لابد من دراسة خاصة عن الممثل ليوناردو ديكابريو بعد كل هذه
الأدوار المختلفة التي قام بتمثيلها. وإذا ما تمّت هذه الدراسة،
فإن أهم ما سيلاحظه المؤلف أو الباحث هو التطوّر الكبير الذي عايشه
الممثل (41 سنة) منذ أن وقف أمام الكاميرا لأول مرّة سنة 1991. كيف
اعتلى للبطولة بعد سنتين من بدايته عبر فيلم «ما الذي يزعج غيلبرت
غريب»
(What›s
Eating Gilbert Grape)
ثم كيف تبلور نجمًا وسيمًا في «الميت والسريع» ثم سحر الممثلة التي
شاركته بطولة «روميو + جولييت»، وتلك التي مثلت أمامه في «تايتانك»
ومن خلالهما كل الفتيات وأصحاب الأحاسيس العاطفية والرومانسية.
آنذاك (في التسعينات) تردد أنه عبر عن جهله بتاريخ هوليوود بفخر.
وبينما بقي ذلك عالقًا في البال، وجدنا أدواره منتقاة، بحيث تتيح
له ردم هذا الجهل إذا وُجد ليس بالنسبة لهوليوود فقط، بل بالنسبة
لكل أميركا. فعاصر نيويورك القرن التاسع عشر في «غانغز أوف
نيويورك» (عصابات نيويورك) (الفيلم الأول بينه وبين المخرج مارتن
سكورسيزي) ثم ولج تاريخ هوليوود ذاتها في «ذا إفياتور» (الملاح)
لاعبًا شخصية المنتج هوارد هيوز. لاحقًا عاين السياسة الأميركية في
«بودي أوف لايز» (كيان من الأكاذيب) وعاد إلى التاريخ المقلق في
«شاتر آيلاند» (جزيرة متوارية) وبعده في «ج. إدغار» ومع تمدد
أدواره وتكاثرها، أصبح أحد مراجع السينما العصرية اليوم. ليس لأنه
من بين الأكثر شهرة ومن بين الأفضل تمثيلاً، بل لأنه بات أيضًا من
بين الأكثر دراية، واستخدم هذه الدراية في مشاريع خاصة تتعلق
بالحفاظ على البيئة ومحاربة التغير المناخي، وفي مشاريع عامة من
خلال قيامه بإنتاج الأفلام حتى تلك التي لا يمثل فيها.
هذه المقابلة تمّت قبل أسابيع قليلة ما بين حصوله على الـ«غولدن
غلوبس» وقبل حصوله على الأوسكار بفترة وجيزة. المناسبتان احتفلتا
به كأفضل ممثل عن فيلم «المنبعث» الذي يمثل محاولة للخوض في غمار
التاريخ الأميركي، كما يقول.
فيما يلي نص الحوار:
·
على الرغم من أن «المنبعث» يستند إلى مفكرة صياد فراء إلا أن ما
يقع على الشاشة أقرب إلى الخيال الجانح. هل هذا ما حدث فعلاً؟
-
ليس خيالاً بالدرجة التي تتصوّرها. أعتقد أن الفيلم يستند فعليًا
على وقائع حدثت، لكن بالطبع كان على المخرج أن يسردها كما يجيد سرد
حكاياته، بأسلوبه الخاص. بالنسبة لي فقد عدت إلى تلك المذكرات التي
وضعت قبل قرنين من الزمن، لكن يجب علي أن أقول إن التاريخ الأميركي
في ذلك الحين وبعده أيضًا غير موثق. بالتالي يصبح من المتاح
استيحاء الخيال والواقع على نحو متوازن.
·
بماذا خرجت من الفيلم؟
-
خرجت مذهولاً. هناك قوّة إرادة تنتصر على كل التحديات. شخصية هيو
غلاس التي أقوم بها، ذلك الصياد الذي قام بغزو المجهول آنذاك عايش
ظروفًا بالغة الصعوبة. لقد هاجمه الدب فعلاً، وعاش بعد ذلك الهجوم
ثم تُرك ليموت فزحف في تلك البراري القاحلة والباردة وعانى من أجل
البقاء حيًا وانتصر. لا يوجد اليوم من يستطيع أن يفعل ذلك. لا
أعتقد. أنا مررت بظروف صعبة وتعرضت خلال تصوير أفلام سابقة لمخاطر.
لكن لا شيء يشبه ما مثلته هنا، وبالطبع ما قمت به هو تمثيل، لكن ما
قام به هيو كان صراعًا طويلاً من أجل البقاء على الحياة.
·
هناك صورة متكاملة في هذا الفيلم نصفها للإخراج ونصفها لك. أقصد
أنك وإيناريتو لا بد أنكما جلستما طويلاً تتحدثان في كيف سيتم
تقديم هذه الشخصية. أليس كذلك؟
-
صحيح. جلسنا طويلاً وتناقشنا في العمل حول كل ما يمكن أن يكون ذلك
العالم المعزول عن المدنية في شكلها السابق آنذاك. كانت الفترة
التي غزا فيها الإنسان الأبيض أميركا التي كانت لا تزال مجهولة
باستثناء المدن والمواقع الشرقية منها. أطاح الرجل الأبيض
بالمواطنين الأصليين وأبادهم في سبيل توسعه والحصول على الثروات
التي في تلك الأراضي. لقد محا ثقافتهم وشرّدهم من مواطنهم الأصلية
في سبيل مصلحته. وأعجبتني الطريقة التي صوّر فيها الشعب الأميركي
الأصلي بعيدًا عن «الكاريكاتير» والتنميط. عاملهم على نحو إنساني
واعترف باختلافاتهم العرقية والقبائلية. بالنسبة له ليسوا واحدًا.
·
جزء من هذا الموزاييك له علاقة بما يحدث اليوم للشعوب والبيئات
المختلفة. العالم يتغير لكن هذه المرّة من دون اللجوء إلى الإبادة
الجماعية.
-
في الوقت الذي كنت فيه أقوم بالتحضير لهذا الفيلم، كنت أنجز فيلمًا
تسجيليًا عن تغيير المناخ وأعتقد أن الموضوعين يلتقيان وعلى النحو
الذي عبرت عنه تمامًا. «المنبعث» كان فرصة لإعادة زيارة الماضي
وتقديم صورة قاسية عنه، لكنها محذرة أيضًا مما يقع في مجال البيئة
والمتغيرات المناخية وتأثيرها علي إنساننا اليوم.
·
هل تعرضت للخطر خلال تصوير مشهد الدب.. حتى عندما لم يكن الدب دبًا
حقيقيًا؟
-
هناك قدر كبير من الخطر طبعًا. قبل التصوير تم اعتبار كل شيء
ودراسة كل احتمال. استمعت إلى عشرات النصائح وحاولت أن أحفظ منها
الكثير. لكن عندما تقوم بالتصوير تنسى معظمها. أقول إن الخطر كان
محدودًا في نهاية الأمر، لكن الاحتمالات كانت كبيرة.
·
كيف تمثل فيلمًا كهذا؟ ذهنيًا كيف تتصرّف؟
-
لم أمثل فيلمًا كهذا من قبل. هذا الفيلم مختلف تمامًا عن أي شيء
قمت بها سابقًا. أعتقد أن المخرج ومدير تصويره (إيمانويل لوبيزكي)
كانا متفقين على ضرورة رصد تلك الفترة وتفاصيلها. أرادا أن يتم كل
شيء بواقعية وأن تبقى الكاميرا قريبة من التجربة الإنسانية لكي
تنجح في نقل اللحظات الحميمية المختلفة إلى الشاشة. كانت مهتمة
بالرصد الدقيق وفي الوقت ذاته بالانتقال إلى نوعية سينما (المخرج)
ديفيد لين قبل العودة لالتقاط أنفاس الشخصية عن قرب. هذا تطلب
أشهرًا طويلة من التحضير.
·
هناك الصراع لأجل البقاء كموضوع الفيلم والصراع لأجل البقاء
بالنسبة للممثل في الفيلم.
- (يضحك)
لكن في نهاية اليوم كان عندنا ساعة ونصف من التصوير فقط كل يوم لأن
المخرج يريد التقاط المشهد في تلك اللحظة من النهار. لحظة ساحرة.
كل يوم كنا نجلس منتظرين تلك الفترة من اليوم لكي نبدأ التصوير.
كان ذلك ممتعًا. لم أمر بتجربة مماثلة كتجربتي في هذا الفيلم.
·
هذا واضح رغم أنك مثلت أدوارًا صعبة من قبل. ما الدور الذي تحلم
بأن تقوم به؟
-
هناك كثير مما أحب أن أقوم به. أنا لا أشكو بل اعتبر نفسي محظوظًا
جدًا. لكن بأمانة أعتقد أن هناك الكثير مما يجب أن نفعله حيال هذه
الأرض. شخصيًا أستطيع أن أقول أتمنى هذا وذاك، لكني واقعي وأعلم
أنني محظوظ وعلي أن أكون قنوعًا. ما يهمني هو مستقبل الأرض التي
نعيش عليها، ومؤتمر باريس الأخير شهد التئام الدول للبحث في كيفية
حماية مستقبل هذا الكوكب الذي نعيش فوقه.
·
هل هناك مناطق على الأرض ما زالت ساحرة بالنسبة إليك؟ ربما مجاهل
زرتها أو تود زيارتها؟
-
هناك مكانان في البال زرتهما وعدت مبهورًا. زرت الأمازون وعشت تلك
الحياة الصافية المعزولة تمامًا عن الحاضر، ومؤخرًا زرت أنكور وات
في كمبوديا. كمبوديا واحدة من أكثر الأماكن الساحرة في العالم.
أنصحك بأن تزورها. الناس طيبون وستجد نفسك حرًا في هذا العالم
الخاص في تلك المنطقة. لكن كمبوديا بأسرها جميلة على هذا النحو.
واحدة من أجمل المناطق الطبيعية حول العالم.
·
في هذا الجزء من العالم مثلت مؤخرًا أدوارًا كثيرة مختلفة عن بعضها
البعض ومختلفة ككل عن أدوارك في البدايات. مثلاً «جزيرة متوارية»
(Shutter Island)
و«غاتسبي العظيم» و«ج. إدغار» ثم «ذئب وول ستريت».. ما الذي تمنحه
تلك الشخصيات المختلفة لك؟
-
يعجبني هذا السؤال لأن السائد عادة هو ما الذي يحمله الممثل إلى
الشخصية وكيف يعبر عنها. لكن كيف تنتقل الشخصية إليه هو أمر آخر.
لا أستطيع أن أقول إن الشخصيات التي أقوم بها تؤثر في على قدر
معين، لأنها تختلف بطبيعة الحال. لا أعتقد أن الممثل يمكن أن يتأثر
بما يقوم به ويعيش الشخصية أو يغير شخصيته لأجلها. لكن بالطبع
يستطيع أن يفكر بها خلال وبعد التصوير.
·
أي شخصية من شخصياتك الأخيرة فكرت بها كثيرًا؟
-
شخصية هيو غلاس كثيرًا لكن أيضًا شخصية ج. إدغار والفترة الزمنية
التي عاشها وما تخللها من ظروف سياسية. إنه كمن لو كنت تقرأ
كتابًا. الفيلم الجيد هو مثل الكتاب يوفر لك وللآخرين جميعًا
معلومات وآراء.
·
في «المنبعث» لا تتكلم كثيرًا.
-
أعتقد أن هيو غلاس لم يكن يريد أن يتحدث كثيرًا حتى عندما كان مع
صحبه. طبعًا المغامرة التي عاشها.. عاشها وحيدًا. لم يكن هناك من
مجال لذلك. لكن حتى قبل ذلك كان مقتصر الحديث.
·
المثير في تأديتك الدور غياب التعليق وغياب الشخصيات الآدمية لمعظم
مشاهد الفيلم مما يجعل المشاهد ممعنًا بحركة الممثل، أنت، لكي يفهم
ما يدور.
-
تمامًا. بغياب التعليق والحوار فإن الباقي هو الحركة والتعبير
بالنظر مثلاً. القصّة عليها أن تُسرد من دون كلمات ودورك كممثل أن
تتكلم بالنظرة والحركة البسيطة. بأن تظهر الخوف والتصميم وباقي
الانفعالات من دون أن تتحدث عنها. إنه نوع من التواصل الصامت مع
المشاهدين. لقد مثلت أفلاما كثيرة كان علي فيها الكلام طويلاً،
لهذا فإن هذه التجربة مختلفة.
·
السينما وُلدت صامتة وبنجاح كبير.
-
هذا صحيح.
·
تنتج الكثير من الأفلام ولك حجم كبير من الأهمية ليس بسبب الجوائز
التي تنالها من «غولدن غلوبس» أو سواها، بل لأنك اشتغلت كثيرًا على
نفسك للوصول إلى ما أنت عليه الآن. هل تفكر في أنك تريد تغيير
السينما السائدة اليوم ربما لمزيد من الأفلام ذات النوعية؟
- «المنبعث»
هو خطوة في الاتجاه الصحيح في رأيي. إيناريتو يريد إحداث هذا
التغيير أيضًا. هو جاء من المكسيك ومارتن سكورسيزي جاء من نيويورك
وأنا عملت معهما وكلاهما فنانان جاءا في الأساس من خارج هوليوود
وغايتهما واحدة وهي تقديم أعمال فنية كبيرة. لكن هذا ليس هين
الحدوث. التغيير النوعي الذي تتحدث عنه صعب.
·
لماذا؟
-
هناك عدة أسباب. انظر إلى التلفزيون. الآن بات التلفزيون ينتج
أعمالاً نوعية مهمة على عكس الماضي. كيف يؤثر ذلك على السينما؟
الحديث لا يتوقف في هذا المجال. ما هو مستقبل السينما؟ كيف يمكن
تغيير وجهته؟ «المنبعث» و«جزيرة متوارية» والأفلام الجيدة الأخرى
التي تصنعها هوليوود ذات قدرة محدودة في نهاية الأمر لتغيير النمط
السائد. خذ «المنبعث» مثلاً. هو مثال للسينما كما نحب أن نعيشها
كمغامرة كبيرة وكعناصر إنتاج مختلفة وساحرة. لكن لا يمكن لنا تحقيق
أفلام كهذه دائمًا. كم فيلمًا مثل هذا الفيلم تستطيع الاستوديوهات
أن تنتجه؟ ما أستطيع أن آمله هو أن ندفع البعض لمواصلة مساندة هذه
الأعمال على نحو مستمر.
·
سؤال أخير… هل أكلت فعلاً لحم الحصان في ذلك المشهد؟
- (يضحك)
كلا.. كان لحم ثور بافالو. |