كان المخرج القدير توفيق صالح مؤمنا إلى حد كبير بأن لرسالته في الحياة وجه
آخر بعيد كل البعد عن الشريط السينمائي، ذلك الوجة المتصل بأسرته الصغيرة،
التي ضمت أبناءه الثلاثة محمد وريم وريهام، إلى جانب زوجته السيدة روضة.
وكان صالح يدرك جيدا ضرورة أن يكون ديمقراطيا في حياته الأسرية وعلاقته
بأبنائه، على عكس طبيعته الدكتاتورية في بلاتوهات السينما، التي تفرضها
عليه طبيعة عمله كمخرج، لذا لم يفرض على أي منهم مجالا معينا في العمل، ولم
يسعَ سوى لأن يكون لكل منهم حياته المستقلة، وأن يتحرروا من كونهم أبناء
مخرج كبير، ليصير كل منهم ممثلا لذاته فقط.
وقال الدكتور محمد صالح الباحث بمعهد البحوث الزراعية وابن المخرج الراحل،
إن "أبسط ما يمكن أن أصف به توفيق صالح هو أنه كان أبا رائعا. كان بالنسبة
لي صديق وأخ أكبر قبل أن يكون أبا، وكان أول من ألجأ إليه إذا أردت التحدث
مع أحد في أمر يحيرني. كانت لدية القدرة على اختزال كل أعوام الخبرة
والثقافة والعلم في حديث بسيط وعقلاني، لا يخلو من فلسفة عميقة ويصل إلى
القلب بسلاسة متناهية".
وأضاف: "كان صالح يحب مصر ويعشق ترابها، وأذكر أني فكرت أكثر من مرة في
الهجرة والبحث عن فرصة في بلد آخر، وكان يتصدى لي ويطالبني بالبقاء في مصر،
وكان يقول إنني لو تركت مصر سأصبح مواطنا من الدرجة الثانية في أي بلد مهما
حققت من نجاح، في حين أنني في بلدى مواطن من الدرجة الأولى، حتى لو لم أحقق
ذاتي بها أو أجد الفرصة المناسبة"، مؤكدا أنه "كان يؤمن بأنه لو قُدِّر
لمصر أن تنمو وتصير دولة عملاقة، فلن يتم ذلك إلا عن طريق العلم والعلماء،
لذا كان إصراره على أن أعود إلى القاهرة عقب انتهائي من دراستي بالولايات
المتحدة".
ولفت إلى أن الكثيرين كانوا يعيبون على المخرج القدير بسبب قلة إنتاجه،
ويتهمونه بالباطل بأنه كسول ومفرط في حق موهبته، لكنه كان يلتزم بعدم يملك
فليفة التنازل أو "الشغل والسلام"، أو أن تزيد محصلة أعماله على حساب
جودتها، مشيرا إلى أنه أثناء دراسته بأمريكا "دعيت بالصدفة لحضور احتفالية
للتضامن مع القضية الفلسطينية عام 2002 عقب إحدى المجازر الإسرائيلية،
وفوجئت بعرض فيلم (المخدوعون)، فشعرت وقتها بالفخر، خاصة أنه لاقى اهتماما
وترحيبا واسعا، وتكرر عرضه أكثر من مرة، وبات يدرس بعدها في المعاهد
الأمريكية باعتباره نموذجا للأعمال التي تناولت القضية الفلسطينية، وأرى
أنه لو لم يقدم أبي في مشواره سوى هذا الفيلم، لكان كافيا ليضعه في مكانة
متميزة في تاريخ السينما العربية".
أما ريهام ابنة المخرج الراحل التي تخرجت من معهد الكونسرفتوار وتعمل بدار
الأوبرا المصرية، فأكدت أن والدها كان "أبا ديمقراطيا بكل ما تحمله الكلمة
مع معانٍ، ولم يكن صديقا لمحمد فقط، بل لي وشقيقتي ريم أيضا، وكان حنونا
إلى أقصى درجة، وكنا نلجأ إليه ونستشيره في كل ما يتعلق بنا كأنه صديق، وهو
الذي شجعني على دراسة الموسيقى والعمل بهذا المجال بمجرد أن لمس الموهبة
لدي، وشجعني على حب الموسيقى العربية والغربية، واستفدت منه كثيرا في كل
تفاصيل حياتي".
وعن أيام توفيق صالح الأخيرة وآرائه في تطورات الأوضاع السياسية في مصر،
قالت زوجته السيدة روضة: "كان يعيش حالة من الأسى على ما آلت إليه الأحوال
في مصر، وقال لي عقب فض اعتصام النهضة الذي يبعد عن منزلنا بمسافة قليلة،
إنه لم يكن يتمنى أن يعيش ليرى المصريون يتقاتلون سويا في الشارع، وكان قبل
ذلك على ثقة من أن المصريين قادين على الإطاحة بحكم الإخوان، وكان يؤكد أن
المصري الذي رفع رأسه في ثورة 25 يناير، لن يقوى أي فصيل أو جماعة على حكمه
بالقوة أو رغما عن إرادته، وذلك رغم أنه في البداية لم يمانع من حكم
الإخوان البلد من منطق إتاحة الفرصة لهم، لكنه بمرور الوقت كان يتأذى مما
وصلت إليه الأمور، وقال إن مصر لا يمكن أن تحكمها جماعة سرية أبدا".
وأضافت السيدة روضة: "لم تسمح الفترة الأخيرة بتطوراتها للكثيرين بزيارته
إلا في حالات نادرة، وكان بعض الفنانين والأصدقاء يسألون عليه دائما، مثل
المخرج علي بدرخان، والدكتور فوزي فهمي، والأنبا بطرس دانيال، وكان يحظى
بمحبة الجميع، سواء أصدقاءه أو تلاميذه من معهد السينما على اختلاف أجيالهم".
توفيق
صالح.. رحيل "آخر الحرافيش"
طارق الشناوي: كان يحلم بتقديم "ابن رشد" و"وكالة عطية".. وثلاثية نجيب
محفوظ كانت جرحه الذي لم يندمل
كتب : محمد عبد الجليل
"أنا
غريب.. غريب وهذا قدري. أنا داخل مجتمع أقبله لكنه لا يقبلني، ماذا أفعل؟".
جاءت هذه الجملة ضمن تصريح للمخرج الراحل توفيق صالح (1926 - 2013) في إحدى
مقابلاته الصحفية. وعلى الرغم من كم الاحتفاء الذي كان صالح يلاقيه في
الوسط السينمائي من تلاميذه وأصدقائه ممن يدركون قدره ومكانته، إلا أن هذا
لم يكن كافيا ليتجاهل شعوره بالغربة، في واقع يرفض الكثير من أصحاب الموهبة
الحقيقية، وزمنٍ قاسٍ لا يبحث سوى عن مقدمي التنازلات.
كان توفيق صالح صاحب رؤية وشغف وعشق لعالم السينما. كان مهموم بقضايا مجتمع
لم يتسع لأحلام أبنائه وهو أحدهم. رفض تقديم التنازلات من أجل مجاراة
الواقع، مكتفيا برصيد سبعة أفلام وضعته ضمن قائمة الرواد في السينما
المصرية.
رحل صالح في خضم أحداث سياسية ساخنة، فرضت نفسها على الواقع المصري، ومنعت
الكثيرين من الاحتفاء به كما ينبغي لقدره ومكانته في قلوب جمهوره، ومن
قبلهم صناع السينما. وفي هذا الملف، تحاول "الوطن" إعطاء المخرج الكبير
جزءا من حقه، بإلقاء الضوء على مشواره وحياته الثرية فنيا وإنسانيا.
وتحدث السيناريست عاطف بشاي في البداية قائلا: "كان توفيق صالح من أهم
مخرجي السينما المصرية رغم قلة أعماله، فهو ينتمي لنوعية من المخرجين أصحاب
الرؤية السياسية الواضحة، ولم يكن مثل غيره متنوعا في نوعية الأفلام التي
يقدمها، بل كان صاحب رؤية ثابتة وتوجه اشتراكي يساري النزعة، مهموما بقضايا
المجتمع والشعب والشارع، وبالتالي عانى بشكل كبير على مدار العصور السياسية
المختلفة من الاضطهاد، لكنه ظل قابضا على مبادئه، يعمل بمفهومه الخاص
المتصل بأهمية أن تكون السينما أداة لتوصيل المعلومة السياسية والأفكار
التي تدفع المجتمع للأمام وتعالج قضاياه ومشاكله، وبالتالي اكتسبت أعماله
رغم قلتها أهمية خاصة جدا، ولم تكن مجرد أعمال تقدم للتسلية فقط، لذلك عاشت
حتى الآن".
وأوضح الناقد طارق الشناوي أن المخرج الراحل "كان دائم البحث عن تقديم نفسه
بلا تنازلات، ورغم أنه قدم سبعة أفلام اختير منها أربعة في قائمة أهم 100
فيلم في السينما المصرية، إلا أنه كان يعتبرها بروفة لمشروعات لم تكتمل،
وكان دائم البحث عن جديد يقدمه، وكان بداخله الكثير من المشاريع مثلت
أحلاما له؛ منها تقديم فيلم عن ابن رشد، وكذلك قصة قصيرة لنجيب محفوظ
بعنوان (يوم قتل الزعيم)، وبالفعل تعاقد مع محفوظ عليها، لكنه لم يرضَ عن
أي معالجة سينمائية من التي قُدمت له، وأيضا من مشاريعه رواية (وكالة عطية)
للكاتب الراحل خيري شلبي، وكان له في كل أعماله ومشاريعه هم اجتماعي، وموقف
قادر على تحويله لحالة سينمائية خاصة".
وأضاف الشناوي: "كان يشعر بالمرارة من الاضطهاد الذي يتعرض له، ومن أكثر ما
أثر فيه في فترة الستينات عندما كان من المفترض أن يقدم ثلاثية نجيب محفوظ،
وبدأ بالفعل في التحضير لها، لكن بسبب خلاف فكري مع المخرج صلاح أبوسيف،
الذي كان يرأس المؤسسة العامة للسينما وقتها، تم سحب المشروع منه وإسناده
لحسن الإمام، وشكَّل ذلك في مشواره جرحا لم يندمل".
أبطال أفلام "توفيق صالح" يتحدثون: كان أحد عباقرة السينما المصرية
عزت العلايلي: تجربتي في "السيد البلطي" من دواعي فخري.. وسميرة أحمد:
تمنيت تكرار العمل معه بعد "صراع الأبطال"
كتب : محمد عبد الجليل
على مدار سبعة أفلام قدمها توفيق صالح في مشواره السينمائي، ضمت قائمة أفضل
100 فيلم في تاريخ السينما المصرية أربعة منها؛ هي "صراع الأبطال"
و"المتمردون" و"يوميات نائب في الأرياف" و"درب المهابيل". ورغم اعتماد
المخرج الراحل على الممثل الكبير شكري سرحان كقاسم مشترك في بطولة معظم
أفلامه، لكنه كان حريصا على أن يغامر بتقديم ممثلين جدد ويدفع بهم إلى صفوف
البطولة المطلقة في أكثر من تجربة، مؤكدا أنه لا يركن إلى الحلول السهلة
ولا القوالب الجاهزة.
وأكد الفنان عزت العلايلي بطل فيلم "السيد البلطي"، أنه "لا شك أن صالح كان
أحد عباقرة هذا الجيل في السينما المصرية، بما يملكه من رؤية ودراية كاملة
وواسعة بالأساليب الحديثة في الإخراج والتناول المختلف لأي سيناريو مكتوب،
حيث لا يأخذ بالظاهر بقدر ما يبحث عن المعنى والمضمون الكامن بين السطور".
واعتبر العلايلي تعاونه مع المخرج الراحل في "السيد البلطي" من دواعي فخره
في مشواره السينمائي، مضيفا: "كان أثناء الإخراج على درجة عالية من الدقة
والحرص على أن تظهر كل العناصر في أفضل صورها، وكان شخصا حساسا جدا، ولا
يقبل التنازلات تحت أي ضغط لمجرد الرغبة في التواجد على الساحة السينمائية".
وروى المخرج أحمد عبد الحليم بطل فيلم "يوميات نائب في الأرياف"، ظروف
تصوير الفيلم، قائلا: "كانت تجربة لافتة وهامة في السينما المصرية، وتوفرت
لها عناصر عديدة للنجاح؛ أهمها المنتجة آسيا، وكان توفيق صالح في الكواليس
على درجة عالية من الحساسية والدقة في كل تفصيلة وجملة وكادر، كما كانت
لديه سلاسة في توصيل المعلومة للعاملين بالفيلم، وكانت التجربة هي الأولى
بالنسبة لي في السينما بعد عدة تجارب في التليفزيون، وأنجزنا الفيلم في
أربعة أسابيع فقط، وكانت تلك فترة قياسية مقارنة بالمدة التي كان يستغرقها
الفيلم في ذلك التوقيت"، مؤكدا أن السينما المصرية خرست بكل تأكيد أحد
روادها، الذين يستحقون أن تُدَرَّس أعمالهم في المعاهد الفنية، باعتبارها
"علامات مضيئة لفنان لن يُنسى أبدا".
أما الفنانة سميرة أحمد التي قامت ببطولة فيلم "صراع الأبطال"، فأكدت أن
"توفيق صالح كان مخرجا رائعا وواقعيا جدا، ومن القلائل الذين سعدت جدا
بالعمل معهم، وكم طلبت منه في مرات عدة تكرار التجربة، لكنه كان يرفض
التعامل مع مفردات السوق السينمائية التي سادت منذ نهاية السبعينات وحتى
رحيله".
وأضافت: "جاءت تجربتنا في (صراع الأبطال) لتعكس انحيازه الكامل والواضح
للواقعية في السينما المصرية، التي بدت واضحة في كل تفصيلة وكادر، في
الفيلم الذي تم تصويره في المناطق الأصلية للأحداث، وأعتقد أنه كان من
الأفلام المميزة في السينما المصرية".
وقالت الفنانة عايدة عبدالعزيز التي شاركت في بطولة فيلمي "يوميات نائب في
الأرياف" و"صراع الأبطال"، إن أول ظهور سينمائي لها عقب عودتها من لندن كان
مع صالح في "يوميات نائب في الأرياف"، وكان "أكثر من رائع في تعامله معنا
أثناء التصوير، وكان يدرك جيدا إمكانات كل ممثل، ويسعى لتوظيفه في أفضل
صورة ممكنة، وكان بالنسبة لي مدرسة فنية تعلمت فيها الكثير، وأدركت معه
معنى الدقة والاهتمام بالتفاصيل، التي تنعكس في النهاية على كل كادر من
العمل، وللأسف عانى من المر والتجاهل من بلد لا يقدر مبدعيه، رغم أنه كان
يملك آمالا عريضة في تقديم سينما مختلفة، إلا أنه لم يقوَ على مسايرة ركاب
السوق السينمائية، التي كانت تفرض شروطا لا يقبلها توفيق صالح على الإطلاق".
الوطن المصرية في
13/10/2013
رحيل توفيق صالح : من ذكريات طالب مع أستاذه
حوار مع أحمد محفوظ يتحدث عن توفيق صالح الأستاذ والإنسان
الوثائقية - خاص
"أستاذي
و من علمني و ساندني في كل مراحل حياتي المهنية حتى مرضه قريبا توفيق
صالح....... من علمني أن الصورة رأي و أن الفن موقف وأن العمل الفني
مسؤولية. لن أودعك لأنك كما كنت لي دوما حاضرا معي بما علمتني سيبقى كلامك
و علمك باقيا معي حاضرا بعملي و حياتي ...رحمك الله و غفر لك .... سأفتقدك
يا أستاذي.."
بهذه العبارة أبّن المخرج أحمد محفوظ مدير الجزيرة الوثائقية أستاذه
توفيق صالح الذي وافه الأجل يوم 18 أغسطس 2013 في القاهرة. وفي هذا الحوار
سيتحدث محفوظ عن بعض ذكرياته مع المرحوم توفيق صالح الأستاذ والإنسان
·
أستاذ أحمد باعتبارك أحد طلاب أو
تلامذة السينمائي المصري المرحوم توفيق صالح بل وأحد أصدقائه ايضا، لو
تحدثنا أولا عن توفيق صالح الإنسان؟
لعل أول ملمح أتذكره مع توفيق صالح هو أول مرة أراه فيها، وكان
حينها مسؤول لجنة اختيار الطلاب الذين سيلتحقون بالمعهد العالي للسينما
خلال السنة الدراسية 1990 وأنا كنت في ذلك الوقت أدرس القانون في كلية
الحقوق بجامعة القاهرة، وعلاقتي بالسينما لم تكن عميقة كصانع أفلام، خلال
لقائي بتوفيق صالح الأول لم أكن أعرف من هو توفيق صالح، كاسم وعلم من أعلام
السينما لم أكن أعرفه، وهو كان كذلك ربما لكثير من الناس حتى وفاته، فهو لم
يكن معروفا ولم تُسلط عليه الأضواء، المشهد الأول للقاء كان في قاعة
الاختبارات بالمعهد العالي للسينما أين كان سيتم اختيار ثمانية طلاب من بين
عدد كبير من الطلاب ليكونوا طلاب معهد السينما، وكنت أسمع أنه لابد لطلاب
معهد السينما من "الوساطة" للالتحاق بالمعهد، وهذا كان أمرا حقيقيا وواردا
جدا في أماكن وأوقات كثيرة، لكن أول شيء لفت نظري أن هذا الرجل صاحب الشعر
الأبيض قصير القامة والهادئ الذي يتكلم بحساب وأسئلته كالسوط والذي سيكون
المسؤول عن تلك الدفعة من الطلاب مثلما يجري الأمر عادة بتسمية الدفعة باسم
فنان كبير لا يقبل الوساطة، وقد كان من حظي أن تلك الدفعة كانت ستُسمى باسم
توفيق صالح وسيتابعها من بدايتها حتى تخرجها، وأنا طبعا كنت قد كلمت أستاذي
وأخي الأكبر المخرج محمد النجار ليتوسط لي بشكل أو بآخر ولكني وجدت أن هذا
الرجل لا يمكن أن يقبل بالوساطة لأنه كان صارما جدا وحاسما جدا، لقد كان
حاسما بأبوّة وحازما بأستاذية، لم يكن شخصا يستعرض عضلاته على الطلاب
"الغلابة" الذين يريدون دخول المعهد لأنه كان حازما علميا، وكان يسأل أسئلة
لغرض المساعدة على الوصول إلى الحقيقة، وكان هذا سمته طوال الفترة التي
درست فيها معه.
وأتذكر السؤال الأول لأنه كان اللقطة الأولى، فبعد تعارف اللجنة مع
الطلاب، وكانت لجنة كبيرة فيها الأستاذ علي بدرخان والمرحوم مدكور ثابت
وغيرهما، جاء السؤال الأول وهو لماذا تريد الالتحاق بمعهد السينما أو لماذا
تريد أن تكون سينمائيا فأجبت بأني أحب السينما بل أعشقها وكل يوم خميس أذهب
للسينما، فسألوني عن علاقتي بالسينما ولماذا أريد أن أكون صانعا للسينما
فقلت كلاما إنشائيا وليس علميا وكان يظهر أن توفيق صالح لم يكن يرضى بهذا
الكلام، علما بأنه عندما يرضى لم يكن يُظهر رضاه، ثم سألني بعد ذلك عمن أحب
من السينمائيين والمخرجين فقلت له صلاح أبو سيف وعاطف الطيب وهنا جاء
السؤال الذي وقفت فيه كالخشبة: ما الفرق بين صلاح أبو سيف وعاطف الطيب؟
وهذا أول سؤال وجهه توفيق صالح لي لكنني لم أرد عليه فبقي فترة ينتظر ردي
فلم أجبه فقال لي اجلس فجلست في ورشة القبول تلك لمدة يومين أو ثلاثة لا
أتكلم، وهي ورشة حضرها كل المترشحين للمعهد وامتدت على مدى 15 يوما نتلقى
أسئلة عن كل شيء عن السياسة والدين والاقتصاد والفنون والثقافة العامة
إضافة إلى بعض التدريبات العملية مثل الإخراج المسرحي والإخراج بالكاميرات
والتصوير الفوتوغرافي، ثم جاءني سؤال آخر وكان عن فيلم قديم جدا وكان يجب
أن أشاهده لأول مرة وأكتب عنه تحليلا وكان السؤال هو التالي: إذا أردت أن
تخرج مشهدا يعترف فيه البطل إلى حبيبته أنه يحبها فأين ستُخرجه في هذا
الوقت؟ وفي تلك اللحظة قررت أن أقول إجابتي كما هي بعد يومين من الصمت
فطلبت الكلمة من صاحب السؤال وهو علي بدرخان وقلت له إنني أرى أن المشهد
يكون في الملاهي وعند لعبة صيد السمك والبطلة لم تتمكن من الصيد والبطل
يحاول تعليمها ويمسك الصنارة معها ويده تلمس يدها ثم ينظران إلى بعض
ويبتسمان فتلتقط الصنارة سمكة، وهذا المشهد كان سينمائيا لأنه لم يعتمد على
الكلام وفيه لغة بصرية ما، ومن تلك اللحظة بدأ الاهتمام بي من قبل الأساتذة
الحاضرين وبدأوا يسألونني عن اسمي ومنذ تلك اللحظة أيضا بدأت علاقتي بتوفيق
صالح الأستاذ، ثم دخلت معهد السينما وبدأت مع توفيق صالح رحلة الأستاذية.
·
واضح من خلال دقة تفاصيل الأسئلة
والإجابات التي تحدثت عنها أن هذا الرجل له مكانة خاصة في حياتك فهل تفصل
لي معاني هذه المكانة معرفيا وبشريا؟
كان هناك دائما إحساس عند الناس أن السينما هي مجرد فن للترفيه
والتسلية المجانية بل والرخيصة، هذا الأمر موجود ولا يمكن إنكاره فالسينما
فيها جانب تجاري ولكن ما بدأ توفيق صالح بتعليمه لناجسد لي ما كنت أتصوره
بأن الفن له وظيفة أخرى، أو أهمية أخرى في حياتنا، وهنا تكمن أهمية توفيق
صالح بالنسبة لي من أول لحظة رأيته فيها. الأمر الأول رأيت ودرست وحللت كل
أفلامه لقطة لقطة ولم أجد فيها مشهدا مُسفا واحدا، ولم أجد فيها مشهدا يلعب
على الغريزة فقط وبشكل مجاني فالأمور كلها كانت ذات علاقة باحترام آدمية من
يشاهد، الأمر الثاني هو مبدأ لم يحد عنه وهو أن تكون متسقا مع أفكارك، هذا
الرجل كان له فكر وأنا اختلفت معه في بعض الأفكار وهو أمر طبيعي جدا ولكني
احترمت اتساقه مع ذاته طول الوقت. الأمر الثالث أنه كان منحازا لقضايا
الإنسان سواء في مصر أو في الأمة، ففي كل أفلامه لا بد أن تجد رسالة وقضية
يناقشها وعندما تشاهد فيلم "المخدوعون" عن قصة "رجال تحت الشمس" لغسان
كنفاني ترى كيف يحول النص الأدبي المليء بالصور والدراما إلى صورة سينمائية
بلغة أخرى تحافظ على روح النص لكنه في الوقت نفسه يملك حرية شديدة في
التناول البصري وهذا الأمر كان يقع سنوات السبعين من القرن الماضي عندما
صنع الفيلم في سوريا، وقد حظرت معه أكثر من مرة في لقاءات عامة وكان يحكي
عن المعاناة التي لقيها حتى ينتج هذا الفيلم في مصر وبعده معاناة أخرى حتى
ينتجه في سوريا، وكان يحكي مثلا أن الرجل الذي يدفع العربة التي تحمل
الكاميراة لتتابع حرة الممثلين لم يكن موجودا ولا أحد يحسن استعمال تلك
التقنية في سوريا في ذلك الوقت، وكل هذا الإصرار والبلاغة السينمائية أثر
في وفي مستقبلي.
·
هل كان توفيق صالح مصنّفا
إيديولوجيا؟
نعم لقد كان رجلا اشتراكيا بشكل واضح حتى في أفلامه وهذا كان منبع
احترامي له لأنه برغم اختلافي معه لم يجبرني ولا أي واحد من تلامذته على أن
نأخذ من فكره أن ننهل من منهجه ولم يتحدث مرة واحدة عن النظم الاشتراكية أو
الفكر الاشتراكي وهذا كان مجال احترامي له، لكن كان هناك بعض الأساتذة
يحاولون التأثير في الطلبة أو توجيه رأيهم بحكم سطوة الأستاذ على الطالب
لكن توفيق صالح في الحقيقة لم يفعل ذلك أبدا ولم يكن يجبرنا على اتخاذ آراء
معينة، وهذا كان علامة فارقة في تاريخي معه باعتباري طالبا لديه.
·
هل يمكن أن تحدثنا عن علاقتك
الشخصية معه لأن هذا الأمر سيظهر للقارئ ملامح توفيق صالح؟
عندما بدأت الدراسة مع الأستاذ توفيق صالح من ضمن الأمور التي لا
أنساها أنه كان يجلس معنا في المعهد فترات طويلة جدا من غير فترات الدراسة،
هو كان يقول بأنه لا ضرورة لإجازة نصف السنة الدراسية لأننا كنا نقضيها في
التدريب العملي معه وكان يفتح المعهد لدفعته فقط ونذهب إلى المعهد يوميا عن
طيب خاطر لأننا كنا ننهل من علمه، وفي السينما علاقة "المعلم" بـ"الصبي"
مهمة جدا لأنه كلما احتك الطالب بالأستاذ كلما كانت الاستفادة أكبر ليس في
المعلومة بل في الخبرة، كان يقدم لنا 40 أو 50 عاما من الخبرة في كبسولات
يومية أثناء الدرس. ورغم ذلك لم يكن التدريس بمعهد السينما مجزيا ماديا له
وأنا أعرف ذلك تماما، وهو كان كذلك طول حياته فهو كان عفيفا فلم يكن في نفس
الوقت وحسب ما أعرف عنه غنيا غناءَ فاحشا، لقد كان عالم سينما وفيه سمت
العلماء
أتذكر أنني كنت أتعمد الانتظار حتى ينتهي من التريس فأقف قريبا من
سيارته وأسلم عليه لينقلني معه في السيارة إلى الجيزة ثم أستقل حافلة إلى
سكني في مصر القديمة، وقد كانت فترة العشر دقائق التي كانت معه في السيارة
مثل الدرس المكثف.
·
أيهما كان يغلّب التعليم النظري
أم التدريب التطبيقي؟
التدريب التطبيقي.
·
قلت إن توفيق صالح كان "عالم
سينما" والعالم عادة يهتم بالنظرية فكيف يكون مهتما بالتطبيق؟
عندما أقول عالم وسينما فإننا هنا ربطنا بين الأمرين بين فكرة العلم
والتطبيق في السينما وهذا هو توفيق صالح، فهو مُقل وعنده سبعة أفلام فقط
وعنده سيناريو آخر يمكن أن نتحدث عنه لأنه أثر في شخصيا بشكل كبير جدا،
الشاهد من المسألة أنني كنت تلميذا في رحاب أستاذي توفيق صالح ولا أعرف سبب
هذا الأمر إلى حد الآن. وقد كتبت في رثائه أنه علمني أن الصورة فكرة وأن
الفن قيمة وأن العمل الفني مسؤولية، ففي كل لقطة يجب أن نعرف ماذا يصل منها
للمشاهد.
·
هل كانت لتوفيق صالح مشاركات سياسية؟ قلت إنه اشتراكي فكيف كان يجسد ذلك
ليس في السينما بل في حياته العامة وفي مواقفه؟ وهل كانت له انخراطات في
الأحزاب مثلا؟
لم أعرف عنه في حدود معلوماتي وعلاقته به في الفترة التي احتككت به
فيها، وكنت حتى نهاية حياته على اتصال به، أنه انخرط في أحزاب سياسية أو
كان له نشاط سياسي ولكني أعرف جيدا أنه نشيطا جدا سينمائيا فقد كان عضوا في
عدة لجان منها اللجنة العليا للمهرجانات وكان عضوا في لجان تحكيم كثيرة
وكان عضوا في لجنة اختيارات الأفلام وكُرم في أكثر من مكان، فضلا عن نشاطه
في معهد السينما، بل لقد كان يعمل في بيته حيث كنا نذهب إلى هناك لنتابع
الدراسة معه، كما كنا نجتمعه معه ومع أسرته في لقاءات اجتماعية، وفي كل ذلك
كان يعلن لنا كتلاميذ أو في النقاشات العامة عن مواقفه من بعض الأنظمة ولكن
لم يكن له نشاط سياسي حزبي مع أنه كان يبدي آراءه في الأحداث دائما.
·
ماذا تتذكر أيضا عن الرجل؟
أتذكر موقفا يدلل على أنه متسقا مع أفكاره، طُلب مني بحث خلال السنة
الثانية بمعهد السينما فأعددت بحثا بعنوان مبدئي وذهبت إلى توفيق صالح في
السيارة كما أسلفت وقد كان البحث عنوانه "العلاقة بين الرؤية الفكرية
والقواعد التكنيكية عند المخرج" مع التطبيق على حركة المجاميع في أفلام
توفيق صالح فسألني عن المحاور وعندما حدثته عنها قال إن هذا البحث هو رسالة
ماجستير، وقد أثبت له من هو المخرج الذي أعنيه وهو ليس مخرج التقنيات فقط
بل مخرج صاحب رؤية وإيديولوجيا وهنا أقصد توفيق صالح لأنه صاحب رؤية
اشتراكية، أما القاعدة التقنية فمعروفة وقد شرحتها وطبقت ذلك على تقنية
واحدة للمخرج هي حركة المجاميع أو جموع الناس لأنها كانت في أفلام توفيق
صالح تعبر عن فكر اشتراكي، لقد كانت المجاميع بطلا في كل أفلام توفيق صالح،
كانت هذه "اللقطة" كما أسميها مؤثرة جدا في علاقتي بهذا الرجل، وإن من ضمن
الأمور التي تعلمتها منه أن تكون متسقا مع نفسك وأفكارك وهذا سيجعل الناس
حتى لو اختلفوا معك يحترمونك.
·
وأخيرا ماذا بقي من توفيق صالح؟
أنا أظن أن أفضل شيء قدمه توفيق صالح للإنسانية وللمجتمع المصري
تحديدا هي أفلامه، وهي أفلام ستبقى لأنها مصدر للحياة فكل فيلم يصلح أن
تراه في كل وقت، هو تأثيره في بعض صانعي السينما، لا يهم أن يكونوا امتدادا
له ولكن على الأقل أن يحملوا قيمه في احترام ذواتهم واحترام المشاهدين
واحترام هذه الصناعة والفن الراقي الجميل وهو السينما، أظن أن هذه ستبقى
أكبر منتجات توفيق صالح، وقد قلت له مرة في بيته سأبقى بعد الله سبحانه
وتعالى وبعد والدي مدينا لك بكثير مما أفهمه الآن سواء في رؤيتي للفن أو في
عملي في الفن وفي إدارة الفن وسيبقى فيّ جزء كبير من القيم الحاكمة وما
يسمى بالسياق الفكري العام وجزء كبير منه سيبقى متأثرا بهذا الرجل، وهذا ما
تبقى منه.
الجزيرة الوثائقية
في
15/09/2013
عم توفيق.. المتمرد الكبير (١ من ٢)
على أبوشادى
فى صباح يوم الأحد الثامن عشر من أغسطس الماضى، رحل عن عالمنا المخرج
الكبير والفنان القدير والأستاذ المُعلِّم توفيق صالح، الذى شغل -وسيظل
يشغل- مكانة رفيعة فى تاريخ السينما فى مصر والعالم العربى، رغم أن قائمة
أفلامه لا تضم سوى سبعة أفلام روائية طويلة وأحد عشر فيلماً تسجيلياً،
أنجزها فى الفترة من ١٩٥٥ وحتى ١٩٨٠، حيث توقف بعد ذلك عن الإخراج، لأسباب
بعضها شخصى وأكثرها موضوعى.. ربما زهداً أو تعففاً عن العمل فى ظل الظروف
السائدة فى السينما المصرية، أو انتظاراً لفرصة يحقق فيها رغبته فى تقديم
عمل يتوازى، إن لم يتجاوز، ما أنجزه أبناؤه وتلامذته، أو ربما عزوفاً عن
فكرة الإخراج اكتفاءً بدور الأستاذ فى معهد السينما وفى الجامعة الأمريكية
وفى الواقع الثقافى ذاته، وهو دور عظيم، فإخراج فيلم يحمل توقيع توفيق صالح
إضافة حقيقية إلى السينما العربية، لكن صناعة وإعداد جيل سينمائى يحمل تلك
القيم التى عاشها ورعاها ودعا إليها توفيق صالح، بدءاً من تكريس فكرة
الانتماء القومى والوطنى والسعى الحثيث نحو تغيير المجتمع إلى الأفضل إلى
احترام السينما كفن وصناعة وتقدير دورها كرافد أساسى من روافد الثقافة
الوطنية.. إضافة إلى كونه نموذجاً وقدوة لاحترام الذات ورفض التنازلات،
وكونه مقاتلاً شرساً ومدافعاً صلباً عن قيم الحق والعدل والحرية
والديمقراطية. نقول إن صناعة هذا الجيل الجديد المنشود ليتبنى ويؤمن
بمنظومة تلك القيم النبيلة ربما كان على المستوى الاستراتيجى، من وجهة نظرى،
لا يقل أهمية عن إنجاز فيلم، فأبناء طه حسين وحواريو العقاد وتلامذة زكى
نجيب محمود، على سبيل المثال، هم أفراد تلك الكتيبة التى تحمل لواء الثقافة
الوطنية، وتذود عنها حتى الآن، ونحن فى حاجة إلى جيل قادم يحمل هموم الوطن
وأشواق المواطن وآماله، جيل يجعل من الفن وسيلة وغاية، أداة وهدفاً نحو
تحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
يرحل توفيق صالح عن سبعة وثمانين عاماً إلّا قليلاً (٢٧ أكتوبر ١٩٢٦/
١٨ أغسطس ٢٠١٣)، قضاها منذ شبابه المبكر فى محاولة إعادة الاعتبار للسينما
المصرية التى كانت قد انغمست، بعد الحرب العالمية الثانية، فى أعمال تجارية
هزيلة، غارقة فى الميلودراماالعنيفة، والكوميديات الفجّة المحتشدة
بالأغنيات والرقصات والاستعراضات والأفكار التى تستلب عقل المشاهد وتزيّف
وعيه.. كان الشاب المفعم بحب الوطن، القادم من باريس بعد دراسته فى معهد
السينما «إيديك»، المُتََزوِّد بثقافة سينمائية رفيعة، حريصاً على إعادة
قراءة معظم الإنتاج السينمائى المصرى، الذى سبق عودته فى بداية الخمسينات،
ودراسة هذا الإنتاج من موقع الناقد والفنان معاً، لذا كان من المحتم أن
يُبحر عكس اتجاه السينما السائدة، باحثاً بإصرار ودأب عن سينما مختلفة تحمل
رؤية واعية للفن، وللدور الذى يجب أن يلعبه فى التعبير عن قضايا الإنسان
المصرى، فجاءت أفلامه، على قلَّة عددها -سبعة أفلام فقط خلال خمسة وعشرين
عاماً منذ فيلمه الأول «درب المهابيل ١٩٥٥» إلى فيلمه الأخير «الأيام
الطويلة / العراق ١٩٨٠»، مروراً بـ«صراع الأبطال ١٩٦٢» و«المتمردون ١٩٦٨»
و«يوميات نائب فى الأرياف ١٩٦٩» و«السيد البلطى ١٩٦٩» ثم «المخدوعون /
سوريا ١٩٧٢»- جاءت هذه الأعمال تعبيراً صادقاً، وتحقيقاً مثالياً لرؤية
وأفكار المخرج الكبير، وامتداداً شرعياً لفيلم كامل التلمسانى «السوق
السوداء ١٩٤٥» الذى يمثل البداية الحقيقية لتيار الواقعية فى السينما
المصرية.
يبدأ الشاب المشاكس فى ارتياد مقاهى المثقفين وتجمعات الأدباء، وهناك
يلتقى بالكاتب الكبير نجيب محفوظ وتنشأ بينهما صداقة عميقة تمتد حتى وفاة
«محفوظ» الذى ساهم فى تقديم «توفيق» إلى السينما، حين خصَّه بقصة فيلمه
الأول «درب المهابيل»، الذى عرض عام ١٩٥٥ ليعلن عن ميلاد مخرج جديد كبير.
قامت الثورة المصرية فى يوليو ١٩٥٢، انتعشت الآمال، وبدا المستقبل
واعداً بالتغيير إلى الأفضل، وتتقدم الثورة بخطوات راسخة نحو تحقيق العدالة
الاجتماعية، وتنتصر لحق الطبقات الكادحة، وهى الأفكار التى تطابقت مع أحلام
الشاب اليسارى، وفتحت أمامه آفاق التعبير عن رؤيته للواقع المصرى، لينطلق
مطوِّراً لتجارب كمال سليم وصلاح أبوسيف، مستكملاً التجربة الناضجة لكامل
التلمسانى، حيث لم تَعُد الواقعية مجرد رصد وتصوير للواقع، وإنما هى -فى
تعريفها الكلاسيكى- رؤية الفنان لهذا الواقع وقدرته على التحليل الاجتماعى
لعناصره، والتعبير عن العلاقات الاجتماعية بين الفرد والمجتمع، وتهتم
بالإنسان العادى فى حياته اليومية، فتأتى حارة «درب المهابيل» متجاوزة
لحارة كمال سليم فى «العزيمة » ١٩٣٩، حيث لم تَعُد مجرد خلفية للأحداث، أو
مظهر فولكلورى، وإنما عكست جدلية العلاقة بين الإنسان والمكان فى زمان محدد
بما يعنيه ذلك من خصوصية اللحظة التاريخية.. فى هذه الحارة التى تبدو
متماسكة من الخارج، تهبط ورقة اليانصيب الرابحة كالضوء الساطع الذى يُظهر
ما فى النفوس من ظلام، ويُعرِّى قسوة التناقضات وصراعات المصالح الصغيرة
والضيقة داخل الحارة، ويُفصح عن عناصر التخلف والتواكل حين يدخل الجميع فى
سباق محموم للاستحواذ على الثروة التى هبطت من السماء، ويصل الصراع إلى
ذروته حين يقتتل أهل الحارة ويسقط أحدهم صريعاً بيد ابنه.. تلتهم الماعز
أوراق البنكنوت، فتنهار أحلام سكان الحارة، لتعود مرة أخرى إلى سابق
سكونها، لكنها، بالقطع، ليست هذه الحارة التى شاهدناها فى بداية الفيلم.
استُقْبِل الفيلم -المختلف عن السائد- بشكل سيئ من الجمهور «ولم يذكر
ناقد واحد الفيلم بكلمة طيبة!»، على حد تعبير الأديب الكبير عبدالحميد جودة
السحار الذى شارك فى إنتاج الفيلم.
هكذا سقط النقد السائد، وسقط الجمهور المشبع والمتخم بالسينما
السائدة، وانفض المنتجون من حول الشاب الواعد، وابتعدوا عنه لسبع سنوات
كاملة!
الوطن المصرية في
15/09/2013
عم توفيق.. المتمرد الكبير (٢ من ٢)
على أبوشادى
سقط «درب المهابيل» جماهيرياً ونقدياً عند عرضه الأول عام ١٩٥٥، مما
تسبب فى إحجام المنتجين عن التعاون مع ذلك الشاب الطائش توفيق صالح، إلى أن
منحه المخرج الكبير عز الدين ذو الفقار -وكان فناناً بحق- بعد سبع سنوات
عجاف، فرصة تقديم فيلمه الثانى «صراع الأبطال ١٩٦٢» حيث يرحل «توفيق» إلى
قرية مصرية فى نهاية الأربعينات، تعانى مثل بقية القرى، حينئذٍ، من وطأة
الفقر والجهل والمرض، محاولاً تحليل الواقع الاجتماعى والاقتصادى للقرية
مشيراً بحدة إلى تحالف الاستعمار مع قوى الرجعية والإقطاع، فيما قبل ١٩٥٢،
لاستنزاف مقدرات الوطن.
فى «صراع الأبطال» وبحثا عن جماهيرية افتقدها فى «المهابيل» قرر توفيق
صالح الاستفادة من مواصفات البطل الميلودرامى الإيجابى، النبيل، المثالى،
الخيِّر، المتميّز بالشجاعة والنزاهة، ونجح فى أن يعلو به من مجرد شخص يبحث
عن خلاصه الفردى، كما فى الميلودرامات الرثَّة، إلى شخصية تبحث عن خلاص
الجموع، وهو ما يصل بها إلى مشارف الواقعية ويكاد يحمل ملامحها.
بعد أربع سنوات أخرى من التوقف الإجبارى، يتعرض فيلمه «المتمردون» فى
عام ١٩٦٦ لعنت رقابى يُجْبِر توفيق على حذف بعض المشاهد وتعديل واختصار
مشاهد أخرى، ويصل الأمر إلى ذروة المأساة حين تُضاف إلى الفيلم نهاية جديدة
غير نهايته الأصلية، تتوافق مع توجهات السلطة كما حدث -سابقاً- مع فيلم
«لاشين» لفريتز كرامب فى نهاية الثلاثينات.
فى «المتمردون» وبجسارة غير مسبوقة، ينتقد «توفيق»، بحدة، الوضع
السياسى لرجال الثورة، بل ويحرض قوى الشعب على أن تثور، على الثورة،
فالمصحة/المكان الذى تدور فيه الأحداث، والمرضى/البشر، مجتمع مواز ابتدعه
المخرج لتدور فى داخله دراما الاحتجاج والتذمر والتمرد.. وليكشف أن
الطبيب/المثقف/القائد قد تخبط بين آثار طموحه القديم ونزعاته التطلعية
وافتقاده لرؤية ثورية منهجية يدير بها المصحة/الوطن بعد أن استولى عليها فى
انقلاب مباغت، لم يكن هو -أو جماهيره- مهيئين له!
فى فيلمه الثالث «يوميات نائب فى الأرياف » ١٩٦٩، عن رواية توفيق
الحكيم، يُقفل راجعاً إلى الثلاثينات محتمياً بالماضى، ليقول كلمته فى
الحاضر، عبر تناول علاقة القانون بالواقع، ويفضح ذلك القانون الجائر
المنحاز لمصالح الحكام، أيّاً كان الحكام، الظالم للفقراء والكادحين،
فالعدل الحقيقى هو الذى يعبر عن مصالح السواد الأعظم من الشعب ويتوخى مصلحة
الإنسان البسيط الكادح.
ربما طاشت سهام عم توفيق فى آخر أفلامه «الأيام الطويلة» الذى قدمه فى
العراق، بحسه الدعائى، وهزاله الفنى، أو تشوشت رؤيته وارتبكت فى خامس
أفلامه «السيد البلطى ١٩٦٩» نتيجة تعسف الرقابة وحذف عشرات المشاهد، فإن
رائعته «المخدوعون ١٩٧٢» من إنتاج سوريا التى رحل إليها بعد وصول السادات
إلى الحكم فى بداية السبعينات، وعن رواية الكاتب الفلسطينى الشهيد غسّان
كنفانى «رجال فى الشمس» تعد واحدة من كلاسيكيات السينما العربية فى القرن
العشرين حيث يتسم الفيلم بنضج الرؤية ونفاذ البصيرة والقدرة على استشراف
المستقبل، ففيه يرصد الواقع الفلسطينى بعد عشر سنوات من النكبة، الممزق بين
الإحساس بالمهانة والإهانة والذل والضياع داخل المخيمات، وبين ضياع القضية
خارجها عبر الثرثرات العقيمة للحكومات العربية، ويحلل فى رهافة ومن دون
إدانة، كيف يتخذ هذا الإحساس، تحت وطأة الفقر والقهر طريقا خاطئا يدفع
بأصحابه إلى الهروب المفضى إلى الهلاك والموت..
جاء «المخدوعون»، بلغته السينمائية الراقية والبليغة، جماعاً لخبرة
توفيق صالح ومحصلة ثمينة لأعماله السابقة، وانعكاساً لإيمانه القوى بدور
السينما كأداة تعليمية، وتحريضية، فى مجتمع يعانى من التخلف والأمية،
فاعتمد فى إخراجه على البساطة والوضوح، دون إغراق فى شكلية قد تفسد عملية
التلقى وعبر الحوار المسهب الذى يلعب دوراً مهماً فى سينما توفيق صالح.
رغم كل ما واجهه عم توفيق من عنت وعقبات ومشكلات خلال رحلته
الإخراجية، لم يفقد إيمانه بالشعب، وظل مصراً، دون كلل، على كشف وتعرية
الواقع المتردى، وفضح تحالف الفقر والجهل والمرض والأمية والاستغلال فى دفع
المجتمع إلى مزيد من التخلف.. وكانت وسيلته المفضلة هى وضع مجموعة بشرية
واحدة داخل وحدة مكانية، يدير بينها صراعاً يكشف عن تناقضات الواقع، فيوقظ
الوعى، ويوجه طاقات المشاهد إلى مقاومة الظلم والاستبداد، ورفض
الديكتاتورية، والإيمان بالعلم.. واحترام إرادة الإنسان.
لا تتأتى قيمة سينما توفيق صالح، ومكانتها الفريدة فى تاريخ السينما
العربية من كونها أفلاماً تحريضية، أو تعليمية، أو من تميزها الفنى
وجسارتها الفكرية، أو من قدرتها على التواصل الحىّ الفعّال مع الواقع
المعاصر فحسب، أو من محصلة كل هذه العناصر معاً.. بل تكمن تلك القيمة فى
هذه الروح التى تسرى فى أوصال تلك السينما، رغم قتامة الطرح فى كثير من
الأحيان، وفى ذلك التوهج المشع الذى ينتقل إلى المشاهد وينقل إليه إحساساً
داخلياً طاغياً، وواعياً، يشحذ قدرته على المقاومة، ويقوى عزيمته، ويجعله
دائماً، أقوى مما كان.. وتلك أهم سمات الفن الرفيع الذى وضع اسم توفيق صالح
على رأس قائمة المخرجين العرب، وبدت أفلامه كلآلئ تُرصِّع تاج السينما
العربية.
الوطن المصرية في
22/09/2013
عن توفيق صالح: "صراع الأبطال" أوالواقعية الخلاقة
رسالة في التحديث في "زمن الكوليرا.."
عصام زكريا
"صراع
الأبطال" هو أقرب أفلام توفيق صالح إلى قلبي لأسباب شخصية وموضوعية.
الأسباب الشخصية تعود إلى التأثير الكبير الذي تركه الفيلم على عندما
شاهدته وأنا طفل في واحدة من دور عرض الدرجة الثانية والثالثة التي كانت
تزين حي السيدة زينب بوسط القاهرة.
لا أذكر هل شاهدت الفيلم وحدي أم برفقة أسرتي أو أحد الأصدقاء، ولا
أذكر العام الذي شاهدته فيه، لكن أعرف أنه كان واحدا من أوائل الأفلام التي
شاهدتها في حياتي، وأن بعضا من مشاهده علقت في نفسيتي منذ ذلك الحين
بالإضافة إلى بعض مشاهد فيلم أمريكي "ويسترن" – أو "كاوبوي" كما كنا نطلق
عليه- لم أعد أذكر اسمه، والغريب أن هناك ما يربط بصريا وشعوريا بين هذين
الفيلمين مما سيأتي ذكره لاحقا.
الآن، عندما أعيد مشاهدة "صراع الأبطال" أدرك أسباب جاذبيته، مقارنة
بأعمال توفيق صالح الأخرى، وعلى رأسها تلك الشحنة الميلودرامية الشيقة
والساخنة، كما أدرك اختلافه عن معظم أفلام السينما المصرية الميلودرامية
بايقاعه المبهر وتكثيفه المقطر ونصه السينمائي المحكم.
ينتمي "صراع الأبطال" إلى الميلودراما بمعناها الغربي، الافراط في
التعبير وغرابة الواقع والحوادث المثيرة اللاهثة ومشاهد العنف الشديدة
والاحساس الطاغي بالخطر الذي يسيطر على المشاهد، أقرب مما ينتمي
للميلودراما المصرية ذات الايقاع المترهل، والدراما الفاترة، خفيفة الوطأة،
والمخففة إضافيا بجرعات من الكوميديا والفواصل الغنائية ومشاهد المناجاة
الغرامية الساذجة.
الآن، يثير دهشتي اكتشاف الشبه بين "صراع الأبطال" وبين أفلام "الويسترن"
والمغامرات الأمريكية التي كنت أدمنها في طفولتي. لا أعلم مدى تأثر توفيق
صالح بنوع "الويسترن"، ولكن سيناريو "صراع الأبطال" مبني على النموذج
النمطي لهذه النوعية: راعي البقر الوحيد الغريب، الذي يصل بالصدفة إلى قرية
نائية تشهد صراعا دمويا بين الخير والشر، حيث ينحاز البطل إلى قوى الخير
ليقودها إلى الانتصار ثم يرحل كما جاء على ظهر جواده مرددا أغنيته الأليفة:
"أنا راعي بقر وحيد، قادم من بلاد بعيدة" كما تقول الأغنية الشهيرة التي
يرددها "لاكي لوك" بطل القصص المصورة الشهيرة. هذا البطل الأسطوري، الأقرب
إلى النموذج التجريدي، قليل الكلام، مقتصد التعبير عن عواطفه، الغامض
قليلا، والمحدد الهدف القادر دائما على تحقيقه مهما كانت العقبات والعواقب،
الشجاع في مواجهة المخاطر والأعداء مهما كان عددهم.
بداية من محطة القطار التي يبدأ بها الفيلم بمشهد طويل نسبيا للقطار
القادم حاملا بطل الفيلم، الدكتور شكري – شكري سرحان- والتي ينتهي الفيلم
داخلها أيضا بمشهد طويل نسبيا للقطار الذي يقل الدكتور شكري راحلا عن
القرية بعد أن أدى مهمته على أكمل وجه، يحتوي الفيلم على العديد من "تيمات"
– أفكار- و"موتيفات" –عناصر روائية- من أفلام الويسترن، كما يظهر في المثال
الآتي: بطل أفلام الويسترن نبيل ومثالي، ولكنه جاف المشاعر و"لا منتم"
بالمعنى الوجودي الذي فصله شرحا المفكر كولن ويلسون في كتابه الشهير "اللامنتمي".
في أفلام الويسترن عادة ما نعرف الكثير عن ماضي وحاضر كل الشخصيات باستثناء
البطل الذي لا نعرف شيئا عن ماضيه ولا دوافعه، وعادة لا يتورط بطل الويسترن
في مغامرات عاطفية حميمة، وإن كان يدخل من حين إلى آخر في مغامرات عاطفية
عابرة تنتهي دائما مع نهاية مهمته، حيث يترك محبوبته في قريتها ويرحل
وحيدا. في "صراع الأبطال" تبدو علاقة الحب التي تجمع الدكتور شكري بعفاف –
سميرة أحمد- من هذا النوع، الغريب على الميلودراما المصرية التي لا تعرف
سوى الحب المشبوه الذي يصبح محور دراما الفيلم ومحور حياة البطلين
المحبوبين. شكري يتزوج من الشابة عفاف انقاذا لحياتها وسمعتها، ورغم
اهتمامه السابق بها إلا أنه لا يخبرها بحبه بل يخبرها بأن الزواج بينهما
صوري فقط انتظارا لما ستسفر عنه عواطفهما، ورغم أن الحب يواصل النمو بينهما
بكل أطيافه: الاهتمام والشغف والخوف على الآخر والغيرة عليه، إلا أن شكري
يصر على الرحيل تاركا عفاف خلفه، ويبدو أن توفيق صالح اضطر إلى إضافة عفاف
لمشهد رحيل الدكتور شكري، حيث يأتي بها أحدهم ويلقي بها داخل القطار ولكننا
لا نرى بعدها أي لقطة مباشرة لوجه شكري لنعرف رد فعله...حيث تظل شخصيته
بالنسبة لنا أقرب إلى صورة راعي البقر الوحيد دائما فوق صهوة جواده.
بالرغم من أن "صراع الأبطال" يخلو من المعارك والصراعات البطولية
البدنية، إلا أنه فيلم "حركة" بامتياز، وهو كما ذكرت سابقا يخلو من ترهل
الميلودراما التي تصم حتى أفلام الحركة والمغامرات فيها. خذ عندك مثلا فيلم
"الرجل الثاني" الذي يعتبر واحدا من علامات نوع الجريمة والتشويق في
السينما المصرية. "الرجل الثاني" يبدو خفيفا جدا وربما مملا بالنسبة
لـ"صراع الأبطال" بالرغم من خلو الثاني من عناصر أفلام المغامرات من جريمة
و"عساكر وحرامية" وقتل ومسدسات ومخدرات وغانيات.
كان من المفترض أن يقوم عز الدين ذو الفقار، مخرج "الرجل الثاني"،
باخراج "صراع الأبطال"، ولكنه اعتذر لشدة مرضه وعهد للشاب توفيق صالح
بالفيلم وورقة اقتراحاته على السيناريو الأصلي الذي كتبه عبد الحي أديب.
حين أفكر في الشكل الذي كان يمكن أن يخرج به "صراع الأبطال" على يد عز
الدين ذو الفقار، أتخيل فيلما بالغ الاختلاف...لا أقصد أسوأ أو أفضل، ولكن
فيلما مختلف الاسلوب والمذاق والتأثير تماما.
"صراع الأبطال" فيلم قاسي، وقسوته تنبع من واقعيته المتفردة
الخاصة بتوفيق صالح. تظهر ملامح هذه الواقعية مع أول فصول الفيلم، بعد مشهد
وصول شكري والعناوين، الذي يقوم فيه رجل هائج بالقاء نفسه في الترعة وأهل
القرية والشرطة يحاولون الامساك به. وعلى عكس ما يشاع من أن الرجل مجنون،
يكتشف الدكتور شكري أنه مريض بالبلاجرا، ونعرف من خلال أعراض المرض على جسد
الرجل وشرح الطبيب لأسبابه وأعراضه معلومات علمية دقيقة. وقرب نهاية الفيلم
يقوم الدكتور شكري بمعالجة طفل وليد شبه ميت لينفخ فيه الحياة مجددا،
بالتنفس الصناعي وتدليك قلبه بتفاصيل "علمية" دقيقة...حتى لو كان المشهد
"غرائبيا" و"مروعا" بعض الشئ.
لا يتورع توفيق صالح عن تصوير مشهد "مقزز" بمعايير الميلودراما
التقليدية يظهر فيه جندي انجليزي يتقيأ أمام عربات فضلات طعام المعسكر
الانجليزي، "الرابش"، على صدر أحد العمال المصريين، الذي يقوم بمسح القيئ
بيديه ثم يواصل جمع فضلات الطعام الذي سيذهب فيما بعد إلى الفلاحين مقابل
عملهم، وهو ما يتسبب في تفشي مرض الكوليرا في القرية كلها. تذكر حين تشاهد
هذا المقطع مقولة المخرج محمد كريم الشهيرة حول ضرورة تجميل الواقع في
السينما ضاربا المثل بأنه أمر بغسل الأبقار والحمير في مشهد من أفلامه يدور
في الريف!
الريف في "صراع الأبطال" بائس وفقير ومزعج للعين، والريفيون قل أن
يوجد بينهم شخص واع سياسيا مثل سويلم – بدر نوفل- مع ان مشهد البداية الذي
يبدو فيه كمجنون ثم كمريض بفقر الدم الحاد، أضف إليه المشهد الذي يحاول فيه
اغتيال قريبته عفاف بسبب إشاعة تنتشر حول سمعتها، يجعلان حتى سويلم يبدو
كشخص غير عقلاني أحمق لا يختلف كثيرا عن بقية سكان القرية.
واقعية توفيق صالح القاسية تتبدى كأفضل ما يكون في مجموعة المشاهد
التي تصور حالة الهياج التي تنتاب الفلاحين نتيجة الأوامر المتناقضة التي
توجه إليهم. في البداية يذهبون لتلقي التطعيم الخاص بمرض الكوليرا خوفا من
الوباء المتفشي، ولكن عندما تقوم "سيدة القرية" جيهان هانم – زوزو حمدي
الحكيم- بالاحتيال عليهم ليجنوا لها المحصول قبل الذهاب للتطعيم، وتخبرهم
بأن التطعيم وقوات الشرطة التي أتت للقرية هدفهما القضاء على الفلاحين،
يصاب هؤلاء بحالة هلع ويحاولون الفرار خارج أسوار القرية، وتكون النتيجة
موت بعضهم تحت الأقدام، ومن هؤلاء جيهان هانم نفسها، وموت عدد آخر أكبر على
يد قوات الشرطة التي تمنعهم من الخروج حتى لا ينقلوا الوباء إلى القرى
الأخرى.
بعد أن ينزع توفيق صالح الرومانتيكة عن الواقع والريف المصري، يطرح
بشكل عابر ولكن مقلق ومزعج مشكلة الكيفية التي تتعامل بها الدولة التقدمية
العلمية مع الحشود الجاهلة الفقيرة التي تقف ليس فقط ضد مصالحها، ولكنها
تهدد حياة ومصالح بقية المواطنين، وهو سؤال مطروح بقوة في مصر اليوم مثلما
كان مطروحا في العهد الناصري وفي عهد محمد علي.
أحيانا تغلق كل الأبواب أمام صوت العقل والاقناع مع مجموعة من البشر
يتلاعب بعقولها الضحلة عصابة من المنتفعين، ويندفع هؤلاء تحت تأثير رغبة
غريزية محمومة لتدمير الذات والعالم من حولهم. هذه المواجهة الدامية تنتهي
عادة بكوارث يروح ضحيتها العشرات والمئات وربما الآلاف. لا يحكم توفيق صالح
أخلاقيا على الموقف، ولا يبرر أو يتعاطف مع أي من الطرفين، فهو يصور فساد
الشرطة وخنوعها لأهل السلطة والمال في شخص الضابط عزت – حسين قنديل- الذي
يقول أنه مجرد موظف يخشى على منصبه وعمله، كما أنه يتعامل مع أهل القرية
باعتبارهم ضحايا الجهل والمرض حتى في أكثر لحظاتهم غوغائية وخطرا...لا
ينحاز الفيلم إلى طرف تجاه الآخر ولكنه يلتزم بالطرح العلمي للواقع، واضعا
المشاهد أمام مسئولياته كانسان ومواطن.
يسيطر على الفيلم كما ذكرت جو كابوسي خاصة في المشاهد الليلية
المتأثرة باسلوب "الفيلم نوار" أو الطبيعية الألمانية، من استخدام زائد
للظلال والمساحات المظلمة، حيث يبرع مدير التصوير كمال كريم في المشاهد
الداخلية تحديدا، ومما يزيد الاحساس الكابوسي للفيلم ذلك الطابع الانثوي
للشر الذي يحيق ببطلنا الوسيم البرئ مثل ولد بكر، من زوزو حمدي الحكيم في
دور أقوى وأغنى إمرأة في القرية، والتي تتحكم حتى في ابنها عادل بك – صلاح
نظمي- إلى نجمة إبراهيم في دور "الداية" و"حكيمة الصحة" والساحرة أم هلال.
تشيع زوزو حمدي الحكيم نوعا من السلطة المسيطرة القادرة على عمل أي شئ،
بينما تشيع نجمة إبراهيم بملابسها السوداء وصوتها الأفعواني خوفا
ميتافيزيقيا خليقا بهذه البيئة الريفية النائمة فوق مستنقع من الخرافات
المفزعة. وإذا كانت جيهان هانم تستعرض قوتها غالبا في قصرها الشاهق الذي
يطلق عليه "السراية" – اسم قصر الملك- على السلالم والأدوار العليا التي
تشير لوضعها الطبقي المرتفع، فإن أم هلال تظهر دائما في الأماكن المنخفضة
من بيوت وغرف نوم الفلاحين والمقابر التي تتوسط القرية.
من الناحية المقابلة فإن سميرة أحمد في دور عفاف- الريفية المتعلمة
التي تعمل كمدرسة وتسعى مثل الدكتور شكري لرفع وعي أبناء طبقتها، وليلى
طاهر في دور عروس عادل الرقيقة الباحثة عن الحب والمعذبة بفعل صفقات وأطماع
طبقتها، تمثلان وجها آخر محببا للانوثة يحمي الفيلم من تهمة معاداة المراة
ويحفظ فكره التقدمي العلمي الذي يعتنقه توفيق صالح وأبطاله.
يبقى أن أشير إلى عنصرين الأول يتعلق بالسيناريو والثاني بالإخراج.
بناء الشخصيات يتبع منهجا علميا صارما في تقسيم المجتمع إلى طبقات ووظائف
بداية من الاقطاعيين وضباط الاحتلال الانجليزي، وصولا إلى حثالة
البروليتاريا التي تعمل مقابل فضلات الطعام، مرورا بالشرطي والطبيب والمعلم
وعمدة القرية و"الداية"...الخ
وإذا عدت إلى ما بدأت به عن الكيفية التي صنع بها فيلمه الأكثر
"ميلودرامية"، فإن مهنة البطل هنا مثل آخر على طريقة عمل صالح الذي كتب
السيناريو بجانب الاخراج.
الطب هو المهنة الأولى لأبطال الميلودراما المصرية، منذ فيلم "الدكتور
فرحات" لتوجو مزراحي (1935)، ويمكن ارجاع ذلك إلى الارتباط الوثيق بين
مشروع الحداثة في مصر ومهنة الطب، بالطريقة التي نجدها مباشرة في فيلم
"صراع الأبطال"، أو "قنديل أم هاشم" لكمال عطية (1968)، ولكن في الوقت الذي
تجاهلت فيه الميلودراما المصرية تلك العلاقة المباشرة بين مهنة البطل
والسؤال الرئيسي للمجتمع المتعلق بقبول أو رفض المدنية والحداثة، والاكتفاء
بنسج قصص حب وغيرة وصراعات صغيرة غير مباشرة، فإن "صراع الأبطال" يدخل في
لب المشكلة مباشرة، ولا يحاول بأي شكل التخفيف على المشاهد أو تقديم
الأفكار له في قالب ترفيهي مسلي غير مقلق له.
إذا كان يمكن اختصار المخرج الراحل توفيق صالح في صفة واحدة، فهي
بالتأكيد صفة الصراحة مهما كلفه أمرها من متاعب!
الجزيرة الوثائقية في
18/09/2013 |