ملفات خاصة

 
 
 

مقابلة

صباح: أعرف أنّي تركتُ بصمة في الحياة

فكتور سحّاب

عن رحيل الشحرورة

صباح

   
 
 
 
 
 
 

- نحن اليوم في 19 تشرين الأول 2004. فلنبدأ مع بداية جانيت فغالي في وادي شحرور، والجو الذي تربيتي فيه.

صباح: ولدت في بدادون، قرب وادي شحرور. البنت الثالثة، وأمي زعلت كتير. كنا نعيش في غرفة، مش إنه آخدين قصر، فلم ترضعني. مرة كان عمّي (الشاعر الزجلي شحرور الوادي) عندنا، وأنا أبكي، قال لها: "طالع صوتها حلو كتير، رضّعيها حرام". وعندما كبرت كنّا نروح إلى مدرسة بالضيعة. لكن بقي الفنّ في قلبي.

- وما كان اسم المدرسة؟

مدرسة معلّم سبع فغالي. وكان يرسلني إلى البيت جبله الطعام بمطبقيّة. وكنت آكل نصفه على الطريق. بقينا ثلاث سنوات تقريباً فيها، حتى انتقلنا إلى بيروت (الأشرفية)، وأدخلنا أبي مدرسة حكومية، لكنّ عمي لم يوافق، فنقلنا إلى المدرسة اليسوعيّة.

- هل تذكرين في الطفولة تأثّرا ما بعمّك (الميجانا أو العتابا)؟

أكيد كنت حبّ كون مشهورة مثله. لكنّ الموهبة بالدمّ. وكنت كلّ سنة بالمدرسة أعمل حفلة (غنائيَّة) للأهالي. كنت أغنّي بعض مواويل عمّي، والراهبة كل شوي تعطيني بيضة نيّة، لكي أصير أقوى (كرمال صحتي). طول عمري كنت رفيعة، بس الراهبة كانت تريد أن أصير قوية من أجل المسرحيّة، وكنت أوقات غنّي للراهبات من الطاقة (أبو الزلف، وميجانا، ع الروزانا).

- والدك كان يقول زجل؟

والدي ليس كثيراً، جدي (لويس الخوري) نعم، كان صوته حلواً، وكان يقول زجلاً كلّه شتائم، وحين تقرأه بالعكس، يبدو مديحاً. كان خوري، وعندما كنت أقول له إنني أريد أن أصبح فنانة كان يضربني. الفن كان عيباً. ولما قلت للراهبة أريد أن أسافر إلى مصر، قالت اذهبي وإياكِ أن تقبّلي مسلمين، فقلت لها لن أفعل، وبستن كلّن، ما خلّيت حداً منهم.

- متى بدأت تنوعين بثقافتك الموسيقيّة؟

عملت أول أغنية لبنانية في لبنان اسمها: "يا هويدا هويدا لك" (ألحان: نقولا المنّي)، ثم كرّت الأغاني. كان ذلك في الخمسينات (بعدما ذهبت إلى مصر).. وعندما صرت في مصر صرت أغنّي المواويل وأغاني لبنانية كي يفهمها الناس.

- قبل مصر، ما هي مكوناتك الثقافية في الموسيقى والشعر؟

الشعر الزجلي بدمنا، عشنا عليه، مات عمّي ومات الزجل معه. مرّة دعانا أصدقاء إلى الضبيّة، عندهم كنيسة صغيرة. دخلت وصرت أبكي وأطلب من العذراء أن أمثّل في الأفلام. وفي اليوم الثاني قلت لزوج أخت آسيا داغر، المنتجة اللبنانية: دخيلك حابة أعمل أفلام. حكي مع الست آسيا وقال لي أعطني صورتك. أحبني من ضحكتي. كان ذلك في سنة 1943، السنة التي ذهبت فيها إلى مصر.

علّمتني آسيا

- أين التقيت بزوج أخت آسيا داغر قيصر يونس (من تنّورين)؟

كانت بناته معي في المدرسة. شاهدني أمثّل، فتحدثت إليه بعد يوم من صلاتي للعذراء، فحققت لي حلمي. أخذ قيصر يونس صورتي وأرسلها إلى الست آسيا فدعتني.. ومن البداية بدأت بأدوار البطولة. لها فضل كبير على الفنانات اللبنانيات، وعلى الإنتاج المصري أيضاً. ماري تويني وآسيا امرأتان لبنانيّتان منتجتان بذلتا مجهوداً في السينما. أمر ليس سهلاً.

- أخبرتنا نور الهدى أنّك ذهبت إلى مصر بعدها بثلاثة أشهر، بعدما تبنّاها فنياً يوسف وهبي، وأنّهم أجروا قرعة لاختيار اسم فنّي لها غير اسمها الحقيقي الكسندرا بدران، فحظيت باسم نور الهدى، وأنّ الاسم الآخر في القرعة كان صباح. هل الرواية صحيحة؟ من اختار اسمك؟

كنت أحبّ نور الهدى كثيراً رحمها الله، وفي ذلك الوقت كتبوا أنّ صوتها أفضل من صوت أم كلثوم. كامل الشناوي كان صحافياً مهمّاً، وكتب ذلك عنها. وأنا كنت أحبّ أن أكون مثلها. أما مثلي الأعلى فكان ليلى مراد. كنت أحبّ أن أكون مثلها. ولكن بالعودة للاسم، لا، آسيا نشرت صورتي في مجلّة "الصباح" لمصطفى القشاشة، وطلبت من القراء اختيار اسم، فكان الإجماع على اختيار اسم صباح. ومشي حال الاسم عليّ.. منيح كان.

- عندما سافرت إلى مصر مع آسيا داغر، هل ذهبت لتخضعي للاختبار، أم كان هناك فيلم بانتظارك؟

كان هناك فيلم بانتظاري، ودعت آسيا أهم الصحافيين للقائي، مثل إحسان عبد القدوس، علي أمين، مصطفى أمين، إلى جانب رياض السنباطي وزكريا أحمد. جمعتني بأحلى ناس، فتعوّدت أن أعرف أحسن ناس طول عمري. هكذا عوّدتني آسيا، وكانت مثالاً لي. عندما كانت تحضّر لفيلم، كانت أوّل من يذهب إلى "البلاتو" لتكنسه، وترتّب الأمور قبل أن يأتي العمال. تعلّمت منها أشياء حلوة. وفيلمي "القلب لُهْ واحد" اشتغل لوقت طويل، ما أعطى دفعاً مادياً لآسيا. وطبعاً الشيخ بيار الجميّل ساعدني، وأرسل معي مكاتيب لصحافيين في مصر، ورياض الصلح حكي مع ناس كرمالي، وأوصى بي.

- مع احترامي لمجهودهم، أنت لم يكن يلزمك واسطة أبداً يا ستّ صباح.

كنت لا أزال جديدة على الساحة، ويلزمني بعض الدعم. ولكن الذكاء هو أهمّ شيء بالنسبة للفنان. الموهبة من عند الله، لكنّ الذكاء قبل الموهبة. كنت ذكيّة جداً، ولا أزال حتى الآن. وإمي كانت تقف حدّي. إمي بتحب الفن. أبي كان ضد إنه اشتغل بالفن. بتعرف زمان الأهل كيف كانوا. وكان عنّا بيت بالضيعة. لو أردنا بيعه اليوم، لكنّا بعناه بنحو مليونين، يومها بعناه بأربع آلاف ليرة، كي أشتري ملابس، وأسافر إلى مصر.

- من كان أهمّ من تعاونت معه في فيلمك الأوّل؟ ومن وجّهك؟

المخرج هنري بركات. كان مهمّاً. الفيلم كان أيضاً أول عمل لأنور وجدي، ولاسماعيل يس، وكان معنا سليمان نجيب (هو بيك وأخوه باشا)، كانت أفضل عائلات تشتغل في الأفلام، وميمي شكيب أيضاً. أديت دور منى التي تعاني من تعذيب زوجة أبيها. زكريا أحمد قدّم لي أغنية "أروح ما روحْشِ" ونجحت.. ولحّن لي السنباطي أيضاً في ذلك العمل. يا لطيف شو نجح. كتير كتير. يعني مهما أوصف لك... زرت العراق من بعد الفيلم، لم أستطع دخول السينما بسبب الزحمة. والعراقيين كُرماء، بعد خمس سنوات اكتشفت أنهم أرسلوا لي مبلغاً كبيراً في البنك، بعدما اتصلوا بأخي المحامي روجيه.

- كان أخوك مدير أعمالك؟

نعم، ولا يزال حتى الآن، لكنه مقيم في الولايات المتحدة، وعنده ابنة اسمها ريبيكا تشبهني.

- وبحسب علمي أنت ساعدت إخوتك كثيراً.

صحيح. عندما سافرت إلى مصر، رافقني أبي، وكذلك نور الهدى، رافقها والدها. وأبي كل ما يكون فيه بوسة بالفيلم، المنتج ياخده لبرّا يشربه قهوة، وبعد ما يحضر الفيلم آكل قتلة. كان قاسي شوي. بس إمي كانت غير شكل الله يرحمها. مرة كنت بمصر وصرت أبكي، أريد أن أرى أمّي على عيد الميلاد، ولم تكن معي، ولكي يسكتني، قرّر أبي أخدي لرؤيتها. وفي الطائرة أخبرونا أنّ أمي ماتت، كأن قلبي كان حاسسني. توفيت في الخمسينيات، كان عمرها 35، ولا تزال حتى الآن حرقة في قلبي.

- في سنتك الأولى في مصر أنجزت فيلماً واحداً (1944-1945)، وفي السنة الثانية خمسة أفلام، والسنة التي بعدها سبعة أفلام... كلّها سينما غنائيّة؟

صح، الناس لم تتقبّل أفلامي من دون أغانٍ، لذلك كانت غنائية 100 في المئة، مع الوقت صرت أضع أغنية لبنانية، وأغنّي الموّال وأفسّره، فصاروا يفهمونه كأنّه موال مصري.

بين العمالقة

- في مجال الغناء والترغلة بمن تأثرتي؟

ليلى مراد.. والمدّة الطويلة في الصوت هي خلقة من الله، لأنّي بنت جبليّة، وذلك النمط يجري في دمي. خلقت لوحدي هيك. من دون ما قلّد حداً.

- اشتغلت مع محمد عبد الوهاب عددا من الأفلام والأغاني. متى تعرفت عليه؟

أعرفه منذ كنت صغيرة. مثّلت في فيلم من إنتاجه، بعنوان "إغراء". وكان أخاً لكلّ الفنانين، وخصوصاً لي أنا. كان يحبّني لأنّ شخصيته تقريباً مثلي، يعرف متى يحكي، ومتى يمشي. كنت أحبّه كثيراً. كنّا مثل الأهل، وزوجته كانت صديقتي، وعندما زرت مصر في المرّة الأخيرة، زرت أولاده، وأقاموا عشاءً على شرفي. أول فيلم لي مع عبد الوهاب كان "سيبوني أغنّي"، و"إغراء" كان من إنتاجه. لم يكن مقتنعاً بي كثيراً في البداية، لأن صوتي كان صغيراً. لاحقاً عندما غنيّت "مال الهوى يمّا مال"، مختارات الإذاعة وتلحين كمال الطويل، عندها صرت مطربة.

- زكريا أحمد، ما الذي يعنيه لك هذا الاسم؟

كان يعرف أنّي أحبّ الملوخية، فيتصل بي، ويقول لي: "عاملّك ملوخيّة، تعالي". أولاده كانوا يتكلمون الانكليزيّة، فقال لهم "يا ولاد اتكلّموا عربي، دا أنا دافع للانكليزي". سعاد محمد سارت على طريق زكريا. أمي عرّفته على سعاد عندما كان في لبنان، دعتهما للغداء، وكانت سفرتها مشهورة. وذهبت سعاد عن طريق زكريا إلى مصر، ونجحت، وصوتها كان بجنّن. الشيخ زكريا كان يعلّمني اللحن من دون عود، بينما عبد الوهاب على العود، ورياض السنباطي على العود، ومحمد القصبجي على العود.. ومحمد القصبجي أراد أن يتزوّج من أم كلثوم، لكنّ أهله لم يرضوا، لأنّ الفن عيب، تزوّج أربع مرّات ولم ينجب.

- أنجزت مع محمد فوزي أفلاماً كثيرة وناجحة مثل "الآنسة ماما"، و"الحب في خطر"، و"عدو المرأة"...

صحيح أنا وفوزي كنّا أنجح ثنائي. كان فناناً عظيماً جداً، وهو شقيق الستّ هدى سلطان. لم يعرفوا قيمته إلا عندما رحل، وصاروا يعيدون تقديم أغانيه، ويعيدون إحياءها. كان صديقي وكنا لابقين لبعضنا كثيراً.

- أخبرينا عن علاقتك الفنية برياض السنباطي.

كنت كل ليلة أزوره مع أنور منسي (عازف كمان وزوج صباح حينها)، نسمع عنده موسيقى كلاسيكيّة. كان يسمع آرام خاتشاتوريان (موسيقي من أرمينيا حين كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي). خلال تلك المدّة، عشقه المصريون، لأنّ أعماله كانت تتضمن نفحة شرقيّة، وكنا نسمعه كلّ ليلة في بيت السنباطي. وقد لحّن لي "راحت ليالي"، و "حاسديني على حبك ليه" و("الليل لينا" و "يا هوايا ويا هوايا"...). قال لي مرّة، وحين كنّا نسجلّ "راحت ليالي"، "لو أنا استلمتك" من الأوّل كان هيبقى صوتك أحلى صوت في الشرق.

- ومع فريد الأطرش مثّلتي أفلاما مهمّة أيضاً

أربعة أفلام.. فريد طبعاً موسيقار مهم، لكن في ذلك الحين، كان هناك منتج فلسطيني اسمه جبريل تلحمي، قال لفريد: "عايز تنجح، مثّل مع الشحرورة". لأن فريد في تلك الفترة، كان قد أصدر أكثر من فيلم لم تحقّق نجاحاً. كان أوّل واحد شافني عندما ذهبت إلى مصر، وقال لأ، خليها بالمدرسة صوتها ما ينفعش. لاحقاً لحّن لي فيلم "بلبل أفندي" (1947)، وضرب (نجح) فريد الأطرش، وحطولي حتى اسمي قبل اسمه. ولحّن لي أكثر من أغنية ناجحة، مثل "حبيبة أمها"، و "أكلك منين يا بطة"، و "الاقي زيّك فين يا علي"، و "زنوبة".

- هناك مرحلة ثانية لك في مصر ستّ صباح، بعدما استلم عبد الناصر الحكم، وعملت مع كمال الطويل، ومرسي جميل عزيز، ومحمد الموجي؟

طبعاً كمال الطويل ومحمد الموجي مثل أهلي.. ومحمد الموجي كان لمّا يعجبني اللحن أبقى قاعدة بجانبه، ولما ما يعجبني قوم أمشي. فيقول: "لا دا ما عجبهاش.. فياخد العود ويضل ماشي". ما فيه حداً ما عملي أغاني حلوة، حتى الناس اللي طالعين جديد، يعني "ساعات ساعات" كانت أول لحن للدكتور جمال سلامة.. ولهلق "ساعات ساعات" ما بتموت.

- منير مراد وسيّد مكاوي أيضاً؟

أول أغنية أديتها لسيد مكاوي "أنا هنا يا ابن الحلال"، وأيضاً لا تموت. أغانيّ مع منير مراد كانت حلوة، ولكن لم تحقّق نجاحاً.

أحمد ورشدي وأنور

-هنالك ثلاث شخصيات فنيّة كان لها علاقة بفنّك وحياتك بشكل كبير، أريد منك أن تحدّثينا عنهم. الأوّل المذيع أحمد فراج، والذي كان زوجك في مرحلة من المراحل؟

أحترم أحمد فراج كثيراً حتى الآن، كإنسان ناجح ومباشر. مثّلت معه في فيلم "ثلاثة رجال وامرأة"، وفيه تؤدّي سعاد حسني دور أختي. لكنّ الفيلم لم ينجح كثيراً، لأن طلّة أحمد كانت جديّة. لاحقاً قال لي أنّه يريد تقديم برنامج بعنوان "نور على نور". أعجبني الاسم كثيراً. حضرت تصوير أوّل حلقتين وأنا أضع غطاءً على رأسي، لأنّه كان برنامجاً دينياً، ولاحقاً نجح نجاحاً كبيراً، وجال على كلّ البلاد الإسلاميّة.

- الثاني هو رشدي أباظة، وكان زوجك أيضاً؟

ابن عيلة، وبيحكي كذا لغة ومتعلّم وراكز ومثقف كبير، إيه كنت حبّه جداً.. مبارح لما كنت عم سجل للتلفزيون مع وسيم طبارة، قال: "ما بتقول إلا بتحب رشدي أباظة، وهي قعدت معه 3 أيام".. قلت له: "لأني قعدت معه 3 أيام بحبّه، لو أكثر يمكن ما كنت حبيته".

- الشخص الثالث أعتبره مهمّاً في حياتك الفنيّة، وكان فناناً كبيراً اسمه أنور منسي، وهو والد ابنتك، أكيد لا يمكن أن ينسى. مات ميتة مأساوية (سقط عن ظهر الحصان في سفح الهرم العام 1961)، والتقيته حين كان يعزف في فيلم لفريد الأطرش. وكان من العازفين النادرين الذين يترك لهم عبد الوهاب التصرّف باللحن، لأنّه كان يثق بذوقه؟

حتى الآن يعزفون الكمان على طريقته، ويقلدونه، ولم تنجب الموسيقى مثله في مجاله. وأعتقد أن ابنتي هويدا لم ترتح كثيراً في حياتها، منذ رحيل والدها. كان معي في الفرقة كمان، ويعزف لي حين أغنّي. ومثّل معي في فيلمين أو ثلاثة. عبد الوهاب كان يحبّه كثيراً. أم كلثوم لم تكن تحبّه، لأنّه كان فاهم كتير. مرّة كانت تسجلّ معه أغنية. قالت له: اعدل الصوت. فقال لها: حاضر، من عينيّا. فلمّا سجّلت، قال لها: أنا ما عدلتش في الصوت. قالت له: يا ابن الكلب، ولحقته بالسرماية (الحذاء) على الدرج وبدها تضربه. قتل حاله، ما كان يهدأ. ساعة يروح يلعب طاولة للصبح، ساعة يركب حصان.

العودة إلى "ضيعتنا"

- ما كان سبب تركك لمصر، وعودتك إلى لبنان؟ قيل حينها أنّها مشكلة ضرائب.

لا لم تكن كذلك. مشكلة الجزائر لما نزلونا من الطيارة ما عدت رحت على مصر، كنت بتمنى روح عالجزائر، بس كنت متفقة مع مهرجانات بعلبك (1962) بعد وفاة أنور منسي.. وما عدت رحت.. آخر مدة كان حكم عبد الناصر ظالم، مع إنه بالأول كان يحب الفنانين.

- شاركتِ في مهرجانات بعلبك قبل استقرارك في لبنان، منذ العام 1957، في مهرجان بعلبك الأول، مع زكي ناصيف، والأخوين رحباني. كانت بداية تاريخية لشيء جديد في الموسيقى العربيّة.

نعم، عدت إلى لبنان، وتنازلت عن جواز السفر المصري، ولاحقاً أعاده لي السادات. أم كلثوم كانت حين تسمعني أقول الأوف تجنّ، وتقول لي "لا دا مش طبيعي". وعبد الوهاب كان يقول لي "إنت واحدة مجنونة، ازّاي تقولي أوف زيّ دي". ربما في مصر يحبونني أكثر من لبنان. لكن، عندما يبلغ أحدنا سنّاً معيّنة، يحب أن يعيش في موطنه. مهرجانات بعلبك كانت أجمل جوّ، يوقف الفنان متل الملك، يعني بعلبك ما بتتعوّض.. كنا ننبسط بالمهرجان.

في لبنان، نقولا المنِّة لحن لي أوّل أغنية: "يا هويدا هويدا لك" من تأليف أسعد سابا، وساهمت في إطلاق نمط الأغنية اللبنانيّة. وفي البدايات، قبل السفر إلى مصر، كان عاصي ومنصور الرحباني يعزفان الكمان معي. عاصي طلب يدي من أبي. قال له أبي: "روح بالأول انجح واشتغل وبعدين خود صباح". لكن له معزّة خاصة في قلبي حتى اليوم. ومع حليم الرومي أنجزت فيلماً في مصر، بعنوان "أوّل الشهر". مرة لحّن لي شعر نحوي بالإذاعة هون، وما عرفت غنيها منيح؟

- لا تتآلفين مع الغناء الفصيح؟

أتآلف مع الأغاني الكلاسيك مثل: "ساعات ساعات"، "أخدو الريح"، اللغة الفصحى ما بتلبقلي، مش شخصيتي، بس حليم طبعاً فنان مهم.

- طبعاً ما فيه شك، وتاريخي، ومؤسس (حليم الرومي)، لأنه هو من بدأ في الاتجاه النحوي للانتباه إلى الريف، منذ كان في يافا مع إذاعة "الشرق الأدنى"، قبل العام 1948، بعدما جاء مع صبري الشريف إلى لبنان، وأنجزوا "اسكتشات" إذاعية.

ألّفوا لي "الموسم الأزرق"، كنت أنا وعاصي أبطال ومنصور وفيروز، كانت فيروز بعدها جديدة. يحكي "الاسكتش" حكاية فستان، وأنّي بقيت فقيرة طول عمري، ولم أقدر أن ألبس الفستان الأزرق لحد ما صار معه زوجي يجبلي الفستان.

- بعد مرحلة "الاسكتشات" الإذاعية، طلب أن يصير هناك ليالٍ لبنانية وأنت اشتركت فيها، فبدأت مرحلة تمدين موسيقى الأرياف في العام 1957.

وكانت أوقات الأفكار سطحية، ولكن كان ينجح المهرجان كتير.. يعني إذا بتنفذ هلق هي الأفكار، يمكن ما تعجب العالم.. بس زمان كانت تعجبهم.

- بدأت في العام 1957 مع الرحابنة وتوفيق الباشا وفيلمون وهبة وروميو لحّود وكل هؤلاء الكبار الذين صنعوا ذلك الازدهار.

روميو هو من درّج اللّبس والديكور.. بالأول كان اللبس عادي.

- فيلمون وهبي مهمّ جداً في حياتك الفنية.

معلوم (طبعاً). ما كنا نفترق، تعرّفت عليه بالإذاعة. قدّم لي أجمل ألحان على شعر توفيق بركات الذي كان مخلصاً للأغنية اللبنانية. كان يقف على أبواب الملحنين المصريين المشهورين لكي يعطيهم كلام، ويبقى واقفاً بالساعات حتى يأخذوا كلامه.

- ألم يكن هناك منافسة على الرحابنة بينك وبين الست فيروز؟ اشتغلتِ معهم حضرتك عدّة مهرجانات.

الست فيروز بتعزني كتير. ولم يكن هناك منافسة، هي لها لون، وأنا لي لون. الست فيروز كان حولها الرحابنة، أمّا أنا فكنت لوحدي، ووحدي شقيت طريقي، وما زلت حتى الآن لوحدي.

- وحضرتك بس تغنّي الميجانا والعتابا أمام وديع الصافي، لا أحد يقدر أن يقوم بذلك.

نعم، عندي السحبات الطويلة. هو صوته أحلى من صوتي.. بس نفسي بغطّي لأنه طويل. كان يقول لي أنت توأمي.

- هناك عمل قدّمته وزكي نصيف ووديع الصافي: "يا بلادنا مهما نسينا"، أعتبره قمة بالدبكة في القرن العشرين.

هلّق على كل حال، الدبكة تقريباً انتهت.. وانشالله لأ.. يرجعوا يرجعوها.

- الفن العظيم لا يموت. هناك أيضاً أغنية أخرى مع وديع، سنة 1964 في فيلم "إنت عمري"، وفيه تغنون "اسكتش" بعنوان "الضيعة والمدينة". وفي السنة ذاتها قدّمتم "أرضنا إلى الأبد"، وغنيتِ "يا بلادنا مهما نسينا" مع الأستاذ وديع من ألحان زكي نصيف.

يخزي العين عنك كيف ذاكرهم.. وعندي مع وديع أيضاً فيلم اسمه "موال". بتصدّق، هناك أشياء كثيرة غنيّتها ونسيتها، قاد ما غنيت بالأفلام والمسارح. كلّها أعمال خلّت كل الأجيال تحبني، من الصغار للكبار. أنا ما كنت أحلم صير بهيدا السن وتضلّ العالم تحبني.

- بعد بسنة من "أرضنا إلى الأبد"، حصل هناك مشكلة بينك وبين وديع، بعد مهرجان "نهر الوفا". يومها تركت المهرجان وذهبت إلى لندن. ولاحقاً اعترف الشاعر جورج جرداق، أنّه خرّب على وديع في ذلك العمل، بعدما استقدم ضفادع.

نهر الوفا على طول كان فيه ضفادع. أنا بس رحت بدي غني، أول شي القصة ما عجبتني، قلت لهم: القصة بدها تتغير، ما سمعوا.. ورحت بدي غني، هونيك صوت الضفادع أقوى من صوتي.. حملت حالي وفليت.. وبعدين عادوا عملوا المهرجان وفشل.

- ما سبب فشله برأيك؟

القصة مش حلوة. وبدهم يمشوا ناس بالنهر. ما كان عاجبني. وبعدين قال انا بدي اطلع من ورا الصخرة. وشو إلها معنى أطلع من ورا الصخرة. كنت هيك زمان بس شي ما يعجبني أهرب منه. بكتير أعمال كنت حط حالي بالطيارة وأهرب.

- كنت أذهب دائماً إلى "إذاعة لبنان"، ونلتقيك هناك، وكان عبد الوهاب يزور الإذاعة، وأحياناً أم كلثوم وفريد الأطرش.

في بدايتي، ذهبت إلى "إذاعة لبنان"، ومحي الدين سلام والد نجاح سلام، وقّفني على طبلية، وغنّيت ورفضوني.. لاحقاً، صرت أغنّي في الإذاعة في بثّ مباشر. بعد عودتي من مصر، عملت كثيراً في الإذاعة، بجانب مهرجانات وحفلات ومسارح.. وجربنا نعمل كم فيلم هون ما مشيوا.. بس كانوا معقولين.

- إذاعة "الشرق الأدنى" علاقتك فيها أقل؟

طبعاً، كانوا الرحابنة يصطحبوني لكي أغنّي فيها خلال الخمسينيات.

- هناك مرحلة مهمّة من عملك في لبنان أيضاً، مع عبد الوهاب، إذ لحّن لك "كل ما بشوفك"، "عالضيعة"، و "جاري أنا جاري"، و "كرم الهوى"، و "سنة حلوة يا جميل". جعل من لبنان بلده الثاني، وكان يحبّك ووديع كثيراً.

وكان يحب فيروز والرحابنة، وكان يزورني في عاليه، ويجلس على شرفة المنزل ينظم الألحان.
- زكي نصيف عملك مجموعة من الأغاني الظريفة جداً.

بكفّي "أهلا بهالطلة"

- تاريخياً، أريد أن أختم برأيك. هل أنت مقتنعة بما أقوله، أنّه بالفعل لم يحقّق أيّ فنّان آخر ما حقّقته، لناحية أنّك اشتركت بازدهار الفن في مصر وفي لبنان. برأيك، هل هناك أحد يشاركك هذا الإنجاز؟

ما بتصوّر. عندي ثقة بنفسي، وعارفة حالي شو عملت. طبعاً، كنت راضية جداً عن حياتي الفنية، لكن حياتي الشخصية كانت متعبة قليلاً. لكن تركت مدرسة لي: في اللبس، والكلام، والمغنى. كلّ الفنّانين ما زالوا يغنّون أعمالي. أعرف من محبة الناس أني تركت بصمة مهمَّة في الحياة.

 

####

 

"غنّوجة" مصر ولبنان

فكتور سحّاب

في أربعين صباح، يستعيد المفكّر والمؤرّخ فكتور سحاب محطّات بارز وموثّقة من مسيرتها، بجانب حوار مطوّل أجراه معها في العام 2004، قبل عقد كامل من رحيلها.

***

الساعة الثالثة فجر يوم الأربعاء، 26 تشرين الثاني 2014، فارقت جانيت جورج الخوري فغالي الحياة.

ماتت الشحرورة، فصحا كلّ لبنان والعالم العربي، على الخبر المؤلم، على الرغم من أنّ خبر وفاة "غنّوجة" الغناء العربي كان قد تردّد عدّة مرات من قبل، من دون أن يكون صحيحاً، لأنَّ العمر تقدَّم بصباح إلى مقربة من التسعين، أو أكثر أو أقل، وهو عمر دفع الكثيرين إلى توقُّع الوفاة في أيّ لحظة ولو لم يكن خبراً صحيحاً. لكنَّه كان تلك المرة صحيحاً: ماتت صباح.

لم يجادل أحد في يوم وفاتها، لكنّ الجدل تناول يوم ولادتها في بدادون، تلك القرية الوادعة الرابضة على تلال مشرفة على البحر، من منطقة جبلية غير مرتفعة، إلى الجنوب الشرقي من بيروت. قيل إن ولادتها كانت في 11 تشرين الثاني سنة 1927، بل هي كانت تقول ذلك. لكن معلومات أخرى جعلت الولادة، في نظري، سنة 1921، أي قبل ست سنوات من السنة المعترَف بها.

ففي سنة 1996، حين كنت منصرفاً إلى تأليف كتاب "وديع الصافي" (دار "كلمات"، بيروت، 1996) قال لي مطربنا الراحل الكبير، في روايته لرحلته الأولى إلى القاهرة، سنة 1944، إنّها السنة التي شهدت أيضاً رحيل نور الهدى وصباح، إلى عاصمة السينما العربية. كان عمره آنذاك 23 سنة، فهو من مواليد 1 تشرين الثاني 1921.

سألته يومئذ عن صباح، فقال لي إنها من عمره، مولودة في السنة ذاتها، وقد علم هذا في سنة التقائهما في القاهرة. إذاً كانت صباح في تلك السنة، في الثالثة والعشرين من العمر. وهذا منطقي، أكثر إقناعاً من القول إنها لعبت دور البطولة في فيلم: "القلب له واحد" سنة 1944، وهي في السابعة عشرة.

بل إنّ صباح نفسها رجّحت، من دون قصد، ولادتها سنة 1921، حين قالت لي في المقابلة معها سنة 2004، في فندق كومفورت، إن والدتها توفيت في الخمسينيّات، حين كان عمر صباح 36 عاماً. فلو كانت وفاة الوالدة في أواخر الخمسينيّات، فرضاً سنة 1957، لصحّ ما قاله وديع الصافي، بتأكيد من صباح نفسها. أي أنّ صباح وُلدت بعد وديع الصافي بعشرة أيام فقط.

وتكون صباح قد عُمِّرت، لو صحّ هذا، 93 سنة، عاشتها على طولها، من دون أن تفقد يوماً حب الحياة والإقبال عليها.

ماذا فعلت في القاهرة؟

يحصي جلال الشرقاوي، في أطروحته عن السينما المصرية، منذ نشوئها، حتى سنة 1960، أن لصباح 46 فيلماً. وقد بدأت منذ أول أفلامها: "القلب له واحد"، بالتعاون مع كبار الملحنين المصريين، ولم يغب عن قائمة أغنياتها في الأفلام المصرية أي اسم من أسماء الكبار في الموسيقى يومذاك: ففي هذه الأفلام، لحّن لها محمد القصبجي، ورياض السنباطي، وزكريا أحمد، ومحمد عبد الوهاب، ومحمد فوزي، وفريد الأطرش، ومحمود الشريف، ومنير مراد، والسيد مكاوي.

وقد واكبت مسيرة السينما الغنائيّة العربيّة في عزّ أيّام ازدهارها، مع هؤلاء الملحّنين، وعدد من كبار المطربين الذين شاركوها في أفلامها. وكانت من كبار المشاركين في هذا المجهود الفنّي التاريخي، إذ إنّها تفوّقت حتى على مثالها الأعلى، ليلى مراد، بعدد أفلامها.

يُذكر أن الأغنية السينمائيّة المصريّة عموماً، كانت إسهاماً كبيراً في تطوير الغناء المدني العربي الذي صنعته المدرسة الموسيقيّة المصريّة، منذ أن بدأ مسيرة تطويرها الشيخ السيد درويش، في مسرحياته الغنائية، وتابع هذه المسيرة محمد عبد الوهاب، ومحمد القصبجي، وزكريا أحمد، ورياض السنباطي، والآخرون، في السينما الغنائية، التي حلّت محلّ المسرح، ما حفز الموسيقيين على سلوك مسار التطوير، في الموسيقى والغناء. (راجع كتابنا: السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة، دار العلم للملايين، الطبعة الثانية).

إذاً يمكننا القول إن صباح احتلت مكانة مرموقة في النهضة الموسيقية المدنية العربية، في القاهرة، بلا أدنى شك، ضمن المطربين والمطربات، بأغنيات صنعت جانباً مشرقاً من تاريخ هذه النهضة.

من تراث صباح "المصري"، لا بد من الإشارة إلى أحلى أغنياتها، استناداً إلى الذاكرة والذوق الشخصي، على ما في هذا من احتمال النسيان والنقصان. فقد غنّت من ألحان محمد عبد الوهّاب: "الرقص نغم"، و "أيوه يا لأ"، و "يا ورد يا زرع إيدي"، وغيرها. ومن السنباطي، غنّت: "الليل لنا"، و "يا هواي"، و "يمينك لف". ومن محمد الموجي: "الحلو ليه تقلان قوي"، و"الغاوي نقط بطاقيته". ومن بليغ حمدي: "جاني وطلب السماح"، و "زي العسل"، و "عاشقة وغلبانة"، و "عدّى علي وسلّم"، و "يانا يانا". ومن فريد غصن، اللبناني المتمصر: "أنا ستوتة"، و "ربيع لبنان" (لبنان زانه من الربيع وشاح). ومن محمد فوزي، محاورات واسكتشات جميلة، أشهرها: "جنينة الغرام"، و "استعراض أبطال الغرام"، و "ليه يا ماما"، و "ما اعرفشي ما اعرفشي". ومن الشيخ السيد مكّاوي: "أنا هنا يا ابن الحلال". أما فريد الأطرش فغلبت على ألحانه لها الصفة اللبنانية. وكذلك بعض ألحان محمد عبد الوهّاب.

ماذا فعلت في لبنان؟

لم تنقطع صباح خلال مكوثها الطويل في القاهرة، عن التردّد على لبنان، لكنها في أواخر الخمسينيّات أبدلت الوضع، فصارت في العموم مقيمة في لبنان، وتتردد من وقت لآخر على القاهرة.

وكانت عودتها إلى لبنان أشبه بالعودة إلى الضيعة، وكان لحن فليمون وهبي الرائع، الأغنية التي غنتها في ما بعد "راجعة على ضيعتنا"، هي الأغنية التي ترمز إلى تلك العودة. فقد نشأت صباح على الميجانا والعتابا وأبو الزلف والمعنّى والقصيد والموال الشروقي وأزجال عمّها أسعد الخوري فغالي، شحرور الوادي. فلمّا غادرت القاهرة عائدة إلى لبنان، انتقل جل عملها في الفن، من الإسهام في النهضة الموسيقية العربية المدنية، في القاهرة، إلى الإسهام الكبير في النهضة الموسيقية اللبنانية التي تتصف على الخصوص بتطوير ملامح الغناء الريفي لبلاد الشام. لقد عادت إلى جذورها الأولى.

هكذا عادت صباح "إلى ضيعتها".

كانت المجموعة التاريخية من الموسيقيين اللبنانيين، الأخوان رحباني ووديع الصافي وفيروز وزكي ناصيف وتوفيق الباشا وفليمون وهبي وعفيف رضوان ومحمد محسن والآخرون، قد بدأوا سنة 1957، في أوّل ليال لبنانية في مهرجانات بعلبك، العمل على تطوير موسيقى وغناء الأرياف الشامية.

ولم تكتفِ صباح بأن تكون عموداً أساسياً في هذه الحركة الموسيقية التاريخية، لا سيما في المهرجانات، بل انّها وقفت في مهرجاني "الأنوار"، "موسم العز" سنة 1960، و "أرضنا إلى الأبد" سنة 1964، وقوف الندّ للندّ، أمام عملاق الغناء الريفي وديع الصافي، وبلغت معه القمّة في لحن زكي ناصيف البديع: "يا بلادنا مهما نسينا"، ولم يجارها في هذا أي قامة فنية أخرى. فهي ابنة الريف اللبناني، نشأت على أزجال عمها، وعلى أسلوب الغناء الريفي، فلما ذهبت إلى القاهرة، احتاجت، كما قالت لي، إلى تدريب على يد رياض السنباطي، لتتقن الغناء المدني، في المدرسة المصرية.

وتمكّنت صباح بعد عودتها إلى لبنان من استدراج كبير موسيقيي ومغني العرب، محمد عبد الوهاب، ليلحّن لها مجموعة جميلة من الأغنيات، لكن على الطريقة اللبنانية: "جاري أنا جاري"، و"كرم الهوى"، و"عالضيعة"، و"كل ما بشوفك". كذلك لحّن لها على الأسلوب اللبناني، وأحيانا باللهجة المصرية، الموسيقار فريد الأطرش: "يا دلع"، و"أحبك ياني"، و"آكلك منين يا بطة"، و"حبيبة أمها"، و"حموي يا مشمش"، و"زنوبة"، و"م الموسكي لسوق الحميدية"، و"عالصورة امضي لي". ولحّن الرحابنة لها ولوديع الصافي محاورة: "الله معك يا زنبقة". ولحّن لها زكي ناصيف "أهلا بهالطلة"، و"تسلم يا عسكر لبنان"، و"يا ليلى"، ومحاورتها البديعة مع وديع الصافي: "يا بلادنا مهما نسينا". أما الحصة الكبرى من أغنيات صباح التي اشتهرت وكانت أغنيات الموسم في زمنها، فهي ولا شك ألحان فليمون وهبي: "جينا الدار"، و"راجعة على ضيعتنا"، و"دخل عيونك حاكينا"، و"شب واستحلى"، و"العصفورية"، و"عالندا الندا"، و"فزعانة قلبي أعطيك"، و"فنجان قهوة وسيكارة"، و"قوم تنلعب باصرة"، و"لمين بدي أعطي قلبي"، و"هالقد بحبك هالقد"، و"هيّب ياللي بحبه"، و"يا امي طل من الطاقة"، و"يا طير الزعرورة"، و"يا طير الطاير قل له"، وغيرها.

وكانت قبل إقامتها في القاهرة قد غنّت لملحّن، لا يصح نسيانه، لأنه من مؤسسي الأغنية اللبنانية، نقولا المنّي، صاحب لحني: يا هويدا هويدلك، ويا حلوة سرقت قلبي، وغيرهما.

في الحركتين

وإذا دققنا تدقيقاً منصفاً في الأسماء التي أسهمت في الحركتين التاريخيتين، اللتين طورتا الموسيقى المدنية العربية في القاهرة، والموسيقى الريفية الشاميّة في لبنان، فإنّنا لن نجد غير صباح، التي أسهمت في الحركتين معاً، إسهاماً واسعاً.

نور الهدى، التي لمعت في القاهرة، كانت لها عشرة أفلام في مصر، لحّن لها فيها الكبار: عبد الوهّاب والقصبجي والسنباطي ومحمد فوزي وفريد الأطرش، وغيرهم، لكن إسهامها في الغناء، وفق المدرسة الريفية، اقتصر على عدد من الأغنيات لا يتجاوز عدد أصابع اليد. ولم تشارك أبداً في المهرجانات.

سعاد محمد، المطربة الكبيرة، شاركت في الحركة الأولى في مصر، بفيلمين وعدد كبير من الأغنيات، ولم يكن لها أي إسهام في الحركة الثانية، إذ انّها لم تشارك يوماً في المهرجانات اللبنانية، ولم تغنّ أي لون ريفي.

نجاح سلام، المطربة الكبيرة أيضاً، شاركت في عدد من الأفلام والأغنيات في القاهرة، أما إسهامها في الغناء الريفي في لبنان، فاقتصر على معَنَّى، شاركت فيه بجدارة مع وديع الصافي، هو الأغنية الرائعة "طل القمر ورفيقتي طلت معه"، ثم شاركت وديع الصافي مرّة ثانية في مهرجان "نهر الوفا" سنة 1965 بدلاً من صباح، التي كانت قد اعتذرت في آخر أسبوع، لامتناعها عن المشاركة، بعدما كانت التمارين قد شارفت على نهايتها. أما أغنياتها في لبنان، فيغلب عليها الطابع الموسيقي المدني، لا سيما القصيدة والطقطوقة.

فيروز لم تشارك في الحركة الموسيقية المصرية، وتركز إسهامها الواسع على المهرجانات، غير أنها لم تغنّ الميجانا والعتابا والقرّادي وهذه الألوان، إلا مع وديع الصافي في المغناة الرائعة: "سهرة الحب" سنة 1973.

صباح إذاً تدخل التاريخ من باب أنها المسهم الوحيد، بين كبار المطربين والمطربات، في أعظم وأهمّ حركتي تطوير موسيقي عربيّ في القرن العشرين.

الصوت

امتاز صوت صباح بالجُرس الجلي، الذي لا تكتنفه بحّة ولا ملمس مخملي. بل إن لصوتها رنيناً نقياً وقماشة يستطيع المستمع أن يميزها بسهولة، بين الأصوات الأخرى.

وكانت صباح تمتلك قدرة فائقة على التحكّم بالحجاب الحاجز، العضلة الكبيرة التي تفصل القفص الصدري عن البطن. ولهذه العضلة دور كبير في حسن تنظيم النفَس، لأنها هي التي تشد الرئتين نزولاً وصعوداً في حركتي الشهيق والزفير. ويعرف الخبراء، ما للقدرة على التحكّم بهذه العضلة، من دور في إطالة النفَس، في أثناء الغناء، وفي ضبط الصوت كيلا ينشز. وقد تفوّقت صباح بطول النفَس، لا سيما في أثناء غنائها: الأوف، بفضل هذه المقدرة المتفوّقة.

كذلك امتاز صوت صباح بالقدرة على التغريد، لليونة في حبال الحنجرة لديها. ويعرف المستمع المدقّق، أن لهذا التغريد دوراً في الغناء "البلدي"، على الطريقة التي كان يغرد بها مغنّو هذا اللون، مثل يوسف تاج، وغيره.

واكتسب صوت صباح، من شخصيتها المغناج، ذلك الجاذب الأنثوي الذي كانت تتميّز به على غيرها من المطربات. وليس في إمكاننا أن ننكر، أن هذا كان عنصراً مهماً في حياتها الفنية، وعاملاً في اجتذاب أقطاب السينما والتلحين، إلى هذه الفتاة الجذّابة بشكلها وصوتها معاً.

بقي لنا من صباح تراث وافر من جميل المغنى، الذي شغل الناس سنوات طوالاً، وكان جزءاً من ثقافتهم الفنية والاجتماعية. ولا بد من تصنيف هذا التراث وحفظه ونشره، حتى لا تكون الشحرورة مجرد صفحة جميلة... وانطوت!

 

السفير اللبنانية في

08.01.2015

 
 
 
 
 

صباح الناصرية

محمود الزيباوي

وصلت جانيت فغالي إلى مصر في العام 1944 بدعوة من المنتجة السينمائية آسيا داغر، وظهرت على الشاشة باسم صباح في فيلم "القلب له واحد". نجحت الصبية القادمة من لبنان، وقدمت خلال سنوات سلسلة طويلة من الأفلام جعلتها نجمة من نجوم الصف الأول في السينما المصرية. تواصل هذا النشاط في عهد الجمهورية، وباتت صباح نجمة ساطعة تسكر الجمهور "بأغانيها المصرية تارة واللبنانية تارة أخرى"، كما كتبت مجلة "الفن" في العام 1953.

في العام 1942، حضر يوسف وهبي في حلب حفلة لمغنية شابة تُدعى ألكسندرا بدران، فأعجب بها، واجتمع بها، ورأى أنها تصلح للسينما، ووقّع معها عقدا للعمل في مصر لخمس سنين. اختير للمغنية اللبنانية الشابة اسم فني، نور الهدى، وكان أول أفلامها "جوهرة"، القصة والسيناريو والإخراج والبطولة ليوسف وهبي، وفيه غنّت من ألحان رياض السنباطي وفريد غصن ومحمد الكحلاوي. عُرض الفيلم في العام 1943، ونجح نجاحاً كبيراً، وشكل بداية لرحلة فنية مصرية استمرت عشر سنين، حصيلتها ثلاثة وعشرون فيلما، بعضها لا يزال يُعرض على الشاشة التلفزيونية. بعد ألكسندرا بدران، حطّت في القاهرة صبية لبنانية أخرى تُدعى جانيت فغالي، وتلقّب بـ"الشحرورة". بحسب الرواية الشائعة، طلبت المنتجة آسيا داغر من قريبها قيصر يونس أن يدلّها على شابة لبنانية تغنّي وتمثّل، فاهتدى إلى الشحرورة، واصطحبها إلى القاهرة في العام 1944 حيث تم الاتفاق معها على العمل في ثلاثة أفلام. اختير لجانيت اسم "صباح"، وكان أول أفلامها "القلب له واحد"، المستوحى من قصة "سندريلا". توالت أفلام صباح بسرعة كبيرة، وبلغ عددها العشرين في نهاية 1951، أغلبها لا يزال حيا في الذاكرة الجماعية. وبينما انقطع مشوار نور الهدى المصري في العام 1953، استمر مشوار صباح بالوتيرة نفسها حتى العام 1963 حيث انتقل نشاطها السينمائي إلى لبنان.

الحلم المصري

وصلت صباح إلى مصر بعد نور الهدى في العام 1944. قبل نور الهدى، سافرت لور دكاش إلى القاهرة في العام 1939 بدعوة من الملحن فريد غصن حيث سجلت أغنيات لا نعرف منها اليوم سوى "آمنت بالله"، وقامت في 1946 ببطولة فيلم "الموسيقار" بالاشتراك مع عازف الكمان الذائع الصيت يعقوب طاطيوس، غير أن الفيلم لم يحصد أي نجاح، ولم تكرر لور التجربة إلا في خريف عمرها حيث استعادت أشهر أغنياتها "آمنت بالله" في العام 1994 في الفيلم الهزلي "يا تحب يا تقب". في 1946، كذلك، ظهرت مطربة لبنانية باسم "نورهان" في فيلمين منسيين: "الخير والشر" و"ابن الشرق"، وكتبت "الصباح" في التعريف بها: "اسمها الحقيقي هالة، وقد حضرت إلى مصر بصحبة زوجها الذي يُدرّس في قسم الفلسفة بكلية الآداب. ولما وجدت في نفسها الرغبة والاستعداد لأن تكون مطربة سينما عرضت نفسها على بعض الشركات، وكان أن أُتيحت لها الفرصة في فيلم "الخير والشر" فلمس فيها المشتغلون بالسينما ما دفعهم على الاتفاق معها على الظهور في أفلام جديدة. وتستطيع نورهان أن تقلد تقليداً مضبوطاً صوت المرحومة أسمهان، لكنها تؤثر أن تخلق لنفسها شخصية خاصة". في الحقبة نفسها، وصلت مغنية أخرى، سهام رفقي، من المشرق لتشارك في فيلم "عودة الغائب". انطلقت هذه المغنية من طرابلس، وغنّت في لبنان وسوريا وفلسطين والعراق قبل أن تصل إلى القاهرة. اشتهرت بأغنية "يا ام العباية" التي ألّفها ولحّنها الفنان السوري عبد الغني الشيخ، بعد "عودة الغائب"، ظهرت مطربة "أمّ العباية" في 1947 بطلة في فيلم "البريمو" ثم في "الزيناتي خليفة"، والفيلمان منسيان اليوم تماما.

جذب نجاح نور الهدى وصباح وسهام رفقي العديد من اللبنانيات إلى مصر. تتكرر صور "تغريد" في أعداد "الصباح" في العام 1947، وهي بحسب هذه المجلة "فنانة لبنانية ظريفة اسمها الأصلي جورجت خوري، أُعجب الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب بصوتها عندما كان في لبنان أخيرا، وحبّذ لها الحضور إلى مصر لدراسة الفن والظهور في السينما، وقد بدأ يلقنها دروساً فنية في الموسيقى تمهيداً لظهورها قريباً في السينما، وقد أٌعجب بها كل من استمع إليها واقترح الشاعر المشهور الأستاذ أحمد رامي ان تُسمّى تغريد". كذلك، تتحدث المجلة ضمن زاوية "أخبار بيروت" عن نشاط مطربة أخرى من سوريا ولبنان، هي زكية حمدان، وتذكر اتفاق بديعة مصابني معها على الغناء في مصر لمدة شهر، وتنقل عنها قولها "أنها تنوي السفر إلى مصر لأنها ترغب في شراء بعض القطع من تلحين كبار الملحنين في مصر لتكون خاصة بها، فيصبح لديها عدة قطع جديدة، ويمكنها بذلك الإستغناء عن ترديد أغاني غيرها من شهيرات المطربات". في موقع آخر، تذكر المجلة مطربة لبنانية ناشئة هي "الآنسة سعاد محمد"، وتنقل عنها قولها "أنها ترغب في السفر إلى مصر لأنها تريد التعرف إلى موطن والدها وتحصل على بعض الألحان الخاصة من كبار الملحنين المصرين". تحققت هذه الرغبة في العام 1948، وحلت سعاد محمد في القاهرة حيث قامت ببطولة فيلم "فتاة من فلسطين"، انتاج عزيزة أمير وإخراج محمود ذو الفقار، وفيه غنّت من كلمات بيرم التونسي وألحان رياض السنباطي ومحمد القصبجي. تكررت التجربة في العام 1952 حيث شاركت في فيلم "أنا وحدي" وغنّت فيه من ألحان السنباطي وزكريا أحمد ومحمود الشريف، وتوقفت عنده تجربتها في التمثيل السينمائي. وصلت إلى مصر في تلك الفترة مطربة أخرى من لبنان هي نجاح سلام، وكان من المفترض أن تلعب دور البطولة مع سعد عبد الوهاب في فيلم "العيش والملح"، إلا أن المشروع تعثر، وجاءت الإنطلاقة السينمائية في العام 1952 في فيلم "على كيفك"، وتبعتها أفلام عدة حتى العام 1957.

بين 1944 و1951، قدّمت صباح سلسلة طويلة من الأفلام السينائية غنت فيها من ألحان كبار الملحنين المصريين. في أول أفلامها غنّت الشحرورة من ألحان محمد الموجي وزكريا أحمد ورياض السنباطي، ثم غنّت من ألحان محمد فوزي وفريد الأطرش ومحمود الشريف، بعدها قدّم محمد عبد الوهاب في 1950 مجموعة من الألحان في فيلم "سيبوني أغني". حفظت السينما نتاج صباح الغنائي الأول، وكان هذا النتاج مصرياً في الدرجة الأولى، غير أن اللون اللبناني لم يغب عنه تماماً. في فيلمها الثاني، "أول الشهر"، غنّت صباح العتابا، وتجددت هذه التجربة في فيلم "اول نظرة" 1946. في العام نفسه، غنت صباح من كلمات صلاح جودت "جنتي لبنان" في فيلم "عدو المرأة"، كما قدمت قطعة من نظم "شحرور الوادي" وغنّت "ليا وليا" و"يا زينة الكل" من ألحان نقولا المنّي في فيلم "اول نظرة". تكررت هذه التجربة في العام التالي، وفيه غنّت صباح من كلمات حسن توفيق وألحان محمد سلمان "تسلم جبل لبنان يا بهجة الأوطان" في فيلم "لبناني في الجامعة"، كما غنّت "مرمر زماني" و"صباح الخير على لبنان على الجيرة على الخلان" من ألحان محمد فوزي، في فيلم "صباح الخير". في 1950، غنّت من كلمات حسن توفيق وألحان فريد غصن "ربيع لبنان" في فيلم "سيبوني أغنّي"، ويقول المطلع:

لبنان زانه من الربيع وشاح/ وبموكبو الشحرور غنّى وناح

ولهالغنا حنّيت أنا/ غنّيت متلو وما عليّ جناح

بكل لفتة وميل/ هون للطبيعة خيال

ألحان متلا ما صنع داوود/ وجبريل أنزلها بيوم موعود

عهد الجمهورية

خلال سنوات، حققت صباح في مصر نجاحاً لم تحققه أيٌّ من زميلاتها اللبنانيات، واستمر صعودها في الخمسينات، في زمن أفل فيه نجم نور الهدى وانطفأ رويداً. في 23 تموز 1952، قامت مجموعة من الضباط المصريين بانقلاب عسكري أطاح الحكم الملكي. انتقلت مصر من عهد الملكية إلى عهد الجمهورية، غير أن هذا التحول لم يؤثر في مسيرة صباح الفنية في أرض الكنانة. واصلت صباح نشاطها الفني متنقلةً بين مصر ولبنان، وأعلنت الصحافة في أيلول عن فيلم جديد لها عنوانه "ظلموني الناس"، وهو الفيلم الذي عُرض بعنوان "ظلموني الحبايب" في العام التالي. تجدد اللقاء بين الشحرورة وعدد من النجوم الذي شاركوها البطولة في الأفلام التي ظهرت فيها خلال النصف الأول من الأربعينات. التقت صباح من جديد مع سعد عبد الوهاب في "ستيتة أختي" في العام 1950، ومحمد فوزي في فيلم "الآنسة ماما"، وتجدد اللقاء مع فوزي في العام 1953 في "الحب في خطر"، ثم في "فاعل خير"، وقدّم الثنائي فيلم "ثورة في المدينة" في العام 1955. كذلك، تجدد اللقاء مع فريد الأطرش في "لحن حبي" في العام 1953، وتبعه "أنساك ازّاي" في العام 1956. مثّلت صباح أمام عماد حمدي في "ظلموني الحبايب" في العام 1953، ثم في "توبة" و"مجرم في إجازة" في العام 1958. ومثلت مع حسين صدقي في "يا ظالمني" العام 1945، ثم في قلبي يهواك" العام 1955. كما مثّلت مع شكري سرحان في أربعة أفلام بين 1956 و1957، وهي تباعا "حياتي وهبتك"، "نهاية حب"، "وكر الملذات"، و"إغراء".

في هذه الأفلام، تكرر لقاء صوت صباح مع ألحان رياض السنباطي وفريد الأطرش ومحمد فوزي ومحمود الشريف وسيد مكاوي، وتألق مع عبد الوهاب في فيلم "إغراء"، وفيه غنّت "حبيتك يا اسمك ايه"، و"جوّا قلبي جوّا"، و"كانة ياخدو نور عيوني"، و"من سحر عيونك". انتقلت صباح إلى جيل جديد من الملحّنين، وغنّت من ألحان منير مراد ومحمد الموجي وكمال الطويل. في المقابل، قدّمت صباح في أفلامها المصرية أغاني لبنانية حصد بعضها نجاحاً كبيراً في سائر أنحاء العالم العربي. في العام 1955، عُرض فيلم "قلبي يهواك"، وقدمت صباح ثلاث أغنيات مصرية وثلاثاً لبنانية. في هذا الفليم التقت الشحرورة من جديد بزكريا أحمد، وغنّت من ألحانه "أنا اتولدت زي النهار ده". وتعاونت مع الجيل الجديد من الملحّنين المصريين، وغنّت "قلبي يهواك" من ألحان محمد الموجي، و"يا قريب من قلبي" من ألحان كمال الطويل، والأغنيات الثلاث من كلمات عبد العزيز سلام. في المقابل، غنّت من ألحان محمد محسن "سلّم عالحبايب" و"ما حبّيتك لالالا"، ومن سمير بغدادي "بحياتك قلبي على النار"، والأغنيات الثلاث من كلمات أسعد سابا. في العام 1956، عُرض فيلم "دموع في الليل"، وفيه غنّت صباح "أمانة" من كلمات محمد علي أحمد وألحان محمود الشريف، و"يا بختكو" من كلمات فتحي قورة وألحان كمال الطويل، و"هالقد بحبّك عالقد" من شعر مارون نصر وألحان فيلمون وهبي.

إلى جانب عملها المتواصل في السينما، أحيت صباح بشكل متواصل سلسلة من الحفلات في لبنان ومصر والعراق، وكانت لها جولة في أوروبا وأميركا في العام 1956. شاركت في "مهرجانات التحرير"، وباتت مطربة مصرية لبنانية تشهد لوحدة العرب في زمن "صوت العرب لكل العرب". كتبت مجلة "الفن" في شباط 1953: "كان لاشتراك السيدة صباح بالغناء في حفلات مهرجانات التحرير سواء في المسرح أو في المقهى البلدي أثر طيب في نفوس جميع المصريين، إذ تطوعت صباح بالغناء في أكثر من حفلة، حتى أنه في ليلة من الليالي غنت في المقهى البلدي وظلت تغني حتى الساعة الثالثة صباحا والجمهور يصفق لها ويطلب المزيد فقد أسكرته بحلاوة صوتها بأغانيها المصرية تارة واللبنانية تارة أخرى. ولولا أن التعب نال من صباح، لاستمرت تغني واستمر معها الجمهور في نشوة حتى مشرق الشمس".

لبنانياً، أحيت صباح في تلك الفترة سلسلة من الحفلات الغنائية، واشتهرت بأغنية "يا هويدلك" من شعر أسعد سابا وألحان نقولا المنّي، وأطلقت على طفلتها اسم "هويدا" في العام 1954 تيمناً بنجاح هذه الأغنية. تعاونت مع شعراء الإذاعة اللبنانية وملحّنيها، وقدمت سلسلة طويلة من الأغاني، منها ما ضاع أثره، ومنها ما حُفظ على أسطوانات من إنتاج "صوت الشرق"، ومنها على سبيل المثال لا الحصر: " طيّب طيّب" (مارون نصر، فيلمون وهبي)، "شب واستحلى" (أسعد سابا، فيلمون وهبي)، "هالقد بحبّك عالقد" (مارون نصر، فيلمون وهبي)، "لمين بدّي اعطي قلبي" (توفيق بركات، فيلمون وهبي)، "كيف الصحة" (أسعد سابا، فيلمون وهبي)، "مقدّر من الله ومكتوب" (عبد الجليل وهبي، نقولا المنّي)، "منقولّك حاكينا" (عبد الجليل وهبي، محمد غازي)، "طق ودوب" (مارون نصر، محمد محسن)، "خبّي عيونك" (عبد الجليل وهبي، فيلمون وهبي)، "وصّلتينا لنصّ البير" (عبد الجليل وهبي، فيلمون وهبي)، "بحياتك قلبي على نار" (أسعد سابا، سمير بغدادي)، "وجّك أحلى من الصورة" (عبد الجليل وهبي، محمد محسن).

عيد وحدتنا

تابعت صباح نشاطها بين مصر ولبنان على المنوال نفسه في السنوات الأخيرة من الخمسينات. في العام 1958، جمع المخرج عز الدين ذو الفقار بين صباح وعبد الحليم في فيلم "شارع الحب"، وفيه غنّت الشحرورة "علّمني الحب" من ألحان منير مراد، و"لأّه لأّه" من ألحان محمد الموجي. في العام التالي جمع عز الدين ذو الفقار بين صباح ورشدي أباظة في "الرجل الآخر" وفيه غنّت "عطشانة" من ألحان منير مراد، و"قل لي أيوة" من ألحان الموجي. من جديد جمعت صباح اللونين المصري واللبناني في أكثر من فيلم، وأجادت في تأدية اللونين. تضمّن "حبيب حياتي" أغنيتين مصريتين من ألحان محمد فوزي ومحمد الموجي، وأغنية لبنانية من كلمات زين شعيب، لحّنها السوري محمد محسن: "يمّا في شبّ بهالحي". كذلك، حوى فيلم "العتبة الخضراء" ثلاث أغنيات مصرية من ألحان محمد ضياء الدين وسيد مكاوي ومنير مراد، وأغنية لبنانية من شعر يوسف صالح وألحان فيلمون وهبي: "يسلمولي حبابنا". كما لمعت في مصر الملكية، لمعت الشحرورة في مصر الناصرية. غنّت للثورة من ألحان محمد الموجي "أنا شفت جمال"، "بنينا الدار"، و"مبروك علينا السد العالي"، ومن ألحان بليغ حمدي "ثورة كرام"، ومن ألحان محمود الشريف "جلاّب الخبر". وغنّت للوحدة من ألحان فريد الأطرش "حموي يا مشمش بلدي يا مشمش/ عيد وحدتنا ملا سكتنا وفرش بيتنا زهر المشمش"، و"من الموسكي لسوق الحمدية أنا عارفه السكه لوحديه، كلها أفراح وليالي ملاح، وحبايب مصرية سورية". كما غنّت من ألحان عبد الوهاب أهزوجة "سوا سوا أدي مصر وسوريا/ سوا سوا وبغدادنا أهيه/ سوا وجزايرنا معانا/ سوا سوا وصنعاء ويافا/ وبكره جايا سوا عمان وجدة سوا".

مثلت صباح لبنان في حفلات "أضواء المدينة" حيث جمعت كعادتها بين الغناء المصري والغناء اللبناني، وكانت لها المساهمة الكبرى في نقل الغناء اللبناني إلى خارج دائرة المشرق العربي من خلال هذه الحفلات. محليا، تكرر ظهور الشحرورة على المسرح في لبنان، وبلغ القمة في بعلبك 1960 حيث اجتمعت مع وديع الصافي في باكورة الأعمال المسرحية الرحبانية "موسم العز"، وفيه لعبت دور نجلا، وغنّت أمام شاهين بعد سماعها منه أبياتاً من الغزل البديع:

تنهّد يا قلبي ودقّ ع باب الحلو

بلكي بيفتحلك وهيك بنسأله

ومنسألو شو بدّلو وشو هالجفا

وبعدنا والعمر بعدو بأولو

 

النهار اللبنانية في

03.01.2015

 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك © 2004