عند المشاهدة الأولى
لآخر أفلام المخرج محمد خان «فتاة المصنع» الذي شهد عرضه العالمي
الأول خلال الدورة العاشرة من مهرجان دبي السينمائي الدولي، قد تظن
أنك أمام فيلم يناقش المشكلات التي تواجهها الفتيات الفقيرات
المنتميات إلى بعض الفئات المهمشة في الشارع المصري، أولئك
العاملات في المصانع. ستفترض أنه يمكنك أن تطبق قضية الفيلم وحال
بطلته، فتاة المصنع، على كل فتيات المصانع في باقي الدول العربية
على الأقل، وربما على الفتيات المنتميات إلى ذات الفئات المهمشة
التي تنتمي إليها فتاة مصنع محمد خان.
لكنك ستجد نفسك بعدها
وأنت تغوص في عالم أكبر من عالم فتيات المصانع، أو أولئك المنتميات
إلى طبقات مهمشة. في الواقع، سيطالعك الفيلم بمشكلات وصعوبات
تواجهها المرأة المصرية، والعربية، بشكل عام. لا يهم لأية طبقة
تنتمي ومن أية خلفية ثقافية أو مجتمعية تأتي، المشكلات متشابهة
والصعوبات واحدة.
بنظرة أعمق؛ ستجد أن
فيلم خان الذي كتبته زوجته وسام سليمان، لا يناقش مشكلات المرأة
وحسب، إنه في الواقع يتعرض لأزمة مجتمعية تمر بها الشعوب العربية.
لعلها أحد إفرازات ثورات الربيع العربي. هذه الثورات على أية حال
كشفت المستور، ورفعت الغطاء عن واقع مرير مزرٍ. خان وسليمان يكشفان
هنا عن أزمة إنسانية تمر بها مجتمعاتنا جميعها. ربما كشفتها
الثورات العربية وربما جاءت كأحد إفرازاتها.
لا يهم. ما يهم هو أن
المجتمعات العربية، التي تعيش ما بعد الربيع، تعاني من أزمة
إنسانية خطيرة. هذه المجتمعات لم تعد قادرة على أن تحب نفسها ولا
أبناءها. ربما فقدت الحب مع ما فقدته، وربما ذهب مع الريح التي
حملت روائح دماء ضحايا الثورات والحركات الشعبية. لعل الضحايا
دفعوا دماءهم ثمناً للحب، ولعله فُقد وذهب مع ذهابهم.
عودة إلى الفيلم الذي
أطلق عليه خان اسم «فتاة المصنع» فقد فاز بجائزتين من جوائز مهرجان
دبي السينمائي الدولي، هما جائزة المهر العربي الروائي لأفضل ممثلة
وحصدتها بطلته الممثلة ياسمين رئيس، وجائزة الاتحاد الدولي لنقاد
السينما للأفلام الروائية وذهبت إلى المخرج محمد خان، وهي الجائزة
التي يمنحها الاتحاد الدولي لنقاد الأفلام «فيبرسكي» وتقدم سنويّاً
خلال انعقاد المهرجان.
يحكي الفيلم قصة
«هيام» (تقوم بدورها ياسمين رئيس)، الفتاة التي تنتمي إلى أسرة
فقيرة تعيش في أحد شوارع مصر المهمشة، وهي عاملة بأحد مصانع
الملابس. يتفتح ربيع شبابها مع بدايات عملها في المصنع ولقائها
بصلاح «هاني عادل» حين تقع في حبه. تنسى الفوارق الطبقية بينها
وبين صلاح، على رغم تحذيرات زميلاتها في المصنع وسخريتهن منها، بل
وازدرائهن لها.
حب هيام البريء
والصادق يشبه ذلك الحب الذي شاهدناه في الأفلام القديمة وربما
قبلها، حين كان الحب على الشاشة، نقيّاً جميلاً بريئاً صافياً يثير
المرح والسعادة في نفس البطل والمتفرج على السواء. ربما كان بسيطاً
ونقيّاً كحياة أبطاله حينها، على الشاشة وخارجها. حين لم يكن
العربي، كاتباً ومخرجاً وممثلاً، ومواطناً، مهموماً، متأزمة
إنسانيته كما هو اليوم.
في «فتاة المصنع» تحب
هيام صلاح وتندفع وراء عواطفها، ثم، يخبرنا المخرج بطريقة ما، أنها
تقع معه في المحظور. تدفع لذلك ثمناً غالياً، تدفعه هي فقط، وليس
صلاح. يبدأ الأمر بإهانتها من قبل والدته ثم بتهربه منها ثم
بازدراء وسخرية زميلاتها في المصنع وصولاً إلى التهديد بالقتل من
قبل أخوالها. نعيش معها كل تفاصيل ذلك الثمن الذي تدفعه، فتنقلنا
من النوستالجيا والحنين للزمن الجميل إلى قبح الواقع المر الأليم.
تنقلنا من صفاء الحب ونقاء ألوانه وعذب موسيقاه، إلى صخب حياتنا
اليومية وقتامة ألوانها ورداءة أرواح البشر فيها. تتغير الموسيقى،
تتبدل المشاهد، وبدل النظرات الصافية والابتسامات الوادعة، وخطوات
هيام الراقصة وهي تطوي ممرات المستشفى فرحةً في طريقها لزيارة
صلاح، إلى وجه زوج أمها المتجهم الصامت على الدوام، الذي لا يحتمل
سؤال زوجته عما يكدر مزاجه، ثم يقرر أن يهدر دم الفتاة، ثم إلى عمة
هيام وجدتها اللواتي يقررن تنفيذ القصاص في ابنتهن، ويعاقبنها
بالضرب أولاً ثم التشويه وانتهاك جمالها، وأخيراً إلى مشادة كلامية
عنيفة بينها وبين صلاح «الحبيب»، تخبره فيها برفضها إياه، ويعيرها
هو بفقرها وبالفرق الطبقي بينهما... ثم بحبها له.
في الواقع ليس جديداً
أن تأخذنا وسام إلى حال النوستالجيا هذه، تفعل ذلك في أفلامها
عادة. فعلته في «شقة مصر الجديدة» وفي «أحلى الأوقات» وفي «بنات
وسط البلد». لكنها في الأفلام السابقة لم تواجهنا بقساوة الواقع
ووحشيته كما فعلت هذه المرة. لم تكن واقعية بهذه القسوة. هل هي
إفرازات أحداث بلادها وتدهور الوضع الإنساني هناك. إنها تواجهنا
بحقيقة قسوة ولا إنسانية المجتمع، هذا المجتمع الذي لم يعد أفراده
يعيشون الحب ويعرفونه، بل ولا يحملون كثيراً من الإنسانية في
دواخلهم. كل العلاقات أصبحت مشوهة، كل النفوس ممسوخة. أصبح هناك
قليل جدّاً من الحب وكثير جدّاً من العنف.
يؤلمنا خان وزوجته
بفيلمهما، وتبرع ياسمين رئيس في تقديم دور الفتاة الحالمة البريئة
التي تمتلئ عاطفة وحبّاً وشغفاً بالحياة، ثم في دور الفتاة
المقهورة، لكن القوية التي يعاقبها المجتمع بأكمله؛ لأنها تطالب
بحقها في الحياة تحت الحب، لكنها تقف في وجه الجميع وتنتزع براءتها
رغماً عن كل تخلف وقسوة وغباء يحيط بها.
لعل ما يعوضنا به
الثنائي «وسام وخان» في ثالث تعاون لهما بعد «في شقة مصر الجديدة»
و«بنات وسط البلد» هو أنهما ينتصران للحب ولهيام. يسقط الجميع
ويكشفون عن لا إنسانيتهم وتظل هيام الأرقى والأعلى إنسانية. يفعلان
ذلك حين يكشفان لنا أن هيام لم تخطىء، وأنه لم يقع أي محظور بينها
وبين صلاح. هيام أحبت صلاح، وربما تبادلت معه قبلة عاقبت نفسها
عليها قبل أن يعاقبها هذا المجتمع «المريض العفنة روحه» ويسعى إلى
تجريدها من إنسانيتها بعدها.
الجميل أن هيام التي
تثبت براءتها من كل شيء تنتصر لنفسها حين ترفض الزواج من صلاح، وهو
الذي كانت تحلم به، وأخيراً حين تؤدي رقصة نصرها في مشهد يذكرنا
بتلك الرقصة التي قدمتها سعاد حسني في فيلم «خلي بالك من زوزو» وهي
التي تم تطعيم الفيلم بعدد لا بأس به من أغانيها.
على أية حال، دافعت
سعاد حسني عن قضية، ربما بدت لصانعي ذلك الفيلم عادلة في وقتها،
لسنا هنا بموضع نقاشها، لكن هيام انتصرت برقصتها لإنسانيتها،
ولأنوثتها، و... للحب، أو لما تبقى منه.
في الواقع، هذا
الفيلم برمته هو دعوة للحب ... وللإنسانية. |