محمد خان يولد من
جديد.. هذا ما شعر به جميع حضور مهرجان دبى السينمائى الدولى عقب
عرض فيلمه «فتاة المصنع»، سمعت همس الصالة ينتفض ليحيى هذا المخرج
الكبير الذى عاد لعنفوانه السينمائى كأيام الثمانينيات، حين قدم
خرج ولم يعد، زوجة رجل مهم، أحلام هند وكاميليا، ليقدم فيلما تنتزع
صورته وأداء أبطاله وعالمه وموسيقاه وخلفياته الغنائية بصوت سعاد
حسنى الآهات.. عاد محمد خان إلى حياته وحياتنا السينمائية المفضلة
المليئة بالشجن والشخصيات الحية الملهمة بواقعيتها رغم فقرها
الاجتماعى، وفى كل مشهد تمثل لوحة سينمائية لا تقف عند حدود فئة
بعينها بل الإنسان أيا كان وأيا ما يكون.
وضع خان من خلال
الفيلم، الذى ينافس على جائزة المهر العربى، يده على الجرح ومن ثم
طرح السؤال: هل الحب حق الجميع؟، وهل المحب يجب أن يمتلك أدوات
الدفاع عن قلبه ومشاعره حتى لا تجرحها لحظة الاشتباك مع الحياة
القاسية؟، ثم كيف للحب أن يولد فى حياة العشوائيات، كيف لقلب نشأ
وترعرع فى الفقر أن يرتبط بآخر تربى فى مجتمع أفضل حتى لو كان
لطبقة متوسطة؟
فتاة المصنع هى
«هيام».. تلك الفتاة التى تنتمى لعالم يكافح من أجل لقمة العيش هى
وأمها واختها، فهى تعمل فى مصنع للملابس يعكس عبر سيناريو شديد
الشفافية والنضج وصورة واقعية عالمه البسيط ومرارة المرأة المصرية
التى تتذوق تلك المرارة وكأنها عسل، هيام المتيمة بمهندس المصنع
تحاول أن تلفت نظره وتكشف عن حبها وحنانها اثناء مرضه لكن أمه
تشعرها أنها خادمة وتلتقط خيط القصة وتؤدها، والمهندس الذى يخطب
فتاة أخرى يفاجأ بشائعة أن هيام حامل منه، وهى ليست حقيقة رغم
استسلام هيام للشائعة ربما يرتبط بها الصورة على اتساعها لم تعكس
واقع هيام والمهندس وأمها وجدتها وخالتها وإنما على واقع الذى يحيط
بالعاصمة المصرية القاهرة، والتى تقطنها مجموعة من الفقراء، وهو ما
يبرز كثيرا فى مجموعة من الجمل الحوارية التى ترددها بنات المصنع
فى حواراتهن الخاصة، والتى تؤكد لنا أن حالة البؤس والفقر الشديدين
لم تتمكن من منعهن من الإقبال على الحياة والنظر إليها بعين الحب،
ليبدو تفكيرهن الدائم بالزواج وطموحهن للحصول عليه، أمرا طبيعيا،
فى ظل الحالة التى يعشن بها، وهذا ما نلمسه عبر مشاهد عديدة
متصاعدة دراميا فى الربع الأخير من العمل وخاصة فى المشهد الذى
ترتدى فيه هيام فستان زفاف والدتها.. ثم نحس معها رفضها الدخول فى
دوامة المسرحية التى يفرضها عليها واقعها لنشاهد مشهدا نهائيا
عظيما، حيث تحقق هيام «ندرها» بالرقص فى فرح حبيبها المهندس صلاح،
وهذا المشهد يجسد ليس فقط روعة أداء بطلته التى جسدتها باقتدار
ياسمين رئيس، وإنما لشعورها بالانتصار على إحباطات هذا العالم
وتقاليده وعنصريته ونظرته للطبقات الدنيا، وذلك عبر نظرة عينيها
المعبرة عن العزة والكرامة والذات، هامت هيام محمد خان بنا إلى
عالم إنسانى، هو مزيج من الألم والبهجة عالمنا، وبالقطع أداء يستحق
الثناء على من جسدوا شخصيات العمل بداية من ياسمين رئيس التى أراها
تحمل مقومات نجمة جديدة إذا لم تتنازل عن العمل مع مخرجين يملكون
حكمة خان السينمائية وأدوار تجعلها دائمة طازجة، كما الواقع، وأيضا
الأداء المبهر للأم سلوى خطاب والمهندس هانى عادل والخالة سلوى
محمد على، ومعهم رمزية وعمق سيناريو وحوار وسام سليمان.
وما شعورك عندما
تشاهد مباراة كبيرة فى الأداء التمثيلى بين نجمتين بحجم ميريل
ستريب وجوليا روبرتس فى حلبة واحدة، بالقطع سوف تكتم أنفاسك لتضع
مشاعر الصورة وأحاسيس الحوار، هما ما يجعلان قلبك ينبض بحياة
استثنائية لمدة ساعتين.
هذا ما عشته مع أحداث
المباراة أو الفيلم الأمريكى الذى ينتمى للكوميديا السوداء بعنوان
«أغسطس: أوسيدج كونتى». حيث تدور أحداثه بالفعل فى شهر أغسطس.
ويحكى الفيلم المؤلم
والمدهش والمأخوذ عن مسرحية بنفس الاسم لتراسى ليتس حائزة على
جائزة بوليترز قصة عائلة مفككة تقودها ام متسلطة وقوية تعانى من
ادمان أشياء كثيرة تدخين، تعصب، أنانية، عدم تفاهم، وتكشف عبر
رحلتها إلى أى مدى تفكك المجتمع الأمريكى الكبير بكل شرائحه
وثقافاته، وإلى أى مدى توغل اليأس فى وجدان الصغار والكبار رغم
التظاهر بالقوة.
كانت الدخلة الأولى
لميريل ستريب عظيمة الأداء ووضعتنا فى ركن درامى، وهى تدخن السيجار
غير مكترسة بمرضها سرطان الفم، وتقول لزوجها الشاعر مدمن الخمر
البائس، وهى تتمايل بصوت غليظ «الحياة طويلة جدا»، اعترف أننى
تأثرت كثيرا بهذه الجملة، وهذا المشهد، وبقيت أتساءل: هل حقا
الحياة طويلة..ربما؟!
المهم لعبت ستريب دور
فيوليت عميدة عائلة ويستون، وهى أم لثلاث بنات ربتهن، وهى غير سوية
أكبرهن جوليا روبرتس التى قدمت هى الأخرى شخصية عنيدة مثل أمها،
فالأم تعرف كل شىء يخبئنه عنها بناتها، فالأولى طلقت والثانية تعيش
مع رجل ثرى ذى نزوات، والثالثة أجرت إزالة للرحم، وتحب ابن خالتها
التى يتضح فيما بعد أنه أخوها بعد أن تكشف أن زوجها على علاقة
بأختها، وأنها كان يمكنها إنقاذ زوجها من الانتحار، المفاجآت كلها
تتكشف فى سرد درامى رائع وصورة سينمائية واقعية وأداء مدهش وخاصة
فى النصف الآخر من الفيلم. عندما يجتمع الكل عقب انتحار الأب كانت
ميريل ستريب تنظر إلى جوليا النجمة الصاعدة وصاحبة أعلى أجر على
أنها منافسة غير سهلة وظلت تترقب خطواتها، بينما كانت ستريب تتحدى
نفسها لتؤكد أنها جديرة بمكانتها، وفى الواقع كان العمل مع النجمة
ميريل ستريب حلم يراود جوليا منذ أن احترفت التمثيل.
وصرحت بأنه على الرغم
من أن الفيلم لم يجعلها تتقرب من ميريل ستريب بسبب عنف بعض
المشاهد، فإنها تعتبر أن الحلم بالوقوف أمام نجمتها المفضلة يجعلها
تتغاضى عن أى ظروف لا تروقها، وقالت: «حلمى بالعمل مع ميريل أصبح
حقيقة، فقد انتظرت هذا الحلم لسنوات طويلة وحين تحقق ذلك كان أمرا
مذهلا، فهى إنسانة جميلة، لكننى شعرت بالخوف منها فى الكثير من
المشاهد التى جمعتنى بها فى الفيلم».
وأضافت روبرتس: «لقد
تفاجأت بأدائها فى بعض مشاهد الفيلم فأنا لم أرسم لها صورا كتلك
التى ظهرت بها أمامى، كنت أعتقد أنى سأمضى الوقت معها نشرب الشاى
ونتحدث، وهذا لم يحدث». حيث انعكس توتر العلاقة بين الأم وابنتها
فى النص على العلاقة بين النجمتين فى العمل.
بالفعل كان أداء
ستريب فى الفيلم، الذى عرض ضمن عروض السينما العالمية، أقرب للجراح
فى هذا الفيلم، قوية وحادة وصارمة، كان أداؤها رائعا كالعادة»، وهو
ما جعل روبرتس الممثلة الحاصة على جائزة الأوسكار عام 2000 عن
فيلمها
Erin Brockovich
تعترف بأن العمل مع
«ستريب» جعلها تشعر«مثل تلميذة ينبغى عليها أن تذاكر جيدا كى تؤدى
دورها بثبات»، قبل أن تضيف «كانت تدفعنا كلنا للنجاح».
ويشارك «ستريب» و«روبرتس»فى
بطولة العمل عدد من الممثلين على رأسهم إيوان مكريجور، أبيجل
بريسلين، كريس كوبر وسام شيبارد.
الفيلم أخرجه جون
ويلز، الذى استطاع أن يقدم صورة سينمائية نجحت فى تشريخ كل شخصياته
وفكرته وتوظيف نجوم كبار مثل ايوان ناجريجور وكريس كوبر وسام شيبرد
فى شخصيات عكست الاسرة الأمريكية الكبرى عبر الأم التى تعاملت مع
الخادمة الهندية بقسوة رغم أنها كانت الوحيدة السوية بين أفراد
المنزل الذى ترعاه، وربما يكمن هنا مخزى كبير حول الهنود الأصليين
فى أرض أمريكا. |