كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

ملفات خاصة

 
 
 
 
 

'ذكريات منقوشة على الحجر'

في مهرجان أبوظبي السينمائي

العرب/ أمير العمري

مهرجان أبوظبي السينمائي السابع

   
 
 
 
 

الفيلم المتوج بأبوظبي يلامس المشاكل القائمة في المجتمع الكرديّ وعمل المرأة في التمثيل في مجتمع محافظ تسود فيه وجهة الذكورية.

أبوظبي - عرض في مسابقة الأفلام الروائية بمهرجان أبوظبي السينمائي فيلم “ذكريات منقوشة على الحجر”، وهو الفيلم الروائي الطويل الثالث للمخرج العراقي الكردي شوكت أمين كوركي بعد “عبور التراب” (2006)، و”ضربة البداية” (2009).

يدور موضوع الفيلم حول المصاعب التي تواجه مخرجا ومنتجا سينمائيين، يرغبان في إنجاز فيلم روائي عن حملة الأنفال التي نفذتها قوات نظام صدام حسين ضدّ الأكراد، التي يعتبرها الأكراد أنها أدّت إلى قتل 182 ألف كردي وتشريد ما يقرب من نصف مليون شخص، بعد تدمير حوالي ألفي قرية من القرى الكردية، وقد عدّت هذه العملية نوعا من أنواع الإبادة الجماعية في حق الأكراد.

يوفّر المنتج السينمائي “آلان” ميزانية محدودة لإنتاج الفيلم الذي سيخرجه صديقه حسين، بإمكانيات تقنية ضئيلة وباستخدام طرق بدائية، ولكن المشاكل التي تواجههما انحصرت في مشكلة واحدة بعد ذلك، هي العثور على ممثلة ترضى بالقيام بالدور الرئيسي كزوجة، لرجل تمّ اعتقاله وتعذيبه ثم قتل، كما تعتقل هي أيضا ويتمّ التنكيل بها.

بحث وتطوع

تتطوّع فتاة جميلة تدعى سينور، قتل والدها على أيدي قوات نظام صدام حسين، وهي الآن تقيم مع عمّها وولده الشاب الذي يطمع في الزواج منها، لكنها لا تحبه وتعلن رفضها له.

ولكن سينور لا يمكنها العمل في الفيلم قبل الحصول على موافقة عمّها المحافظ المتزمّت الذي يرفض منحها موافقته بشكل قاطع، ثم يبدأ المخرج في البحث عن ممثلة أخرى في الجانب الإيراني من كردستان للقيام بالدور.

لكن سينور تعود بعد أن تحصل على موافقة ابن عمّها إثر عقد صفقة معه، وافقت بمقتضاها على الزواج منه مقابل السماح لها بالتمثيل.

ومع ذلك، فإنه يشعر بالغيرة من مشاركتها في الفيلم، ويخلق لها الكثير من المشاكل ويعترض على مشهد تعذيبها أو اغتصابها، ثم يرفض العمّ زواج ابنه منها ويحرضه على تطليقها.

ولكن سينور مع ذلك لا تتخلى عن الفيلم، وتصل حماقة ابن العمّ إلى حدّ إطلاق الرصاص على المخرج وإصابته بالشلل التام، ويصبح عاجزا عن الحركة راقدا على سرير بالمستشفى.

صور المخرج بيئة جبلية كردية مبهرة بمناظرها وأجوائها مع استخدام جيد للموسيقى والغناء الكردي

هنا يتعطل تصوير الفيلم لفترة، ثم يستأنف على أن يتولى مساعد حسين تنفيذ تعليماته، على غرار تجربة المخرج الكردي التركي الشهير يلماظ جونيه الذي استكمل إخراج فيلمه الأخير “يول” (أو الطريق- 1982)، من داخل السجن عن طريق مساعده شريف جوران الذي كان يتلقى منه التعليمات ويقوم بتنفيذها.

حملة الأنفال

لا يقدّم الفيلم سوى نبذة عابرة عن موضوع حملة الأنفال، رغم أن الدافع الأساسي لتحمّس الفتاة للتمثيل في الفيلم، كونه يتناول تحديدا تلك القضية التي تهمّ الشعب الكردي في كل مكان.

أما اهتمام الفيلم الأساسي فيتركز على مشكلة العثور على فتاة تقبل التمثيل في مجتمع محافظ بطبعه، ثم ما ينشأ بعد أن تتطوّع سينور بالتمثيل في الفيلم، من مشاكل تتصاعد وصولا إلى ذروة الميلودراما بعد إصابة المخرج بالشلل، وتخفيفا للأجواء القاتمة للموضوع يتمّ في السيناريو إدخال شخصية مغن كرديّ شهير يفرضه المنتج على الفيلم ضمانا للرواج التجاري.

ولكن هذا المغني الذي يبدو معجبا بنفسه كثيرا، يتدخل في العمل ويحاول فرض وجهة نظره، رغم انعدام خبرته في التمثيل، خصوصا أنه يميل إلى القوالب النمطية الشائعة كما يريد أيضا أن يدخل الأغاني إلى الفيلم، أي أن يصبح الفيلم وكأنه شريط فيديو غنائي، ولكن هذا المغني وراءه مموّل من أشدّ المعجبين به، على استعداد لأن يدفع الكثير لكي يستكمل العمل في الفيلم.

وعندما يرفض المنتج “آلان” أن يقبل تعويضا ماليا من عمّ الفتاة عن جريمة ابنه بحق المخرج حسين، وهو التعويض الذي يمكنه أن ينقذ به الإنتاج من التعثر، يقبل حسين نفسه الصفقة كمخرج من المأزق بدلا من الاستسلام لشروط المغني الشهير!

لا شك في طرافة الموضوع الذي يلامس الكثير من المشاكل القائمة في المجتمع الكرديّ، وهو يحاول استعادة قوّة الدفع بعد سنوات طويلة من المعاناة تحت حكم صدام حسين.

كما أنه يلامس من خلال ذلك، فكرة العمل السينمائي في ظروف بالغة الصعوبة، وعمل المرأة في التمثيل في مجتمع محافظ، والنظرة الذكورية للمرأة كتابع أدنى، وليس كشريك يتمتع بنفس الحقوق والواجبات.

لا يقدم الفيلم سوى نبذة عابرة عن موضوع حملة الأنفال، رغم أن الدافع الأساسي لتحمس الفتاة للتمثيل هو تلك القضية

وكذلك العلاقات القبلية القائمة التي تجعل من الواجب على جيل الأبناء القبول بما يريد الآباء فرضه عليهم، بموجب اتفاقات وتسويات ومجاملات محدّدة محسوبة، وكيف يمكن أن تنتهي تلك الصراعات المتخلفة التي تنتج عن انعدام ثقة الرجل بالمرأة، إلى مآسٍ.

يستخدم شوكت أمين كوركي الكاميرا المحمولة الحرة كثيرا، مضفيا طابعا شبه تسجيلي على الفيلم جريا على عادته في فيلميه السابقين، وذلك لتأكيد الطابع الواقعي للأحداث.

كما ينجح في نسج علاقة متينة بين الشخصيات والمكان، ويكتشف الجوانب الجمالية التي تكمن في البيئة الطبيعية التي تتحرك فيها الشخصيات، البيئة الجبلية الكردية التي تبهر المُشاهد بمناظرها وأجوائها مع استخدام جيّد للموسيقى والغناء الكرديّ.

إصرار جميل

هناك بلا شك بعض المبالغات في الأداء ترتبط حينا بضعف الخبرة التمثيلية، وحينا آخر بنمطية بعض الشخصيات وبطبيعة الموضوع نفسه، كما أن أداء الممثل الذي قام بدور المخرج يأتي ضعيفا باهتا، مع براعة الممثليــن الذين يؤدون أدوار الكبار في الفيلم.

لكن الفيلم يقدّم للعالم صورة واضحة عن معاناة مخرج من أجل إنجاز فيلم، في مجتمع لم تبق فيه سوى دار عرض واحدة، أصبحت اليوم أيضا مهددة بالإغلاق بعد أن سئم صاحبها الاستمرار في تشغيلها، لتناقص عدد روادها، والتي صار لا يؤمّها غير بضعة أشخاص يمكن عدّهم على أصابع اليد الواحدة.

ويوجه الفيلم أيضا، تحية للفيلم التركي (الكردي) “يول” ليلماظ جونيه، الذي نرى منه مقاطع في البداية، كما نرى ملصقه فوق دار العرض السينمائي، ونعود أكثر من مرّة لمشاهدة مقاطع مميزة منه، ويتبادل “آلان” وحسين حوارا بشأنه.

ولعل استخدام هذا النموذج السينمائي تحديدا يأتي رغبة في التأكيد على ضرورة مواصلة العمل رغم كل الضغوط: السجن والإصابة والشلل وقلة المال.. وهو إصرار جميل ينبغي الاحتفاء به.

العرب اللندنية في

04.11.2014

 
 

القط.. عناصر المشاهدة الثلاثة في أحدث أفلام ابراهيم البطوط

أحمد شوقي

إذا كانت إثارة فيلم للجدل تعد قيمة إيجابية بشكل مجرد، فقد نجح فيلم "القط" للمخرج ابراهيم البطوط في إثارة أكبر قدر من الجدل في أروقة مهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي، بين من يبدي إعجابه الشديد بالفيلم ويعتبره نقله في مشواره صانعه، ومن يمتعض منه ويراه خطوة للوراء.

شخصيا لا أعتبر الجدل من هذا النوع قيمة في حد ذاته، فكم من فيلم سيء أثار الجدل، وكم من عمل ممتع لم يختلف عليه اثنان. الأصل في العمل الفني أن يدفع للتفكير وليس للجدل، يطرح تساؤلات في ذهن من يشاهده تحتاج لتوجيه نشاطه العقلي جهة الفيلم، هذا هو الهدف الحقيقي الذي إذا ما تمكن فيلم من حقيقه، مع العنصرين الموازيين: التأثير في المشاعر والإمتاع البصري، كان عملا يستحق المشاهدة والتقدير. فهل حقق الفيلم أحد هذه العناصر الثلاثة أو كلها؟ هذا ما سنحاول التطرق إليه في هذا المقال.

مدخل سردي مغاير

ينتهج "القط" منهجا مغايرا في سرد حكاية شخصيته الرئيسية التي يحمل الفيلم اسمها، والتي يجسدها عمرو واكد، حيث تبدأ الدراما من نقطة متأخرة جدا في حياة الشخصية، هو بلطجي بصورة ما، أوقف نشاطه ويتحرك مختبئا، بعد اختطاف ابنته ووفاة زوجته. معلومات نعرف بعضها بشكل عابر على مدار الفيلم، دون أن يتم تقديم الشخصية بصورة تقليدية لا في مرحلة الدراما الحياتية التي تخوضها، ولا في الإلمام بكل المعلومات المطلوبة عن هذا القط، الذي نتابعه منذ بداية الفيلم في لقطات ترافيلنج تدخل الكاميرا معه فيها لأعماق الأعماق التي يختبئ فيها.

القط إذن شخصية ذات بعد أسطوري ما، على الرغم من واقعية عناصر حياتها، بل وارتباط نشاطها ونشاط عدوها اللدود الحاج فتحي (صلاح الحنفي) بأكثر العناصر مادية: أجساد البشر وتجارة الأعضاء. لذلك فالتعامل مع تفاصيل الحكاية من منطلق واقعي بحت، والبحث عن كامل المبررات الدرامية لكل ما يحدث، هو نوع من التجني ومحاسبة العمل بطريقة خاطئة، لا سيما وأن البعد الأسطوري يتجسد بصورة أكبر في شخصية الراجل الغامض التي يلعبها فاروق الفيشاوي، والذي يجسد قوة عليا ما لها سلطة وهيمنة على نفس القط، الذي يمكن بمد الخطوط على استقامتها أن تكون رمزا للنفس البشرية عموما.

الرجل الغامض قد يكون إلها كلي القدرات، وقد يكون شيطانا فاوستيا يغوي الإنسان لبيع روحه، بل قد يكون هو الشر داخل النفس البشرية نفسها، أي أنه مجرد انعكاس لما يدور داخل القط وتصارع رغبتين متناقضتين ظهرتا داخله في نفس اللحظة: الانتقام والتنكيل بعد ما حدث لابنته، والتوبة والابتعاد على الشر الذي لمس آلامه بشكل شخصي. لكن أيا كان التفسير، ففي النهاية هو كما قلنا قوة تحرك نفس القط، وتدفعه دفعا نحو تصرفاته، عبر أطروحات وتساؤلات بعضها وجودي ذكي وبعضها مادي ضعيف. 

من هذا المنطلق السردي يمكن الابتعاد عن مشكلات "التماسك السردي المنطقي" الذي كانت سبب موقف البعض من الفيلم، فهذا فيلم لم يدعي التمسك بالمنطق السردي حتى يتم محاسبته من خلاله. لكن حتى في سرده الذي يفتقد بالطبع للتكامل السردي الكلاسيكي، يمكن التأكيد على نجاح الفيلم في طرح السؤال داخل الأذهان، سؤال عن مصدر الشر داخلنا، وعلاقتنا المركبة به، منذ فجر التاريخ وحتى يومنا الحاضر.

تغريب أضاع ثاني العناصر 

المشكلة هي أن نفس الأسباب التي جعلته فيلما ذو طابع سردي خاص، هي نفسها الأسباب التي ساعدت على تقليل عنصر التأثير في المشاعر للحد الأدنى. فأبسط القواعد هي أنك لا تتعاطف مع شخصية لا تعرفها، أو بلغة أدق لا تعرف عنها ما يكفل لك الحد الأدنى من التفهم لموقفها أو التماهي معه. ولأن الكثير من هذه المعرفة تكاد تغيب عن شخصيات الفيلم، في ظل شكله السردي وعدم تشبيعه لأي تفصيلة للنهاية، فقد كان من الطبيعي أن يشاهد الكثيرون الحكاية من الخارج، بهدوء كامل ودون التورط عاطفيا مع أي شخصية، أي بدون أي إثارة تذكر للمشاعر.

لا أقول أن التورط عاطفيا مع الشخصيات أو الفيلم ضرورة واجبة الوجود، ولكن أن تواجدها يقصر الكثير من المسافات، وغيابها عن معظم الفيلم كما في هذا الفيلم، يزيد من صعوبة عملية التلقي، ويجعل عدم الرضا عن الفيلم نتيجة أقرب للوقوع.

تجديد بصري وعيب مزمن

أما ثالث عناصر المشاهدة وأكثرها سينمائية فهو الإمتاع البصري، والذي تمكن ابراهيم البطوط بنسبة كبيرة من تحقيقه. ففي أول فيلم يصنعه بميزانية كبيرة مثل هذا العمل، تمكن البطوط من اختيار مواقع تصوير طازجة، غير معتادة حتى لدى العين الخبيرة بالسينما المصرية وأشكالها ومواقعها، مع جودة تقنية واضحة في استغلال هذه المواقع بصريا للحد الأقصى، مع مزج ذلك بشريط صوت مثير للانتباه في معظم لحظاته، لينجح فيلم "القط" في تحقيق ما أراده مخرجه بصريا.

وإذا كان البطوط قد استغل الميزانية في إضفاء ثراء بصري ربما كان غائبا عن بعض أفلامه السابقة، فإنه لم يتخلص في المقابل من عيب مزمن هو توظيف ممثلين هواة في أدوار مهمة بالفيلم، ومنحهم مساحة للارتجال في الحوار وطريقة أداءه. الدور قد يكون مشهدا أو مشهدين لكنه بحاجة لممثل يؤديه بشكل صحيح حتى لا يهتز إيقاع مشاهد الفيلم بشكل عام، وحتى لا يظهر ممثل هاو يتحدث بطريقة سيئة فيوقع إيقاع مشهده، وهو ما حدث مرتين على الأقل على مدار هذا الشريط، وهو أمر لابد للمخرج من تجاوزه في المستقبل إذا استمر في تقديم أفلام يلعب بطولتها ممثلون محترفون، فأداء الهاوي أمام الهاوي، يختلف كليا عنه أمام ممثل محترف حقيقي.

في النهاية، وبخلاف تأثير شكل سرد الفيلم على تعاطي المشاهدين معه، يظل "القط" فيلما جادا يستحق المشاهدة والتحليل. صحيح أنه ليس تحفة فنية ولا هو أحسن أفلام مخرجه، لكنه أيضا ليس أسوأ أعمال البطوط، بل هو فيلم يتعامل مع مشاهده بذهنية بعيدة عن المشاعر، والأصح أن نتعامل مع بنفس الذهنية وبدون مبالغات توقع في فخ التهوين أو التهويل.

جريدة القاهرة في

04.11.2014

 
 

يومان وليلة.. درس في صناعة السينما

احمد شوقى*

في إطار برنامج عروض السينما العالمية لمهرجان أبو ظبي السينمائي الدولي، والذي اختتمت فعالياته يوم السبت الماضي، أقيم العرض الأول في الشرق الأوسط لفيلم "يومان وليلة"، من إخراج الشقيقين البلجيكيين جان بيير ولوك داردِن وبطولة النجمة الفرنسية الجميلة ماريون كوتيار.

الفيلم عُرض في سياق غير تنافسي (بعد أن شارك في المسابقة الرسمية لمهرجان كان)، لكنه يظل في رأيي واحدا من أفضل الأفلام التي عرضها المهرجان، بل يمكن اعتباره درسا حقيقيا يمكن أن يستفيد به كل من يرغب في صناعة فيلم في منطقتنا، ربما لتشابه ظروف الإنتاج التي يحب أن يعمل من خلالها الأخوان داردِن مع ظروف صناع الأفلام في الدول العربية.

لاحظ أنني قلت الظروف التي "يحبان" العمل من خلالها، فالمخرجين الحاصلين على سعفتين ذهبيتين من كان على فيلمي "روزيتا" 1999 و"الطفل" 2005 بإمكانهما إن أرادا أن يحصلا على إنتاج هائل لأفلامهما، لكنهما بفضلان العمل بميزانيات محدودة، يصنعان من خلالها العديد من الأفلام، تكون كلمة السر فيها لعوامل لا تحتاج الكثير من المال لتحقيقها.

على رأس هذه العوامل يأتي السيناريو، الذي يُقدم هذه المرة حكاية محكمة البناء، مثيرة الأحداث، عالمية التأثير يمكن أن يتوحد معها أي مشاهد حول العالم، لأنها ببساطة قد تقع لأي إنسان حول العالم. الحكاية لامرأة عاملة وأم لطفلين، تجد نفسها فجأة في مواجهة أسوأ كوابيسها: الطرد من العمل. فانقطاع الدخل بالنسبة لمنزلها المتواضع كارثة حقيقية، والمصنع الذي تعمل فيه قرر الاستغناء عن خدماتها، مدعما القرار بموافقة زملائها في العمل، والذين جعلتهم الإدارة يختارون بين أمرين، إما أن يحصلوا على علاوة في أجورهم، أو أن تبقى زميلتهم ساندرا في العمل معهم.

وعلى مدار يومين وليلة كما يقول عنوان الفيلم، تطوف ساندرا على زملائها الذين سيعيدون التصويت بعد نهاية العطلة الأسبوعية، محاولة إقناع كل منهم بأن يضحي بالمال الذي سيضاف إلى ميزانية بيته وأسرته، حتى ينقذ امرأة ربما لا تربطه بها أكثر من زمالة عابرة من الطرد.

هل يمكن أن يحدث نفس الموقف في مصنع بشبرا الخيمة؟ بالطبع يمكن، وفي هذا يكمن ذكاء السيناريو، الذي لا يدين نظاما بعينه، بل يتماس أكثر من النفس البشرية وضعفها في مواجهة الحاجة، فساندرا ضعيفة وهشة بسبب عدم قدرتها على الاستغناء، وهو نفس موقف زملائها بمختلف أشكالهم وطبائعهم. حتى من يرفض منهم مساعدتها، بل ومن يسبها ويعتدي عليها ويحرض ضدها، هو في النهاية أيضا أسير لضعفه وحاجته، لم يكن ليفعل كل هذا إذا ما كان دخله يكفيه ويكفل له التفكير بعقله وليس بقدر حاجته.

العامل الثاني لتميز أفلام الأخوين داردِن هو التحكم المذهل في إيقاع كل مشهد على حدة وإيقاع العمل بشكل عام، والإيقاع هنا شديد الارتباط بحالة ساندرا النفسية، والتي تتحرك كثيرا خلال الزمن الفيلمي بين السلب والإيجاب، بين الحماس والتفاؤل بإمكانية النجاح، والانكسار الذي يصل بها إلى الحافة، ليتحول الأمر من مجرد متابعة عملية حسابية عن عدد المصوتين الذي تحتاجهم البطلة للبقاء، إلى متابعة رحلة نفسية قاسية تخوضها البطلة خلال الفيلم.

ثالث العوامل هو الأداء التمثيلي المتميز، وعلى رأسه ماريون كوتيار التي تقدم أداء سيظل طويلا في الذاكرة، تتخلى فيه عن سحرها المعتاد وتتحول لربة منزل فقيرة منهزمة اجتماعيا ونفسيا، ومعها عدد كبير من الممثلين الذين يلعبون دور الزملاء، أجاد جان بيير ولوك داردِن في اختيارهم من أعمار وبيئات وأعراق مختلفة، ليشكل ذلك مع تباين تكوين كل شخصية فيهم وردود أفعالها، قيمة مضافة لفكرة كونية الأزمة التي يمكن أن يتعرض لها كل شخص في هذا العالم تقريبا.

العوامل الثلاثة (السيناريو والإيقاع وتوجيه الممثل) هي خيارات إخراجية بالأساس، يقوم بها المخرجان البلجيكيان دائما بجدية وذكاء وموهبة، مختزلين في مقابلها عناصر أخرى كجماليات الصورة وسخاء الإنتاج إلى الحد الأدنى، ليضربا بذلك مثلا في اعتماد صانع الأفلام على الأدوات التي يمكن أن يخلقها عقله أكثر من الأدوات التي يحتاج لمن يوفرها له، وهو درس قد يكونا شخصيا ليسا في حاجة له، لكن مئات صناع الأفلام في كل مكان لابد وأن يتعلموه.

"يومان وليلة" كان واحدا من أمتع أفلام مهرجان أبو ظبي، والأخوان داردِن استمرا كالعادة في تقديم الدروس.

*ناقد فنى مصرى

موقع "دوت مصر" في

04.11.2014

 
 

حصة وافرة من جوائز "أبو ظبي" لوثائقيات عربية

قيس قاسم

نال فيلم  "المطلوبون الـ 18" جائزة أفضل فيلم وثائقي من العالم العربي وياسمين فضة صاحبة "ملكات سورية" مُنحت جائزة أفضل مخرج من العالم العربي، فيما حصل"العودة إلى حمص" لطلال ديركي على تنويه خاص ضمن مسابقة اللؤلؤة السوداء للأفلام الوثائقية أما "أم غايب" فخرج بجائزة فيبريسي (جمعية النقاد العالمية) و"الأوديسا العراقية" حصل على جائزة اتحاد النقاد الآسيويين العالمي "نيتباك" وبهذه الحصيلة يكون الفيلم الوثائقي العربي قد نال حصة وافرة من مسابقات دورة امتازت بالقوة  وكان التنافس على أشده بين المتبارين في المسابقات التي جمعت العالمي والعربي سوية بإستثناء جائزة "فيبريسي" التي اختصت بالفيلم العربي فقط في هذة الدورة

من البديهي أن تخرج قراءة في تلك الجوائز، وفي إطار عرضها وتسابقها في أبو ظبي، بإستنتاجات أولية حول مستوى الفيلم الوثائقي في العالم العربي الذي لم تصل سينماه الوثائقية بالعموم إلى مستوى الطموح والقدرة على التنافس في المجالات العالمية، لكن وفي سياق العرض لا بد من الإشارة أن حضوره قد بدأ يترسخ أكثر في الوسط المختص وهو ما كان، ولعقود، غائباً لأسباب تعود إلى أن الاهتمام كان منصباً على الروائي فأُهمل الوثائقي واقترن بالتلفزيون والريبورتاج. والغريب أنه، وحتى على المستوى النقدي، ظل ثانوياً وأن بعض النقاد العرب تعاملوا معه معاملة ثانوية بسبب تدني مستوياته وتباعد انتاجه سينمائياً. في العقدين الأخيرين بدأت هذة النظرة تتغير وأصبح النقاش حولها أوسع ودائرة الاهتمام بها لم تعد بذات الضيق.

في هذا السياق يصلح شريط  "المطلوبون الـ 18" أن يكون مثالاً على المستويين الفلسطيني والعربي، فهذا العمل يقترب طموحه من طموح محبي السينما والمهتمين بها كونه احتوى على أكثر من وسيلة تعبيرية سينمائية، واستطاع الخروج من إطار المناجاة السياسية المعبرة عن مظلومية تاريخية صارخة بحق الشعب الفلسطيني إلى قراءة أشد عمقاً، تُراجع نقدياً بعض مراحل التجربة.

يمزج الشريط الذي صنعه سوية عامر شوملي وبول كون التحريك بالمقابلات والمشاهد المصورة إلى جانب الأرشيف، في تناغم رائع يضعه من بين أهم الأفلام الفلسطينية إذا قبلنا بما اقترحه من مراجعة لتجربة "أوسلو" موضوعاً وثائقياً وكيف أضرّت بالانتفاضة الفلسطينية الأولى

إذا كان ثمة شبه إجماع على جودة الفيلم الفلسطيني فإن "أم غايب" المصري للمخرجة نادين صليب قد أحدث بعض الانقسام الصحي في صفوف النُقاد فانحاز بعضهم إليه إيجاباً وخرج البعض الآخر منه بانطباع لا يرتقي إلى مستوى الإعجاب.

الإنقسام نابع من طبيعة المادة الوثائقية التي عالجت فيها موقفاً اجتماعياً منتشراً في العالم العربي ويتعلق بظاهرة حرمان بعض النساء من نعمة الإنجاب الطبيعية ومعاداة المحيط لهن لهذا السبب. لقد عاينت صليب مادتها الوثائقية معاينة جيدة من أهم تجلياتها الملازمة الطويلة لسيدة اسمها حنان حُرمت من نعمة الإنجاب لكن الله وهبها موهبة السرد الشفاهي والقدرة على القصّ والتعبير السهل عن أدق مشاعرها كإنسانة وامرأة تعاني من مشكلة جدية في مجتمع فلاحي يُقرن الإنجاب بالقدرة على العيش ومقاومة الفقر.

فالفلاح أمله بأطفاله يدخّر قوتهم لمستقبل أيامه غير المؤمنّة لا بحماية دولة أو نظام نقابي متين. لقد ظلّ موضوع الإنجاب دافعا للزواج وتعددّه، لكننا الآن أمام نص سينمائي يقترب بدرجة شديدة من موضوع حساس يضعنا أمام مسؤوليتنا الأخلاقية إزاء ظاهرة اجتماعية عبرت حنان عنها بلغة بسيطة، وعملت صليب على نقلها كما هي محافظة على المسافة اللازمة لصانع الوثائقي وموضوعه. في المنطقة الريفية التي جرت أحداث شريط "أم غايب" فيها نلاحق حيوات بشر يعيشون في شروط عيش صعبة تفرض على المرء سؤال: لماذا هذا الإصرار على الإنجاب وما الذي ينتظره المولود الجديد؟ هل ثمة شيء فيه يغوي للخروج للعالم؟  لقد ظللت صليب هذا السؤال الضمني بمرارات لوعة الحرمان والانحياز للحياة وعيشها بكل مراراتها على التنكُّر لها. لقد أحب هؤلاء الفقراء الحياة إلى درجة تبدو فيها الصورة متناقضة مع عيشهم وعملهم اليومي مع الموت كعمال مدافن وبُناة قبور. على صورتي الموت والحياة لعبت صليب وقدّمت مقاربة فيها الكثير من النباهة السينمائية والمعرفة بقوانينها.

دون شك يستحق "أم غايب" قراءة نقدية أوسع كما هو الحال مع فيلم سمير العراقي "الأوديسا العراقية".

يجول سمير العالم ليُسجّل مصائر عائلته مكتفياً بالملاحقة والسؤال دون فرض رؤيته الخاصة على المشهد العام لعينات عراقية تُعبّر مفرداتها عن التحولات التراجيدية لبلد كان على عتبة التقدُّم والعصرية لكنه تراجع وتمزّق فتشرّد أبناءه في جهات الأرض الأربع.

على المستوى الروائي فوزه بجائزة اللؤلؤة السوداء كأحسن فيلم يفرض علينا قراءة جوانب منه، ونعني بكلامنا هنا "لفاياثان" الروسي.  ثمة أهمية استثنائية في نص فيلم "لفاياثان" (التنين) تُفسّر إلى حد بعيد لماذا منحته لجنة تحكيم المسابقة الرسمية للدورة الأخيرة لمهرجان كانّ جائزة أفضل سيناريو، وتكمن في أنه حاول قراءة المرحلة "البوتينية" وفق سياق تطورها التاريخي. فروسيا القيصرية التي يطمح بوتين إلى استعادة أمجادها، بُنيت على أساس التحالف الثلاثي الراسخ: "المال، السلطة والكنيسة"، واليوم، ووفق حكاية المواطن كوليا وعائلته، تعيد السلطة إنتاج "طاغوتها" مُحصنّة بنفس التحالفات السابقة. وبهذا المعنى فإن"لفاياثان" فيلم تحليلي، رؤيوي وليس سياسياً مباشراً، استثمر صانعه السينما وقوتها ليقدم رؤيته عن واقع بلاده التي تمضي عائدة باتجاه إرثها القيصري. لقد جعل أندريه زفياكنتسف من عمدة مدينة تقبع في ركن قصي من غرب روسيا، على ساحل بحر بيرينتس، رمزاً  لقسوة السلطة وجشعها. صوره كـ" تنين" لم يتوانَ، من أجل امتلاك بيت كوليا مقابل مبلغ بخس ودون إرادته، عن القيام بكل ما تمنحه السلطة له من قوة، لا يمكن لرجل عادي مثل كوليا مقاومتها.

"لفاياثان" فيلم عن محنة الكائن وضعفه إزاء همجية الدولة منظور إليها بعين سينمائية حوّلت الفكرة إلى نص سينمائي رائع أبطاله أناس عاديون، تُعبّر تمزقاتهم الداخلية وتفكُّك علاقاتهم بدرجة كبيرة عن درجة تفكك المجتمع الروسي وتحولاته، فلولا الرغبة الجامحة في تحويل المنطقة إلى منتجع سياحي لما تفككت عائلة كوليا بنفس الدرجة التي تفككت بها على يد ممثل السلطة - العمدة -وبطانته، ولولا ضغطه الشديد عليهم لما تطلّب الأمر طلب المساعدة من محامي خسر القضية، التي كان من المؤكد أنه سيخسرها، لكنه ربح علاقة أقامها مع الزوجة التي قُتلت فخسرت حياتها مثلما خسرت العائلة البيت وكل ما تملك. سلسلة من الخسارات يُقابلها اجتياح مستهتر لقوة الدولة ورموزها، لمّحت إلى ما ينتظر روسيا من فواجع تُعيدها إلى زمن كان بؤس الروسي فيه رمزاً للتعاسة. "لفاياثان" وبعمق فكرته وقوة تنفيذها سينمائياً رسّخ حضور الروسي أندريه زفياكنتسِف بين المخرجين الكبار فيما وضعت أفلام كثيرة وبشكل خاص الوثائقية الدورة في مستوى مختلف عن سابقاتها.

الجزيرة الوثائقية في

03.11.2014

 
 

بعد إعلان نتائج «أبو ظبى».. من أفضل مخرج عربى؟

طارق الشناوي

11/2/2014 10:21:12

لو ألقيت نظرة عين الطائر على جوائز لجنة تحكيم مهرجان «أبو ظبى» فى دورته الثامنة التى أعلنت مساء أول من أمس، لاكتشفت أن هناك تباينا فى وجهات نظر لجان التحكيم المختلفة، وتحديدًا الأفلام العربية، حيث إنها تنافست أكثر من مرة معًا. يحرص المهرجان على أن يمنح فى كل المسابقات جائزة لأفضل فيلم وأفضل مخرج عربى فى قسم «الأفلام الروائية الطويلة» وقسم «آفاق جديدة» وأيضا «الأفلام الوثائقية»، بالإضافة إلى جائزة الاتحاد الدولى لنقاد السينما (الفيبرسكى) التى توجه فقط إلى الأفلام العربية، وهكذا يصبح لدينا بعد إعلان الجوائز أكثر من أفضل فيلم عربى وأفضل مخرج عربى، رغم أنك لو تأملتها ستجد أن تعبير «أفضل فيلم عربى» يمنح المخرج مشروعية لكى يُصبح هو أيضًا حامل لقب أفضل مخرج عربى.

مثلا فى المسابقة العامة فيلم «ذكريات منقوشة على حجر» للمخرج العراقى شوكت أمين كوركى فاز بجائزة أفضل فيلم عربى، بينما اللبنانى غسان شهلب فاز بجائزة أفضل مخرج عربى عن فيلمه «الوادى»، ثم فى مسابقة «آفاق جديدة» المخصصة للعمل الأول فاز الفيلم الأردنى «ذيب» لناجى أبو نوار بجائزة أفضل فيلم، بينما الجزائرى لياس سالم قد فاز بجائزة أفضل مخرج عربى عن فيلمه «الوهرانى»، وفى مسابقة الأفلام الوثائقية حصلت السورية ياسمين فضة على جائزة أفضل مخرج عن فيلم «ملكات سورية»، فى حين نجد أن فيلم «المطلوبون 18» للفلسطينى عامر شوملى حصل على جائزة أفضل فيلم، وفى مسابقة «الفيبرسكى» كانت جائزة أفضل فيلم وثائقى للمخرجة المصرية نادين صليب عن «أم غائب»، بينما حصل المخرج الأردنى ناجى أبو نوار على جائزة أفضل فيلم عربى عن «ذيب».

من الأفضل عربيا إذن بين كل هؤلاء؟ لا أحد فى الواقع يملك التقييم بمعايير لا يأتيها الشك من بين يديها ولا من خلفها، فعديد من النظريات العلمية التى استقرت نتائجها أطلت علينا بعد عدة سنوات نظريات أخرى تتناقض معها، وإذا كان الحال كذلك فى العلم الذى يستند إلى قواعد راسخة وإلى حدٍّ ما ثابتة، فما بالكم بالفن الذى تتعدد فيه زوايا الرؤية وأوجه التقييم؟

لا توجد قواعد مطلقة فى الإبداع الفنى، وهكذا مع تغير أسماء لجنة التحكيم يتغير مؤشر اتجاه الجائزة. لا يمكن أن تعثر على مبدع ديمقراطى ينصت للرأى والرأى الآخر.. الإبداع بطبعه لا يعرف سوى الرأى الواحد.. على الجانب الآخر فإن الجمهور الذى يستقبل هذا الإبداع هو أيضا ديكتاتور!

الإنسان عادة يتنازعه فى استقبال الفنون عاملان، قناعاته الشخصية وأيضا توجهات الأغلبية.. هناك قدر من العدوى لا شك أنها تلعب دورها فى توجه الجمهور إلى نوع فنى أو فنان بعينه، رغم أن المتلقى لا يعترف عادة بأنه صدى للآخرين.

هناك نظرية «الطابور»، لاحظ أننى لا أستخدم كلمة «القطيع» لما تثيره من تداعيات لا تعبر بدقة عن المعنى الذى أقصده.. الطابور هو انحياز الأغلبية إلى الفن السائد الذى تعارف عليه الناس وصاروا يتذوقونه دون قصد، والفن السائد لا يعنى أنه الأقل شأنًا أو قيمة، ولكن من سماته أنه يستخدم نوعًا من المفردات غالبًا ما تُشعر المتلقى بالألفة. «الإنسان عدو ما يجهل» مقولة صحيحة تماما أطلقها أرسطو، ولهذا يتجه الإنسان لا شعوريا إلى ما يعرفه، وفى كل الأحوال ينصت بداية إلى رأيه ويتمنى أن يصبح هذا الرأى معبرًا عن الأغلبية التى وقفت قبله فى الطابور!

لا يوجد فى الفن حق وباطل.. كل القواعد التى حاولت تقييد الفن عبر العصور تم القفز فوقها من خلال مبدعين آخرين ليصنعوا على أنقاضها قواعد جديدة، تخلق نمطًا مختلفًا، وهكذا نرى الفن فى حالة تمرد دائم.

أن يحصل فيلمٌ ما على جائزة من خلال لجنة تحكيم لديها قناعات ينبغى أن لا يجعلنا نعتقد أنه دائما سوف يظل يحظى بتلك المكانة من مهرجان إلى آخر، بل أحيانا عندما يحصل فيلم على جائزة ويشارك فى مهرجان آخر تلاحقه فى هذه الحالة العيون بدرجة أعلى من الترقب، تتساءل ما المختلف؟ بل ما الاستثنائى فى هذا الفيلم الذى دفع لجنة التحكيم إلى منحه تلك الجائزة.. تمامًا مثلما يحدث بعد اختيار ملكة جمال العالم، أول ما يواجهها هو عيون الناس التى تتساءل عن أسباب استحقاقها للقب! تلك هى شريعة لجان التحكيم.. اختلافهم رحمة.. وأحيانا عذاب! 

«أم غايب» ينضح بالروح المصرية!

طارق الشناوي

11/1/2014 04:51:46

على مدى 95 دقيقة رأيتُ مصر على الشاشة فى مهرجان «أبو ظبى»، كانت التفاصيل كلها تؤكد أن المخرجة الموهوبة نادين صليب تدرك أن السينما ليست كاميرا تلتقط صورة، ولا ميكروفون ينقل صوتا، لكنه إحساس يكمن خلف الصورة والصوت، وعليها أن تقتنصه، وتنقله إلينا بوهج إبداعى، هذا هو ما يمنح العمل الفنى خصوصيته وألقه.

ليست الجائزة هى الموضوع، ولا هى حجر الزاوية، الذى يستند إليه أى عمل فنى، لأنك مع الزمن تنسى الجائزة، ويبقى الشريط السينمائى.

حصدت مصر مساء أمس جائزة «الفيبرسكى» الاتحاد الدولى لنقاد السينما عن الفيلم التسجيلى «أم غايب» فى المهرجان. هذه الدورة شاركت فى عضوية لجنة التحكيم مع أربعة أعضاء من كبار النقاد, من روسيا كيريل راسلوجوف، ومن بريطانيا ريتش كلاين، ومن الهند سوبرامانيان، ومن العراق قيس قاسم.

لا أذيع سرا عندما أقول لكم إن الجائزة بالإجماع، حيث يمنح الاتحاد الدولى للنقاد جائزتين للسينما العربية، حصل «أم غايب» على جائزة الفيلم العربى التسجيلى الطويل، بينما الفيلم الأردنى «ذيب» للمخرج ناجى أبو نوار حصل على جائزة أفضل فيلم روائى طويل. قبل أيام قلائل كنت قد تناولت الفيلم الأردنى، هذه المرة نقرأ معا الفيلم المصرى.

دعنى أولا أؤكد أن الانحياز فى اللجنة كان إلى الفن وليس إلى اسم أو جنسية المبدع، وأنا شخصيا تحمست للفيلم المصرى عن قناعة بأنه يستحق الجائزة بعيدا عن جنسية الفيلم ومخرجته.

الفيلم عن الحياة، صحيح أن الموت يُطل من الشاطئ الآخر، الذى لا يبدو بعيدا، حيث إن كل من نراهم فى الفيلم يعيشون الحياة، ويعيشون أيضا مع الغائبين، حيث تظل المقابر حاضرة بقوة فى الأحداث وفى المشهد العام، بطلة الفيلم تعيش ما يمكن أن تصفه لو كانت الرؤية متعجلة بالمأساة، فهى عاقر لا تنجب، ولديها حلم الأمومة لا يتوقف، لكنها أيضا تملك قناعة بأن تلك هى إرادة الله، هو الذى يمنع ويمنح، وهكذا نتابع بطلة الفيلم حنان وهى تلجأ إلى الطب الشعبى، وما يصل إلى حدود الخرافة والشعوذة، وتتعرض لأقصى لحظات القسوة، وتتحمل نوعا من العلاج اسمه «كاهاروتا»، حيث يتدحرج جسدها على أرض جافة قاسية مليئة بالحجارة عدة مرات، وعليها أن تدفع ثمن الإنجاب بالإحساس بألم أنها تعيش المعاناة فى انتظار الطفل، الذى لا يريد أن يأتى، لكنها لم تفقد الأمل والأطباء أيضا الذين تلجأ إليهم يواجهونها بالحقيقة، لكنهم فى نفس اللحظة لا يقطعون الأمل.

12 عامًا وهى تنتظر هذا المولود، الذى لا يأتى, وترسم يد القدر أهم خط درامى، ويستجيب القدر للدعاء ويستجيب الجسد للحمل، ويحتفل أهل القرية بهذا الحدث بوليمة ضخمة، يشارك فيها الجميع، لكن لحظات السعادة لا تتجاوز مدة شهر، ونعيش المأساة مجددا بعد أن فقدت الجنين، نشعر بفقدان الأمل لكننا لا نخشى على البطلة حنان، فهى سوف تستمر فى الحلم، ربما لم تعد تفكر فى الحمل, ربما، لكنها سوف تعيش الحياة شعارها هو الرضا، إنه مفتاح السعادة، لو أردنا أن نجسد السعادة فى كلمة واحدة لوجدناها فى الرضا.

من عناصر الجذب فى الفيلم هذا المقطع الذى يتكرر مثل «لزمة» موسيقية دائمة، حيث نشاهد أيادى إنسان تحت الماء تتشبث بالحياة، ويتكرر الأمر داخل مقاطع الفيلم، ويأتى المشهد الأخير لحنان، حيث تذوب فى المكان، وتذهب لعمق الكادر، لكننا لم نفقد أبدا التواصل معها، لا تزال تحتل بؤرة المشاعر.

شاهدنا القرية المصرية الفقيرة فى تفاصيلها، لكنها غنية بمشاعرها, حرصت نادين صليب على أن تنقلنا دائما إلى الشاشة، فلا نشاهد فيلما، لكننا نرى مصر بأهلها وناسها الطيبين.

هل كان البحث عن جنين ثم افتقاده هو القضية أم أن المخرجة من خلال هذا الإطار قررت أن تقتنص لمحة مصرية؟ واتسعت الرؤية لتشمل عديدا من الشخصيات داخل تلك القرية, مثل هذا الجد المحب للحياة، الذى يقرض الشعر برغبة جامحة فى الحياة. استطاعت نادين أن تحطم إحساسا بات لصيقا بالفيلم التسجيلى الذى يقع فى قالب التحقيق، وهو سيطرة قانون الريبورتاج التليفزيونى، هذه المرة كانت الرؤية السينمائية هى المسيطرة وعناصر إبداعية تتألق مثل تصوير سارة يحيى وموسيقى رامى أبادير ومونتاج ميشيل يوسف شفيق.

الفيلم يقفز فوق المأساة، ويراهن على الإنسان، الذى يستطيع أن يُمسك بالحياة مهما اشتدت المعاناة, فهناك دائما ابتسامة رضا نعيش جميعا على شاطئها لنتنفس رائحة الدنيا. 

«تيمبوكتو».. الشِّعر يواجه القتل

طارق الشناوي

10/31/2014 06:09:53

لا يمكن أن يعيش الإرهاب والتطرف الذى يتدثَّر بالدين مع الحياة، إنه يتنفس فقط فى تلك اللحظة التى يوجه فيها ضرباته لقتل الحياة.

قالها مارشال ماكلوهان عالم الاتصالات، قبل أكثر من مئة عام مع اختراع الموجات اللا سلكية، إن العالم صار قرية صغيرة، كان يقصد سرعة تداول الأخبار، إلا أننا اليوم نبدو وكأننا نعيش داخل عالم صغير من جماعات إرهابية تنتشر فى العالم كله ترفع شعار زائف عن الإسلام، فى إفريقيا بوكو حرام، وفى اليمن الحوثيون، وفى العالم العربى «داعش» وكلها تنويعات على تيمة واحدة ولحن رئيسى يقطر دمًا عمقه الاستراتيجى تنظيم «القاعدة».

لمحة شاعرية أجدها فى أفلامه على ندرتها، مثل «فى انتظار السعادة» و«باماكو»، وأخيرًا «تمبوكتو»، أتحدث عن المخرج الموريتانى عبد الرحمن سيسيكو، أدرك المخرج أن العنف والدموية من الممكن أن يقهرهما سلاح الموسيقى والغناء بل وكرة القدم، أعداء الحياة يرفعون شعار التحريم لكل شىء، وعندما تمارس ما يحرمونه فأنت تكسب ضربة البداية فى معركة الحياة والموت.

فى لمحة إبداعية خاصة تصل إلى مصاف المشاهد التى لا تُنسى فى تاريخ السينما، اختير هذا المشهد فى هذا الفيلم العربى الإفريقى الذى مثَّلنا فى مهرجان «كان» كعرب وانتقل إلى «أبو ظبى»، وسيظل عنوانًا شديد الجاذبية للسينما العربية فى مختلف المهرجانات، والمخرج عبد الرحمن سيساكو أيضًا صار وجهًا مألوفًا لكل المتابعين للمهرجانات فى العالم.

تمنيت أن أصفّق فى الصالة بعد أن رأيت هذا المشهد عندما منعت الشرطة الإسلامية فى «تيمبوكتو»، وهى أحد القطاعات فى تلك الدولة، من ممارسة كرة القدم بحجة أن الكرة حرام شرعًا، فقرر الشباب أن يواجهوا العنف بالخيال، وضعوا قانونًا جديدًا للعبة وهو لعب الكرة دون كرة، وكانوا يمارسونها بمهارة عليك أنت كمشاهد أن تتخيَّل معهم كيف تنتقل الكرة التى لا نراها من قدم إلى أخرى حتى تستقر فى نهاية الأمر فى الشبكة ويصفقون ويهللون للفائز، تصفق أنت أيضًا معهم للفائز وللمخرج، وهكذا انتصر الفن على أعداء الحياة الذين أرادوا اغتيالها، كما أن الإنسان غريزيًّا يعمل على حفظ النوع، فإنه دون أن يقصد أيضًا يجد نفسه يحافظ على هويته بالحفاظ على تراثه وثقافته وهوايته ومنها بالطبع لعب الكرة، هذا هو السلاح الذى لم يدركوا أن البشر يملكونه، هذا البعد الرمزى الذى صار معادلًا موضوعيًّا للمقاومة، وهو ما عبَّر عنه سيساكو بكل أستاذية وحرفية وخيال جامح، ليصبح المشاهد طرفًا إيجابيًّا.

يبدأ المخرج أحداث الفيلم بلقطة لغزال جميل يجرى بكل رشاقة فى الصحراء وينتهى أيضًا إليها كأنه أمل قادم بالتخلُّص من هؤلاء الدمويين، الشرطة العميلة تعتقد أن الإنسان يتم السيطرة عليه عندما يصبح بلا روح، ولهذا يحرمون الغناء والموسيقى ويطاردون مَن يمارس هذه الفنون حتى يصل بهم الأمر إلى القتل رجمًا بالحجارة وتطالب النساء ليس فقط بتغطية الرأس، ولكن بارتداء قفازات، وفى مشهد تحدٍّ آخر تُقدّم المرأة يديها إلى الشرطى تقول له اقطعها لأنى أستخدمها فى بيع السمك، وتتواصل مشاهد السخرية من هؤلاء المتطرفين الدمويين كأحد أسلحة المقاومة.

العائلة الرئيسة فى الفيلم تتكوَّن من زوجة وزوج وطفلة، والزوج لديه ثمان بقرات يتكسَّب منها، ونلاحظ أن مسؤول الشرطة، وأكرر المفروض أنها إسلامية فى تلك المقاطعة، يتعمَّد أن يذهب إليها فى توقيت غيابه فى محاولة لاستمالة زوجته، الحدث المباشر الذى نتابعه هو عندما يقتل أحد الصيادين بقرة، لأنها دخلت دون أن تقصد إلى شباكه التى زرعها على النهر، وتحدث مشادة يُقتل الصياد وينتهى الأمر بالقبض على صاحب البقرة ولا يستطيع سداد الدية 40 بقرة فينفذ فيه بسكين بارد حكم القتل، يحرص المخرج على أن يقدّم بين الحين والآخر الوجه الآخر للإسلام من خلال رجل الدين يحاول تصحيح الصورة.

لجأ المخرج فى أجزاء عديدة إلى استخدام لغة فصحى مبسطة، حيث إن موريتانيا بها العديد من اللغات، ولكنه لجأ إلى الفصحى المبسطة، ولكن خذله أداء الممثلين بالعربية كان يبدو به قدر من الافتعال.

الموسيقى الإفريقية تمتزج فى لحظات مليئة بالشجن لتشع إحساسًا روحيًّا بل وصوفيًّا بديعًا، المخرج يقدّم صرخة مدوية ضد هؤلاء الدمويين ليؤكد أن الكاميرا والشعر والموسيقى سلاح باتر ينتصر على القنبلة. 

السينما الصامتة.. تنتظر الجائزة

طارق الشناوي

10/30/2014 07:05:24

يقولون دائمًا لدارسى السينما إن الفيلم صورة، والحقيقة أن الفيلم صوت وصورة حتى قبل أن تتعلم السينما النطق كان للصوت دور، لأن دور العرض كانت تستعين بفرقة موسيقية تعزف موسيقى مصاحبة للشريط المرئى.

فى مهرجان «أبو ظبى» شاهدت أكثر من فيلم بلا حوار، ولكنه ليس صامتًا، لأن الموسيقى لم تغب أبدًا عن المشهد المرئى، وتكتشف كلما أوغلت فى الفيلم أنها البلاغة فى التعبير، لا أتصوَّر أن هناك مخرجًا يقرر مثلاً أن يستغنى، على سبيل الاستعراض، عن الحوار ليقول لزملائه أنا قدَّمت فيلمًا بلا كلمات، فى الماضى كانت هناك تجارب تبدو فى ظاهرها أنها ترنو إلى التحدِّى، أى أن السينما تتحدَّى السينما مثل تلك المحاولة التى قدَّمها «هيتشكوك» فى فيلمه الحبل 1948، حيث تعمَّد أن لا يلجأ إلى القطع من لقطة إلى أخرى، ولكن الكاميرا تنتقل مع الشخصية من مكان إلى آخر، كأنه يضحِّى بقيمة المونتاج الذى منح للسينما روحها، وظلَّت تجربة استثنائية، وبعدها بعام شاهدنا أيضًا المخرج البريطانى سيدنى لوميت، يقدِّم تحديًا آخر فى فيلمه «اثنا عشر رجلا غاضبًا» الحاصل على الأوسكار، عندما يضع أبطاله جميعًا داخل حجرة المحلفين، لأن الدراما تطلَّبت ذلك، فكانت الأحداث كلها فى تلك الحجرة، إنها تجارب لا تستعرض إمكانيات مخرجيها بقدر ما تُعبِّر عن منطق فنى، مثلًا قبل نحو عامين شاهدنا الفيلم الفرنسى «الفنان» الحائز على سعفة مهرجان «كان» وأوسكار أفضل فيلم أجنبى وأربع جوائز أخرى للمخرج والبطل والموسيقى والمونتاج، وجدنا الصمت حتميًّا، لأن الأحداث تتناول فنانًا فرنسيًّا كان بطلاً للأفلام الصامتة، ودخل شريط الصوت ليغيِّر المقاييس وفن الأداء، فعاش المأساة بفيلم صامت.

استعراض عضلات المخرج لا يقدِّم فيلمًا جيدًا، ولكن الضرورة الفنية هى التى تمنح للفيلم قيمته.

شاهدت فى مهرجان «أبو ظبى» هذه الدورة فيلمين، واحدًا بلا حوار «تجربة» الروسى، للمخرج إلكسندر كوت، فى المسابقة الدولية «للفيلم الطويل»، (ملحوظة النتيجة تُعلن مساء غدٍ ولا أستبعد حصوله على الجائزة)، والفيلم الثانى «جزيرة الذرة» الجورجى، للمخرج جيورجى أوفاشفيلى، عُرض فى قسم «آفاق» الذى يتناول التجارب الأولى للمخرجين، ولا أستبعد أيضًا حصوله على الجائزة.

فيلم «تجربة» الروسى، بلا حوار، مما دأبنا على أن نصفه بالصامت، رغم أنه فى الحقيقة لا يوجد صمت، هناك شريط صوتى يحمل موسيقى ومؤثرات، فهو فيلم غير ناطق، هذا هو التوصيف الصحيح لتلك الحالة السينمائية. فى أحداث الفيلم نتابع علاقة أب وابنته فى مكانٍ ناءٍ سوف نكتشف كأنه يقترب من نهاية العالم ويعيش يوم الدينونة، أو لعل الأبطال كانوا هم آخر الأحياء من إعصار أسبق أطاح بالحياة على الأرض، لأن الفيلم ينتهى بزلزال مُدمِّر، وفى تلك اللحظة الفارقة تتحرَّك جثة الأب الذى شاهدناه مع اقتراب النهاية مدفونًا تحت الأرض وكأنه يُبعث فى الحياة، بينما الآخرون الذين هم على قيد الحياة يواجهون الموت وينتظرون بداية البعث.

منذ عام 1927 والسينما تلهث وراء الصوت، حتى إنه قد تم نقل المسرحيات إلى الشاشة فى «برودواى» بأمريكا مع بداية دخول الصوت، لتصبح هى المادة الأكثر شعبية للجمهور وهو يتلهَّف لسماع الحوار، مع الزمن كل شىء فى الإبداع يخضع لمبدأ فنى وهو الضرورة والتكثيف، فلا توجد مجانية فى لقطة أو كلمة.

فيلم «تجربة» يتوقَّف أمام العلاقة، أب وابنته وشابان يتصارعان حولها، وعندما تختار الثانى يبدأ العراك، قبلها كنا قد شاهدنا اللمحات الأخيرة لرحيل الأب الذى يتعرَّض للابتزاز، لا شىء من الممكن أن تحكيه كدراما، ولكن هناك حكاية أنت تصوغها بعد نهاية العرض، الفيلم غنى فى القوة التعبيرية التى تحمل شحنة انفعالية أكثر مما تحمل جماليات مباشرة، وهذا هو الجمال الفنى، العالم يوشك على الوداع، هكذا قرأت الصورة الأخيرة للفيلم، وإن الحياة ربما كانت قد دُمّرت من قبل وهؤلاء هم مَن تبقوا فقط على الأرض، وينتهى الأمر بدمار الحياة لتبعث من جديد ربما.

ويأتى الفيلم الجورجى «جزيرة الذرة» بقليل من الحوار، ولكن الصمت هو المسيطر، يروى الفيلم علاقة بين جد وحفيدته وجزيرة لا تتجاوز بضع عشرات من الأمتار، يزرعون فيها الذرة ويأتى الحصاد ليقطفوا المحصول ويضعوه فى مركب مع نهاية العرض رغم المخاطر، لتنجو به الحفيدة، بينما الجد الموفور القوة هو الذى نراه بعد أن توقَّعنا غرقه متحديًا الإعصار، حيث شاهدناه فى لقطة سابقة ممسكًا بعود قوى من الخشب، هذا الرجل القوى البنية رغم ما يحمله من سنين، نراه يصنع منزله من الأخشاب المتوفرة ونكتشف أو هكذا يشى الفيلم بأن هذه رحلة سنوية ولها موسم محدد، رجال الحدود العسكريون يلقون دائمًا نظرة متفحصة ولديهم قدر من الشك أن هناك هاربًا قد تسلَّل إلى تلك الجزيرة المحدودة المساحة وفى وسطها المنزل الخشبى وأمامها قارب صغير تعبر به الابنة النهر وتذهب للدراسة وتعود، ولا يخلو الأمر من معاكسات على الضفة الأخرى تأتى من الجنود، بينما نرى الجد يُطلق رصاصًا فى الهواء، معلنًا بنظرات عينيه قبل صوت البندقية عن غضبه.

بين الحين والآخر يُطل على المشهد قائد فرقة عسكرية ويتشكَّك فى وجود متسلل مصاب يختفى بين أعواد الذرة ربما وجد فى الجزيرة فرصة لمكان آمن، لماذا لم يسلّم لهم الجد هذا الهارب؟ هل هو رافض لهم فتستَّر عليه رغم ما قد يناله من عقاب؟

المشهد الأخير نراه بعد الإعصار الذى أطاح بكل شىء فى الجزيرة ولم يبقَ غير المحصول الذى تم إنقاذه عن طريق الحفيدة التى استقلَّت بمفردها المركب، ولا ندرى ما مصير الجد حتى نراه يعود مجددًا لينقذ دمية من قماش احتفظت بها الحفيدة وتأتى يد الجد المدربة إلى الجزيرة لتلتقط الدمية كأننا ننتظر مجددًا أن تتكرر الحكاية وتعود الجزيرة وتنمو الأشجار، ويواصل الجد وحفيدته الحياة ليبنيا عشهما الخشبى وليبدآ فى رمى حبات الذرة على تلك الأرض الخصبة، لا تسأل عن قيمة الذرة ولكن قيمة النضال من أجل هدف يتكرر كل عام، إنه يوم الحصاد والحساب.

الحياة والموت والخوف والنضال، كيف يعبّر عنها الشريط السينمائى الذى يتخلله الصمت إلا أنه فى كل الأحوال بليغ فى المعنى وفى التعبير، استطاع المخرج أن يضعنا دائمًا فى موقف إيجابى نؤازر الجد وحفيدته من بطش البشر وقسوة الطبيعة.

السينما تظل هى السينما فى علاقتها بالصوت والصورة، لا توجد قاعدة مطلقة، وهكذا مثلا نرى فى قسم العروض العالمية بالمهرجان فيلمًا للمخرجة الشهيرة ليف أولمان، عن مسرحية أوجست ستريندبرج «مس جوليا» فى عمل فنى يعتمد أساسًا مثل كل المسرحيات على الحوار بين السيدة والخادم، ورغم ذلك فقد كانت بلاغة السينما حاضرة.

أنت لا تستخدم الحوار، لأن السينما متكلّمة ولا تستغنى عنه، لأنك تريدها صامتة، ولكن هناك الضرورة والحتمية فى الحالتين.

ويبقى قبل أن أنهى معكم هذا المقال أن أقدّم لكم المشهد الواقعى فى أثناء عرض فيلم «تجربة»، حيث إن الأب فى الفيلم كان ينام على سريره وفجأة استمعت إلى صوت شخير فى البداية توقعت أنه مؤثر صوتى، ولكن استيقظ الأب فى الفيلم، بينما لا يزال الصوت يملأ القاعة ضجيجًا، وتنبَّهت إلى أنه يأتى من رجل يجلس على كرسى فى الصف الخلفى واحتاج الأمر إلى أكثر من هزّة حتى يستيقظ، ومع اقتراب النهاية عاود الرجل الصوت كأنه يتحدَّى صمت السينما! 

المخرج يقول: أنا أهه أنا أهه

طارق الشناوي

10/29/2014 06:04:22

لكل مقام مقال، حكمة دائمة وعميقة وهى تصلح قانونًا للإبداع عندما يصبح الشكل هو بالتحديد الموضوع، فلا ترتدى الأعمال الفنية إطارًا خارجيًّا بقدر ما تفرض روحها زيها.

مع اللقطة الأولى حرص المخرج إبراهيم البطوط على أن نظل نتابع البطل بدون أن يلجأ إلى القطع ولم أستشعر إلا أنها لمحة استعراضية عندما تطول اللقطة لتُصبح هى المشهد بدون ضرورة درامية، وسوف تلمح بعد ذلك أن هذا هو قانون المخرج إبراهيم البطوط فى كل تفاصيل فيلمه «القط»، كأنه يقول لجمهوره «أنا أهه أنا أهه، عاجبكم إخراجى».

أتابع تجربة البطوط بقدر كبير من الاهتمام وعلى مدى عشر سنوات منذ أن قدم فيلمه الروائى الأول «إيثاكى» وأتذكر أننى كنت عضوًا فى لجنة تحكيم المركز الفرنسى ومنحته اللجنة وقتها بالإجماع الجائزة، وبعدها تتابعت أفلامه، وكان أفضلها، ولا يزال هو فيلمه الثانى «عين شمس»، إلا أن أهم ما قدمه البطوط للسينما المصرية حتى الآن ليس الأفلام التى عليها توقيعه كمخرج، ولكن أنه صار ملهمًا لجيل جاء بعده وواصلوا الطريق لما دأبنا أن نطلق عليه فى مصر «سينما مستقلة»، فهى تسمية تحتاج إلى كثير من التمحيص ليس الآن مجالها.

جاء البطوط إلى أبو ظبى بفيلمه «القط»، تلمح فى ثنايا المعالجة رغبة تجارية لزيادة دائرة الاهتمام الجماهيرى على حساب الرؤية الفنية، إنه الاسم الحركى لبطل الفيلم عمرو واكد وتوقف أمام قضية شائكة، وهى الاتجار بالأعضاء، وهى ليست منظومة فساد محلية فى العالم كله، بل هناك تجارة عالمية، سبق مثلا قبل أقل من عام أنْ شاهدناها مؤخرًا فى «الحرامى والعبيط» بطولة الخالدَيْن «صالح والصاوى» وإخراج محمد مصطفى.

وأفلام البطوط لا يمكن إلا أن تعبر عنه بكل التفاصيل، فالقط يطارد تلك العصابات المنتشرة والفيلم أراد بتعسف أن يمنحه عمقا فكريا ميتافيزيقيا، بينما الأمر لا يعدو كونه رؤية تجارية، فهناك اشتغال على مستوى الصورة لنرى ثراء وزخمًا فى الكادر، وأيضا الصوت بتلك التراتيل الدينية الصوفية، ثم انتقل فى لقطات تصلح أن تُصبح بمثابة عمل فنى خاص، ولو حذفتها ما تأثرت الأحداث، حيث تمتد الرؤية من مصر الفرعونية إلى الأديان الثلاثة «الإبراهيمية» اليهودية والمسيحية والإسلامية، فى مشاهد أراد منها أن يتناول عمق التاريخ المصرى سبعة آلاف عام من الزمان، عُمر الحضارة الضاربة فى الجذور، ولكن ما علاقة كل ما نراه بالاتجار بالأعضاء البشرية، ثم ألقى بشخصية فاروق الفيشاوى فى ملعب الدراما ومنحها فى النظرة والأداء قدرًا من الغموض وتابعنا الاتجار بأشكاله المتعددة فى أجساد النساء، فهو كما يقدمه الفيلم اللاعب الأكبر فى تلك المنظومة.

ما الذى يعنيه هذا الإحساس بالغناء الصوفى والموسيقى التى قدمها أكرم الشريف ونجم الدين شاهين سوى إطار جمالى صوتى. كأنها قضية كاجوال أراد المخرج أن يُلبسها أسموكن.

عمرو واكد، بطل الفيلم لديه فى مشواره وجهان وخطان متوازيان، هو أولا أكثر هذا الجيل حرصًا على بناء مشروعه فى السينما العالمية بدأب وآخرها فيلمه الفرنسى العالمى «لوسى» الذى قدم خلاله قفزة نوعية عندما لعب دور ضابط فرنسى، أى أن ملامحه العربية لم تكن هى الدافع لترشيحه.

أما على المستوى المحلى فمنذ أن شاهدته فى أول أفلام المخرج مروان حامد «لى لى» قبل 15 عامًا وبعدها انطلق مع أسامة فوزى فى «جنة الشياطين» ومنهج عمرو هو الدور قبل البطولة، فهو يراهن على الممثل، قبل «القط» شاهدناه فى «الشتا اللى فات» أيضا مع إبراهيم البطوط، ولا يزال عمرو محليا يقف محلك سر.

ويبقى البطل الثانى فى الفيلم فاروق الفيشاوى، لم يعد فاروق يبذل أى جهد فى الشخصية ومفتاحه هو الأداء الخارجى وغالبًا ما يصل إليه من أعمال تكتشف أنه كان الترشيح الأخير لإنقاذ الموقف.

وجود عدد من الوجوه الجديدة مثل سارة شاهين، ملكة جمال مصر، ولكن لا يوجه المخرج ممثليه كما أن الآخرين فى أدائهم لدور البلطجية لجؤوا إلى قاموس المبالغة، كأنهم يعيدون لنا شخصيات سابقة التجهيز الدرامى.

كالعادة استمعنا إلى من يقول فى الندوة التى أعقبت الفيلم: لماذا كل هذا العنف وكل تلك القذارة فى الشارع المصرى؟ ويبقى أن من حق المخرج أن يقدم كل ذلك وأكثر، ولم تكن هذه أبدًا هى المشكلة، ولكن مأزق البطوط أنه أراد أن يقول فى «القط» كل شىء، فلم يقل أى شىء! 

الرمال تتكلم سينما

طارق الشناوي

10/28/2014 07:08:52

«ذيب» والرقص إبداعًا على إيقاع الصحراء!

يأخذك الفيلم من مقعدك فى دار العرض لتجد نفسك وقد أصبحت مشاركا الأبطال على الشاشة، هذا هو إحساسى بالفيلم الأردنى «ذيب».

تشهد الأردن بحق بداية نهضة سينمائية تابعتها قبل سنوات فى عديد من المهرجانات، هذا الفيلم تحديدًا يلعب فى مساحة مختلفة، حيث إن الملعب الدرامى الوحيد هو تلك البيئة البدوية والصحراء الشاسعة، فهى المقدمة وهى عمق الكادر أيضًا. بالمناسبة، تخصص فى تلك النوعيات فى الماضى مخرجنا الكبير نيازى مصطفى مع زوجته كوكا التى كانوا يطلقون عليها نجمة الشاشة البدوية، حيث كانت المبارزة بالسيف هى العنوان وفى الكادر الرمال والجمال والخيل وكلمتان باللهجة البدوية أو على طريقة «مجنون ليلى» لأمير الشعراء أحمد شوقى والدويتو الشهير بين محمد عبد الوهاب وأسمهان وتلك الشطرة الشهيرة «جئت تطلب نارًا أم جئت تُشعل البيت نارًا».

هذه المرة نعيش الصحراء والمقاومة والاتجار بكل شىء حتى الإيمان، والتضحية فى سبيل المبدأ بكل شىء حتى الروح، الفيلم لا يطلب نارًا، بل يشعل هذه المرة الشاشة بنار ووهج الإبداع.

المخرج الأردنى ناجى أبو نوار يقدم فى أول أفلامه الروائية وبمشاركة من باسل غندور فى كتابة السيناريو تلك الرؤية التى تُقدم لنا عالم الصحراء فى الحرب العالمية الأولى، الأحداث تجرى عام 1916 بعد اندلاع الحرب بعامين وكيف نواجه الإمبراطورية العثمانية التى تفرض هيمنتها على العالم العربى، نحن أمام ثلاث قوى، الأولى هى أهل الصحراء أصحاب الأرض وهم يعملون فى مهنة الدليل الذى ينقل الحجيج من تلك البقعة للحج إلى بيت الله الحرام، وهى مهنة متوارثة فى تلك العائلة، والثانية قُطّاع الطرق الذين لا يعنيهم سوى الاستحواذ على المال والخيل والجِمال تحت تهديد السلاح، ثم الغزاة الذين يريدون السيطرة على مقدرات الوطن.

نحن نتابع هذا الشريط من خلال رؤية تحمل قدرًا يفيض بالطزاجة الإبداعية، حيث إن البطل هو الطفل الذى أدى دوره جاسر عيد، لم يصل بعد إلى مرحلة المراهقة، وكان عليه وهو فى بكارة العمر أن يعيش تفاصيل يتعرف عليها للوهلة الأولى ليكتشف معنى الوطن والشرف والنضال والقتل والتضحية والحيلة والصراع من أجل البقاء.

صندوق القنبلة الخشبى الذى يحوى آلة تفجير يصبح حافزًا قويًّا ومؤثرًا ومباشرًا يزيد من جرعة الترقب، فهو يظل يهددك كمتفرج بالانفجار وليس فقط الأبطال على الشاشة. إنه يبدو للوهلة الأولى سلاحًا من أجل مزيد من التشويق، وكلما اقترب أحد، خصوصًا الطفل، من هذا الصندوق تزداد درجة الخوف، ولكن فى الحقيقة هو يتجاوز ذلك بكثير، حيث يصبح رمزًا لكشف غموض الحياة التى ربما فى لحظات تبدو هى أيضا قنبلة على وشك الانفجار فى وجه من يقترب منها.

الحالة التى عليها الشاشة حتى فى الصمت كانت تعبر عن عين تلتقط الصورة برؤية مزدوجة، بقدر ما هى كشفية فإنها أيضا درامية وجمالية. الصحراء من خلال عين المخرج تشع حضورًا وإبداعًا وتتحدى الفقر الظاهر والمباشر الذى يبدو للوهلة الأولى فى الصورة المتكررة بالضرورة قبل أن تنضح بكل تفاصيل الجمال، وتبقى أهم مشاهد الفيلم عندما يلجأ بطل الفيلم «ذيب» إلى البئر لكى يحمى نفسه من الموت المحقق ومن مطاردة قُطّاع الطرق حتى ينجو فى اللحظات الأخيرة. أنت تتابع التفاصيل بعيون طفل يمسك بحبل النجاة الذى يتدلى من أعلى، ويزداد الترقب عندما يقطعون الحبل، وفى تلك اللحظة تتحول سواعده الصغيرة إلى مخالب تمسك بالصخر وهى تتشبث بالحياة داخل البئر. وينجو من الموت ولكنه يقترب منه عندما يصبح لزامًا عليه أن يتحمل مسؤولية دفنه. اللمحة الثانية علاقته بقاتل أخيه وكيف أن كلاًّ منهما فى حاجة إلى بقاء حياة الآخر لتستمر الحياة، الطفل ينقذه من موت محقق بعد أن أخذ منه المسدس ومنحه الماء قبل أن يُقتل ظمأ، وفى نفس الوقت ينقذه قاتل أخيه من انفجار الصندوق الذى يحوى القنبلة.

كل العناصر الإبداعية تفوّقت، خصوصًا الموسيقى، فهى تلعب دور البطولة، كما أن هناك إحساسا شاعريا يغلف الصورة رغم قسوة المكان وتوحشه وفقره الظاهر، ويبقى فن قيادة الممثل، وهو ما برع ناجى أبو نوار فى تحقيقه، من خلال قيادته للطفل، حيث حافظ المخرج تمامًا على درجة تلقائيته أمام الكاميرا، وهى بقدر ما تبدو مهمة سهلة، تكمن صعوبتها.

كيف تستطيع أن تحكم على العمل الفنى؟ كثيرًا ما أواجه هذا السؤال ودائمًا لدى نفس الإجابة، وهى ببساطة أن أترك نفسى ومشاعرى للشريط على الشاشة، لا أحاول فى أثناء المشاهدة استرجاع شىء أو المقارنة أو المقاربة، فقط أمنح العمل الفنى كل إحساسى، وعندما يستحوذ علىَّ أبدأ فى اكتشاف الإجابة، وهو ما حاولت أن أرصده فى هذا المقال. 

انتفاضة الحليب

طارق الشناوي

10/27/2014 06:50:14

به سحر سينمائى ولديه موقف وتشى ملامح الشريط بقدر لا بأس به من روح الطفولة بشغبها وبراءتها، أتحدَّث عن فيلم «المطلوبون 18»، الرقم كما يبدو لك فى البداية هو 18 فدائيًّا، ولكنهم فى الحقيقة 18 بقرة لعبت دورًا فى الانتفاضة الفلسطينية الأولى «1987- 1993» واعتبرتها جهات الأمن الإسرائيلى مطلوبة للاعتقال. تواكبت تلك الواقعة الموثقة مع اتفاقية «أوسلو» التى تصوَّر للعرب ومن بينهم الفلسطينيون فى البداية أنها تحمل الخير وسوف تضع حدًّا ضد التعنت الإسرائيلى، ولهذا وكما أشار الفيلم كان الأهالى الواقعون تحت الاحتلال يضعون الورود فى فوهة البنادق الإسرائيلية، ولكنهم اكتشفوا أن إسرائيل لا تتنفس سوى رائحة البارود ولا تعيش الحياة إلا مع الدمار والقتل.

المخرجان الفلسطينيان عامر الشومالى والكندى بول كاون، يقدّمان رؤية عميقة للصراع بقدر ما تبدو على السطح بسيطة، إنها المقاومة يا عزيزى، وما أدراكم ما المقاومة، نعتقد دائمًا من خلال صورة نمطية مباشرة أن المقاومة هى أن يفجِّر فدائى نفسه فى معسكر للأعداء، ولكنها فى الحقيقة وجه واحد فقط، الاستعمار عندما يمتد كل هذه السنوات، تجاوز 6 عقود من الزمان، تُصبح المقاومة على مختلف الأصعدة هى السلاح الدائم والباتر. مَن يريد أن يقتلك هو لا يغتال الجسد فقط ولا تنتهى قضيته عند إراقة الدماء، إنه يريد أولاً أن يقتل الروح. المغتصب أحال كل شىء عربى الانتماء إلى إسرائيلى المنشأ، الماء والأكل والتليفون والأغنية والموسيقى، إنهم يريدون أن يُصبح الوطن تابعًا لهم بينما الفيلم يقول إنه لا حرية دون اكتفاء ذاتى، احتلوا مساحة من الجغرافيا، ولكن الروح تقفز فوق كل الحدود فكانت البقرات هى حليب الانتفاضة.

الحكاية ربما للوهلة الأولى تبدو مختلقة من فرط غرابتها، ولكن اكتشفت أنها موثقة وشهودها لا يزالون أحياء، قرية واقعة تحت الاحتلال تُدعى «بيت ساحور» فى الضفة الغربية، قرر سكانها أن يشهروا كل أسلحة المقاومة، لدينا أطفال الانتفاضة هؤلاء الذين كانوا يرشقون بالحجارة الجنود الإسرائيليين فى تعبير واضح يؤكّد أن المقاومة فى جينات البشر ولم تغادرهم وانتقلت من الجدود إلى الأحفاد، وربما بعد مرور كل هذه السنوات تصل روح المقاومة إلى أحفاد الأحفاد، وهذا هو الخطر الحقيقى الذى يُرعب الاحتلال.

لم تعد الحدود فاصلة بين الأنواع المختلفة فى السينما بين الدرامى والتسجيلى، ولا حتى بين النوع الواحد، ينتقل المخرج الآن بحرية أكبر، وبعض الأفلام مثلاً اعتبرها عدد من المهرجانات تسجيلية، بينما نفس هذه الأفلام فى مهرجانات أخرى صُنّفت باعتبارها روائية، الأمر فى الحقيقة ليس مُطلقًا ولا يُمكن أن يصبح كذلك، ولكن هناك عادة شىء ما يغلب على روح الفيلم وقد ينطوى الروائى على نبض تسجيلى والعكس أيضًا صحيح. «المطلوبون 18» يُصنَّف كفيلم تسجيلى، ولكن المعالجة فرضت خيالاً جامحًا يصل إلى استخدام أسلوب التحريك فى التعبير، ينطلق المخرجان مع الزمن وتتغيَّر أيضًا المرحلة العمرية بين زمن الحدث وتوقيت صناعة الفيلم، المخرج الفلسطينى عامر شوملى هو الذى يروى ويتذكَّر تلك الأحداث عندما كان طفلاً، وعلى الفور نُطل كمشاهدين على الفيلم من خلال عيون الطفل، عندما اشترى أبناء القرية تلك البقرات من إسرائيل ليمتلكوا من خلالها قدرًا من الاكتفاء الذاتى، وعندما تُصبح البقرة هى البطل علينا أن ندخل إلى حالة فكرية أخرى وملمح آخر، فكان لا بد من استخدام التحريك حتى يتم التعبير عن هذا الخيال الجامح. ويظل المخرجان ينتقلان بين أشكال السرد المختلفة لنعود بعدها أيضًا بحرفية وألق فنى من التحريك إلى الواقع، ثم ننطلق إلى التوثيق، الذى يضبط ويشير إلى حقيقة الحدث.

لو تأملت الفيلم فسوف تكتشف أن كل شىء له مردود تاريخى وله منطق خاص فى التعبير عنه، حتى الخيال مهما اشتد لا تتجاوز دائرة اتساعه وتحليقه حدود الوثيقة.

المخرجان ينطلقان بسلاسة وحرفية بين الأنماط المختلفة، ويُدخلانك كمتلقٍّ باعتبارك طرفًا أصيلاً فى تلك اللعبة السينمائية، حتى إنه فى لحظة فارقة عندما تجد أن الفلسطينيين يريدون بيع البقرات مجددًا لإسرائيل، تقول إحدى البقرات وكأنها محلل سياسى يذكّرنا بالمنتشرين عبر الفضائيات هذه الأيام: «باعنا الفلسطينيون مثلما باعنا من قبل الإسرائيليون».

لم يغفل الفيلم روح المقاومة، ولهذا ومع اقتراب النهاية نرى بقرة صغيرة تقفز من فوق سور المزرعة وتذهب إلى الصحراء وكأنها تواصل المقاومة مجددًا بعد أن اعتبرتها قوات الاحتلال مطلوبة للاعتقال، وحتى يمنح المخرج الفلسطينى لتلك الواقعة روح الحقيقة نراه مع نهاية الحدث وهو يبحث عنها فى الصحراء.

فيلم ممتع فى بنائه الفكرى وتركيبته السينمائية المتفردة وأيضًا المتمردة. 

«من ألف إلى باء».. فيلم إماراتى «من ألف إلى ياء»

طارق الشناوي

10/26/2014 06:24:32

خطوة على الطريق تعوزها شاشة أكثر جاذبية!

اختيار صحى وصحيح أن يُفتتح مهرجان «أبو ظبى» السينمائى فى دورته الثامنة بفيلم «من ألف إلى باء»، فهو فيلم إماراتى من «ألف إلى ياء» رغم ما شاب الحالة السينمائية من هنّات على مستوى الدراما والإخراج.

كثير من الطموح صاحَب هذا الفيلم للمخرج الإماراتى على مصطفى، فهو حلم أيضا للسينمائيين الخليجيين، المقصود بالعنوان من «أبو ظبى» إلى «بيروت»، تلك هى الرحلة التى انتظرها الأصدقاء الثلاثة، المصرى شادى ألفونس، والسعودى يوسف البتيرى، والسورى فادى رفاعى، حيث تتعدد الأحلام وتتباين المشكلات.

إنها رحلة ممزوجة بالشجن والوفاء، مع إطلالة سياسية، فهى قد تواكبت مع ثورات الربيع، حيث تجرى الأحداث فى نهاية 2011، فكان لا بد أن يقول المخرج رأيًا، لا تستطيع أن ترى شيئًا إلا أن هناك إرادة قوية لتقديم فيلم إماراتى فى عناصره، لترد بقوة وعمليا على مقولة استمعنا إليها مع بداية انطلاق مهرجان «دُبى» السينمائى قبل نحو عشر سنوات، وهى كيف نصنع مهرجانات خليجية وليس لدينا سينما؟ هل الأقلام تُنجب مهرجانات، أم أن العكس هو الصحيح؟ ومؤخرًا جاء الرد عندما أنجبت المهرجانات أفلاما، فى كل الأحوال، ليس هذا هو الفيلم الروائى الأول فى الإمارات، فنفس المخرج عُرض له فيلم «دار الحى» شاهدته قبل خمس سنوات فى مهرجان «دُبى»، حيث تناول التعايش داخل دولة الإمارات التى تضم على أرضها عديدًا من مختلفى الجنسيات يصل إلى 200، فى ظل منظومة حضارية تضع حقوق الإنسان أولا، كى يتعايش الجميع.

الفيلم يحاول أن يُمسك بخيط، لينتقل إلى بعض القضايا العربية ويمسّ فقط من بعيد لبعيد أكثر من لمحة اجتماعية، أشرف على كتابة السيناريو محمد حفظى. والعديد من عناصر الفيلم دراميا وبصريا بحاجة إلى مراجعة إبداعية، حتى لا تبدو مجرد ظلال لشخصيات. السيناريو بدأ بفكرة لامعة، ولكن كما أنه وقف على الحدود السعودية للتفتيش، وأحال الموقف الجاد إلى مجرد نكتة، وقف أيضًا بتردد فى التعمق بالنقد الاجتماعى، ولم يحمل السيناريو وهج الابتكار. المخرج على مصطفى كان يلامس تلك المواقف بحذر وحساسية مفرطة، فقط تناول الشاب السعودى الذى يريد الاستقلال عن هيمنة والده، ولكنه اقتصاديا يعتمد عليه. الرحلة البرية تبدأ من «أبو ظبى»، حيث يقيم الأبطال الثلاثة، وتنتقل إلى السعودية، ثم درعا بسوريا، وأخيرًا إلى بيروت، حيث مقبرة صديقهم الراحل، ونكتشف فى تلك اللحظة أنه مسيحى الديانة. المخرج وقف على الحياد اجتماعيا وسياسيا، فلم يستطع، أو بتعبير أدق يبدو أنه تعمد أن لا يُدلى بدلوه فى تلك القضية الشائكة، وهى ثورة الربيع العربى، واختار سوريا بوضعها الحالى الملتبس، فأجاب أنه مع الشعب وضد القتل، ولم يدن لا الثورة ولا بشار، فقط وجَّه شحنة الغضب إلى الإرهاب المسلح ليظل على الحياد.

الرحلة تحمل رغبة الصديق الرابع اللبنانى الراحل فى تحقيق أمنيته، وتتردد فى الأحداث، ولكن بمفردات أخرى، تلك الحكمة القديمة التى تقول «اختر الرفيق قبل الطريق»، ولكن الشريط السينمائى يبدو محملا بمواقف كان ينبغى أن نراها معادلا موضوعيا للدنيا، إلا أن الفيلم كثيرًا ما كنت أراه معادلا موضوعيا للسينما المصرية القديمة الأبيض والأسود، من خلال تراثها القائم على ضرورة إيجاد النكتة الحراقة، فهى فى النهاية مواقف أرشيفية، كان الهدف من تلك المشاهد هو خلق مساحات تحمل جذبًا، لمجرد أنها تملأ زمنًا، فبدت ثقيلة على السيناريو وأفسدت الإيقاع، كما أنها من زاوية أخرى أفقدت الفيلم خصوصيته على مستوى البناء الدرامى والبصرى.

الفيلم يقع فى إطار «سينما الطريق»، تلك الرحلة التى يستغرقها أبطال الفيلم وتمنح فرصة للانتقال بين الشخصيات، وأيضًا تحمل قفزات فى الأحداث. هذا القالب السينمائى الشائع يبدو على السطح كأنه يمنح المخرج حرية مطلقة، ولكنه فى الحقيقة يضع كل ذلك فى إطار فنى صارم، وهو مع الأسف ما لم يستطع صُناع الفيلم أن ينجحوا فى عبوره إلا قليلا.

الفيلم قدم ممثلا موهوبا، هو أحد نجوم برنامج باسم يوسف «البرنامج»، وهو شادى ألفونس، كان لافتا وتلقائيا. يبقى، رغم كل هذه الملاحظات، أننا بصدد خطوة صحيحة على الطريق تستحق أن لا تظل مجرد خطوة! 

«أبو ظبى» يقص الشريط!

طارق الشناوي

10/25/2014 07:46:33

النجوم يتنقلون «كعب داير» بين المهرجانات العربية.. و«القاهرة» يعانى فى الحصول على عرض أول مصرى

بعرض فيلم «من ألف إلى باء» للمخرج الإماراتى على مصطفى، قص مهرجان «أبو ظبى» أول من أمس فى دورته الثامنة شريط البدء فى سباق المهرجانات العربية، وكأنها ساعة الذروة، حيث يخرج الجميع من عملهم فى نفس التوقيت، ويتدافعون للعودة إلى منازلهم فى نفس الشوارع، وهكذا يمتد الصراع إلى المهرجانات العربية، ليصبح حادا وشرسا على عديد من الأفلام، خصوصا العربية، للفوز بعرضها الأول. أغلب هذه المهرجانات يضع الفيلم العربى فى ذروة الاهتمام، ناهيك بالطبع من أن الفيلم الأجنبى المتميز والحاصل على دب «برلين» أو سعفة «كان» أو أسد «فينسيا» وغيرها يصبح هو الآخر هدفا لا يستهان به. بعد إعلان نتائج «أبو ظبى» بنحو أسبوع يبدأ ماراثون المهرجانات العربية لتشتد سخونته من «القاهرة» إلى «قرطاج» إلى «مراكش» إلى «دبى»، وهذا العام افتتح «الجزيرة» الوثائقى فى نفس توقيت «أبو ظبى»، وكان قبلها «الدوحة» يقام فى توقيت متقارب، وقبل أربع سنوات احتل «دمشق» مساحة دائمة داخل هذا الحزام الزمنى الخانق، لكن منذ الثورة وتعثرها والمهرجان السورى أيضا متعثر.

تشعر وكأن النجوم والأفلام العربية تنتقل من مهرجان إلى آخر وهى تردد أغنية أحمد عدوية «زحمة يا دنيا زحمة/ زحمة ولا عدش رحمة».

بعض الأفلام وعدد من النجوم صار الأمر بالنسبة إليهم «كعب داير»، يتنقل بين كل المهرجانات، وسوف تكتشف مثلا أن مهرجان «القاهرة» خلال السنوات الأخيرة من الممكن أن تصل إلى خمسة عشر، وهو يعانى فى الحصول لا أقول فقط على فيلم عربى كعرض أول بين كل المهرجانات، لكن أيضا كعرض مصرى، هذا العام مثلا يُعرض الفيلم المصرى «القط» لإبراهيم بطوط فى «أبو ظبى»، وغالبا سيعرض فيلم «قدرات خاصة جدا» لداوود عبد السيد فى «دبى».

بالتأكيد قيمة الجائزة المادية التى تمنحها المهرجانات الخليجية تلعب دورا، كما أن بعض هذه الأفلام يحصل على تمويل من صناديق تابعة لها، ولهذا تفضل أن تعرض الفيلم فى تلك المهرجانات. ملحوظة: نجحت إدارة مهرجان «القاهرة» فى الحصول على عرض أول للفيلم الفلسطينى «عيون الحرامية» لنجوى النجار للمسابقة الرسمية، وأيضا الفيلم المصرى «باب الوداع» لكريم حفنى، لكن هذا بالطبع لا يعنى أن الأمور جميعها تحت السيطرة. لا يزال الأمر خاضعا لعديد من التوازنات، ولك أن تعلم مثلا أن «دبى» فى العام الماضى عرض ثلاثة أفلام مصرية جديدة. إدارة مهرجان «القاهرة» ليست جهة منتجة للأفلام، وبالتالى غير مسؤولة عن عدم مشاركة الأفلام المصرية أو العربية. تضاءل الحرص من منتجى الأفلام على الوجود فى المهرجان، خصوصا بعد انطلاق مهرجانات خليجية، وهى على الترتيب طبقا للأقدم زمنيا «دبى» 2004، «أبو ظبى» 2007، «الدوحة» 2009. ثلاثة مهرجانات تمنح السينما العربية مساحات من الاهتمام، وأيضا ترصد جوائز تصل إلى قرابة مليون دولار، ولهذا فإن المنتجين والنجوم والمخرجين صاروا يفضلونها خليجيًّا.

تاريخيًا، مهرجان «القاهرة» هو أول مهرجان عربى يرصد ميزانية للفيلم العربى الفائز مقدارها 100 ألف جنيه، وذلك قبل نحو 15 عاما، وكانت تساوى وقتها 30 ألف دولار. الآن لا تتجاوز، بسبب ضعف الجنيه المصرى وهوانه على الدولار، 15 ألف دولار، وهو مبلغ هزيل لو قارنته بالمهرجانات الخليجية الثلاثة. أضاف المهرجان جائزة إلى السيناريو بنفس القيمة، لكن فى كل الأحوال الإغراء المادى لم يعد يُشكل أى عامل جذب. ويبقى سؤالان.. الأول: هل المهرجانات العربية تتمتع بحرية مطلقة فى تحديد مواعيدها؟ الحقيقة أن شركات الطيران وإدارات الفنادق تلعب دورا فى تلك المواعيد، وهكذا ستستمر سنويا حالة الزحام. والسؤال الثانى وهو خاص بالسينما الخليجية التى كان يلاحقها منذ عام 2004 مع انطلاق مهرجان «دُبى» سؤال عن جدوى إقامة مهرجانات فى الخليج فى ظل عدم توفر أفلام خليجية؟ وهو ما أجاب عنه مهرجان «أبو ظبى» 2014 بعرض الفيلم الإماراتى «من ألف إلى باء» فى الافتتاح، ونستكمل الإجابة غدا.

التحرير المصرية في

 
 
 
 
 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)