كان الألم حاضرًا
وبقوة فى فيلم «فتاة المصنع» ورغم ذلك كانت السخرية وإرادة
المقاومة هى المسيطرة، الفيلم يُشبه روح سعاد حسنى التى أهدى إليها
المخرج محمد خان فيلمه، انتهت حياتها بمأساة ليس مهمًّا إذا كانت
انتحرت أم قُتلت، ورغم ذلك فإن ما يتبقى من سعاد ليس الدموع ولكن
«الدنيا ربيع والجو بديع قفّل لى على كل المواضيع».
عشنا حالة فنية
مختلفة مع أغانى سعاد التى لم تكن لسان حال البطلة، ولكنها الموجة
التى ضبطها المخرج لتصبح شفرة التواصل التى نُطل بها على الشريط
السينمائى.
كأننا أمام مخرج فى
عز شبابه وجنوحه وجموحه وجنونه، هكذا رأيت خان فى «فتاة المصنع»
يجدد مرة أخرى شباب خان، الفيلم ينتمى بقوة إلى عالمه الخاص، ولكنه
فى نفس اللحظة يرقص سينمائيًّا على إيقاع هذا الزمن، به وقار يليق
بكهل فى السبعين بقدر ما به من «روشنة» لا يفعلها سوى شاب فى
العشرين.
لا يوجد لدى المخرج
شخصيات ولا أحداث معلبة، كل شىء طازج بنار الفرن، هناك حالة من
الانسيابية فى التتابع ،أرى دائمًا أن الإبداع هو الشباب، لا يوجد
فنان كهل أو طاعن فى العمر، السنوات تمضى وكلنا نكبر ويترك الزمن
بصمته ويخصم الكثير من قوانا الطبيعية، ولكن الفنان إذا ظهرت على
ملامحه الإبداعية علامات الشيخوخة وتجاعيد الزمن عليه أن يترجل،
وخان أراه فى «فتاة المصنع» فى عز شبابه.
هناك حالة من المزج
اللا شعورى مع سعاد حسنى، ليست أغنياتها ولا صوتها أو حياتها
وأفلامها، خصوصا «السفيرة عزيزة»، لكنها الروح التى عليها الفيلم
ثم ما يلبس بين الحين والآخر أن يحلق بنا فى أجواء كلثومية، ليصبح
صوتها بمثابة آلة شجية تقدم تنويعة على نفس النغمة.
للكاتبة وسام سليمان
منذ أن رأيتها فى فيلمها الأول «أحلى الأوقات» لهالة خليل بصمة
خاصة تؤكد دائمًا أن الحياة سوف تستمر، وأن الهزيمة ليست فى أن
تخسر جولة، ولكن أن تستسلم وتفقد إصرارك على البقاء، وهكذا دائمًا
أرى أبطالها منتصرين حتى ولو كانوا بحساب الورقة والقلم خاسرين،
طزاجة التناول هو عنوانها.
أبطال «فتاة المصنع»
يشكلون الأغلبية بين المصريين، حتى البيت الثرى الذى تذهب إليه
بطلة الفيلم «ياسمين رئيس»، لمساعدة خالتها «سلوى محمد على» فى
تنظيفه، لا يعنينا فى شىء، هو فقط وسيلة لرزق إضافى، فارس أحلامها
«هانى عادل» واحد من الفقراء حتى لا يدخلنا الفيلم فى صراع آخر ليس
قضيته. حتى مشهد الانتحار هو ليس انتحارًا.
تذكَّروا نهاية سعاد
حسنى التى تعددت فيها الدوافع والأسباب، البطلة تابعت حبيبها فى
الحارة بعد أن أخذوه عنوة ليعقد قرانه عليها، ولم تتحمل المشهد
وأمسكت بالسور الخشبى للشرفة فوقع بها ولم ينقذها من الموت سوى حبل
غسيل الجيران، كل الفقراء فى الفيلم بمن فيهم البطلة ليسوا ناصعى
البياض، ولكنهم لديهم الحرص على الحياة والرغبة والشرف والجدعنة
والنخوة، بالإضافة إلى الخيانة والطمع، وكلهم ينتظرون يد الإله وهى
تحنو عليهم فى اللحظات المصيرية.
هل تلك هى حكاية
الفيلم؟ إنها مثل كل الحكايات ولكنها أيضًا ليست مثل كل الحكايات.
الفتاة الفقيرة
«نادين رئيس»، التى تخشى من وصولها إلى رقم 21 من عمرها، والذى
يعنى مبادئ العنوسة فى مجتمع يترقب دائمًا لحظة الزواج التى تعنى
الحماية للمرأة وإخراس كل الألسنة. والتتابع الذى نعرفه كلنا من
قبل أن نراه فهى تحب شابًّا وسيمًا «هانى عادل»، تتمتع بروح
إيجابية فى مطاردة الحبيب ويهرب منها بعد قُبلة عابرة، وتُتهم
بأنها قد فرطت فى عرضها وتنتهى الأحداث بأن ترقص فى يوم فرحه بعد
أن يكتشف أهل الحارة أنها أبدًا لم تفقد عذريتها، مثلما رقصت سعاد
حسنى فى «زوزو» ولكنها ليست الفيلم، ما وراءها هو الفيلم.
أرى المرأة الإيجابية
التى تسعى لتحقيق حلمها ولا تنتظر أن يأتى فارس الأحلام يطرق
الباب، تطرق هى الباب، الحارة المصرية الساحرة بكل التفاصيل اختارت
عين محمد خان من الواقع المصرى، دلالاته الحياتية، وكلماته، وروحه،
ومع رسم متقن للإضاءة لفنان يصعد بقوة مدير التصوير محمود لطفى،
الحالة الإبداعية ليست أن تصور فى الواقع، ولكن أن تنقل روح
الواقع، خفة الظل فى اختيار كلمات الأغنيات المعبرة ليست عن الحدث،
ولكن الأهم الإحساس العام بالشخصية والموقف.
تضافرت العناصر
الفنية «مونتاج وإنتاج دينا فاروق، وموسيقى جورج كازازيان»، ويحصل
المخرج من ممثليه على درجة عالية جدًّا من الطبيعية، خصوصا هانى
عادل وسلوى محمد على وسلوى خطاب، والوجه الجديد ابتهال الصريطى،
الأدوار الصغيرة وحتى الكومبارس، الكل على الشاشة يسهم فى تعميق
هذا الإحساس.
ويبقى رهان المخرج
الصائب على الممثلة ياسمين رئيس، وجه يملك حضورًا وتلقائية تصل
للذروة، تفجرت موهبتها، امتلأت بالشخصية فنضحت على ملامحها وروحها
بحضور طاغٍ يستحيل نسيانه.
هذا الفيلم لا يثبت
فقط أن السينما المصرية بخير، ولكن أن مصر بخير! |