في العادة، وبعد فترة من التراكمات والخبرات المستمرة على امتداد الزمن
يأتي التنظير للتجارب، والوقوف عليها، ومحاكمتها، والخروج بها من نسقها
لأفق جديد أرحب، هكذا جرت العادة، ولكن في السعودية هناك عادات ثقافية أخرى
تأتي -على ما يبدو- متناسبة مع التقاليد “السعودية”!. فنحن وحدنا من يتكلم
عن السينما، ونقدها، وأسرارها، وصعوباتها، وننشئ مهرجانات وأندية خاصة لها
تحت مظلة الأنشطة الثقافية والاجتماعية في الجمعيات ومراكز التنمية،
ونستضيف مفكرين وكتابا ومخرجين من خارج البلاد ومن داخلها للحديث المستفيض
عنها، متصدّرين بذلك القنوات التلفزيونية وواجهات الصحف مع معاليه وسموه في
ظل تصفيق إعلامي حاد، نحن –فقط- من يفعل كل هذا دون أن تكون لدينا دار
سينمائية واحدة، ولكن أن توقد شمعة خير من أن تعلن الظلام.
قبل انطلاق مهرجان أفلام السعودية في دورته الثالثة بربع ساعة، وقفت سيارة
“جيمس” تابعة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام بوابة مبنى
الجمعية في حي الأثير بالدمام، ليترجل منها موظفان ملتحيان، اخترقا
الجماهير الغفيرة المحتشدة أمام قاعة العرض بوجهين محايدين. دخلا وخرجا
بهدوء وسط الحشود التي بالكاد التفتت لهما، طلبا رؤية الفسوحات والأوراق
الرسمية لإقامة المهرجان، وتحدثا عن عدم جواز الاختلاط، ثم انصرفا.
لا أحد يدري -على نحو الحقيقة- ما الذي جرى من حديث بينهما وبين إدارة
المهرجان، فقد كانت إدارة المهرجان متحفظة في الحديث مع الإعلام عن هذا
الأمر خشية المشاكل التي تجرها الضجة الصحافية، لكن الأكيد أن المهرجان
تفوّق عليهما وانتصر.
رغم الصعوبات الكبيرة التي طوّقت أفراد اللجنة المنظمة التي يقودها الشاعر
السعودي أحمد الملا أثناء عملهم على تدشين المهرجان، الذي انطلق مساء
الخميس 24 حتى 28 من مارس الجاري في مقر فنون الدمام (شرق السعودية)، إلاّ
أنهم استطاعوا أن يقفزوا من صندوق التحديات ليواجهوا واقعهم اليومي المنغلق
في السعودية بوعي استثنائي، وبإصرار مضاعف في دورته الثالثة، التي عبّر
عنها المشرف العام على المهرجان سلطان البازعي بالورطة الجميلة التي ورطهم
بها الملا، حين أعلن مبكرا عنها في الحفل الختامي العام الماضي.
سبعون فيلما
مهرجان أفلام السعودية هو مبادرة غير ربحية تقوم على تنظيمه وتنفيذه
الجمعية العربية السعودية للثقافة والفنون بالدمام، ويقام في الربع الأول
من العام الميلادي. ويسعى المهرجان منذ أول دورة له لتطوير فن صناعة
الأفلام، من خلال إنشاء قنوات منافسة للهواة وللمحترفين العاملين في هذا
المجال. وتتمثل في عدة مسابقات تشكل الهيكل الرئيسي للمهرجان، كمسابقة
الأفلام الروائية، ومسابقة الأفلام الوثائقية، ومسابقة السيناريو (غير
المنتج)، وقد استحدثت مسابقة أفلام الطلبة نظرا للحضور الملحوظ لهم في
المجال السينمائي، بالإضافة إلى مسابقة أفلام “مدينة سعودية” التي تم
الإعلان عنها، وستستمر للدورة القادمة لإتاحة الوقت الكافي والفرصة أمام
الراغبين للعمل عليها.
ومن بين 122 فيلما و72 سيناريو تم تسجيلها في وقت سابق انطبقت الشروط على
70 فيلما (ما يعادل 14 ساعة مشاهدة على مدى أيام المهرجان الخمسة)، و55
سيناريو، دخلت المنافسة على السعفة الذهبية. وبحسب بيان الجمعية الرسمي فإن
المهرجان ينطلق من إحساس المنظمين بأهمية الفنون البصرية ومالها من تأثير
على تطوير الذوق الفني العام، لهذا يأتي المهرجان كحدث ثقافي سنوي يلتقي
فيه أجود صناع الأفلام تحت مظلة واحدة تشرف عليها الجمعية لأيام متواصلة
مملوءة بتبادل الأفكار والخبرات.
وتتخلل أيام المهرجان دورات وندوات وورش عمل متخصصة، حيث يحتفى فيها بأبرز
ما أنتجته المواهب السعودية تشجيعا لإستمراريتها من خلال تقديم الجوائز
والدعم للفائزين، بالإضافة إلى إصدار المطبوعات ودعوة الشخصيات ذوات
الخبرات الفنية، وتكريم الرواد في كل دورة من الذين عملوا وساهموا في تطوير
فن السينما والأفلام.
يقول مدير المهرجان الشاعر أحمد الملا “الفيلم السعودي الذي نراه اليوم هو
خلاصة تجارب فنية ومعرفية وتقنية لصناع الأفلام الشباب، وعن طريقه يتضح
الخطاب الثقافي والفني لما يشغل هذه الفئة من المبدعين المعبرة عن أكبر
شريحة من المجتمع السعودي”.
تثمينا للخبرات السعودية في المجالات المرتبطة بصناعة الأفلام بادر
المنظمون بتشكيل لجنة استشارية لإضافة رؤى استراتيجية قبل التنفيذ تشكّلت
من الناقد سعد البازعي، والناقد السينمائي فهد اليحيى، والممثل ناصر
القصبي، والمخرج عبدالله آل عياف.
وتشكّلت لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الروائية من الناقد الإماراتي مسعود
أمرالله رئيسا، والصحافي والناقد رجا ساير عضوا، والمخرجة شهد أمين عضوا،
بينما جاء في لجنة تحكيم مسابقة الأفلام الوثائقية كل من المخرج بدر الحمود
رئيسا، والمخرجة العمانية مزنة المسافر عضوا، والمخرج السعودي موسى آل
ثنيان عضوا.
وفي لجنة تحكيم مسابقة أفلام الطلبة أتى الناقد السينمائي طارق الخواجي
رئيسا، والناقد والشاعر عبدالله السفر عضوا، والمخرج السعودي مجتبى سعيد
عضوا، أما لجنة تحكيم مسابقة السيناريو فتشكّلت من الروائي سعد الدوسري
رئيسا وبعضوية كل من الروائية بدرية البشر والكاتب فيصل العامر.
وقدم المهرجان أيضا، مجموعة ورش متنوّعة غصت جميعها بالمتدربين والمهتمين،
حيث تم تقديم ثلاث ورش نوعية هي “ورشة فن التمثيل السينمائي” قدّمها الممثل
إبراهيم الحساوي، و”ورشة الإنتاج الإبداعي” قدمها الفنان محمد سندي، و”ورشة
التصوير السينمائي” تحت إشراف المدرب جانثان ويتكر.
أول مخرج سعودي
لم يكن انتقاله من إسعاف المرضى إلى موظف استقبال في مستشفى “أرامكو” في
مدينة الظهران شرق السعودية، هو المنعطف الأكبر في حياته، إنما تلك اللحظة
التي قدّم فيها المساعدة لأعضاء فريق عمل تلفزيون “أرامكو” حين جاؤوا
لتصوير بعض المشاهد في عيادات المستشفى.
لم يكتف بحمل كاميراتهم ومعدات التصوير، بل اندمج بكامل حواسه وشغفه
بالأفلام التي شاهدها في صالة العرض في مجمع الشركة السكني، ولم يهنأ له
بال حتى نجح في نقل عمله مرة أخرى، ولكن هذه المرة إلى قسم التلفزيون في
شركة “أرامكو”، ليبدأ فيها قصة أول مخرج سعودي، وأحد بناة الهوية الإعلامية
في المملكة.
بعد أن كرّمت إدارة المهرجان العام الماضي المخرج العالمي إبراهيم القاضي،
تقدّم صفوف المكرمين في هذه الدورة الفنان والمخرج السعودي سعد الفريح
(1940/2006)، وذلك جريا على العادة التي اجترحتها في دورتها الثانية من
تكريم الشخصيات السعودية الفنية المبدعة التي كان لها أثر بارز في صناعة
الأفلام، وبذك استثمرت المناسبة بإصدار كتاب عنه متضمنا شهادات من رفاق
دربه ومحبيه، وإخراج فيلم وثائقي عن حياته كتبه الناقد يحيى الزريقان.
قال عنه صديقه الفنان التشكيلي عثمان الخزيم “واجه العديد من الصعوبات ولم
يكن أحدها تأسيس نفسه فنيا، فقد كان فنانا بالفطرة وليس الإخراج فحسب، بل
في الشعر والموسيقى والتشكيل وغيرها، كم تمنيت أن يكون موجودا هذا الوقت
ليرى التنوع في الإنتاج والفنون، وليشهد نتاج الجهد الدؤوب الذي بذله”.
وكتب عنه الروائي سعد الدوسري “لقد عاش الفريح في المحاذير، ومات في
المحاذير، إنه عمل سينمائي بحد ذاته، عمل يليق بالمهرجانات وبصالات العرض
العامة، فقد جمع بينهما في حياته وبعد مماته”.
وجد الكثير من المتابعين أن هذا التكريم مستحق، لكن البعض لم يجد فيه سوى
تكريس للإخراج التلفزيوني السعودي الضعيف، الذي لا يمكن أن نرى مخرجاته
الفنية على أرض الواقع، إلاّ بصورة هزيلة وغير متماسكة، فلا أحد يتذكّر
الدراما السعودية، إلاّ من خلال محطتين تلفزيونيتين سعوديتين لم يكن لأحد
القدرة أن يبصر غيرهما.
تتقاطع ليالي المهرجان مع الذكرى السنوية لليوم العالمي للمسرح، في الـ27
من مارس، وقد اعتاد المسرحيون في المنطقة الشرقية إحياءها على خشبة مسرح
الجمعية المشغولة هذه الأيام بسحر السينما، الأمر الذي دفع ببعض المسرحيين
المواكبين للمهرجان إلى أن يحتفوا بطريقتهم الخاصة في الفناء الداخلي
للجمعية، حيث قدموا مشهدا مسرحيا قصيرا، بعده ألقى المسرحي عباس الحايك
كلمة يوم المسرح العالمي وسط الجمهور الذي خرج للتو من وجبة عروض سينمائية.
يقول الحايك “كان موحشا أن تمر مناسبة يوم المسرح العالمي دون أن نحتفي
بها، وهي المناسبة التي تشعرنا بوجودنا على هذا العالم كمسرحيين. المناسبة
أشبه بالعيد المنتظر، وكم هي وحشة الروح حين يمر العيد بلا احتفاء، فكرنا
ما الذي يمكننا أن نفعله والمناسبة تمر في وقت مهرجان الأفلام السعودية
بالدمام، والمسرحيون انخرطوا تماما في دهشة الفيلم وولع الفلاشات
المتطايرة”.
يضيف الحايك “كان لا بد من احتفاء، كان لا بد من الإجابة على سؤال أناتولي
فاسيلييف: لماذا نحتاج المسرح؟، خضت مغامرة التمثيل وأنا الذي تركته من
سنوات طويلة، كان القلق يسكن المعدة طوال اليوم، كيف سيمر اليوم، وهل
سأخفق، قدمنا مشهدا بسيطا دون أن يعرف الجمهور هناك أن ما نقدمه مشهدا، كان
ثمة سجال حول الفيلم والسينما والمسرح والحاجة للمسرح في زمن قصر الاهتمام
به، كنت سعيدا بأولئك الذين وقفوا معنا كمسرحيين، كانوا من صناع الأفلام،
وكان اطمئناننا كبيرا بأنه مازال هناك جمهور للمسرح، ما زال هناك طابور يقف
خلفه”.
أفلام دون المستوى
رغم صرامة لجان الفرز التي استبعدت عن العرض أكثر من خمسين فيلما، وعلى
الرغم من التنظيم والتسهيلات والتقنية العالية التي بسطتها إدارة المهرجان
لصناع الأفلام، إلاّ أن معظم الأفلام التي تسابقت في مضمار السعفة الذهبية
جاءت مخيبة للآمال، ودون المستوى المتوقع من قبل المتابعين والنقاد، خصوصا
الأفلام الروائية القصيرة التي بدت محتاجة لنص جيّد قادر على رفعها.
ورأى بعض المهتمين بأن هنالك مجموعة أفلام اشتملت على أفكار مبتكرة
ومختلفة، وتمتلك أجنحة قادرة على الطيران، لكنها افتقدت للعمق في المعالجة
السينمائية، مما هبط بمستواها، وذلك يعود إلى تواضع ثقافة السينمائيين
أنفسهم الذين غالبا ما يخطون خطواتهم الأولى سريعة، فتخرج أفلامهم بحرفية
أكاديمية -لا سيما أولئك المتعلمين في الخارج-، غير أنها خالية من المضمون
العميق، وتغلب عليها السطحية والمباشرة، ولكن هذا الحكم ليس عاما، فقد
تميّزت أفلام أخرى، واستطاعت أن تقدّم نفسها بثقة كبيرة.
لجان التحكيم خرجت في الحفل الختامي بمجموعة توصيات أكدت من خلالها على
تكريم بعض الأعمال التي فلتت من الجوائز، لكنها امتلكت بعدا فنيا يستحق
الإشادة والتكريم
وفي سؤال للناقد والقاص مبارك الخالدي حول رأيه في الأفلام التي شاهدها في
المهرجان أجاب “العرب” قائلا “المهرجان، أي مهرجان، هو تظاهرة احتفائية
واحتفالية بموضوع ما، أو حدث ما، حتى وإن كانت تنتظم فعالياته حول مسابقة
شعرية أو مسرحية أو سينمائية، وفي حالة مهرجان أفلام السعودية يضاف البعد
التشجيعي، ما قد يؤدي إلى خفض شروط ومعايير القبول في المنافسة على جوائزه،
وهذا ما حدث كما يظهر من العدد الكبير للأفلام المشاركة فيه”.
ويتابع الخالدي “نتيجة لخفض المعايير تقلصت مساحة الإبداع، وبالتالي مساحة
المتعة، أقول المتعة، لأنها الغاية التي سعيت إليها بمشاهدة أكبر عدد ممكن
من الأفلام، والمتعة التي أنشدها كغيري هي متعة مركبة: سمعية وبصرية،
وذهنية وجمالية”.
ويختم الناقد والقاص السعودي “بصراحة لم أستمتع بمشاهدة أغلبية تلك
الأفلام، أنا متحمس ومبتهج بالمهرجان، وأتمنى استمراره، لكن لا أستطيع
التحمس والابتهاج بالأفلام التي تخفق في أن تحقق لي ولو أقل قدر من المتعة،
عليها أن تجبرني على ذلك!”.
النتائج
حصد السعفة الذهبية في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة فيلم “كمان” للمخرج
عبدالعزيز الشلاحي، وآلت السعفة الفضية لفيلم “بسطة” لهند الفهاد، والسعفة
البرونزية ذهبت لفيلم “القصاص” لعبدالله أبوالجدايل. وحصد السعفة الذهبية
في مسابقة الأفلام الوثائقية القصيرة فيلم “أصفر” لمحمد سلمان، وذهبت
السعفة الفضية لفيلم “المتهة” لفيصل العتيبي، والبرونزية لفيلم “آل زهايمر”
لعبدالرحمن صندقجي.
وفي مسابقة أفلام الطلبة، كانت السعفة الذهبية من نصيب فيلم “ماطور” لمحمد
الهليل، والفضية ذهبت لفيلم “آي إتش 18” لريهام التيماني، والبرونزية لفيلم
“دائرة” لعلي الحسين. وعلى مستوى مسابقة السيناريو فازت بالسعفة الذهبية
الكاتبة زينب آل ناصر عن سيناريو “ثوب العرس”، وبالفضية محمد الناصر عن
“ابن المطر”، وبالبرونزية محمد الحلال عن “نسف”.
وخرجت لجان التحكيم في الحفل الختامي بمجموعة توصيات أكدت من خلالها على
تكريم بعض الأعمال التي فلتت من الجوائز، لكنها امتلكت بعدا فنيا يستحق
الإشادة والتكريم. |