"فتاة
المصنع" استمرار لأسلوب محمد خان المميز.. الأسلوب السهل الممتنع..
شديد البساطة. بالغ العذوبة. ينبض بالواقعية. غني بالدلالات...
تلك صفات مجردة. مجرد جُمل قصيرة بينما شريط خان السينمائي يتجاوز
ذلك كله.! إذ كيف تجسدت هذه الصفات؟ وكيف شكلت عالماً حياً قائماً
بذاته؟ يمتلئ بالشخوص. بالمواقف المؤثرة. ثم كيف تقاطع ثم تلاقي
ذلك العالم الواقعي القحُ لفتيات كادحات داخل مصنع لصناعة الملابس
مع صوت سعاد حسني. وأغنياتها العاطفية التي تعكس مشاعر ونبضات قلب
فتاة مصرية من زمن آخر؟؟ سعاد حسني كانت ومازالت وسوف تبقي في
وجدان أجيال تالية. إنها "البنت المصرية" هكذا في المُطلق. وفي كل
تجلياتها. في الحب. في العذاب. في الألم. في الفرح الخ الخ.
"هيام"
فتاة المصنع. بورتريه من نفس ألبوم هند وكاميليا واستمرار لهما في
ظروف ومرحلة اجتماعية أصعب.. ولكنها مثلهما تمتلك نفس الروح
القادرة علي التحليق. نفس الإرادة القوية لفك قيودها.
الفيلم صنع تشبيكة فنية جميلة بين صوت من زمن فات. وصورة من واقع
معاش في تفاعل عاطفي دافئ!
أتمهل ــ أثناء الكتابة ــ كي استرجع من جديد تفاصيل عالم يمتلئ
بالحيوية والدُعابة والمرح وأيضاً بالأحلام المحبطة والانكسارات
العاطفية ويشيع البهجة في مواجهة المعاناة والكلام اليومي..
نحن أمام شريحة عريضة من إناث في عمر الورود.. في بداية العشرينات
من العمر عاملات في مصنع يجلسن أمام ماكينات الخياطة. يثرثرن.
يفتحن مكنون صدورهن. ينتزعن من شُح الواقع وجفافه ساعة مرح وطراوة
ورحلة قصيرة إلي شاطئ البحر.. جميعهن يسكن "العشوائيات" ويحلمن
بالبيت وابن الحلال وهن علي يقين انه حلم طبيعي بعيد وصعب المنال
في زمن عرف "العنوسة" وباتت ضمن مشكلاته!!
علي الجانب الآخر.. أمهات يتحايلن علي الحياة. يعملن في وظائف
متواضعة لا تفي بأقل القليل من احتياجهن. تعملن في بيوت من هم أكثر
ثراء. أو يعملن بــ "الدلالة" أي بيع الملابس الصينية بالتقسيط
المريح لربات البيوت.. نساء لسن مستضعفات ينتزعن لحظات بهجة ويشعن
مشاعر الأمل.
الكاميرا تصف وتشي وتكشف ما تعنيه كلمة "عشوائيات" الشوارع ضيقة
تتسع بالكاد لسيارة واحدة. الشرفات متلاصقة. حبال الغسيل تتلامس.
علي الجانبين البيوت العالية في الشارع الضيق تبدو من أعلي مثل بئر
عميقة. الشقق الضيقة تسكنها نساء متزوجات. ومطلقات وحوامل ينتظرن
ساعة الميلاد. الواقع يصخب بالعراك بالاشتباكات. بالتوقعات بشر
تتداخل حياتهم. وأفراحهم. وغضبهم. وعراكهم. وتتوحد آلامهم. ساعات
الجد!
الحياة تبدو كما هي في الواقع. بعبلها. بلا ديكور ومن دون تزويق.
وبلا مكياج مبالغ فيه. ولا ملابس من خارج البيئة أو الذوق السائد
في هذه الشريحة الاجتماعية. المصداقية وجوهر الواقعية حاضران عبر
العناصر الفنية المرئية "المكياج ــ الديكور ــ الملابس".. حالة
مصرية مائة بالمائة. الملامح مصرية قحُ. والملابس مما طرأ عليها من
تجريف فما نلاحظه عموماً يعبر عن ذوق سقيم أصاب القامة مثلما
أصُيبت أشياء أخري كثيرة من ملامح المجتمع ولكن يتبقي الجوهر
والخلاصة وحالة البهجة الكامنة التي تنط من جوه صدور البشر في أحلك
الأوقات ويحل التصالح بالقدرة علي تجاوز الكوابح!!
"فتاة
المصنع" "هيام" مثال نموذجي جسدته "ياسمين رئيس" علي نحو آسر من
فرط صدقه وقدرة الممثلة الشابة علي تمثيل الشخصية والتعبير الدقيق
عن تركيبتها الإنسانية!!
فتاة أكملت الواحد وعشرين ربيعاً. العمر المثالي لتحقيق الأحلام.
وللأشواق العارمة لرفيق عمر. ولذروة الأحاسيس.
سيناريو وسام سليمان يؤكد مُجدداً قوة الملاحظة ومنتهي الحساسية
والمهارة في انتشال التفاصيل الخاصة الدقيقة من سياق عام مزدحم
بالتفاصيل العادية. أيضاً قدرتها البصرية عند رسم ملامح الشخصيات
ومنح خصوصية وتفرد لبطلات أفلامها "أحلي الأوقات ــ بنات وسط البلد
ــ في شقة مصر الجديدة".
بطلة "فتاة المصنع" "هيام" ابنة شرعية نموذجية للشريحة الشعبية
العاملة ــ وهيام ضمن فريق من عاملات مُتقاربات في السن. لسن كتلة
واحدة. ولسن هوامش في محيط هيام. فلكل واحدة منهن ملامحها وشخصيتها
وحوارها وإفيهاتها.. فالحوار هنا عنصر عضوي في بنية الفيلم وفي
تأثيره الكلي.
عنبر التشغيل داخل المصنع. مكان حقيقي. مكان يمتلئ بماكينات
الخياطة. يعج بالعاملات من نوعية بسمة و"نصرة". وأخريات وإلخ. لا
تحضرني جميع الأسماء وإن شد انتباهي أداء ممثلات مبتدئات لعبن
أدوارهن بقدرة تعبيرية مقنعة "ابتهال الصريطي. حنان عادل....".
تبدأ الأحداث بتوديع المشرف القديم علي المصنع "خيري بشارة"
واستقبال آخر جديد. "عادل هاني" شاب أعزب. وسيم. لا يضع دبلة في
اصبعه ــ وافرحتاه ــ مشروع محتمل لزواج غير محتمل ولن يتحقق بسبب
الفارق الاجتماعي!!
"هيام"
تهيم حباً وتعلقاً بالمشرف الجديد "صلاح" تكن له عاطفة مجانية.
تحلم بقربه. تخطط للقاءات معه. تعرض خدماتها علي أمه وأخته. تمنحه
في غياب الأسرة قُبلة توحي بما هو أكثر حتي يظن زميلاتها بأن ما
جري أثمر جنيناً. فتحوم ظلال من الشك حول "هيام". ويحيط بالحكاية
نفسها أجواء من الغموض أجدها متعمدة من قبل مؤلفة الفيلم بهدف
تكريس حالة من الترقب وتسخين مشاعر التوتر التي تسود في المصنع
وتنتقل إلي الأسرة. وتدفع الأم "عيده" "سلوي خطاب" إلي حالة من
الهلع والغضب والثورة وقد ظنت أن "هيام" ابنتها وقعت في المحظور
وأن الفضيحة آتية لا محالة.. والمجتمع لا يتحمل ــ نظرياً الانحراف
رغم انحرافاته الرهيبة العملية.
و"هيام" مثل جميع بطلات محمد خان. أنثي جديرة بالاحترام. لديها قوة
داخلية. تضمن لها الاستمرار رغم اضطهاد المجتمع وظروفه غير
المحتملة ورغم الثورة المجتمعية التي أشار إليها الفيلم في مشهد
قصير وعابر وذلك بعد اللقاء المهين بين "هيام" و"صلاح" داخل احدي
الكافتيريات.. اللقاء الذي ذهبت إليه وقلبها يرقص من شدة الفرح.
ظناً منها أن صلاح يدعوها شوقاً. بينما الحقيقة أنه يريد أن يبدد
الوهم الذي تعيش فيه ويتنكر لأي مسئولية بعد أن شاع كذباً خبر
حملها منه!
ويتزامن لحظة خروجها من المقهي كسيرة القلب. مع مرور مسيرة ثورية
تنادي بالعيش والحرية والكرامة الإنسانية. ويهتف المشاركون فيها
بأن صوت المرأة ثورة وليس عورة.
في السياق السردي للفيلم يبدو هذا المشهد العابر ولكنه تعليق عميق
الدلالة. يؤكد علي حالة التناقض الشديد بين الحلم الثوري والواقع
الكابوسي. وبأن المجتمع لم يتغير.. وتوقيت حدوثه في السياق يضع تحت
هذا المعني خطاً عريضاً.
وفي مشهد لاحق يعمق هذا الإحساس المروع بالظلم الواقع علي المرأة
من خلال مشهد الجدة وهي تدوس بقدمها علي وجه حفيدتها وتجز شعرها
بالمقص عقاباً علي فعلتها التي سوف يتضح لاحقاً براءتها منها.
فالمرأة ممثلة في عاملات المصنع تواجه نقائص مجتمع مسكون بالأوجاع.
بالجهل. بالخرافة. بالموروثات الثقافية الجائرة. بالانحياز الفطري
ضد الأنثي. لمجرد كونها أنثي.
فالفيلم ليس حدوتة أو مجموعة من الحواديت المسلية أنه فيلم تشاهده
وتستمتع به وتتأمل البورتريهات الجميلة التي رسمتها ممثلات قديرات
لعبن دور الأمهات.. سلوي محمد علي في دور "سميرة" المرأة المطلقة.
الكادحة التي تعمل في البيوت سراً إلي جانب وظيفتها كعاملة
تليفونات. أنها أيضاً الأنثي التي لم تخمد بداخلها الرغبة الحسية
ولم تتخل في نفس الوقت عن مسئوليتها كأم.. وسلوي خطاب في دور "عيدة"
أم من طبعة أخري ليست أقل تفرداً. فلكل واحدة من المرأتين تفردها
وسلوكها الممزوج بالحس الشعبي والثقافة الشعبية المؤمنة بتأثير
الأحلام. ووقعها علي العامة من الناس. والمشهد الانتقامي الذي لجأت
إليه في مواجهة الجدة العجوز التي قامت بجز شعر ابنتها استخدمت
"عيده" سلاح "الحلم" أي المنام. ونسجت الحكاية الطريفة الملفقة
التي جعلت العجوز تنهار وتُسلم رعباً من دلالة الحلم الذي يعني قرب
رحيلها!
ذكاء وسام سليمان مؤلفة الفيلم أنها نسجت "اشتغالات" طريفة ومدهشة
من الثقافة الشعبية المتجذرة في العقل الجمعي. أقصد قراءة الفنجان
والإيمان بالطالع وتفسير الأحلام والرموز التي أصبح لها دلالات
خاصة مُسلم بها. وقد استخدمتها الكاتبة ووظفتها من خلال الشخصيات
كمصدر للتفاؤل مرة ونذير شؤم مرة أخري. وسلاح للإيهام بهدف هزيمة
الخصم.
وخفة روح المخرج وبفضل ادواته الطيعة وخياله المتسق مع الحس
الشعبي. جعلته يترجم بصرياً هذه "الاشتغالات" بمعناها الدارج
الشعبي إلي مشاهد مشبعة بروح الفكاهة والدعابة الفطنة.
أجمل ما في فيلم "فتاة المصنع" أنه عمل متفائل.. راقص المشاعر إذا
صح التعبير.. يعزف علي أوتار الألم من دون كند. ويملأ الوجدان
بالشجن بشحنات من الحنين ويجعل من الفن الصادق والأصيل ملاذاً
للباحثين عن تحرر الروح والمتعة والترفيه الإنساني الطيب.
مشهد النهاية يعتبر قصيدة بصرية تعبيرية عن ذروة الشعور بالتحرر.
باستعادة الروح. بتجاوز الجروح العاطفية.. مشهد راقص من نوع خاص..
وزفاف غير تقليدي تتراجع فيه صورة العريس والعروس إلي الخلفية
وتطمس معالمها. وتحتل المقدمة بدلاً منها علي المستوي المعنوي
والمرئي صورة "هيام" فتاة المصنع الشابة التي بلغت سن الرشد.
وأصابها سهم الحب. دون أن يقتلها. وتلقت طعنة في صميم كبريائها ولم
تستسلم للهزيمة. و"ندرت" في المقابل أن ترقص في عُرس الرجل الذي
أهانها وكسر فؤادها. وتعالي علي مشاعرها وسخر منها.. فجاءت رقصتها
بلغة تعبيرية بليغة. وعلي أنغام أغنية لسيدة الغناء العربي أم
كلثوم هذه المرة. وليست سعاد حسني. الموسيقي. ولغة الجسد وتعبيرات
الوجه.. وما يصاحب هذا كله من إيحاءات ومعان.
بورتريه بديع لأمرأة فقيرة الحال. غنية المشاعر. تفتح ذراعيها
للحياة وللحب. |