلك التكرار والإفراط في استخدام مقاطع
محددة من البرامج التلفزيونية ونشرات الأخبار في الراديو
والتلفزيون، كلها تدور حول “ثروة مبارك” وما أثير حولها.
ويلعب الفيلم على فكرة أن المليارات التي نهبتها عائلة مبارك ستعود
إلى مصر لكي توزّع على الفقراء ليحصل كل شخص على 200 ألف جنيه، وهي
فكرة ساذجة تصدقها نوّارة وغيرها، ويتم تناقلها على ألسنة الفقراء
كحلم يراودهم بتوديع حياة الفقر، تماما مثل الفوز في “اليانصيب”
بضربة حظ من السماء!
مشاهد زائدة
هناك أيضا الكثير من المشاهد الزائدة التي لا تخدم الفيلم مثل مشهد
الجدة مع التلميذ الذي يبيع لها كراساته المدرسية، ولا يبدو مفهوما
سرّ تعامل الجدة مع من يشترون منها الشطائر بكل تلك الحدة والغضب.
ومن المشاهد الزائدة أيضا مشهد والدة علي (النوبية) وهو تقول
لنوّارة إنها ترحب بها زوجة لابنها معها في مسكنها المتواضع هي
وأبنائها.
وبوجه عام تبدو فكرة الأصول النوبية لعلي وأسرته غير مخدومة بشكل
جيد، فالفيلم لم يستفد شيئا على المستوى الدرامي من هذا التمييز
المقصود. ويعاني مشهد تحرّر نوّارة وعلي ونزولهما إلى حمام السباحة
في القصر، نمطيا، يعيبه الكثير من الاستطرادات والثرثرة البصرية
والموسيقية، وربما ما جعله يصمد أمام أداء منة شلبي الطبيعي إلى حد
كبير.
هناك مبالغة في تصوير المشهد النهائي دراميا، فهو يسقط الفيلم في
هوة الميلودراما، خصوصا مع صرخات ودموع “نوّارة” ولوعتها المبالغ
فيها. ولم يكن مفهوما في السياق كيف تتنكر “نوّارة”، بطيبتها
الشديدة، فجأة، لسيدتها “شاهنده” وتقرر التحرر من الالتزام
الأخلاقي الذي قطعته على نفسها بالبقاء في القصر (أو الفيلا) رافضة
كل توسلات “علي” لكي تترك عملها كخادمة والذي يعتبره مهينا رغم أنه
سيدرك أهمية الحفاظ عليه بعد أن تضيق به السبل في مرحلة فوضى ما
بعد الثورة، لكن “نوّارة” تتخلى فجأة عن عملها وتقرّر أن تهجر
القصر مع “علي” بعد أن حصلت على مبلغ العشرين ألف جنيه، فقد بدت
نهايتها المأساوية كما لو كانت عقابا على تخلّيها عن وعودها.
ورغم كل هذه الملاحظات يبقى فيلم “نوّارة” عملا رصينا، دقيق
الإيقاع، مدهشا بصوره ولقطاته الواقعية الصادمة التي تصل إلى
التسجيلية المباشرة خاصة في المشاهد التي تدور في المستشفى وفي كل
المشاهد الخارجية، كما يعود الفضل إلى المخرجة هالة خليل في تميز
مستوى التمثيل في الفيلم، خاصة أداء منة شلبي التي تتألق كثيرا
لتصل إلى قمة التشخيص متماهية مع الشخصية، لتتلاشى “الممثلة” حتى
على مستوى الملامح الخارجية، وتبرز شخصية “نوّارة” بكل صدقها
وطيبتها وصبرها في انتظار “المعجزة”.. التي لن تأتي بالطبع!
منة شلبي في دور “نوّارة” تستعيد أمجاد فاتن حمامة في “الحرام”،
وهي دون شك، جديرة بجائزتي التمثيل اللتين حصلت عليهما في مهرجان
دبي ومهرجان تطوان السينمائي.
البطاقة الفنية للفيلم
◄ “نوارة”
◄ سيناريو وإخراج: هالة خليل
◄ تصوير:
زكي عارف
◄مونتاج:
منى ربيع
◄ ديكور:
هند حيدر
◄ موسيقى:
ليال وطفة
◄ملابس:
ريم العدل
◄ مهندس
الصوت: سامح جمال
◄ تمثيل:
منة شلبي، أمير صلاح الدي، رجاء حسين، محمود حميدة، شيرين رضا،
أحمد راتب، عباس أبو الحسن، جلال العشري
◄ تاريخ
العرض العام في مصر: 16 مارس 2016
◄ مدة
العرض: 122 دقيقة
◄ جوائز:
أحسن ممثلة في مهرجان دبي السينمائي 2015، ومهرجان تطوان السينمائي
2016
*ناقد سينمائي من مصر |