أحد أبرز رواد الواقعية الجديدة، دخلت أفلامه ذاكرة السينما
المصرية منذ نهاية السبعينيات. «فتاة المصنع» حاز جوائز عدة في
المهرجانات، وتصدّر شباك التذاكر في المحروسة. في مناسبة طرح «متروبوليس
أمبير صوفيل» الشريط بدءاً من الغد، حلّ المخرج المعروف محمد خان
(1942) ضيفاً على بيروت. «الأخبار» التقته لدردشة حول العمل
ومشاريعه الجديدة ونظرته إلى التطوّرات والأحداث السياسية
■
أكثر ما هو ملفت في «فتاة المصنع» هو جمالية لغته البصرية رغم
صعوبة ذلك لأنّ أحداث الفيلم تدور في الحارات الشعبية والبيوت
الضيقة والمزدحمة، لكنك تخلق من كل ذلك جمالية خاصة يمكن تسميتها
بجمالية العشوائيات (كادرات فوضوية وغير تقليدية، حيث تستكشف عبر
الكاميرا مساحات العشوائيات الضيقة في ما يشبه المتاهة)، من أين
تنبع هذه الرؤية الإخراجية وكيف نجحتَ في تحقيق ذلك تقنياً؟
المكان يفرض عليك الأسلوب السينمائي. أماكن التصوير كانت كلها ضيقة
وأنا شخصياً أحب الأماكن الضيقة في الأفلام. لا أحب الاستوديوهات.
كانت أكبر مشكلة عندي أنّ البيوت في الحارات حيث صور الشريط قديمة
ويصعب إدخال المعدات داخلها. كان يستحيل أن تتحرك الكاميرا فيها
على «شاريو» (عربة تصوير)، فاكتشفت تقنية الـ «سلايد» في التصوير
التي لم أستخدمها قبلاً وهي اختراع سمح لي بأن تتحرك الكاميرا من
دون الاستعانة بمعدات ضخمة. أضفتُ حيوية على التصوير في هذه
الأماكن الضيقة من خلال الكاميرا المتحركة، وإلا كان الجماد سيطغى
على اللغة السينمائية. أحياناً، تلعب المعدات دوراً في طريقة
التعبير. والفيلم في النهاية حصيلة ثقافة ورؤية. أما الأسلوب فيأتي
بصورة عفوية. لا ألجأ كثيراً إلى التقطيع السينمائي المسبق،
وأتعامل غالباً مع المكان الذي يفرض نفسه كما نرى في اللقطة التي
تُظهر هيام (ياسمين رئيس) وهي تمشي بجانب السور والمترو الذي يمر
حيث نرى غرافيتي من الثورة لسعاد حسني. ثم هناك الخطوط السينمائية
التي يرسمها التقاطع بين اتجاه هيام والمترو الذي يمرّ. لكن ذلك
كان مقصوداً. هكذا تخيلت المشهد بعيني المجردة لكن لم يكن سهلاً
تحقيق ذلك، فاضطررت لاستخدام سيارة نقل كي آخذ اللقطة من الزاوية
التي أريدها.
■
في أفلام سابقة، صوّرت العشوائيات والمناطق الفقيرة في القاهرة
بطريقة أكثر سوداوية كـ «أحلام هند وكاميليا» أو مشهد يحيى
الفخراني في «خرج ولم يعد» وهو يجوب الحارات المتسخة والمهملة
بينما في «فتاة المصنع» تظهر العشوائيات والحارات الشعبية بطريقة
مختلفة أكثر إيجابية إلى حد ما؟
كان هناك اتفاق بيني وبين مصممة الأزياء والمصوّر على أن تكون
ألوان الفيلم حيوية ومبهجة كي تتناقض مع الواقع. وهذا ما طغى على
أسلوب الفيلم. حتى لو كانت المناطق التي نصوّرها فقيرة، فليس
ضرورياً أن نراها بطريقة سوداوية. أردت من خلال ذلك أن أدخل شيئاً
من البهجة على الشريط.
■
المشهد الأخير لهيام في عرس صلاح حين تخلع حجابها وتضعه حول خصرها
وترقص بشعرها القصير ونظراتها الملتبسة بين الحضور والغياب، هو من
أقوى مشاهد الفيلم وأكثرها تعبيراً كأنها تتحرر من الحلم و الواقع
معاً، كيف اخترت هذه النهاية وماذا تمثّل لك؟
الثورة كانت تجربة مهمة لكنّها سُرقت ونحن نطالب بدولة مدنية
علمانية وليس عسكرية
في ذلك المشهد، تحرّر هيام روحها. في نهاية فيلم «شقة مصر
الجديدة»، تركب البطلة وراء حبيبها على الدراجة النارية وتفك شعرها
أيضاً. وهذا يمثل لي نوعاً من التعبير عن تحرّر المرأة وانعتاقها
من كل القيود والمحظورات حتى من قيد الواقع الذي يمثله العريس صلاح
الذي لا نراه بشكل واضح بل بشكل مشوش بينما هيام ترقص. تقصدت ذلك.
أحياناً، تكون اللغة السينمائية أكثر بلاغة من الكلام.
■
كيف اخترت ياسمين رئيس لأداء بطولة الفيلم الذي تألقت فيه رغم أنها
ممثلة غير معروفة؟
ياسمين رئيس لم تتقدم في البدء لأداء بطولة العمل. كنتُ قد شاهدت
أداءها في فيلم «واحد صحيح» لهادي الباجوري الذي هو زوجها. لفتتني
خلال تجارب الأداء لأنّها تكلمت عن نفسها وأعجبت بهذه المصارحة مع
الذات. في اختياري للممثلين، أعتمد على الحدس. ياسمين رئيس امرأة
جميلة والتحدي الحقيقي كان أن يتخطى المشاهد جمالها من خلال أدائها
لشخصية «هيام» لأنّ ما يتناوله الفيلم هو صلبها وليس جمالها.
■
منذ فيلمك الأول «ضربة شمس» حيث نرى المشهد الأول لنور الشريف مع
نورا في شقته مصوّراً علاقة الحب الحرة بينهما خارج إطار الزواج
الذي يميل في أسلوبه إلى تيار الموجة الجديدة في السينما وصولاً
إلى «فتاة المصنع» في الحارات الشعبية حيث كل الفتيات محجبات، كيف
تقرأ التغيرات التي حدثت في مصر وفي الأفلام التي قدمتها للسينما
بتنوع الشخصيات التي عرضتها وخلفياتها الاجتماعية والطبقية
المختلفة؟
حين قدمت هذا المشهد الافتتاحي في «ضربة شمس» (1978)، كان جريئاً
حتى بالنسبة إلى تلك الحقبة وفي مجتمع شرقي. ربما ذلك يعود إلى
دراستي السينما وإقامتي في إنكلترا لمدة 12 سنة. كان من حظي أن
أعيش في انكلترا في الستينيات لأنها كانت مرحلة ثرية في السينما
والفنون مع الـ «بيتلز»، والـ «رولينغ ستونز». كانت هناك موجة من
التمرّد في الفن والاستفادة الحقيقية لم تكن فقط من مدرسة السينما،
بل من وجودي هناك في هذه الفترة وتأثري بالموجة الجديدة
وبأنطونيوني. حين يبدأ المرء، لا يعرف السينما التي يريد الخوض
فيها. لكن في رابع أفلامي «طائر على الطريق»، عرفت أنّ تلك هي
نوعية الأفلام التي أريد إخراجها لاحقاً. «سينما الشخصيات» تجذبني
ومن خلالها أخلق الحكاية. أما بالنسبة إلى التغيرات التي ألمت
بمصر، فهناك مشهد معبّر في «فتاة المصنع» حين تخرج الأم الفساتين
المكشوفة التي كانت ترتديها قديماً من الصندوق، فتقول لها بناتها:
«ده عريان» فترد عليهن: «في زماني أنا ما كانش عريان». لكن مع كل
الثورات التي حدثت، أعتقد أنّ الأشياء هي قيد التحول، وهناك عدد
متزايد في مصر من الفتيات اللواتي يخلعن الحجاب يوماً بعد آخر.
■
في أحد مشاهد «فتاة المصنع» نرى هيام واقفةً عند الجسر، تتكلم عن
الرغبة الجنسية ولو بأسلوب غير مباشر. كذلك الأمر في مقاطع أخرى من
الفيلم، وأيضاً في فيلمك السابق «بنات وسط البلد» تسأل هند صبري في
مشهد اعتبر صادماً الرجل الذي تواعده متى فقد عذريته. إلى أي درجة
ما زال الجنس تابو في السينما المصرية والعربية؟
لا أستطيع أن أخرج فيلماً صريحاً جنسياً للأسف، مع أن الجنس جزء من
حياتنا. لا نستطيع التعبير عنه لكن نلمح إليه. ذلك هو الحجاب
الافتراضي الذي نضعه. القيود التي تحاصرنا. في فيلمي المقبل «قبل
زحمة الصيف»، أرغب بأن يعبر الفيلم بشكل أساسي عن الرغبة الجنسية
من دون أن نرى فعلياً مشاهد جنسية. هذا يمثل تحدياً بالنسبة إلي.
فكرة الفيلم خطرت لي حين ذهبت مع زوجتي في عطلة في أحد أيام الشتاء
إلى ما يشبه قرية على البحر مؤلفة من الشاليهات، وكنا فقط بمفردنا
برفقة شخص آخر. تخيلت فيلماً تدور أحداثه في فترة مماثلة وفي مكان
مشابه مع خمس شخصيات من طبقة مختلفة تماماً عما رأيناه في «فتاة
المصنع».
أرغب بأن يعبّر فيلمي المقبل
«قبل
زحمة الصيف» عن الرغبة
الجنسية بشكل أساسي
■
حصلت أخيراً على الجنسية المصرية بعد انتظار طويل، لمَ لم تمنح
الجنسية قبلاً ولم الآن؟
حصلت على الجنسية المصرية قبل سفري أخيراً إلى لبنان. كانت هذه
المرة الأولى التي أستخدم فيها الباسبور المصري بدلاً من الإنكليزي
رغم أنني ولدت وعملت وعشت في مصر وأنا في الحقيقة قدمت للجنسية منذ
فترة طويلة وهي لم ترفض فعلياً، إلا أنه لم يحرك أحد ساكناً ولم
تتخذ خطوات إيجابية في هذا الشأن وبقيت مسألة معلقة إلى أن قمت
بتصريح إعلامي أعلنت فيه أنني لا أريد الجنسية إلا إذا هي قدمت لي.
وهذا ما حدث. حصلت على الجنسية بقرار جمهوري وأحسست بأن ذلك كان رد
اعتبار لشخصي.
■
كيف عشت الثورة؟
أكيد الثورة كانت تجربة مهمة جداً لكنها لم تكتمل. لقد سرقت، لكن
أعتقد أنه سيأتي يوم ستقوم فيه ثورة ثانية.
■
من الذي سرق الثورة؟
الذين لا يريدونها، الذين يستفيدون من غيابها.
■
هل يتحمّل الإخوان المسؤولية الأكبر في ذلك؟
ليس فقط الإخوان. ليس لهؤلاء أسماء، فهم طبقة. لو أدار الإخوان
البلاد بطريقة جيدة، لتقبّلهم الناس. لكنهم لم يعرفوا كيف يديرونها
ونشروا الفساد، و لم يقوموا بأي تغيير إلا نحو الأسوأ.
■
في «فتاة المصنع»، ألا توجّه انتقاداً للإخوان في المشهد الذي
تتحرّر فيه هيام من حجابها؟
كلا، هيام لا تفكر بهذه الطريقة. الثورة في الفيلم عندي ليست سوى
خلفية في مدينة متوترة، يعني حتى حين تمرّ تظاهرة أمام هيام، لا
تلفت انتباهها.
■
لماذا اخترت أن تضع الثورة في خلفية الفيلم ولا تصوّرها فعلياً؟
لأني إذا تجاهلت ذلك، لن يتمتع الفيلم بالمصداقية لأن المدينة فيها
ثورة وهي في حالة توتر دائم. نسمع في الفيلم صفارات الإسعاف ونرى
الغرافيتي على الحيطان. كان الوقت مبكراً جداً والثورة لم تنضج
بعد. أنا كنت ضد صناعة أفلام عن الثورة في هذه المرحلة.
■
هل تظن أن وصول عبد الفتاح السيسي إلى الحكم سيكون مفيداً لمصر؟
وألا يتعارض ذلك مع الأهداف التي قامت عليها الثورة؟
هو وصل فعلاً، وعملية التأليه هي المخيفة. أنا لا أشك أنه رجل وطني
ويريد صالح بلاده، لكن نحن نريد الخطو بمصر نحو دولة علمانية مدنية
وليس عسكرية. لكن في الوقت عينه، أنا أختلف مثلاً مع أولادي الذين
هم ضد آرائي. أولادي ربما ثوريون أكثر مني. أنا أحس أن مصر اليوم
بحاجة إلى حل صارم. هناك فوضى لا يمكن تخيلها، تحتاج إلى يد من
حديد لإدارة البلاد لأنّها تنهار اقتصادياً، والمشاكل ليست من
الداخل فقط بل هناك أطماع من الخارج في مصر، أميركية بالذات. هي لا
تريد أن تكون مصر قوة في المنطقة لأنها تهدد مصالحها والعرب بدأوا
يتوحّدون للمرة الأولى وهذا أيضاً يهدّد مصالحها.
■
هناك خيار محير يحكم الحبكة الروائية لـ «فتاة المصنع» هو أنّ هيام
لا تبرر أو تدافع عن نفسها حين تتّهم بأنّها حامل بل تكتفي بالصمت
لكن في نهاية الفيلم نكتشف أنها عذراء؟
الأمر الوحيد الذي ندمت عليه في الفيلم أنّه عندما يزور صلاح صديقة
هيام في المستشفى تخبره أن هيام ما زالت عذراء: «سليمة، بختم ربها»
لأنّ هذه ليست القضية. كانت هذه الجملة مكتوبة في النص الأصلي الذي
كتبته زوجتي وسام سليمان لكنني رأيتها غير مناسبة، وهي اقتنعت معي
لكن كان الوقت متأخراً لتغيير ذلك.
■
في عدد من أفلامك كما في «فتاة المصنع» حيث هيام تحلم بسعاد حسني،
تصوّر علاقة شخصياتك مع أبطال السينما والأفلام ، كأنّ هناك دائماً
السينما داخل السينما؟
منذ نشوء السينما، هناك أجيال تربت على أفلام معينة وتأثرت بها لأن
دماغنا يخزّن تأثير هؤلاء النجوم (الأيقونات) في طريقة حياتنا.
■
كيف كانت علاقتك بسعاد حسني ولمَ قررتَ إهداءها هذا الفيلم؟
أفتقد سعاد حسني جداً. كانت صديقة، وشيء حزين أنها انتحرت، منذ زمن
طويل. حين كنت في بيروت عملت مساعد مخرج وكان هناك مخرج اسمه سيف
الدين شوكت أخرج لسعاد عدداً من الأفلام. كان يروي لنا أنّها كانت
متحررة، وكان حبّها للحياة متطرفاً وعاشت طفولة صعبة. كل ذلك نضج
معها عبر السنين من خلال أفلامها. حين عملت معي في فيلم «موعد على
العشاء»، كانت تهتم بأدق التفاصيل في تمثيلها. كانت ممثلة نادرة
وعزيزة على قلبي، وأنا كنت أريد عبر هذا الفيلم أن أصوّر سعاد
الحية في وجدان «هيام» ومئات البنات مثلها. كنت أريد أن يتعرف
إليها من لا يعرفها ويتذكرها من نسيها. أحسست أنني مدين لها بهذا
الإهداء وهي بصوتها أنتجت طاقة في الفيلم كالنشوة. أنا استخدمت
مقاطع من برنامج تلفزيوني حيث تغني سعاد من دون موسيقى. فكرة إضافة
أغنيات سعاد حسني إلى الشريط الصوتي للفيلم خطرت لي أثناء المونتاج
وليس خلال التصوير. |