محمد خان الذي سبق أن
أهدى السينما المصرية أفلاماً أساسية، على غرار "زوجة رجل مهم"
و"أحلام هند وكاميليا" (1988) شارك أخيراً في مسابقة مهرجان دبي
السينمائي العاشر بفيلمه الجديد "فتاة المصنع" الذي أعاده إلى
الواجهة بعد ستة أعوام من الانقطاع. كان صاحب الـ23 فيلماً ابتعد
عن السينما لأسباب خارجة عن إرادته: صعوبات إنتاجية، وضع سياسي غير
مستقر، مشاكل صحية. عودة هذا السينيفيلي الكبير خلف الكاميرا جرى
الاحتفاء بها صحافياً وجماهيرياً. في ختام المهرجان، فاز الفيلم
بجائزة النقاد الدوليين ("فيبريسي"). وجائزة أفضل ممثلة ذهبت إلى
بطلة الفيلم المصرية الفلسطينية ياسمين الرئيس، في أول دور أساسي
لها على الشاشة، ما أفرح خان الذي كان وعدها بجائزة منذ أيام
التصوير.
يلتقط خان في "فتاة
المصنع" نبض بيئة مصرية "تحت الضغط" من خلال الصراع الطبقي ووضع
المرأة راهناً، في فيلم إخراجه ممسوك ونصّه ديناميكي وإيقاعه ممتاز
تحضر فيه روح الراحلة سعاد حسني التي يعتبرها خان "جزءاً من
الثورة"، ثورة لم تكتمل بعد فصولها الأخيرة. يتمحور الفيلم حول
فتاتين هما هيام وبسمة وما في داخلهما من أحلام وعاطفة وطموحات
تتبلور وتصمد في بيئة "معاكسة" ذات قسوة واضحة. بالنسبة لخان هذا
فيلم حبّ أولاً وأخيراً، بين فتاة تعيش في العشوائيات وشاب من
عائلة مكتفية. ولكن هيام فتاة تكسر القيود الاجتماعية وتتغلب على
الإحباطات، أمّا الشاب فلا يستطيع ذلك. في مجتمع على شفير اليأس
وفوق بركان مدينة متوترة تعرف هيام كيف تفكفك أغلالها لتصل إلى
الحرية المنشودة.
·
كيف خرجت فكرة الفيلم؟ يبدو أن إنجازه كان مشواراً طويلاً لا سيما
وأنه تزامن مع اندلاع الثورة في مصر...
بدأت فكرة الفيلم
كبذرة. كنت أريد إنجاز هذا الفيلم عن فتاة تعمل في مصنع. كانت فكرة
صغيرة ثم تطورت. ذهبت كاتبة السيناريو وسام سليمان لتختبر التجربة
في مصنع. ذهبت لتعمل في مصنع نحو عشرة أيام من دون أن تكشف هويتها.
أرادت لمس الأجواء والغوص في تفاصيل العمل اليومي لمصنع. تطلب
الموضوع سنتين قبل أن يكون هناك سيناريو بين أيدينا. حصل هذا كله
قبل اندلاع الثورة. خلال تلك الفترة، كنت أحاول تحقيق مشاريع أخرى
ولكنها لم تتحقق لأسباب انتاجية. كانت لي مشاريع ثلاثة. ثم تعرضتُ
لنوبة قلبية عام 2005 منعتني من مواصلة العمل. كان لي مشروع فيلم
أحمله منذ أكثر من 15 سنة اسمه "نسمة في مهب الريح"، مشروع لم يخلُ
من المشاكل. بعد نجاح "شقة مصر الجديدة" (فيلمي ما قبل الأخير)،
كانت غادة عادل تريد المشاركة فيه، ثم عادت عن قرارها. فتضايقتُ
كثيراً، الأمر الذي تسبب لي بنوبة. هذا أيضاً أبذر أشهرعدة من
حياتي. في هذه الأثناء، كان السيناريو في طور الكتابة وتلقيتُ
دعماً مالياً لأفلمته. تعرفتُ في غضون ذلك على المنتج الشاب محمد
سمير، واقترحتُ عليه أن نعمل معاً. في تشرين الثاني 2012 بدأنا
التقاط المشاهد، وفي تشرين الثاني من العام التالي، كان الفيلم
جاهزاً للعرض. صوّرنا لفترة ستة أسابيع. كان المشوار طويلاً.
·
يطرح الفيلم من جملة ما يطرحه معاناة المرأة في المجتمع المصري.
وبما أن السيناريو يحمل توقيع امرأة وأنت محاط بنساء كثيرات في هذا
الفيلم، فقل لي كيف كانت تجربة التماهي مع النظرة النسائية الملقاة
على واقع ذكوري؟
هذه ليست المرة
الأولى التي أروي فيها حكاية من وجهة نظر امرأة. أنا الذي كتبتُ
"أحلام هند وكاميليا". ليس لي أيّ مشكلة في هذا الصدد. حتى في "سوبرماركت"
الذي ألفه عاصم توفيق أو في "بنات وسط البلد" الذي ألفته وسام
سليمان. ربما لأنني أحب البنات (ضحك). في معظم أفلامي البطل رجل.
"فارس المدينة"، "الحريف"، "ضربة شمس". ربما هذا تأثير السنّ فيّ،
بتّ أحتاج إلى مزيد من الرقة والحنان. هذا احتمال. لم يكن هذا
شيئاً مخططاً. أعترف أن الشخصيات هي التي تقودني إلى الحكاية، سواء
كانت شخصية رجل أو امرأة. حالياً، أرغب في أن أنجز فيلماَ عن
"مخربشة" مثلاً. تعرف ماذا يعني "مخربشة"؟ إنها شبيهة بأمراة في
الشارع، تضربك إذا كلمتها. أريد شخصية شرسة كهذه.
·
هل حقيقة أن الفيلم لا يتناول واقع الحال سببت لك مشكلة؟ علماً أنك
وجدت حلاً لمشكلة الثورة عبر إدراج مشهد لثوار ومتظاهرين نراهم
يمرّون في خلفية الصورة...
لم يكن لي مثل هذا
الهمّ أبداً. هذا المشهد وضعته ليصبح الفيلم آنياً. أضفت المشهد
لاحقاً خلال التصوير. كنت أريد إضافة مشهد تظاهرة. في البداية، كان
لي فكرة أن أدخل أصواتاً مثل صوت الإسعاف والشرطة إلى الشريط
الصوتي. أو أن ألتقط تفاصيل أخرى مثل أن نعلم بوجود ثورة من خلال
ظهور جريدة أو غرافيتي على الجدار، وكل ما يثبت وجود توتر في مدينة
ثائرة. لكن، لم أكن أريد أن أزيح عن خطي الدرامي لأي سبب من
الأسباب.
·
أنت تعتبر أيضاً أن الثورة موجودة في شخصية هيام...
هناك روح الثورة في
الفيلم، وهيام شخصية ثورية بامتياز. حركتها الأخيرة عندما تنزع
الحجاب هي حركة ثورية. سعاد حسني التي أهديتُ إليها الفيلم هي
الأخرى ساكنة في وجدان البنت المصرية والعربية. سعاد بالنسبة إلي
تمثل حالة شخصية. أنجزتُ معها "موعد على العشاء". نذرتُ أن أهدي
اليها هذا الفيلم. هدفي من الإهداء أن يتذكرها مَن نساها وأن يتعرف
عليها من يجهلها. يجب القول إن "فتاة المصنع" فيلم عن العدالة
الاجتماعية وهي تيمة موجودة في كل أفلام جيلي. كلنا عبرنا التجربة
ذاتها، وليس غريباً علينا أن نتكلم عن الثورة الاجتماعية. الفكرة
تأتي دائماً من حالة ألتقطها من حولي. لي نظرة اجتماعية. أستطيع
القول إنني اشتراكي غصباً عني. من دون فلسفة أو فذلكة. لا أعتقد أن
هناك فنان حقيقيا ليس اشتراكياً. ماذا تعني الاشتراكية؟ انها
العدالة وقدر أقل من الفقر. عندما كنتُ صغيراً، في كل مرة أعود من
المدرسة، كنتُ ارى أمي تفترش الأرض وتتناول الطعام مع الخادمة.
تعلمتُ في بيتنا هذا النوع من الاشتراكية. لي في الإسكندرية صورة
برفقة والديّ، وهند الشغالة، على أحد الشواطئ. كنا نجلس على البلاج.
هذه أشياء لها تأثير باطني في وجداني.
·
ماذا تغير بين الزمن الذي انطلقت فيه واليوم؟
تغير الزمن تغييراً
جذرياً. أصبحت اللعبة اليوم في أيدي التجار. في أيامنا، كنا نحن
مَن يتحكم باللعبة. اليوم التجار هم الذين يقودون المراكب. هذا
تغيير شامل. إن كنت ما زلت أنجز الأفلام إلى اليوم، فالحقيقة أنني
أنجزها بالعافية. لا فرق عند التجار بين مخرج وآخر. المشكلة أنه لا
مجال للآخرين. الاحتكار الحاصل في دور العرض هو الذي يحدث هذا
الخلل.
·
الفيلم محلّي جداً، سواء بصميم الحكاية أو بطريقة المعالجة، ما قد
يشكل عائقاً امام الجمهور الأجنبي للدخول في أعماقه...
نستطيع أن نقول الشيء
نفسه عن فيلم إيطالي. الإيطاليون يكثرون من الكلام أيضاً. نحن وهم
ننتمي إلى الثقافة نفسها. لا أعتقد أن هذا عائق. لا أميل إلى
الفولكلور في السينما. أنجز أفلامي لمصر أولاً ثم للعالم العربي ثم
للعالم أجمع. اذا تم قبولها في أماكن أخرى، فهذا يسعدني. لا استطيع
ان أدعي انني اخاطب الشعب اللبناني أو السوري أو غيرهما من الشعوب.
قد نتشارك الكثير من المشاكل، لكن طريقة التعبير عنها يختلف من بلد
لآخر.
·
هذا فيلم مناخ أيضاً وخصوصاً، ولا يقتصر على الحكايات الميلودرامية
المتداخلة التي ترويها...
في البداية، لا أقول
حتى نحن في صدد مشاهدة حدوتة أي من الفتيات. هذا شيء كنت قصدته منذ
البدء. ثم، تبرز هيام تدريجياً. وما ساعدني أنها وجهٌ غير مألوف.
لو كانت نجمة لما كان من الممكن أن نلجأ إلى هذه التقنية. فالكل
كان سيعرف أن الفيلم عنها منذ إطلالتها الأولى. هذا ساعدني قليلاً.
·
كيف اخترتها؟ هذه ممثلة جيدة جداً.
نعم، خضعت لعملية
كاستينغ. ياسمين مثلي، خليط هويات. هي فلسطينية على مصرية. ممثلة
مجتهدة جداً. أخذت المسألة على محمل الجد. لم تأتِ لتؤدي الدور
وتنتهي منه بأسرع ما يمكن. طلبت أن تذهب إلى المصنع مرات عدة
وتتعرف على البنات خارج إطار التصوير. لا يفعل ذلك كل الممثلين في
مصر. ساهم هذا في أن يكون هناك حوار بينها وبين الشخصية. وأنا أصور
الفيلم، قلت لها إنني سأجعلها تنال جائزة. لذلك، كنت سعيداً جدأً
حينما نالت الجائزة. شعرتُ أن هذه الجائزة ترفع من شأن الفيلم
وتعيد الاعتبار إلى فتاة المصنع.
·
الفيلم يظهر أيضاً صعوبة أن يكون المرء فرداً في المجتمع المصري...
نعم، مع التذكير أن
هيام هي التي تكسب رزقها وتجلب المال إلى المنزل ما يعطيها بعضاً
من الشرعية والبرستيج. أرى هيام فتاة قوية، وكان مهماً بالنسبة لي
أن يكون مشهد الرقصة الذي يختم الفيلم مفهوماً. كنت أخشى من النحو
الذي سيصل فيه إلى المشاهدين. عبرت ببالي أفكار كثيرة معظمها
تكنولوجية. ثم كعادتي، عدت إلى البساطة. ثم جاءتني فكرة أغنية يسرى
الهواري. فشعرتُ أن هذا يعطي معنى آخر للفيلم، وكأن هيام تبتسم
للعالم. أدركتُ كمّ هذا المشهد مهم.
·
ماذا عن صراع المرأة الرجل في المجتمع المصري؟ أنت تأتي بصورة غير
إيجابية عن هذا الصراع...
طبعاً، المرأة ضحية
الرجل مئة في المئة. لكن الأشياء لا تختصر بالأسود والأبيض في
الفيلم. زوج أم هيام "دا جدع بردو". يتضح ذلك عندما يقول لها:
"وضعتُ الفلوس تحت المخدة، وسنتحاسب لاحقاً". أردتُ ان أبيّن جدعنة
الرجل ونزاهته في آن معاً. هناك توازن. ولكن إذا ما نظرنا بإطار
أوسع، سنرى أن المرأة ضحية الرجل مهما علا شأنها. حتى لو صارت عضو
برلمان أو رئيسة جمهورية. مَن يسنّ القوانين؟ الرجل. مَن يطبق
القوانين؟ الرجل. حتى الأديان ذكورية. الستّ مظلومة، وهذا ما
يدفعني إلى الاهتمام بشخصيات نسائية.
مصري
أخيراً!
بعد حملة واسعة على
الأنترنت طالبت بمنح الجنسية المصرية لمحمد خان، يبدو أن الرئاسة
المصرية استجابت أخيراً لهذا الطلب. استقبل الخبر بالكثير من الفرح
من قبل الأوساط المقربة من المخرج السبعيني الذي أعلن قبل أيام في
مقابلة مع الصحافية دعاء سلطان إنه يريد أن يموت مصرياً. في آخر
لقاء مع خان، هكذا كان يصف مفهومه للوطن والمواطنة: "لا أعتقد أن
الوطن هو الأرض. الوطن هو الناس. إذا شعرتُ أن الناس يرفضونني،
أعتبر أن المكان الذي أقيم فيه ليس وطني. لا أعرف ماذا كنتُ لفعلتُ
في مثل هذه الحالة، لا أعرف إذا كنتُ بقيتُ أو غادرتُ، لكن
بالتأكيد سأكون مدركاً بأن هذا ليس وطنياً. طلبتُ الجنسية لأنني
كنتُ أعاني من حالات معنية. كان هناك مهانة: مصر بلدي ومولود فيها
وعلى الرغم من ذلك، كان عليّ أن أعلم أولادي كأنهم "خواجات"
(أجانب) وأدفع نفقة تعليمهم بالدولار. شيء مهين فعلاً. في زمن
والدي، كانت الإقامة مدتها عشر سنوات. ثم صار ينبغي تجديدها مرة كل
سنة، ومرة كل ثلاث سنوات إن كنت متزوجاً. وعندما تتجاوز الخامسة
والستين، فيصير التجديد مرة كل خمس سنوات. هذه الأشياء كلها حسستني
بعدم الامان. كنتُ أشعر بالظلم. حالياً، أولادي لديهم الجنسية
المصرية والإنكليزية، وأنا لا أملك إلا الجنسية الإنكليزية. ثم
هناك شيء آخر: "لم أذهب يوماً إلى بلد لأقول لأصحابه إنني إنكليزي.
أنا مصري والأفلام التي أصنعها مصرية أيضاً".
السينما
في زمن التعصب
يقول محمد خان: "حتى
لو حاولوا تهميش أفلامي الماضية، فهي في النهاية أفلام عُرضت
والناس شاهدوها. لحسن الحظّ هناك التكنولوجيا التي تحتفظ بذاكرتنا
إلى الأبد. في مصر، الرقابة كانت دائماً موجودة، ولكن كنا نعرف كيف
نتحايل عليها. وهذه الرقابة جعلت رقيباً صغيراً ينمو داخلي. ولكن
الرقابة الدينية أكثر تخلفاً من الرقابة المدنية. نحن في صدد
العودة إلى الوراء مئات السنوات! الرقابة الدينية مبنية على غسل
الدماغ. وهي تتبنى قاعدة "تولدت كدة وتبقى كدة"، وليس لك الحقّ في
أن تفكر. يعني أنا مثلاً، الذي ولدتُ مسلماً، لطالما أردتُ أن يتم
حرق جثتي عندما أموت. لكن في الإسلام، هذا ممنوع. "يعني إيه
ممنوع؟" هذا جسمي أنا يا أخي. مبدأ العلاقة بينك وبين الربّ شيء
خاص جداً. التطرف هذا سبق أن حصل في إسبانيا في العصور الماضية،
وفي أوروبا كلها. هذا شيء مخيف. لذا، لا بدّ من القول إنهم يظلمون
التيار الاسلامي قليلاً لأنه ليس الحركة الدموية الوحيدة عبر
العصور. كل التيارات الدينية حركات دموية. راجع التاريخ وستتأكد من
ذلك". |