حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل توفيق صالح

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس

عن اقتباس توفيق صالح لرواية "المخدوعون" لغسان كنفاني

(1 من 6 حلقات)

بقلم: عبد الله حبيب *

 

 

(تنويه ضروري بعض الشيء:  يمثل ما سيرد أدناه إيجازاً مُخِلا من أحد جوانب مشروع كُتَيِّب عملت عليه في ثلاث أوراق  بحثية في ثلاثة مساقات لفيلم توفيق صالح الأشهر "المخدوعون" المبني على الرواية القصيرة الأشهر بدورها "رجال في الشمس" لغسان كنفاني.

واختصاراً فقد تطورت لدي فكرة دمج تلك الاوراق البحثية الثلاث وإصدار كتيّب عن الفيلم بالعربية على شاكلة الكتيبات النقدية التي يصدرها بنجاح المعهد البريطاني للسينما(BFI)، حيث يتم تكليف ناقد معين بتأليف كُتَيِّبعن فيلم بعينه له بصمته ووقاره. 

وهكذا فقد خاطبت إحدى الجهات الثقافية العربية المرموقة طارحاً فكرة إصدار الكتيّب فكان الرد بارداً لأسباب سياسية ما كان لها أن تكون أكثر صراحة مما حدث.

 واختصاراً فقد وضعت فكرة إصدار الكتيّب في الفريزر وانشغلت بمشروعات أخرى.  لكني أخرجت الفكرة من الثلج حين زارنا توفيق صالح بصفته ضيفاً عزيزاً ورئيساً بارعاً للجنة تحكيم أفلام المسابقة العربية في مهرجان مسقط السينمائي في دورة العام 2008، فتعرفت إليه وفاتحته بفكرتي فأبدى حماسه من دون التخلي عن تواضعه المعروف. 

وهكذا فقد عقدنا عدة جلسات نقاشية هنا وضعته فيها في صورة المخطط العام للمشروع، واستوضحته فيها حول بعض النقاط.  ثم تلت عودته الى القاهرة مكالمات هاتفية أؤكد له فيها ان الكتيب "سيصدر قريبا" وسأطلعه على مخطوطته النهائية، لكني فقط أريد الانتهاء من كذا وكذا قبل ذلك، فكان يمزح في آخر تلك المكالمات بالقول بما معناه:  هوّه يا راجل أنا حموت خلاص والكتاب بتاعك دَهْ لسّه ما طلعش!وإن كنا قد تبادلنا الضحك حينها، فإنه يؤسفنيجداً الليلة ان البشر يرحلون، وان المخطوطات تتعفن، وان الاعتذار والندم لا يحيقان بالمرء إلا في وقت متأخر كالعادة). 

---------

إلى ذكرى توفيق صالح، في الاستعادة دوماً.

"الرحلة لن تطول كثيراً... هذا هو الشيء المؤكد لدي الآن..."

- غسان كنفاني (1)-

مسعاي من هذا النزر تقديم تحليل نقدي متعدد المرجعيات والمنهجيات النظريةلفيلم توفيق صالح "المخدعون" (2) مقارنة بمصدره الأدبي الأصل، أي رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" (1963) (3).  وستتضمن هذه المحاولة كشف أوجه التماثل والتغاير بين النصين، وإضاءة الجوانب التي يختلف فيها الفيلم عن الرواية على الرغم من التشابه الظاهري بينهما، والذي أوقع الكثير من النقاد في ارتباكات مؤسفة.  كما انني في سياق المقارنة وخارجه سأعرض لبعض الخصائص الجمالية للفيلم باعتباره نصاً يتناغم بطريقته مع مصدره الأدبي في إضاءة ومَشكلة الجوانب التي تجعل من السرد الفني سرداً لحالة سياسية، وتاريخية، وهرمنوطقية، وظرف إنساني، وإمكانية إبداعية.

عن غسان كنفاني بإيجاز

ولد غسان كنفاني لأسرة من الطبقة المتوسطة في عكا بفلسطين في 29 إبريل 1936.  وقد تزامن ميلاده مع أحداث الانتفاضة الفلسطينية ضد الإنجليز والتي قتل فيها نحو خمسة آلاف فلسطيني (تشير بعض الأدبيات السياسية الفلسطينية المعاصرة إليها باعتبارها "الانتفاضة الأولى").  وبتأسيس الدولة الصهيونية في 1948 نزح كنفاني مع أسرته وأسر أخرى على ظهر شاحنة إلى لبنان، ومن هناك لجأ مع أسرته إلى سوريا، فواصل تعليمه من دون أن يتمكن من إكمال دراسته الجامعية في جامعة دمشق.  وقد عمل كنفاني صحفياً ومعلماً في سوريا، والكويت، ولبنان. 

انضم كنفاني مبكراً إلى حركة القوميين العرب التي اعتنق فرعها الفلسطيني الفكر اليساري بالكامل بزعامة جورج حبش بعد نكسة 1967، فأصبح ذلك الفرع منظمة ثورية مسلحة هي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والتي من المعروف انها ألقت بظلاها على حركات التحرر الوطني في كامل الوطن العربي.  وهكذا فقد صار كنفاني الناطق الرسمي بلسان الجبهة، خاصة لجهة اتقانه العصامي للغة الإنجليزية، وشغل منصب رئاسة تحرير صحيفة "الهدف"، لسان حال الجبهة.  أنجز كنفاني كتابة سبع روايات (ترك اثنتين منهما غير مكتملتين)، وخمس مجموعات قصصية، ومسرحيتين، وعدد من الدراسات والمقالات السياسية الأدبية، والرسوم (4). 

اغتيل غسان كنفاني في تفجير سيارته المفخخة في بيروت في 9 يوليو 1972 بتدبير من عملاء الاستخبارات الإسرائيلية الخارجية، الموساد، وقد قضت معه في التفجير إبنة أخته الصغيرة (5).  وقد كتب كنفاني "رجال في الشمس"، وهي روايته الأولى، في العام 1961 في أثناء وجوده متخفياً في بيروت لعدم توافره على أوراق ثبوتية رسمية، ونشرها في العام 1963.

عن توفيق صالح بإيجاز

ولد توفيق صالح في القاهرة في 27 أكتوبر من العام 1926، وحاز على درجة جامعية في الأدب الإنجليزي وإن كان في أثناء دراسته ميالاً أكثر للثقافة الفرنسية، ثم سافر إلى فرنسا لدراسة المسرح لكنه انحاز إلى الإخراج السينمائي.  أنجز صالح فيلمه الروائي الطويل الأول "درب المهابيل" بالتعاون مع نجيب محفوظ في العام 1955. 

غير ان انتاجه السينمائي اللاحق في مصر، والذي بلغ عدده أربعة أفلام روائية طويلة، قد تعثر لأسباب سياسية ورقابية بحيث ان جمال عبدالناصر قد تدخل شخصياً لدى الاتحاد الاشتراكي للحيلولة دون حذف ستة عشر مشهدا من أحد أفلامه. 

أما كامل رصيده السينمائي الإنتاجي فلم يتجاوز عدد سبعة أفلام.  لكن هذا العدد الذي يبدو متواضعاً جعله يترك بصمته الكبرى على تاريخ السينما العربية، ورسّخه باعتباره واحداً من أهم رموز ما اصطلح على تسميته بـ"السينما الجديدة" و"سينما الواقع" في العالم العربي.  ومع بداية السبعينيات وظهور المرحلة الساداتية تعرض صالح لضغوط كبيرة جعلته يفرض على نفسه منفى ذاتياً باللجوء إلى سوريا التي أنجز فيها فيلم "المخدوعون" الذي قُدّر له أن يكون أيقونته الأكبر وذلك في العام 1971، وقد كان ذلك هو الانتاج الأول للمؤسسة العامة للسينما في دمشق.

فاز الفيلم بالجائزة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي في العام 1972، ومثّل المشاركة السورية في مهرجان موسكو السينمائي، كما فاز بالجائزة الخاصة للجنة السوفيتية للسلام.  وبعد ذلك شد صالح الرحال إلى العراق حيث أصبح مديراً للمعهد العالي للسينما، وهناك أيضاً أخرج فيلمه الأخير "الأيام الطويلة" الذي أثار ولا يزال يثير الجدل، وهذه نقطة لا أود التطرق إليها في هذه النسخة من مشروع الكتيّب على الرغم من حديثي مع صالح عنها.  وقد عاد صالح إلى بلاده في منتصف الثمانينيات.

لكن، عودة إلى "المخدوعون"، فإن من المفارق في الأمر أن الفيلم لم يعرض في الصالات السينمائية العامة في دمشق سوى لمدة أسبوعين فقط، ثم أوقف عرضه وهو في عز نجاحه الجماهيري.  ولم يعرض الفيلم عروضاً جماهيرية في بقية بلدان الوطن العربي إلا في تونس، والجزائر، وجمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية (سابقاً)، أما بقية البلدان العربية فقد منعت عرضه.  ولكن الفيلم تم عرضه في بعض الجامعات، وأندية السينما، ومقار الأحزاب السياسية.  وإذا ما أنتم أذنتم لي بذكرى شخصية فإنني سأستدعي اني شاهدت الفيلم للمرة الأولى في صيف العام 1981 في مقر حزب التجمع التقدمي الوحدوي في القاهرة.

الرواية:  "رجال في الشمس" بإيجاز

تدور أحداث رواية "رجال في الشمس" في شهر "آب اللهاب" من العام 1958 (6).  والرواية مستمدة من حدث فعلي هو "موت أربعين فلسطينياً في شاحنة كانت تقلهم خفية إلى الكويت" (7).  تسرد الرواية قصة الشتات الفلسطيني عبر أربع شخصيات هي أبو قيس، وأسعد، ومروان، وأبو الخيزران (8).

------------------

هوامش:

(1).  غسان كنفاني، مادة 5/ 2/ 1961 في "أوراق خاصة:  يوميات 1959 – 1960"، "الكرمل" ،2 (1981)، 247. 

(2).  "المخدوعون" (1971، 146 دقيقة، 16 ملم، أبيض وأسود، كوداك).  إنتاج:  المؤسسة العامة للسينما، سوريا.  مدير الإنتاج:  محمد سالم.  السيناريو والإخراج:  توفيق صالح.  مونتاج:  صاحب حدّاد.  موسيقى:  صلحي الوادي.  الصوت:  زهير فهمي.  مدير التصوير بهجت حداد.  الأدوار الرئيسة:  محمد خير حلواني (أبو قيس)، بسام لطفي (أسعد)، صالح خلفي (مروان)، عبدالرحمن آل رشّي (أبو الخيزران).

(3).  غسان كنفاني، "رجال في الشمس" في "الآثار الكاملة"، (بيروت:  دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، الطبعة الثانية، المجلد الأول.  سأشير إلى جميع اقتباساتي اللاحقة من هذا النص بإيراد أرقام الصفحات بين معقّفات إن في المتن أو في الهامش.

(4).  سيعني القارىء العُماني بصورة خاصة أن غسان كنفاني كان من أوائل الكتّاب العرب الكبار الذين تطرقوا إلى مأساة الشتات العماني قبل العام 1970.  أنظر قصته القصيرة "موت سرير رقم 12"  والتي كتبها في العام 1960ونشرها في مجموعته التي تحمل ذات العنوان، غسان كنفاني"الآثار الكاملة"، (بيروت:  دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، الطبعة الثانية، المجلد الثاني.

(5).  أعلنت الموساد مسؤوليتها بصورة رسمية من التنفيذ عن عملية الاغتيال.  وقد أشار إلى هذه المسؤولية النقاد الغربيون الذين يشتغلون بالأسئلة السياسية والثقافية للعالم العربي.  أنظر مثلاً مقالة:

  Barbara Harlow, History and Endings:  Ghassan Kanafani’s Men in the Sun and Tawfiq Saleh’s The Duped” The Minnesota Review 25 (1985), 110.

ثم نشرتها لاحقاً مزيدة ومنقحة في كتابها:

 After Lives:  Legacies of Revolutionary Writing(New York:  Verso, 1996).

 ومع ذلك فإن هناك فريقاً آخر من النقاد الغربيين المشتغلين احترافاً بأسئلة الأدب والثقافة العربيين لا يزالون يتخذون موقفاً أخلاقياً وسياسياً مريباً من الاغتيال، ويترددون – إن لميحجموا – عن إدانة الجاني، فهم يشككون في مسؤولية الاستخبارات الخارجية للدولة الصهيوينة عن الاغتيال (الذي وقع بُعيد عملية الّلد الشهيرة التي نفذتها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في قلب الأراضي الفلسطينية المحتلة، ومن هنا كان اغتيال المتحدث الرسمي باسم الجبهة جزءا من الحزمة الانتقامية)، مستعملين في ذلك – أي أولئك النقاد- مزيجاً من لغة أكاديمية تتوسل الموضوعية الفضفافة والاصطياد في الماء العكر.  فعلى سبيل المثال ليس من اللائق حقاً ان يكتب روجر Roger Allenفي 1990، أي بعد ثماني عشرة سنة كاملة من وقوع الاغتيال وثبوت مسؤولية الموساد عنها ان "ظروف موت [كنفاني] واضحة بما فيه الكفاية، فقد وُضعَت قنبلة موقوتة في سيارته.  لكن ما هو أقل وضوحاً هو أولئك المتورطين في البشاعة [هكذا!].  فبينما أشارت معظم أصابع الإتهام إلى الخدمات السرية الإسرائيلية فإنه ينبغي الاعتراف ان العلاقات بين الفصائل الفلسطينية المتشظية ومجموعات عربية أخرى كانت بعيدة من أن تكون ودية في ذلك الوقت".  أنظر:

Roger Allen, “Introduction” in Ghassan Kanafani’s  All That’s Left to You:  A Novella and Other Stories, trans., May Jayyusi and Jeremy Reed (Austin:  Centre for Middle Eastern Studies, 1990), x.

(6).  لا أستطيع أن أفهم الأسباب التي تدفع فضل النقيب إلى القول باندلاق عاطفي أراه غير مبرر إلى القول "ولكن هل ["رجال في الشمس"] حقاً رواية؟.  لا، إنها أصيلة وحقيقية ولكنها ليست رواية بالمعنى الفني للكلمة، أيام كتابتها لم يكن باستطاعة [كنفاني] أن يكون روائياً.  [إن] "رجال في الشمس"... ليست رواية، هي قصيدة آسرة، ملحمة أثيرة، ولكن ذلك يبقى تلاعباً بالألفاظ، المهم انها موجودة...".  إنني أخشى ان "التلاعب بالألفاظ"إنما يكمن في الإخفاق في رؤية العناصر الفنية، والجمالية، الواضحة التي تجعل من العمل رواية (أو رواية قصيرة) بالمعنى التقني.  وفي الوقت نفسه – وبصورة مفارقة لا ينقذها الإنشاء الرمزي والمجازي- إضفاء طبيعة "ملحمية" على "القصيدة الآسرة".  أنظر:  فضل النقيب، "عالم غسان كنفاني"، "شؤون فلسطينية" 13 (1972)، 199-200.

(7).  من حوار مع توفيق صالح في كتاب جماعي التأليف بإشراف وليد شميط وغي هينبل، "فلسطين في السينما" (بيروت/ باريس:  فجر، سنة النشر غير مذكورة)، 149.  هذه هي الإشارة الوحيدة التي عثرت عليها في الأدبيات الخاصة بالرواية والفيلم بالعربية والإنجليزية أو المترجمة إليهما والتي تشير إلى ان العمل مبني في الأصل على "قصة فعلية".  ويؤسفني للغاية انني سهوت عن الاستيضاح من صالح حول هذه النقطة في لقاءاتنا في مسقط.

(8).  من الغريب ان كل النقاد العرب الذين كتبوا عن الرواية، أو الفيلم، أو كليهما، قد قالوا في عرضهم لحبكة الرواية، أو الفيلم، أو كليهما ان العمل يدور حول "ثلاثة" لاجئين فلسطينيين (أي أبو قيس، وأسعد، ومروان)، مستبعدين بذلك شخصية أبو الخيزران التي يذكرونها حين ينخرطون لاحقاً في مناقشة العمل.  إن هذا الاستبعاد العددي المؤسف، ضمن معطيات الحديث عن أولئك الذين تدور حولهم القصة، إنما يؤثِر ضمنياً بصورة سالبة مآسي الشخصيات الثلاث على حساب مأساة شخصية أبو الخيزران.  وفي هذا الاستبعاد إنما تكمن رؤية سياسية قاصرة وموقف أخلاقي طُهراني ورجعي ضمن سياسات التضمين والاقصاء التحريرية والنقدية؛ ذلك ان حقيقة ان أبو الخيزران (ولا مراء في انه أحد أقل الشخصيات إثارة للتعاطف معها في الرواية والفيلم) هو من يقود أبو قيس، وأسعد، ومروان إلى حتفهم الشنيع تجعل لاوعي أولئك الكتاب ينحاز أخلاقياً إلى "الضحايا" (بالمعنى الظاهر للكلمة) متناسين بذلك ان أبو الخيزران ضحية هو الآخر حتى في جشعه وعجزه الجنسي الذي يدفعه إلى "الانتقام" من الجميع.  فمن وجهة نظر هذا الكاتب فإن القصة إنما تدور في الحقيقة حول الشخصيات الفلسطينية الأربع بصورة متكافئة، وتصور مآسيهم المختلفة والمتشابكة –باعتبارهم يمثلون شرائح من المجتمع الفلسطيني-بطريقة على الناقد أن يقوم فيها بجهد أكبر من جهد المؤلف في فهمها وإضاءتها، وذلك خارج التقييم الأخلاقي وأحكام القيمة الجاهزة- (سيرد المزيد مني حول ذلك لاحقاً).  أنظر أمثلة من ذلك الإقصاء لشخصية أبو الخيزران في:  حسّان أبو غنيمة، "فلسطين في العين السينمائية" (دمشق:  منشورات اتحاد الكتّاب العرب، 1981)، 154، وفضل النقيب، "هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ"، (بيروت:  مؤسسة الأبحاث العربية، 1983)، 37، و: Diana Jabbour, “Syrian Cinema:  Culture and Ideology,” Critical Film Writing from the Arab World, ed., and trans., Alia Arasoughly (Quebec:  World Heritage Press, 1996), V. 1, 52. 

* ناقد وكاتب من عمان- مسقط    

عين على السينما في

08/09/2013

 

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني (2)

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس

عبد الله حبيب * 

الرواية:  "رجال في الشمس" بإيجاز (استكمالاً لما ورد في الحلقة السابقة)

أبو قيس الفلاح، وهو أكبر الشخصيات سناً، يلجأ إلى الذهاب إلى البصرة في العراق كمحطة توقف ضرورية للاتفاق مع مهرب يأخذه إلى الكويت، أرض الحلم الموعود بالرفاه والرغد التي حدثه عنها أحد أصدقائه ممن ذهبوا إلى هناك، فأبو قيس قد ضاق ذرعاً بذل العيش وجحيمه في مخيم للاجئين، ويفكر – ضمن أشياء أخرى –في بناء بيت يأوي أسرته، وتعليم ولده، ولذلك فإنه يرى ان العمل في الكويت سيتيح له فرصة لتحقيق هذه الأحلام.

أما أسعد اللاجىء في الأردن فهو شاب في مقتبل العشرينيات من العمر، وقد ضاق ذرعاً هو الآخر بحياة البؤس والذل بعيداً عن الوطن.  وممما زاد الأمر سوءاً في حالته هو انه ملاحَق أمنياً بسبب أنشطته السياسية ضد نظام الحكم هناك، فيلجأ إلى الاقتراض من عمه الذي يسلّفه مبلغ خمسين ديناراً ليس حباً فيه بالضبط، ولكن تخطيطاً لزواجه من ابنته بعد أن يتمكن من الوقوف على رجليه بعد العمل في الكويت وجني ما يمكن حصاده من الثمار، حيث كان وأخوه – والد أسعد – قد "قرآ الفاتحة" منذ زمن في انتظار للزواج المرتَّب القادم الذي لا يبدو على أسعد انه متلهف عليه كثيراً.

ومروان هو أصغر اللاجئين، فهو في السادسة عشر من العمر، وقد توقف أخوه زكريا عن إرسال المساعدات المالية للأسرة من الكويت التي يعمل فيها، وذلك بسبب زواجه هناك، فأرسل له رسالة أقل ما يمكن أن يقال عنها انها قاسية من هناك.  وقد فاقم الأمور أن والد مروان قد طلّق والدته وتزوج زواجاً مصلحياً وانتهازياً من شفيقة، المرأة التي فقدت أحد ساقيها في أثناء الهجوم اليهودي على يافا في العام 1948، ولكنها تملك الآن بيتاً مكوناً من ثلاث غرف بفضل مساعدات وكالة غوث اللاجئين وبعض المحسنين؛ الأمر الذي اعتبره والد مروان صفقة باهرة يسيل لها اللعاب.  ولهذه الأسباب فإن مروان يرى ان واجبه يحتم عليه الرحيل إلى الكويت والعمل لتوفير مصدر مالي يعيل به أمه المطلَّقة وإخوته الصغار.

وفي البصرة يقصد الثلاثة  الذين لا يعرفون بعضهم البعض فرادى نفس المهرب العراقي الذي يطلب من كل منهم مبلغ خمسة عشر ديناراً لقاء تهريبه إلى الكويت، وذلك من دون أن يقدم أية ضمانات صريحة بوصولهم إلى مقصدهم، ومن دون أن يوافق على تخفيض فلس واحد من هذا المبلغ المرتفع (9). 

وفي هذه الأثناء الحرجة يتعرف مروان من طريق الصدفة إلى أبو الخيزران، والثاني هو فلسطيني يقدم نفسه للفتى الغر على انه يعمل في الكويت سائقاً لدى تاجر ثري اسمه الحاج رضا، وانه موجود مؤقتاً في البصرة بغرض إصلاح شاحنة الماء التي تعطلت في رحلة صيد مؤخرة قام بها رب عمله مع بعض أصدقائه إلى الصحراء.  ونعلم لاحقاً ان أبو الخيزران هذا كان قد "فقد رجولته" في اثر عملية جراحية استأصلت أو أبطلت المفعول الجنسي لعضوه التناسلي في اثر انفجار لغم تحته في أثناء القتال في حرب 1948.  وبذلك فإنه حين  يلتقي الأربعة جميعهم يقول أبو الخيزران لمواطنيه الثلاثة انه سيهربهم في خزان شاحنة الماء، ويوافق على اشتراطهم تسليمهم قيمة التهريب الذي اتفقوا عليه بعد مفاوضات عسيرة والبالغة عشرة دنانير (وهذا يبقى أقل مما طلبه المهرب العراقي) لدى الوصول إلى الكويت وليس قبل ذلك.

وتنفيذا للخطة التي رسمها أبو الخيزران (كما وصفها لمواطنيه الثلاثة) يهبط المهَرَّبون الثلاثة إلى خزان ماء الشاحنة قبيل الوصول إلى مركز صفوان الحدودي العراقي، ويتمكن من انهاء الإجراءات الحدودية الخاصة به في وقت قصير وبطريقة سلسة، وذلك ليستأنف بعدها الانطلاق بالشاحنة على الطريق الصحراوي الذي يربط بين البلدين ليتوقف حين يبتعد بمسافة آمنة من النقطة الحدودية العراقية، فيخرج المهرَّبون الثلاثة من بطن خزان الشاحنة وهم في حالة من الإعياء والوهن الشديدين.  لكنهم ما ان يتنفسوا الصعداء بالكاد فإن خطة أبو الخيزران تقضي بالاختباء في بطن خزان الشاحنة مرة أخرى قرب الوصول إلى مركز المطلاع الحدودي الكويتي قُبيل منتصف النهار الحارق.  وعندما يدخل أبو الخيزران مسرعاً إلى مكتب موظفي الحدود لإنهاء إجراءات الدخول إذا به يفاجأ بدعابات سمجة من قِبل موظف يدعى أبو باقر، حيث يقول هذا ان الحاج رضا قد اتصل مستفسراً عن أبو الخيزران ست مرات (10).

ويضيف لأبي الخيزران متهماً إياه بأنه كان يقضي وقته في البصرة بصحبة راقصة تدعى كوكب في ليالٍ حمراء مِلاح، ويطلب منه البوح بالتفاصيل الحميمة حول تلك العلاقة المزعومة.  وبعد كَرٍّ وفَر يحصل منه على وعد باصطحابه إليها في المرة القادمة التي سيسافر فيها أبو الخيزران إلى البصرة.

وبذلك فإن الوقت الذي يقضيه أبو الخيزران في المناورات العسيرة للخروج من هذا المأزق غير المتوقع في مكتب موظفي مركز المطلاع الحدودي يعيقه من العودة إلى الشاحنة لاستئناف الرحلة في الوقت المخطط له سابقاً.  ولذلك فإنه حين يتمكن من الإفلات والوصول إلى نقطة تقع على مسافة آمنة من المركز الحدودي داخل الأراضي الكويتية، ويفتح الفوَّهة العليا لخزان الشاحنة يكتشف ان مسافريه المُهرَّبين الثلاثة قد قضوا اختناقاً في الصهريج، فيرمي جثثهم على كومة قمامة، ثم يعود ليستولي على نقودهم وساعة مروان، وتنتهي الرواية بالصحراء وهي تردد صدى سؤال أبو الخيزران الحزين، والمخذول، والحائر "لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟، لماذا؟" [152].  إنه السؤال الذي يرى فضل النقيب مُحِقَّاً بأنه "سيصبح سؤالاً مهماً في الأدب العربي" (11).

وقد ذهب أغلب التأويلات النقدية إلى قراءة العمل قراءة رمزية، ومن أمثلتها الرائدة تلك التي يقدمها إحسان عباس، حيث يعتبر في قراءته ان شخصية أبو الخيزران هي رمز للقيادة الفلسطينية العاجزة التي تكذب على شعبها، وتغرر به، وتقوده إلى الموت المجّاني، فهي بذلك إنما تقوم بنفس الدور الذي يقوم به "المهرِّبون الآخرون" الذين يمثلون القيادات العربية الأخرى.  أما مروان، وأسعد، وأبو قيس فهم يمثلون شرائح مختلفة من المجتمع الفلسطيني، وهي شرائح ساذجة لا تزال تؤمن بالخلاص على يدي تلك القيادة العاجزة وحلفائها، فيكون مصيرها بالتالي هو الموت الرخيص (12).

في النظرية والمنهج:  عن الاقتباس السينمائي للعمل الأدبي

يعود الجدل حول موضوع أفلمة الأعمال الأدبية (والنثرية عموما) إلى بدايات تأسيس النظرية والممارسة السينمائيتين؛ فعلى سبيل المثال تصوّر بيلا بالاز Bela Balazs أن الأعمال الأدبية المؤهلة للأفلمة هي الأعمال "المتواضعة" (13). أما سيغيفريد كراكاوار Siegfried Kracaure ف فقد رأىبواقعيته السياسية اليسارية المعروفة ان أفلمة العمل الأدبي ممكنة فقط حين يكون المضمون الروائي متجذراً في الواقع الموضوعي، وليس في التجربة العقلية أو الروحية (14).

وفي الجانب الآخر من الأمر نجد ان رواية من روايات الرعب والإثارة الشعبيين مثل "البريق" لستيفن كِنغ Steven King قد اقبستها عبقرية ستانلي كوبرِك Stanley Kubrick  الفريدة وحولتها في فيلم بذات العنوان (تم إنجازه في العام 1980) يتجاوز التعامل مع الرعب فيه المستوى الخارجي للأشياء في الرواية، وبحيث أمكن لهذا الفيلم الذي لا يزال يشار إليه بالبنان أن ينضم إلى أفلام كوبرك الكبرى التي يشغف فيها بمعالجة موضوع العنف الفردي والجمعي في المجتمع، والتاريخ، والحضارة.  وبذلك فإن هذا الاقتباس السينمائي الاستثنائي إنما يعكس الصحة الممكنة لوجهة نظر بيلا بالاس في بعض الحالات. 

الجانب المهم في الأمر هو صلاحية (أو لاصلاحية) العمل الأدبي للاقتباس السينمائي.  وهنا يرى أندريه تاركوفسكي Andrea Tarkovskyالذي تعاطى الأدب والسينما معاً بحساسية شعرية وفلسفية مشهود بعلوّها، وذلك في معرض حديثه عن فيلمه الروائي الطويل الأول "طفولة إيفان" أو "إسمي إيفان" في بعض النسخ غير الروسيّة (الذي أنجزه في العام 1962) والذي اقتبسه من قصة قصيرة لمواطنه فلاديمير بوموغولوف Vladimir Bomogolov:  "ليس كل النثر قابلاً للتحويل إلى الشاشة.  فبعض الأعمال لديها كمال، وهي موقوفة على صورةأدبية دقيقة وأصيلة؛ إذ ان الشخصيات مرسومة في أعماق لا تُسبر أغوارها، والتركيب لديه طاقة استثنائية على الإصابة بالسحر... وفقط فإن من لا يبالي فعليا بالنثر البديع وبالسينما يمكن ان يتصور الرغبة المُلِحة للأفلمة.  [وفي الوجه الآخر من العملة] هناك أعمال نثرية تقف وراءها الأفكار، ووضوح وثبات البنية... هكذا كتابات لا تبدو معنية بالتطوير الجمالي للفكرة التي عليها تحتوي.  إنني أعتقد ان ["إيفان"] بوموغولوف تنتمي إلى هذه الفئة" (15).

واتكاءً إلى تاركوفسكي الذي يبدو لي انه يرى ان جذور إشكالية الأفلمة إنما تضرب في عدد من الجوانب التي تتزايد أو تتناقص وفقاً للحساسية الفكرية والجمالية للمقتبِس/ المُقتبَس؛ حيث ان من بين الصعوبات الأساس اختلاف الحقل التعبيري؛ أي مهمة التحويل النوعي للمضمون اللغوي المقروء إلى مضمون بصري أو مرئي، وخاصة حين يتعلق الأمر بالنصوص الأدبية الثرية حيث الصورة والتركيب الكتابيان يتشكلان غابة لانهائية من الإيحاءات والدلالات.  وفقاً لذلك أود أن أشير هنا إلى ما أعتبره أفلمة متلعثمة أجراها مايكل كوكيانيس Michael Cacoyyannis  (أنجزت في العام 1964) لما يكاد يُجْمَعُ على انه اهم ما كتب نيكوس كازانتزاكيس Nikos Kazantzikes في النثر اليوناني الحديث، أي رواية "زوربا"، إذ – على سبيل المثال - لا يستطيع البحر في الفيلم أن يكون أكثر من كمية كبيرة من المياه مستلقية بما يشبه البلادة أمام آلة تصوير سينمائية راكدة وعاجزة في لقطة وصفية تبسيطية كبيرة لا تخترق أسرار الملكوت المائي ولا تضيف إليها، وذلك على عكس الديناميكية المائية التي تتموج في الرواية.  وبذلك فإنه من وجهة نظر هذا الكاتب فإن رواية "زوربا" ما كان ينبغي لها أن تُأفلَم أبداً (16).

بيد ان مخرجين سينمائين آخرين يتخذون مواقف أكثر تشدداً، فها هو فيردريكو فيلليني Ferdrico Fellini يقول بصرامة متطرفة: "إنني أجد هذه التحويلات من شكل فني إلى آخر بشعة وسخيفة، وبعيدة عن الموضوع...  أؤمن ان السينما ليست بحاجة إلى الأدب، فهي تحتاج فقط إلى كتّاب سيناريو... إن التأويلات الأدبية للأحداث لا علاقة لها بالتأويلات السينمائية لتلك الأحداث ذاتها"(17).

من الصعب تصور ان "رجال في الشمس" عمل أدبي "متواضع"، فها هو روجر ألن Roger Allan يعتبره "إسهاماً هاماً في الأدب العربي الحديث" (18)، أما إدوارد سعيد فيذهب إلى القول أن هذه الرواية تشكل "أمثولة رؤيوية" للحالة الفلسطينية "سواء كان المرء يحكي عن الماضي أو عن الحاضر" (19).  ولذلك فإنه تنبغي قراءة أفلمة رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" في عمل توفيق صالح السينمائي "المخدوعون" من زاوية تضع في اعتبارها مختلف الاعتبارات الجمالية، والسياسية، والتاريخية.

هوامش:

(9).  تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقة السابقة.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في الحلقة السابقة، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من الطبعة المذكورة في الحلقة السابقة بين معقّفات في المتن.  تقدم الرواية معلومات تفصيلية عن كيفية وصول اللاجىء الفلسطيني أسعد إلى العراق، أي عبر التهريب، ولكنها لا تذكر شيئاً عن كيفية وصول أبو قيس ومروان إلى ذات المقصد.  غير ان السياق العام يدفعنا إلى الافتراض بأنهما قد وصلا من خلال التهريب كذلك.  أما الفيلم فإنه إضافة إلى اعتماده وصول أسعد إلى العراق عبر التهريب من الأردن كما جاء في الرواية فإنه يتضمن كذلك لقطة  لأبي قيس وهو يمشي متهالكاً على أرض سبخة ومنبسطة وقد حمل معه زوادة سفر؛ الأمر الذي يستفاد منه على وصول أبو قيس إلى العراق عبر التهريب أيضاً.

(10).  من الملاحظ هنا ان أسماء الشخصيات الفلسطينية، أو كُناها، في الفيلم والرواية لأسماء وكُنى عربية (أبو الخيزران، قيس، مروان، أسعد)، بينما ليس هناك اسم أو كنية للشخصية العراقية.  أما أسماء الشخصيات الكويتية، أي موظفي مركز الحدود (الحاج رضا، أبو باقر، علي) فمع انها عربية إلا انها تحيل إلى منظومة مذهبية معينة.  وهذه نقطة لا أود التطرق إليها في هذه الحلقة من مشروع الكتيّب.

(11).  فضل النقيب، "هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ"، 45.

(12).  إحسان عباس، "مقدمة"، في:  غسان كنفاني، "الأعمال الكاملة" (بيروت:  دار الطليعة للطباعة والنشر، 1980)، المجلد الأول، الطبعة الثانية، 17 - 19.

(13).  اقتبس في:

J. Dudley Andrew, The Major Film Theories:  An Introduction (London:  Oxford University Press, 1976), 88.

(14).  اقتبس في المصدر السابق، 121.

15.  Andrea Tarkovsky, Sculpting in Time:  Reflections on the Cinema, trans., Kitty Hunter-Blair (London:  The Bodley Head, 1986), 15-16.

(16).  إنني أشير هنا إلى ما أجتهدُ بأنه إخفاق جمالي عام في أفلمة "زوربا"، غاضاً النظر عن تفاصيل تقنية صارمة مثل مخالفة الفيلم لـ"قاعدة الـ 180 درجة" في لقطة تدور على الشاطىء بينما يشكل البحر الخلفية.

17.  Federico Fellini, Fellini on Fellini, ed., Carla Jean Miller (Fresno:  The Press at California State University, 1988), 28.

18.  Roger Allen, “Introduction,” xi.

19.  Edward Said,  The Politics of Dispossession:  The Struggle for Palestinian self-determination 1969-1994  )New York:  Pantheon Books, 1994(,377, 119.

* كاتب وناقد من عمان

عين على السينما في

21/09/2013

 

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس: (3)

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني 

عبد الله حبيب 

"المخدوعون" و"رجال في الشمس":  تماثلات وتغايرات

تتكون رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من سبعة فصول قصيرة تشكل في البداية ما يشبه اللوحات المستقلة، ثم ما يلبث سرد الفصول الثلاثة الأولى أن يندغم في بعضه البعض، في الأحداث الجمعية الجديدة للحبكة بحلول الفصل الرابع.  وتعتمد استراتيجية السرد في النص على ثلاثة أصوات رئيسة.  الأول من تلك الأصوات هو صوت ضمير الغائب (سرد الشخص الثالث) بلسان الراوي؛ فعلى سبيل المثال تستهل الرواية سردها بتقديمنا إلى أبو قيس المستلقي على ضفة شط العرب من خلال صوت الراوي:  "أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته..." [37] (20).

أما الصوت السردي الثاني فهو الاسترجاع (الفلاشباك) الذي يستثيره لدى الشخصية موقف أو مفردة في سياق السرد بصيغة الحاضر الذي يقوم به الراوي؛ فاستلقاء أبو قيس التذكري على ضفة شط العرب يستثير في ذاكرته موقفاً كان ذِكْرُ شط العرب أحد عناصره، وبهذا يأتلف هذا الموقف في نسيج السرد:  "... نحن في آب!  إذاً، لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟  إنه الشط!  ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك؟/  وحين يلتقي النهران الكبيران:  دجلة والفرات يشكلان نهرا واحداً اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى..."/ الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود..." [38]. 

وثالثاً، ضمن هذا الانتقال السردي يختلط صوت الراوي بصوت الشخصية على نحوٍ يتيح للقارىء معه التعرف إلى شذرات من الأحداث والمواقف في تاريخ الشخصية، بحيث لا يعمد المؤلف إلى الفصل الدقيق والصارم بين صوت الشخصية وصوت الراوي؛ فانبطاح أبو قيس على ضفة الشط، والذي أخبرنا عنه الراوي، يجعله – أبو قيس، أعني-  يتذكر حديث الأستاذ سليم عن الشط لتلاميذه في المدرسة.  وهذا التذكر يوحد الزمنين (زمن الذاكرة والزمن الحاضر) في إطلاق تيار وعي الشخصية عبر المونولوغ الداخلي الطويل الذي لا يستبعد فيه الراوي نفسه صوته:  "ها هو إذاً الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات!  ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.  يا رحمة الله عليك! لا شك انك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود... ليلة واحدة فقط...  يا الله!  أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟" [43]. 

ما حاولت قوله هنا هو انه لا توجد علامات تنصيص في النسخة المطبوعة من الرواية تفصل قول الشخصية من قول الراوي، وليس من شأن هذا أن يجعل الأمور تتسم بالسهولة.  إلى هذا فإن الشخصيات الفلسطينية الأربع تتقاسم الكشف عن ماضيها وعكسه على حاضرها عبر هذه الأصوات طوال الرواية.

أما اقتباس توفيق صالح السينمائي للرواية فقد اعتمد نفس الاستراتيجية، وإن كانت طبيعة اللغة السينمائية قد جعلت صوت الاسترجاع وقفاً على الشخصية وحدها؛ فعلى سبيل المثال يصلنا المونولوغ الخاص بالأستاذ سليم في الفيلم، والذي سبق ذكره فيما يخص الرواية، عبر صوت أبو قيس القادم من خارج الشاشة (off screen voice).

غير انه مهما قيل عن "أمانة" فيلم "المخدوعون" لمصدره الأدبي فإنه يختلف عن "رجال في الشمس" في أشياء أجدها في اجتهادي تتمثل في خمسة عناصر.  العنصر الأول هو التكثيف بالحذف والاختزال.  والعنصر الثاني هو الإضافة.  والعنصر الثالث هو التحوير.  والعنصر الرابع هو التأويل.  أما العنصر الخامس فهو التجسيد الصوتي والبصري.

فيما يخص العنصر الأول، أي التكثيف بالحذف والاختزال، فمن المعروف ان هذا هو مما يقوم به اي اقتباس سينمائي لأي عمل أدبي وذلك لأسباب عملية وجمالية واضحة، مثل الحرص على ان لا يكون وقت العرض السينمائي طويلاً أكثر مما ينبغي، والتغافل الإيجابي عن التفاصيل التي من شأنها أن تشوش المشاهد عن الثيمة و"الموتيفات" الأساس للعمل؛ فقد أسقط "المخدوعون" من سرده بعض التفاصيل والحوارات التي وردت في "رجال في الشمس" وذلك إذعاناً لطبيعة اللغة السينمائية وتعبيرها.  فعلى سبيل المثال لا شيء يرد في الفيلم عن ترقب أبو قيس وزوجته لمولود، ووفاة ذلك المولود – طفلة اسمها حسنا -- بعد شهرين من الولادة كما ورد في الرواية [44-45].

أما فيما يخص العنصر الثاني، أي الإضافة، فمن أقوى أمثلته الإدخالات الفوتوغرافية بأسلوب "الفوتومونتاج"(photographic insertions)  والتي تعرض لقطات من معاناة اللاجئين الفلسطينيين وهم ينزحون إلى الشتات.  كما تعرض مقاطع من إرشيف الخيانات والتواطؤات العربية متقاطعة مع بدايات تأسيس الدولة العبريّة.  وفي هذا السياق نرى ذكريات مُرَّة كما في صورة فوتوغرافية (أبيض وأسود) لاجتماع الزعماء العرب في قاعة خُطَّت على الجزء الأعلى من جدارها الآية القرآنية الكريمة "واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا"، هذا في الوقت الذي نعلم فيه جميعاً بشهادة التاريخ ووقائعه الموثقة ان المجتمعين كانوا (ولا يزالون، في الحقيقة) أبعد من أن يكونوا عن فحوى المنطوق الرّباني.  إن هذه الإضافة السينمائية تضع معاناة الشخصيات السينمائية في سياقها التوثيقي والتاريخي الذي يكشف عن إشكالياته النصيّة، وتعمل بصورة طليعية للغاية على تضييق الفجوة بين "الوثائقي" و"القَصّي"، وبذلك فإن الحكاية هنا تكتسب مصداقية أكبر؛ فالموازي الصوتي لهذا "الفوتومونتاج" هو صوت أبو قيس في "مونولوغه" الذي يسرد فيه قصة فقدانه لوطنه وتشرده في إثر ذلك.

وكذلك فإن من الأمثلة الهامة للإضافة في الفيلم التوطئة (prologue)التي هي مقطع لمحمود درويش نقرأه قبل ظهور "التترات":  "وأبي قال لي مرة:/ الذي ما له وطن/ ما لَهُ في الثرى ضريح/ ونهاني عن السفر".  إن التركيب(composition)الذي يظهر به هذا المقطع في اللقطات التأسيسية (establishing shots)التي تصور الصحراء الممتدة سراباً تحت الشمس الحارقة يجعله يتعدى كونه مجرد استهلال شعري بليغ ومناسب إلى أن يكون مفتاحاً تأويليا لقراءة الفيلم بكامله؛ ذلك ان المقطع الشعري ذاك يظهر مكتوباً في مقدمة الكادر.  أما في منتصف الكادر فإننا نرى بقايا هيكل عظمي لجثة من جثث أولئك الذين دفعوا حياتهم ثمناً لوهم معيشٍ كريمٍ بعيداً عن أرض الوطن؛ إذ انها جثة أحد الفلسطينيين الذين ماتوا في الصحراء قبل الوصول إلى نقطة الانطلاق إلى الأرض الكويتية الموعودة في فردوسها اللذيذ.  وفي خلفية الكادر يتهادى أبو قيس من بعيد متقدماً بتهالك نحو بقايا الجثة والكتابة الشعرية معاً.  وبهذا فإن ذلك يشكل تنبوأً وخلاصة لكامل الفيلم؛ حيث ان ابو قيس إنما يتقدم، في الحقيقة، نحو ذات مصير صاحب الهيكل العظمي النَّخِر ما دام كلاهما لم يُعِر أذناً للتحذير الذي نهاهما عن السفر.  إن هذا "البرولوغ" بما يتضمنه من نص مقاومة إنما يقدم بديلاً لنص الذل والركون المنقوش على جدار قاعة اجتماع الزعماء العرب المحترمين، أو نقيضاً لعدم قدرة النص الغيبي على تحقيق فاعلية مقاومة في الحاضر والواقع المُعاش.  كما ان النص الشعري ذاك، ولجهة سكناه في "البرولوغ"، إنما يتنبأ بظهور شخصية الأستاذ سليم التي هي أكثر ما يمثل روح المقاومة في الرواية والفيلم معا، وأكثر ما يمثل التصادم مع الخطاب الغيبي واللاهوتي، حيث يعترف الاستاذ سليم صراحة في مجلس القرية بأنه لا يعرف كيف يصلي، ولكنه يعرف كيف يطلق النار.

ومثال آخر للإضافة يجيء في نهاية الفيلم التي تدور داخل الأراضي الكويتية، حيث نرى لقطات لنيران عالية تحل محل لقطات الشمس في ما سبق من الفيلم (سيرد المزيد مني حول ذلك لاحقاً).  وإذا كان لهذه النيران أن تقترن في المستوى الموضوعي بكومة القمامة التي رمى عليها أبو الخيزران الجثث الثلاث (جثث أسعد، ومروان، وأبو قيس)، وذلك من حيث انه معروف ان أكوام القمامة تتعرض للحرق باعتباره أحد وسائل التخلص منها، فإنها، في المستوى الرمزي، تذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ حيث تشير النيران إلى النفط وثرواته التي جعلت الفلسطينيين الثلاثة (بل الأربعة) يقصدون الكويت بحثا عن فرصة للعمل، وحيث ندرك أن العرب قد بددوا وأهدروا هباءً أهم ثروة اقتصادية أُتيحت لهم في تاريخهم المعاصر.

أما فيما يخص المظهر الثالث في اختلاف الاقتباس السينمائي عن المصدر الأدبي فهو التحوير.  ومن امثلته ان الإشارة إلى "الرجل الكريم" الذي تصدّق على أبو قيس ببيت في الرواية [46] أصبحت عامة أكثر في الفيلم؛ حيث نسمع في "مونولوغ" أبو قيس:  "جابوك وقالوا لك إسكن هون فسكنت".  إن في تحوير الإشارة إلى صيغة الجمع بدلاً من الفاعل المفرد (في الأصل الأدبي) اشتمال يضم ليس الأفراد فقط من قبيل "الرجل الكريم"، بل كذلك المنظمات الخيرية، ووكالات غوث اللاجئين، وكافة الحلول والمساومات التي تنبثق من الشفقة وحَدْبِها الرخيص، والتي جميعها لا تغير من حقيقة ان البيت الذي يسكن فيه أبو قيس –والتي أخذت مساحته تتضاءل بالتدرج- ليس بيته، ولا مُلْكَه.

أما في جانب التأويل ففيه مما فيه ان الرواية تُصَوِّرُ شخصية بإسم سعد وهو يتحدث إلى أبو قيس بإغراءات الذهاب إلى الكويت ـ دفعاً له كي يفعل مثلما فعل هو، فعاد محملا بالمال- وذلك في مكان إقامة أبو قيس [46-47].  أما في الفيلم، ومع ان جزءاً من المشهد يدور حقاً في مكان إقامة أبو قيس، إلا اننا نرى كذلك ان سعد قد اقتعد كرسياً وسط حشد فيه أمشاج من المستمعين، ومنهم ابو قيس وزوجته، الذين ركنوا إلى الأرض وهم يصيخون السمع باهتمام.  وبذلك فإن جلوس المتحدث على كرسي وجلوس المستمعين على الأرض فيه دلالة رمزية تشير إلى ابتعاد الأول عن نبض الجذر بعد ان اغترب عنه، ولهذا فإنه يوجه خطابا متعاليا (حرفيا ومجازا)، بينما لا يزال مستمعوه ملتصقين بالأرض التي يقتعدونها ويعيشون عليها.  إن عمل الفيلم على جعل سعد يوجه حديثه لمجموعة من الفلسطينيين، وليس إلى أبو قيس وزوجته (كما في عمل كنفاني) يحيل إلى ان خيار الذهاب إلى الكويت – اي الذهاب إلى مكان هو خارج الوطن، أو الاستمرار في المضي بعيدا عن الوطن- إنما يتم ترويجه لقطاع أو شريحة كاملة من أبناء المجتمع الفلسطيني؛ أي إلى الوعي الوطني الفلسطيني برمته.  أما أبو قيس فلأنه أحد أفراد تلك الشريحة فهو يمثلها، ولو من بابٍ اضطراري.  وبذلك فإن هذا التأويل السينمائي قد جذّر حقيقة ان المشكلة جمعية وليست فردية.

وفي الرابع مما أرنو إليه من أمثلة في اختلاف الفيلم عن الرواية، أي التجسيد الصوتي والبصري، فإن حضور زكريا، أخ مروان، لحضورٌ باهتٌ في رواية كنفاني، فذلك يأتي عبر إشارات سريعة ومتفرقة له في "مونولوغ" مروان، وفي حديثه الطارىء عنه مع أبو الخيزران.  بهذا فإن شخصية زكريا لشخصية غائبة- انه هناك يعمل في الكويت، وقد توقف عن إرسال مساعدات مالية للأسرة، وانتهى الأمر عند هذه النقطة التي ينبغي أن ينتهي عندها السطر.  أما في الفيلم فيقل غياب زكريا ويزداد حضوره عبر جعل الإشارة الروائية إلى رسالته إلى مروان تكتسب بعدا جديدا حين نسمعه عبر صوت من خارج الشاشة(off screen voice).  صحيح اننا لا "نرى" زكريا في الفيلم، ولكننا نسمع صوته، فيصبح هذا تجسيداً لوجوده وكينونته.

ومن أمثلة التجسيد التي قام بها الاقتباس السينمائي إضافة شخصية صديق أسعد غير الموجودة في الرواية، والتي أصبح دورها في الفيلم تطوير ومحاورة الهواجس التي يبوح بها "مونولوغ" أسعد في المشهد الاسترجاعي (الفلاشباك) في أثر تسلفه مبلغ خمسين ديناراً أردنياً من عمّه.  وبذلك فإن ما كان "مونولوغاً" قد أصبح الآن حواراً (دايلوغ) يسعى صديق أسعد في جزء منه إلى محاولة إثنائه عن قرار السفر.  ومثال مشابه آخر هو إضافة شخصية يحاورها أبو الخيزران بما يقوله لنفسه في "مونولوغ" الاسترجاع في الرواية:  "وما النفع [في أن يعترف ببساطة بأنه قد ضيّع رجولته في سبيل الوطن]؟  لقد ضاعت رجولته وضاع الوطن وتبّاً لكل شيء في هذا الكون الملعون..." [110].  إن هذه التجسيدات تُشَخْصِن الهواجس والمخاوف الداخلية العميقة للمنطوق الروائي، وتطور "المونولوغات" نحو آفاق أرحب.  والأمثلة التي ذكرتها أعلاه تصب في جماليات وسياسات الأفلمة.

غير ان معظم النقاد الذين درسوا "المخدوعون" بوصفه اقتباساً سينمائياً أكدوا على ان الفيلم يتبع الرواية ويخلص لها في سرده، وبالتالي فإنه يمثلها بأمانة.  والفرق الوحيد بين الرواية والفيلم، والذي رأوا أهميته وناقشوه باستفاضة هو ان الفلسطينيين الثلاثة (أسعد، ومروان، وأبو قيس) لا يدقون جدار خزان الشاحنة في الرواية، بينما يدقونه في الفيلم في أثناء التوقف الاضطراري للشاحنة في ساحة النقطة الحدودية الكويتية (مركز المطلاع)، وبذلك فإنهم ماتوا في صمت واستسلام يعكسان الحالة الفلسطينية السائدة في الزمن التاريخي الذي تدور فيه أحداث الرواية.  ها هو بلال الحسن، على سبيل المثال، يرى إلى الأمر بوصفه "قضية الموت في ظل عالم الهزيمة"، ويحاجج انه "إذا كان الخزان رمزاً للسجن الكبير الذي يعيش فيه الفلسطيني في عالم التشرد، فإن الخروج من هذا السجن لن يتم إلا بقرع جدرانه في محاولة للخروج منها.  ولو ان هذه الجدران قد قرعت لكان من الممكن تخطي الموت والوصول إلى الخلاص.  أما حين يبقى الصمت مخيماً فإن الموت هو النتيجة المحتومة" (21).  أما أحمد خليفة فيقرن بين سؤال أبو الخيزران "لماذا لم تقرعوا الخزان؟

"وبين ما يسميه "نداء المؤلف"، والذي يضعه في هذه الكلمات:  "لا تمت قبل أن تكون نداً".  وبذلك فإن خليفة الذي يرى بأن كنفاني الذي لم يجعل شخصياته تدق الخزان إنما "كان يعكس بصورة أمينة وصادقة واقع الشعب الفلسطيني كما كان قائماً قبل عام 1965 [وقصده هنا هو واقع الشعب الفلسطيني قبل ظهور حركة المقاومة الفلسطينية المسلحة الفاعلة عبر تأسيس حركة فتح]، ولم يكن صدقه الفني يسمح له ان يجترح "معجزة" تشق أمام أبطال قصصه طريقاً وهميا إلى الأمام لم يكن موجوداً بعد في العالم الواقعي" (22).  ولا تبتعد رضوى عاشور عن هذا الطرح حين ترى في سؤال أبو الخيزران "آخر كلمات كاتبها [قاصدةً كاتب الرواية، كنفاني]:  ألا دقوا جدار الخزان... إنه الموت، فلا تستقبلوه صامتين، صابرين" (23).  ويذهب إلياس خوري المذهب عينه حين يتيقن من ان الفلسطينيين الثلاثة لم يقرعوا جدار الخزان، وبذلك فـ "إن النتيجة التي وصلوا إليها تكمن في كونهم لم يدقوا الجدار" (24).  بيد ان فضل النقيب يمثل الأقلية النقدية في التعاطي مع هذه النقطة الإشكالية بصورة ثريّة في الرواية بمناقضته الاستنتاجات السابق ذكرها حين يتأمل في سؤال أبو الخيزران، متوصلاً إلى انه كان "سؤالاً غبياً، فمما لا شك فيه ان الثلاثة قد دقوا جدار الخزان، وصرخوا، واستنجدوا، وفعلوا كل ما في طاقتهم ليحتفظوا بالرمق الأخير، فذلك ما يفعله كل إنسان متشبث بالحياة.  لقد مات الثلاثة اختناقاً لا لأنهم لم يدقوا جدار الخزان بل لأنه لم يكن هناك من يسمعهم، وإذا كان هناك من يسمعهم فإنه لم يكلف نفسه عناء نجدتهم" (25).   

------

هوامش:

(20).  تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقتين السابقتين.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في الحلقتين السابقتين، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من الطبعة المذكورة في الحلقتين السابقتين بين معقّفات في المتن.

(21).  بلال الحسن، "غسان والموت"، "شؤون فلسطينية" 13 (1972)، 153.

(22).  أحمد خليفة، "عالم القضية الفلسطينية في أدب غسان كنفاني"، "شؤون فلسطينية" 13 (1972)، 161.

(23).  رضوى عاشور، "الطريق إلى الخيمة الأخرى:  دراسة في أعمال غسان كنفاني" (بيروت:  دار الآداب، 1977)، 73.

(24).  الياس خوري، "البطل الفلسطيني في قصص غسان كنفاني"، "شؤون فلسطينية" 13 (1972)، 174.

(25).  فضل النقيب، "هكذا تنتهي القصص، هكذا تبدأ"، 44.

عين على السينما في

01/10/2013

 

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس (4 من 4)

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني

عبدالله حبيب

(إلى ذكرى توفيق صالح، في الاستعادة دوماً) 

هاتيكم القراءات المختلفة التي أوردتها في الحلقة السابقة من هذه المادة إنما تدلل على انه من الواضح ان كنفاني قد تعمد (وإن كان من غير قصد) هذا الالتباس الثري الذي يتيح عدة طرق لقراءة نصه الروائي ضمن المعطيات الفعلية والمحتملة لتطور حركة المقاومة الفلسطينية وانعكاسها على الفعل السردي.  ففي الوقت الذي لا يوجد فيه أي دليل على ان الفلسطينيين الثلاثة (أسعد، ومروان، وأبو قيس) قد طرقوا جدار خزان شاحنة المياه فإن البداهة التي يطرحها فضل النقيب (أي ان الثلاثة لا بد أن يكونوا قد طرقوا جدران الصهريج) ليست غير معقولة؛ ذلك ان أبو الخيزران – من وجهة نظري - إنما كان يحاول تبرئة نفسه وإلقاء اللوم على الضحايا الأبرياء، وعلى الأقدار السيئة، عبر ذلك السؤال الحرفي والبلاغي الحائر؛ إذ انه من نافلة القول انه لم يكن ليسمع طرقهم على جدران صهريج شاحنة الماء حين كان في المكتب الحدودي الكويتي (مركز المطلاع) الذي تزأر أجهزة التكييف خلف بابه المغلق الذي حُشِر فيه بطريقة كابوسية (سيرد المزيد مني حول ذلك لاحقاً).  غير ان هذا "الالتباس" هو أهم نقطة يختلف فيها فيلم توفيق صالح عن رواية غسان كنفاني، وهي نقطة أثارت جدلاً كبيراً لأسباب وجيهة للغاية؛ ذلك ان رُهَناء الصهريج الثلاثة يطرقون جدار الخزان في الفيلم حقاً وبصورة لا لبس فيها، حيث نسمع طرقاتهم تتعالى بالتدرج المتسارع في الوقت الذي يزداد فيه اقتراب آلة التصوير في لقطة "زوم بطيئة إلى الداخل" (slow zoom in) من شاحنة الماء المشؤومة.  وبعد هذه اللقطة نرى لقطة كبيرة ثابتة (static long shot)ت تري الأجزاء الخارجية لعدد من أجهزة التكييف المُرَكَّبة في مكاتب نقطة الحدود، والتي تطلق صوتاً عالياً، ثم نعود إلى الشاحنة  في لقطة سريعة ونسمع الطرقات وهي تتهاوى وتضعف.

إن قراءة هذا التغيير الرئيس في اقتباس توفيق صالح السينمائي  لرواية غسان كنفاني ينبغي أن يتم ضمن المعطيات "الكرونولوجية" والتاريخية، والسياسية، والعسكرية الخاصة بسيرورات وصيرورات متشابكة:  تاريخ الرواية، وتاريخ الفيلم، وتاريخ حركة المقاومة الفلسطينية.  وهذا ما تفعله باربارا هارلو Barbara Harlow بإقناع شديد؛ وذاك من حيث انها تشير إلى انقضاء ثماني سنوات بين تاريخ نشر رواية غسان كنفاني"رجال في الشمس" وتاريخ إنجاز فيلم توفيق صالح "المخدوعون" (1963-1971)، وهي سنوات ترى هارلو انها زاخرة بالأحداث الجسام فيما يخص التاريخ الوطني الفلسطيني المعاصر، وترى الكاتبة ان تلك الأحداث ذات علاقة وطيدة بكيفية النظر إلى سؤال طرق جدران خزان شاحنة الماء، حيث انه بحلول العام 1963 (عام نشر الرواية) كانت المقاومة الفلسطينية المُنَظَّمَة لفعل الاحتلال لا تزال حلماً غير متحقق، وذلك حتى العام 1964 الذي أنشئت فيه حركة المقاومة الفلسطينية بصورة تنظيمية رسمية.  وفي يناير من العام 1965 شنت حركة "فتح" أول عملياتها العسكرية ضد الدولة العبرية.  ثم جاءت نكسة حزيران من العام 1967 الساحقة التي خسر فيها العرب سيناء والجولان والضفة الغربية من النهر خلال ست أيام فقط.  وقد أعقب ذلك تأسيس الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ذات البرنامج الفكري والسياسي الراديكالي، والتي انضم إلى عضويتها غسان كنفاني ليصبح الناطق الرسمي باسمها ورئيس تحرير مجلتها ("الهدف").  وفي يوم 21 مارس من العام 1968 وقعت معركة الكرامة في الأغوار بين الدولة العبرية وفريق من الجنود الأردنيين والمقاتلين الفلسطينيين.

وقد كان لنتائج تلك المعركة صدى معنوي وأخلاقي كبير لدى المقاتلين الفلسطينيين الذين أيقنوا انه من الممكن إلحاق الهزيمة بالعدو عسكرياً على الرغم من تفوقه العتادي والجهوزي.  غير ان ما تلى ذلك كان مجازر سبتمبر (أيلول الأسود) في العام 1970التي تمت فيها إبادة المئات من الفلسطينيين في الأردن وذلك لأسباب متشابكة منها تصرفات متهورة قامت بها القيادة الفلسطينية التي لست في واردها في هذا السياق، وقد تلى ذلك خروج فصائل المقاومة الفلسطينية من الأردن وذلك في شهر يوليو من العام 1971.  وفي العام التالي، أي العام 1972، تم إنجاز فيلم توفيق صالح "المخدوعون" بعد تلك الأحداث الضروس.  وبذلك فإن محاججة باربارا هارلو تتكىء إلى انه من المستحيل بمكان انه بالنظر إلى تاريخ حركة المقاومة الفلسطينية وظهور فعلها المقاوِم أن يجعل من الممكن أن يموت الفلسطينيون الثلاثة (مروان، وأسعد، وأبو قيس) في فيلم توفيق صالح من دون فعل احتجاج قوي لا يدع مجالاً للشك، أو الغموض، أو الالتباس، بل ان على الجميع أن يشاهدوه ويسمعوه بكل ما لديهم من أفئدة، وعيون، وآذان (26).  وإلى هذا المذهب نفسه تروح هِلَري كيلباترك Hilary Kilpatrick في موضوع الطرق على جدران الخزان في شاحنة الماء إذ تقول:  "إن فيلماً شبيهاً بالرواية في حل عقدته الحبكيَّة في نهاية الأحداث سيكون غير متسق على نحوٍ صارخ في وقت تم فيه تأسيس حركات المقاومة" (27).

وبذلك فإن عملية الأفلمة في هذه الحالة تتجاوز كونها مجرد حالة نقل ميكانيكي وترديد ببغائي للنص الأدبي الأصل، حيث انها تصبح فعلاً خلاقاً يتواشج مع السرد الوطني والسياسي الذي يقوم به الشعب بالدم واللحم في ميدان الفعل المباشر في سياق الحراك التاريخي.  وهكذا فإن ما قام به توفيق صالح في أفلمته لرواية غسان كنفاني هو فعل قراءة نقدية تدور وفقاً للمارسة الجدلية للنص والحياة معاً.  وبذلك فإن المُخرج هنا وفيٌّ للنص بالمعنى الجواني العميق للكلمة، وليس بالمعنى البرّاني الذي يقتضي الانصياع الجامد والولاء الخارجي الأخرس؛ ذلك من حيث ان الاقتباس هنا يقر بحق النص الأصل ويسعفه في الحياة والتجدد بفعل البشر الذين يصنعون التاريخ وليس وفقاً لأية نواميس أخرى، إذ ان التاريخ عبارة عن ديناميكية متواصلة ومستمرة.  ولا شك انه يُحسب لتوفيق صالح في هذا السياق أن يتحدى ثقافة تقديس النص في مجتمعاتنا باعتبارها معطى متقدماً على كل شيء (apriori).  وهكذا فإنني أرى في اقتباس توفيق صالح لرواية غسان كنفاني معادلاً عربياً هاماً لأفلمة أرسون ويلز Orson Welles لرواية فرانز كافكا Franz Kafka "  "المحاكمة" (والتي أنجزها في العام 1962)، وذلك من حيث ان الرواية في قفلتها تنتهي هكذا:  "لكن يدي واحد من الشركاء كانتا قابضتين أصلاً على حنجرة "ك"، بينما أوغل الشريك الآخر السكين في قلبه وأدارها مرتين.  وبعينيه الذاويتين كان "ك" لا يزال قادراً على رؤية كليهما... وهو يرقب الفعل الأخير.  قال لنفسه "مِثْلَ كلب!"، وكأن ما يعني في الأمر ان خزي الشأن سيعيش أطول مما عاش هو" (28).  غير انه مضت سنوات عديدة محملة بالأحداث العنيفة منذ أن كتب كافكا روايته في العامين 1914 و1915 وتم نشرها للمرة الأولى في العام 1925 وحتى قيام ويلز بأفلمتها في العام 1962؛ فقد اشتعلت الحرب العالمية الثانية التي أبيد فيها ملايين من اليهود في المشروع النازي لهتلر، وكان لتلك الإبادة أن تكون المحرك الأكبر لتأسيس الدولة اليهودية على أرض فلسطين في العام 1948 لتبدأ وتتواصل معاناة الشعب الفلسطيني الذي صار من اللزام عليه الآن أن يدفع ضريبة ما جناه الأوربيون على الأوربيين، وأن يكافح ضد دولة عنصرية حلت محل الانتداب الاستعماري البريطاني.  ولذلك فإن أرسون ويلز قد استبدل نهاية "محاكمة" كافكا في أفلمته للرواية بأن عَمَدَ إلى تفجير شخصية "ك" بالداينامايت، عاكساً بذلك من الناحية الرمزية الظروف التاريخية والتطورات السياسية التي مر بها السؤال اليهودي في حقبته المعاصرة، وذلك عوضاً عن أن يجعل "ك" يلاقي حتفه بذات الطريقة المهينة التي تصورها الرواية:  "مثل كلب!". 

إن المنطق التاريخي نفسه هو ما لا يجعل الفلسطيني أن يموت "مثل كلب" في صمت وخنوع  بعد مجازر العام 1948 في فلسطين، ومجازر العام 1970 في الأردن، وبعد تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ("فتح") وبدء قيامها بعمليات حربية نوعية ضد الدولة العبرية المستزرعة في قلب الوطن العربي، وبعد الانتصار الذي تم تحقيقه بشجاعة كبيرة في معركة الكرامة بقيمته الرمزية والمعنوية العاليتين، ولذلك فإنه لا بد من طرق جدار خزان شاحنة الماء، إذ ان زمن الموت المجاني الرخيص قد ولى وانتهى إلى الأبد، وليس هناك تراجع عن المقاومة.  ومن هنا فإن الطرق جاء صريحاً على نحوٍ لا لبس فيه في فيلم توفيق صالح على عكس ما حدث في رواية غسان كنفاني بسببٍ من تفاوت الظرف التاريخي، والسياسي، والعسكري.  والحقيقة اننا، في اقتباس توفيق صالح السينمائي لرواية غسان كنفاني، نرى لقطة احتجاجية هامة في الختام، وأعني لقطة قبضة يد أبو قيس وآلة التصوير تقترب منها في لقطة "زوم إلى الداخل" (zoom in)بحيث تكون القبضة هي الموضوع الوحيد في الكادر الأخير في الفيلم.  والحقيقة هي ان قبضة يد أبو قيس في تلك اللقطة تتساوق مع قبضة يد الأستاذ سليم وقد تمسكت بالبندقية حتى بعد الاستشهاد في المعركة وذلك في المشهد الاسترجاعي (flashback) الثاني في استهلال الفيلم، بحيث ان رفيق الشهيد قد وجد صعوبة في تخليص البندقية من قبضته المتشبثة بالسلاح.  ولذلك فإنها ليست صدفة على الإطلاق ان من كان يتذكر الأستاذ سليم هو أبو قيس، وليس أية شخصية أخرى. كما ان لقطتي تينك القبضتين إنما تتساوقان بصرياً مع اللقطة التي يمد فيها أبو قيس ذراعه ليعجن طين الأرض بيده في المشهد الاسترجاعي الأول الذي يتذكر فيه حديثه مع صديقه حول "رائحة الأرض".  وبالتالي فإن الحمولة المجازية لهذه التساوقات هي فعل اليد في توكيد علاقة الانتماء إلى أرض الوطن، والقبضة التي تتشبث بالسلاح دفاعاً عنها، والقبضة التي تمتد في فعل احتجاج على النزوح عنها والموت على سواها.

مروان

غير ان قول النقاد انه باستثناء سؤال طرق جدران صهريج شاحنة الماء (وهذا سؤال سأعود لمناقشته مجدداً في مكان لاحق من هذا المبحث) فإن الفيلم ينصاع للرواية بالكامل لقولٌ لا يمكن أخذه على علاته التعميمية من وجهة نظر هذا الكاتب، إذ ان هناك فروق مفصلية دقيقة فيما يتعلق الأمر بالحوار، والوصف، والمناخ النفسي، وهي فروق أرى انها تجعل من الفيلم رؤية مستقلة في بعض الجوانب عن رؤية الرواية.  فعلى سبيل المثال، وفي سياق دراستها لـ "رجال في الشمس" تقول رضوى عاشور ان الرواية "تصور... الرحلة الفلسطينية.  إنها الرحلة الكلاسيكية لكن باختلاف.  فهي ليست من أجل المعرفة، ولا تبدأ من نقطة القوة والقدرة والثقة لتتطور إلى نقيض... إنها رحلة تبدأ من العذاب بحثاً عن خلاص.  تبدأ هروباً من النار وحلماً باخضرار الواحة، فإذا بالخطوات تتوغل من النار إلى النار حتى إذا ما وصلت إلى الواحة تكون قد احترقت، فتصير الواحة والموت مترادفين" (29).  لست هنا بصدد مناقشة محاججة عاشور فيما يخص الرواية، غير انني بالتأكيد في وارد الرد على الدارسين الذين أراحهم التشابه الظاهري العام بين رواية "رجال في الشمس" وفيلم "المخدوعون"، بحيث انهم جنبوا أنفسهم عناء التدقيق في التفاصيل.  وسأضرب للتدليل على ذلك مروان مثالاً؛ فهذا الفتى الغر هو أصغر الشخصيات الرئيسة في الرواية والفيلم سناً، والأقل تجربة وحنكة؛ غير ان الرحلة نحو الموت تشكل له في ذات الوقت، وعلى نحو بارادوكسي للغاية، رحلة من أجل المعرفة، والنضج، واكتشاف الذات، والتجذر في الوعي.  بيد انها ليست المعرفة التي تحمي وتعين، وغير انه ليس بالوعي الثوري الإيجابي على شاكلة وعي الشخصيات الواقعية الاشتراكية مثلاً، ولكنه وعي تراجيدي بظرف شعبه، وقضيته، ومصيره الشخصي ضمن هذا النسيج القاسي.

إن مروان في المشهد الاسترجاعي في الفيلم ينخرط في نوبة من البكاء لدى سماعه زغاريد عرس والده من المرأة المدعوة شفيقة، ضُرَّة والدته.  وليس لهذا البكاء الصبياني والهَلِع من أصل في الرواية.  كما ان مروان، وبعد أن يصفعه المهرب العراقي انتقاماً من تهديده الأخرق إياه بإبلاغ الشرطة، وهو تهديد يشي بالتسرع وانعدام الحكمة، فإنه يسير في شارع السوق، ثم يستند إلى جدار ويبكي.  وهذا البكاء الثاني ليس له من أصل في الرواية كذلك (30).  إن مروان في ردتي فعله الباكيتين هتين يبوح بهشاشة وضعف.  وهما هشاشة وضعف يمتزجان بسذاجته الناجمة عن الجهل وقلة الخبرة والحكمة، واللتين نشهد منهما أمثلة كثيرة في النص، فهو، على سبيل المثال، يسأل أبو الخيزران لدى رؤيته شاحنة الماء التي علم بأنه سيتم تهريبه في صهريجها عما إذا كان في الصهريج ماء، فيرد عليه أبو الخيزران ساخراً بأنه مهرِّب وليس أستاذ سباحة.  كما ان مروان يسأل لاحقاً عما إذا كانوا (هو، وأسعد، وأبو قيس) سيصلون إلى الكويت في نفس اليوم الذي تبدأ فيه عملية التهريب، وهذا السؤال يبوح بجهله طول المسافة بين البصرة والكويت، وهذا جهل لا يليق البتّة بمن جاء أصلاً لغرض قطع المسافة بين تينك النقطتين تهريباً.

غير انه سيكون لمروان أن يمر بطور الانتقال من الصبا إلى الرجولة، ومن السذاجة إلى الحكمة، وذلك في مضمار وعيه بالرحلة ونتائجها، بحيث انه يلاقي حتفه وقد حاز درجة كبيرة من النضج؛ أي الدرجة التي تؤهله أن يكون واحداً ممن يقرعون جدار صهريج شاحنة المياه احتجاجاً عوضاً عن أن يموت "ميتة كلب" فحسب، على شاكلة بطل كافكا.  ولذلك فإنه لذي دلالة جديرة بالإشارة إليها ان أفلمة توفيق صالح للنص قد حذفت ما يقوله أبو الخيزران لمروان في الأصل الروائي:  "ما بالك تفكر بهذا الشكل؟  إن التفكير غير ملائم لك يا مروان، ما زلت صغير السن... والحياة طويلة..." [81].  كلا، أبداً، فالتفكير قد أصبح ملائماً جداً في هذا الظرف، لأن الرحلة سيكون من شأنها أن تجعل مروان يكبر بسرعة خارقة، حيث ليس ثمة وقت متاح يمكن تضييعه في الهباء والعبث قبل الموت احتجاجاً ورفضاً؛ فالحياة قد تكون طويلة لليافعين من مختلف الجنسيات والمشارب، لكنها ليست كذلك أبداً للفتى الفلسطيني الباحث عن خلاص.   

حواشي:

(26).تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقات السابقات الثلاث.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في تلك الحلقات، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من الطبعة المذكورة في الحلقات السابقة بين معقّفات إن في المتن أو في الحاشية.  أنظر:

Barbara Harlow, After Lives: Legacies of Revolutionary Writing, 54-60.

 

تشير هارلو إلى انه وفقاً لفاروق غندور، وهو إبن عم غسان كنفاني ومحرر أعماله الأدبية لاحقاً، فإن كنفاني نفسه كان قد شاهد الفيلم ثلاث مرات في عروض جماهيرية، ولم يحتج على التغيير الذي أجراه توفيق صالح فيما يخص موضوع طرق جدار خزان شاحنة المياه، بل ان كنفاني طلب من غندور، في إحدى تلك المناسبات، أن لا يثير هذا الموضوع في النقاش المفتوح مع الجمهور (54).  وفي لقاءاتنا في مسقط أكد لي صالح صحة هذه المعلومة، وقد كان سعيداً أن هارلو قد كتبت عن فيلمه حيث لم يكن يعلم بذلك من قبل.

 (27).  Hilary Kilpatrick, “Introduction,” in Ghassan Kanafani’s Men in the Sun and Other Palestinian Stories, trans., Hilary Kilpatrick (Cairo:  The American University in Cairo Press, 1991), 3.

 (28).  Franz Kafka, The Trial, trans., Willa and Edwin Muir, (New York:  Alfraid A. Knopf, 1947), 288.     

(29).  رضوى عاشور، "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، 59.

(30).  لعل من المناسب هنا أن أشير إلى ان شخصية مروان في الرواية هي الشخصية الوحيدة من الشخصيات الرئيسة التي يجعل السرد مكاناً للسينما في حياتها وذاكرتها؛ فشعوره بالاكتفاء والإرتياح "شعور يشابه ذاك الذي كان يراوده بعد أن ينتهي من مشاهدة فيلم سينمائي فيحس بأن الحياة  كبيرة وواسعة..." [73-74].  ولعل تلك العلاقة بالسينما تليق بحقيقة ان شخصية مروان هي أكثر الشخصيات الرئيسة تعديلاً في نسختها السينمائية من وجهة نظري.             

عين على السينما في

08/10/2013

 

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس(5 من 6)

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني

بقلم: عبد الله حبيب *

إلى ذكرى توفيق صالح، في الاستعادة دوماً 

مروان (إكمالاً من الحلقة السابقة)

وفي سياق الحديث عن شخصية مروان ينبغي أن لا تفوتني الإشارة هنا إلى انه لذي دلالة عميقة ان الفيلم بكامله لا يحتوي سوى على "لقطة أفقية متحركة سريعة في انتقالها من اليمين إلى اليسار جيئة وذهاباً" (swish pan) واحدة فقط، وهي مخصصة سردياً لمروان وليس غيره من الشخصيات.  وقد تم استخدام هذه اللقطة في اللحظة الحاسمة التي تنقل من مشهد الاتفاق المبدئي على الصفقة التهريبية إلى مشهد إتمام تلك الصفقة القاتلة، وهو المشهد الذي نرى فيه، وترى معنا الشخصيات الثلاث (أبو قيس، ومروان، وأسعد) تابوتها، ممَثلاً في شاحنة الماء السوداء.  وعليّ أن أقول هنا أن اللون الأسود هو لون الحِداد والموت في معظم الثقافات، كما انه يندر أن يشاهد المرء شاحنة مياه صهريجها صُنْدوقِيُّ الشكل، حيث من الغالب ان تلك الصهاريج بيضاوية الشكل، وبذلك فإنه من الناحية الرمزية يشكل لون وشكل شاحنة المياه التهريبيّة تابوتاً (27).   إن استخدام تلك التقنية ـ تقنية الـ swish pan، عنيتُ-ولمرة واحدة فقط طوال الفيلم إنما يقترح علينا قراءته ضمن المعطيات الموضوعية للتسارع غير العادي الذي حدث لدى مروان في رحلته نحو النضج والاكتمال الذاتي التراجيدي المقترن بالوضع الوطني والإنساني العام.  ولهذا فإن مروان يقدم لنا – في الفيلم- أدلة على نضجه وتطور وعيه خلال الرحلة؛ فعلى سبيل المثال، وحين تتوقف شاحنة الماء بعد عبور النقطة الحدودية العراقية (مركز صفوان)، ويخرج الثلاثة (أبو قيس، ومروان، وأسعد) من بطن الصهريج الحارق وهم شبه مغمى عليهم بسبب الحرارة الهائلة وشُحّ الهواء، يسارع مروان إلى الاستلقاء في ظل الشاحنة متوسداً فخذ أبو قيس الذي، في رد عن سؤال صادر من أسعد، يقول له من باب الطمأنة انه ليس مريضاً، ولكنه فقط يحاول أن يستنشق حصّته من الهواء، فيعقّب عليه مروان بصورة توبيخيّة، بلتقريعيَّة تقريباً، وبلغة الحكيم المجرب:  "حصّتك من الهواء تركتها هناك!.. راحت عليك!"، ثم يضيف وهو يحدّق في السماء في الوقت الذي تبرزه فيه آلة التصوير باعتباره موضوعاً(object) وحيداً في الكادر عبر لقطة "زوم إلى الداخل" (zoom in) نراه فيها عارياً إلا من لباسه الداخلي وكأنه ـ من الناحية التوقعيَّة والرمزية - ميت جاهز لطقس الغسل:  "راحت علينا كلنا!" (أي حصتهم من الهواء)، فيسأله أبو قيس مندهشاً لهذه الفطنة التي فاجأته على حين غرّة والحكمة التي لم يستوعبها:  "إيش قلت يا مروان؟!"، فيجيبه مروان بلباقة واضحة - وهي لباقة تحل تعويضياً محل الحماقة المتهورة والطيش الخارق في تهديده للمهرب العراقي في البصرة بإفشاء أمره للشرطة – متحاشياً أن يصدمه باكتشاف نافذ البصيرة المأساوية:  "ما قلتش إشي.. عَمْ بحكي لحالي!". 

وليس لهذا الحوار من أصل في الرواية، كما انه لا أصل فيها إلى انه بعد أن كان مروان قد أراح رأسه على فخذ أبو قيس فإن الأخير، وهو أكبر أفراد المجموعة سنَّاً، يريح رأسه على فخذ مروان في إشارة إلى ان الأكبر سناً قد أصبح الآن باحثاً عما يريحه لدى الأصغر في لمسة لجوء واحتماء.  وكذلك فإن قول مروان لاحقاً انه "بس شايف لك يا عم ما كانش لازم نيجي هالجيّة.. حاس عم اللي بيمشي لورا" يشكل تقييماً نقدياً ناضجاً للرحلة (بالمعنيين الحرفي والمجازي) لا أصل له في الرواية،؛ فالجملة الأخيرة هذه إنما تشكل التصور السياسي للمخرج وللفيلم.  وقد اختار توفيق صالح أن يضع ذلك التصور على لسان مروان الذي أصبح يرى في الرحلة عودة إلى القهقرى بالمعنى الرمزي للعبارة ضمن تاريخ الشتات الفلسطيني، أي مرحلة العودة للبحث عن مكان بديل، وهو بحث لا يؤدي، في الحقيقة، إلا إلى الموت، حيث لا بديل عن المعيش في الوطن، ولا كرامة خارج الوطن.

وبَعْدُ فإن ليس هذا هو كل ما طرأ على شخصية مروان في الفيلم مما ليس له أساس في الرواية؛ فهو أيضاً، وقد أخذ يماطل في العودة للاختباء في صهريج شاحنة المياه السوداء بعد نجاح المرحلة الأولى من عملية التهريب (تجاوز مركز صفوان الحدودي العراقي)، يعقّب على حثِّ أسعد له بالرجوع وقوله بأنهم سيستريحون بعد أن يصلوا إلى الكويت قائلاً بصورة تهكميَّة صارخة:  "إذا وصلنا!"، ثم يضيف مقرراً برؤية تراجيدية تتنبأ بالموت الموشك على الإنقضاض عليهم:  "وإذا ما وصلناش بنرتاح على طول"!.  لقد كان ذلك آخر ما قاله، وهذا هو أبلغ ما قاله في الفيلم.

إن شخصية مروان، في اختلاف تصويرها في الفيلم عنه في الرواية، إنما تقدم دحضاً لتصور فردريكو فليني Ferdrico Fellini السلبي (المقتبس في الحلقة الثانية من هذا النص) حول اختلاف "التأويل السينمائي" عن نظيره الأدبي؛ إذ ان اختلاف اختلاف التأويل هنا إنما يجيء باعتباره جزءاً من عملية جدلية الواقع المتغير والمتحرك، ودليلاً على قدرة النص في قراءة الزخم المتجدد للحياة والتاريخ بصورة متواصلة ومتصلة؛ فالذين يريدون الثبات، والركون، والارتهان إلى النقطة الأولى للسكنىفي الأصل الذي أضاع جذوره في الحاضر إنما يقطنون في خارج التاريخ.

دائرتان:  شمس الصحراء وعَجَلة شاحنة الماء

يذهب المُنَظِّر السينمائي ستيفان شارف  Stefan Sharff إستناداً إلى أعمال هِتْشْكُك Hitchcock إلى ان "الصورة المألوفة" (familiar image) هي "لقطة قوية جداً تكرر نفسها بتغير طفيف خلال الفيلم.  وهذا التكرار يحوز تأثيراً كبيراً، فهو يصنع فكرة بصرية مجردة.  إن الصورة المألوفة تؤدي غرضها بطريقتين؛ فهي جِسْرٌ استقراري إلى "الآكشن" وتصبح ضرورة حين يتقدم الفيلم [في السرد]" (28).

وفي الحالات التي يكون فيها أكثر من صورة مألوفة في نفس المشهد، أو في نفس الفيلم، ويقوم تكرار صورتين مألوفتين بالغرضين الذين حددها التعريف، فإن شارف يسمي إحداهما "رئيسة" (primary) بينما يدعو الثانية "ثانوية"(secondary) (29).  ووفقاً لهذا التنظير فإنه يمكن لي القول ان "الصورة المألوفة الرئيسة" في فيلم توفيق صالح "المخدوعون" هي صورة الشمس، بينما "الصورة المألوفة الثانوية" هي صورة عجلة شاحنة الماء وهي في وضع المسير، وثمة بين الصورتين علاقة يصعب غض النظر عنها.

تظهر الشمس في أول لقطة في الفيلم قبل ظهور العنوان في "التترات"، وتظهر بعد ذلك لمدة ثلاث وعشرين مرة في الزمن السردي للفيلم، وهذا رقم سخيٌّ أرى انه من الصعب غض الطرف عنه.  غير أن شكل ظهور الشمس في النص السينمائي يختلف حسب مكان وظرف السرد، وبهذا فإن الدلالات الإيحائية  لذلك الظهور (لتلك الظهورات) إنما تختلف عن بعضها البعض بدورها.  فعلى سبيل المثال تظهر الشمس ضمن الاسترجاع (الفلاشباك) الأول لأبو قيس، وهو الاسترجاع الخاص بعلاقته بالأرض، وذلك في اللقطة التي يمد فيها ساعده ليعجن الطين بين أصابعه في فعل رمزي من أفعال التكوين، حيث تطل الشمس من وراء الأشجار في تلك اللقطة المتوسطة (medium shot).  غير ان الشمس هنا عنصر طبيعي من عناصر "اللاندسكيب"(landscape) الوطني، وطاقتها الطبيعية إيجابية في اقتران ظهورها بظهور الأرض والشجر، ومُحْتَمَلِها العدواني مُمْتَصٌّ، إذ انها تظهر في خلفية الكادر وراء الأشجار عبر استخدام تقنية التركيز البؤري السطحي (shallow focus)، فبدت أوراق الأشجار متحدة بالشمس، الأمر الذي منح اللقطة، من الناحية البصرية، لمسة جمالية خاصة هي رؤيا شاعرية للتوحد الخلاق للعناصر الطبيعية في "اللاندسكيب" الوطني.  وهذه هي الشفافية نفسها التي تُظهر شلالات من ضوء الشمس وهي تنهمر بين الأشجار بعد مصرع الأستاذ سليم، حيث تستكشف آلة التصوير المكان الطوبوغرافي والوطني الفلسطيني عبر استخدام تقنية التركيز البؤري الناعم soft focus في التصوير.  وبذلك فقد ظهرت جذوع وأغصان الأشجار سوداء وكأنها في حالة حِداد، بينما يُخَضّبُ ضوء الشمس الأرض في تباين (contrast)ضوئي حاد بعد ذلك، ويستلقي الأستاذ سليم صريعاً على الأرض التي قدّم حياته دفاعاً عنها.  غير ان هذا المشهد ينتهي بلقطة "زوم إلى الداخل" (zoom in)  إلى الشمس عبر جذوع وأغصان الأشجار السوداء.  وكلما اقتربت الشمس من قلب الكادر ازداد وهجها، وبالتالي ارتفعت النغمة الضوئية للقطة، حتى تستولي دائرة الشمس ببياضها الغامر على كامل الكادر.  ويحدث عند نهاية هذه اللقطة إحلالٌ تدريجي (dissolve)إلى اللقطة التالية، وهي لقطة نهاريَّة كبيرة لعائلة فلسطينية نازحة نراها من خلال تقنية التركيز البؤري العميق (deep focus)وهي تشق طريق تيهها القاسي في الصحراء المكشوفة تحت الشمس.

إن مغزى التباين الضوئي بين تينك اللقطتين واضح بما فيه الكفاية لهذا الكاتب، حيث حلت شمس المنفى محل شمس الوطن، وحيث لن تكون شمس المنفى مثل شمس الوطن، وحيث تُنَقِّطُ الشمس ما تبقى من الفيلم بحضورها العدواني الغائر والغامر.

ترى رضوى عاشور بأن "في الرواية "رجال في الشمس" عدد من الصور التي تترابط فتسهم بمجموعها في تقديم رمز فني للجحيم الفلسطيني، هذا الجحيم الذي يعادل الوالقع الفلسطيني في المنفى والمحاولات الفردية للهروب منه...." (29).  ومن الأمثلة التي تضربها عاشور – مستشهدة بمنطوق الرواية- شخصية مروان الذي عليه أن يذهب إلى الكويت كي "يغوص في المقلاة مع من غاص"، فأخوه زكريا قد كتب له بأن "المدرسة لا تعلّم شيئاً... فاتركها وغُصْ في المقلاة مثلما فعل سائر البشر"، حيث يتذكر مروان هذه العبارة وهو في شاحنة الماء التي "تمضي فوق الأرض الملتهبة".  وتذكر عاشور تشبيه أبو الخيزران للكيلومترات المائة والخمسين التي تفصل العراق عن الكويت بـ "السراط الذي وعد الله خلقه أن يسيروا عليه قبل أن يجري توزيعهم بين الجنة والنار.. فمن سقط عن السراط ذهب إلى النار، ومن اجتازه وصل إلى الجنة.. أما الملائكة هنا فهم حرس الحدود".  ويحذّر أبو الخيزران مسافريه المُهَرَّبين الثلاثة بأنه "بعد قليل سيصبح الخزان فرناً حقيقياً".  أما أسعد فإنه يصرخ بعد أن يدخل رأسه في جوف الخزان بأن "هذه هي جهنم! إنها تتقد" (30).

إن ما تجادل به عاشور فيما يخص رواية كنفاني "رجال في الشمس" ينطبق كذلك على فيلم صالح "المخدوعون"، بل ان الفيلم، بسبب من بُعديه الصوتي والبصري، أكثر صراحة في تصوير "الجحيم الفلسطيني" عبر الرموز الفنية للتركيب المشهدي(mise-en-scene).  ففي المشهد الأخير في الفيلم تحضر النار حرفياً في دلالة واضحة، حيث ان هذا الرمز البصري النهائي يتوّج الإشارات الشفهية والبصرية التي مهدت له طوال السرد.

غير ان الشمس باعتبارها "الصورة المألوفة الرئيسة" (عودة إلى تنظير ستيفان شارف) يتجاوز دورها مجرد تقديم "رمز فني"، حيث انها تصبح بدورها أداة فنية ليس باعتبارها مما يعبّر عنه السرد وشخصياته، بل باعتبارها السارد نفسه.  وأقوى مثال يحصل فيه هذا التحقق هو الانتقال إلى المشهد الاسترجاعي (الفلاشباك) لأبي الخيزران في إثر سؤال أسعد المباغت عما إذا كان متزوجاً، وهو الاسترجاع الذي يُعرّف المُشاهد إلى عِنَّة أبو الخيزران، ويذكّر هذا بها على نحوٍ ساحق ومرير (31)؛ فبعد أن يوجه أسعد سؤاله تنقلب سحنة أبو الخيزران رأساً على عقب، ويغمض عينيه بمرارة ويفتحهما بتظاهر في محاولة للتخفيف من حدة أشعة الشمس التي تواجهه عبر الزجاج الأمامي لشاحنة الماء التي يقودها.  وبذلك فإننا نرى الشمس وأشعتها في لقطات مقرَّبة (close-ups) سريعة آخرها لقطة مقربة لقرص (دائرة) الشمس وقد احتل كامل الكادر.  إن الانتقال إلى المشهد الاسترجاعي (الفلاشباك) لأبي الخيزران يتم عبر استعمال بارع لتقنية المونتاج الربطي (associative montage)، حيث تتحول لقطة قرص الشمس عبر الإحلال المزجي (dissolve) الذكي حقاً إلى لقطة مصباح غرفة العمليات في المستشفى التي يرقد فيها أبو الخيزران حيث الجرّاحون يُعملون مشارطهم في عضوه الحميم محاولةً لإنقاذ حياته من آثار اللغم الذي انفجر تحته ذات معركة في حرب العام 1948.

وبذلك فإن "اللقطة المألوفة الرئيسة" (عودة إلى تنظير شارف) إنما تعمل هنا بوصفها "أداة نقلية" (transitional devise) تجعل من الشمس سارداً، وهي في اقترانها البصري بالمصباح إنما تُعَلّقُ على "جحيميّة" ذاكرة أبو الخيزران، وتوفر إشارةً للّبيب عن استمرار "جحيميّة" الماضي (الجنسي) في الحاضر (السياسي والمعيشي).  وهذا الاستخدام الحاذق فعلاً لتقنية "المونتاج الربطي" إنما يُذَكِّرُ بأحد أقوى نموذجين لها في تاريخ السينما الكلاسيكية:  أعني "المونتاج الربطي" الذي استخدمه ألْفْرِد هِتْشْكُك Alfred Hitchcockفي فيلمه الخالد "سايكو" (الذي أنجزه في العام 1960) ليقرن فتحة تصريف المياه في حوض الحمّام في الوقت الذي كانت آخر قطرات الماء تنسرب فيه في لقطة مقرّبة (close up)بالعين المفتوحة رعباً للضحيّة التي قُتِلَت طعناً بالسكيّن  لتوّها في اثناء وقت هو واحد من أكثر الأوقات حميميّة وخصوصية للإنسان:  الاستحمام.  إن ذكر مصباح غرفة العمليات في المستشفى يَرِدُ في رواية كنفاني [106-107]، لكنه يَرِدُ بعد الاسترجاع (الفلاشباك) باعتباره أحد العناصر التي تؤثث المشهد، وليس بسبب ذلك الانتقال أو التحويل ألذي أجراه توفيق صالح.  

هوامش:

(27).  في لقاءاتنا المسقطيَّة استحسن توفيق صالح هذه الإلتقاطة كثيراً، وقال انه يأسف إلى انه لم يتم الانتباه من قَبل للأمر الذي هو مقصود من قِبَلِه لكل من يفهم في السينما.  لكن صالح لم يتفق مع الرأي الذي أبداه تِشوما غابرييلTeshome Gabriel  في كتابه " السينما الثالثة في العالم الثالث:  جماليات التحرير" من حيث أن الأول قد ذهب إلى أن لقطة الـ"pan" متأثرة بصورة (لا) واعية بطريقة الكتابة في اللغة، حيث أن الكتابة باللغة العربية تبدأ من اليمين إلى اليسار، وبالتالي فإن هذا الوعي/ اللاوعي اللغوي قد انعكس على صالح، وغيره, في لقطات الـ "pan"، بحيث انها تبدأ من اليمين إلى اليسار في تقليد لاتجاه كتابة اللغة.  لكن صالح قال لي ان هذا لم يكن وارداً لديه، بل انه تعلّم ذلك من المسرح اليوناني الكلاسيكي حيث يدخل الممثل إلى خشبة المسرح من اليمين إلى اليسار، وان الأمر في الفيلم تم بعفوية، وانه، من وجهة نظره، لا داعي للإسرافات النظرية فيما يخص هذا الشأن.  أرقام الحواشي تتواصل تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقات الأربع السابقات.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في تلك الحلقات، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من الطبعة المذكورة في الحلقات السابقة بين معقّفات إن في المتن أو في الحاشية. 

(28).  Stefan Sharff, The Elements of Cinema:  Toward a Theory of Cinesthetic Impact (New York:  Columbia University Press, 1982), 177. 

(29).  المثال الذي يقدمه شارف للتمييز بين "الصورة المألوفة الرئيسة" و"الصورة المألوفة الثانوية" مأخوذ من مشهد عتبات الأوديسة الشهيرة في فيلم سيرغي آيزنشتاين Sergei Eisenstein"المُدَمِرة بوتمكن"، حيث أن المرأة ذات النظّارة الأنفيّة هي "الصورة المألوفة الرئيسة"، بينما الطالب هو "الصورة المألوفة الثانوية".  أنظر:

Stefan Sharff, The Elements of Cinema, 118.

(29).  رضوى عاشور، "الطريق إلى الخيمة الأخرى"، 64.

(30).  المصدر السابق، 65-68.

(31).  ربط ومعادلة "القدرة الجنسية" بـ"القدرة الوطنية" (بمعنى ان الأولى تساوي الثانية، فإذا انتفت تلك انتفت هذه) أمر مؤسف في جُلّ الأدب الذي يكتبه الذكور العرب في سياق ميراث الثقافة العربية البطريركيّة، وليست رواية كنفاني ولا فيلم صالح في حِلٍّ من ذلك.  وعلى حد علمي فإنه لم يصدر نقد نسوي عربي لهذه النقطة إن للرواية أو للفيلم.  غير اني لا أود التطرق إلى هذا الشأن في هذه النسخة من المادة. 

* كاتب وناقد من عمان

ملحوظة: حدث خطأ في النشر فتصور المحرر أن الجزء الرابع هو الأخير من الدراسة بينما لايزال هناك جزءان هنا الخامس وفي الحلقة القادمة ننشر الجزء السادس والأخير. ولذا لزم الاعتذار والتنويه.

عين على السينما في

23/10/2013

 

ليس مخدوعاً، بل ذاب في خزّان الشمس (6 من 6)

عن اقتباس توفيق صالح لغسان كنفاني

بقلم: عبد الله حبيب

إلى ذكرى توفيق صالح، في الإستعادة دوماً. 

دائرتان:  شمس الصحراء وعَجَلة شاحنة الماء (استكمالاً من الحلقة السابقة)

أما "الصورة المألوفة الثانوية" (secondary familiar image)ارتهاناً إلى تنظير ستيفان شارف Stefan Sharffالسابق ذكره في الحلقة الفائتة من هذه المادة في فيلم توفيق صالح "المخدوعون" فهي – وفقاً لاجتهادي المتواضع- صورة العجلة الأمامية اليسرى لشاحنة الماء في لقطات مقربة (close ups)نراها في وضعية مسير الشاحنة (وليس أبداً في أثناء توقفها).  تتكرر هذه الصورة سبع مرات في السرد الفيلمي اثنتان منهن نراهما قبل دخول الشخصياتالفلسطينية الثلاث (مروان، وأسعد، وأبو قيس) إلى بطن صهريج الشاحنة، واللقطات الخمس الأخريات يَرِدْنَ بعد ذلك في نسيج الحبكة.  إن دائرية العجلة الأمامية اليسرى لشاحنة الماء إنما تؤدي إلى ربطٍ (لا)واعٍ بين بينها وبين استدارة قرص الشمس باعتبار ذلك هو "الصورة المألوفة الرئيسة" (primary familiar image)في الفيلم؛ ففي هذا التماثل الشكلي وتكرار ظهور الصورتين (الرئيسة والثانوية) ما يُحيل إلى أن هناك تماثل وظيفي وبنيوي بين الصورتين باعتبارهما رمزين فنيين، إذ أن قرص الشمس الحارقة التي تصعد إلى كبد  سماء الصيف الملتهب إنما يجد له صدى بصرياً في العجلة اليسرى الأمامية في شاحنة الموت المجللة باللون الأسود التي تدبُّ وحيدة على صحراء المنفى بين العراق والكويت، ناقلةً الفلسطينيين الثلاثة الباحثين عن أمن ورفاهية إلى موت أقل ما يمكن أن يقال عنه انه خسيس وبشع، حيث تتبادل العجلة اليسرى الأمامية للشاحنة وقرص الشمس الظهور تتالياً وتجاوراً (juxtaposition)صعوداً وسيراً في أثناء نقاط حساسة وحرجة في الرحلة المشؤومة، كما حدث قُبيل الوصول إلى النقطة الحدودية الكويتية (مركز المطلاع)، إذ تواصل الشمس صعودها الشّرير (فيما يخص المُهَرَّبين الثلاثة) إلى كبد السماء وذلك كي تبلغ منتصف النهار، أي ذروته الحرارية الرهيبة التي ستخنق الفلسطينيين الثلاثة وهم في بطن الخزان، وتظهر العجلة الأمامية اليسرى لشاحنة الماء وهي تدور في الوقت نفسه إلى ذروة الرحلة، رحلة الحتف والهلاك.

واقعية الكابوس، كابوسية الواقع:  مفارقات ومقاربات

يشكّل دخول أبو الخيزران إلى المكتب الإجرائي المُكيّف في نقطة الحدود الكويتية (مركز المطلاع)، وما تلى ذلك من إعاقة غير متوقعة نتج عنها موت الفلسطينيين الثلاثة داخل بطن صهريج شاحنة الماء نقطة الذروة الدرامية (dramatic climax)في رواية كنفاني "رجال في الشمس" وفي فيلم صالح "المخدوعون".  كما تشكل المعالجة السينمائية  لهذا المشهد نقطة الجدل الأكبر حول الفيلم؛ إذ إن هذا كان صريحاً للغاية في ان الفلسطينيين الثلاثة قد طرقوا جدران صهريج شاحنة الماء مستغيثين ومستنجدين، وذلك على عكس الرواية التي لم تورد ذلك بصورة صريحة، أو تركته نقطة غامضة وملتبسة قابلة لقراءات متناقضة  في أحسن الأحوال (ناقشت هذه النقطة في مكان أبكر ضمن هذه المادة).  غير ان هذا المشهد - في رأيي الصغير- لم يتعرض للدراسة الكافية من قِبل أولئك الذين كتبوا عن رواية كنفاني أو فيلم صالح أو كليهما، ولا أزعم هنا انني سأقوم بتفكيك هذا المشهد كي أقول الكلمة الفصل، بل ان غرضي هو التأمل فيه وإثارة أسئلة تنبع من ضرورة التوقف عند بعض جوانبه.

أود إذاً أن أثير هنا ثلاث نقاط.  النقطة الأولى هي مناداة أبو الخيزران بصيغة المؤنث (تقريباً).  أما النقطة الثانية فهي لامعقولية قصة العلاقة الغرامية المزعومة بين أبو الخيزران والراقصة كوكب بالنظر إلى عِنَّة الرجل التي أعلمنا السرد عنها قبل الوصول إلى مركز المطلاع الحدودي الكويتي.  والنقطة الثالثة هي الطبيعة الكابوسية لكامل المشهد.

تتمحور النقطة الأولى التي أرغب في محاورتها حول حقيقة ان أبو الخيزران يُنادى وللمرة الأولى في رواية كنفاني وفيلم صالح بصيغة التأنيث (تقريباً) أي انه يُسمّى "أبو خيزرانة" بدلاً من "أبو الخيزران" (في الرواية يدعى "أبو خيزرانة" طوال المشهد بواقع سبع مرات من قِبَل أبو باقر، الموظف الحدودي الكويتي في مركز المطلاع، وهو الوحيد من الموظفين الثلاثة في المكتب الذي يكلمه مباشرة، بينما يواصل الراوي تسميته بـ "أبو الخيزران".  وفي الفيلم يناديه الموظف الحدودي الكويتي علي بـ "أبو الخيزران" لمرة واحدة في أثناء دلوفه إلى المكتب، ثم يناديه أبو باقر بـ "أبو خيزرانة" ثلاث مرات في أثناء تبادله وعلي الحديث معه).

سوف أعود لمناقشة هذه النقطة بعد مناقشة النقطة الثانية المتصلة بها.  النقطة الثانية هذي، إذاً، متعلقة بحكاية الراقصة كوكب التي وفقاً للراوي في رواية كنفاني أنهاها الحاج رضا هاتفياً إلى أبي باقر [139] (32).  الحاج رضا لا يتجسد صوتياً أو بصرياً في فيلم صالح مع انه يتبادل الحوار مع أبو الخيزران في رواية كنفاني بعد أن غرزت عجلات شاحنة المياه في الوحل في أثناء رحلة الصيد [96].  وبهذا إن الحاج رضا لا يمكن أن يكون إلا أحد ثلاثة.  فهو إما أن يكون على معرفة بمسألة العجز الجنسي لأبي الخيزران، وبالتالي فإنه من الصعب بمكان تصور انه سيختلق هكذا قصة وذلك نظراً لاستحالتها الموضوعية، ومع ذلك فقد اختلقها.  وإما ان الحاج رضا بسبب من علاقة السلطة بينه وبين أبو الخيزران (فالأول هو رب عمل الثاني) على دراية بالعجز الجنسي المصاب به الثاني، ولكنه مع ذلك ولأسباب ما لا نعلمها على وجه التحديد تعمّد تلفيق القصة وإنهائها إلى أبي باقر.  وإما أن يكون الحاج رضا على غير دراية بالعجز الجنسي لأبي الخيزران، وبالتالي فإنه لأغراض في نفسه قام بتلفيق حكاية العلاقة المزعومة بين أبو الخيزران والراقصة كوكب (33).

ما حدث هو انه عندما أخبر الموظف الحدودي باقر أبو الخيزران بأن الحاج رضا قد حكى له وللآخرين "القصة" من أولها إلى آخرها فإن التعبير الوجهي (facial expression)لأبي الخيزران كما تسجله آلة التصوير هو سيماء خوف وملامح الشعور بغدر، الأمر الذي يعني انه هناك فعلاً ثمة "قصة" ما، أو سر ما مشترك بين الحاج رضا وأبو الخيزران، وما كان ينبغي من الحاج رضا أن يبوح به لأي أحد، ومع ذلك فإنه قد فعل.  ولهذا فقد كان الخوف والشعور بالخذلان والغدر هما ردة فعل أبو الخيزران التي تجلّت واضحة في تعبيره الوجهي، وذلك لذيوع شأن "القصة" السرِّية ووصول أمرها إلى موظفي الحدود في مركز المطلاع الكويتي.  لكن السؤال يبقى:  هي "قصة" ماذا بالضبط؟.  سأجتهد هنا ان "القصة" التي خطرت في بال أبي الخيزران هي قصة التهريب عبر الحدود العراقية/ الكويتية الذي هو منخرط فيه، إذ أن أسعد كان قد اكتشف تناقضات أقوال أبو الخيزران في مشهد إتمام الصفقة التهريبية في الفيلم، وأخبر زميليه في الرحلة بذلك (في رواية كنفاني ليس هذا التناقض تناقض في أقوال أبو الخيزران، ولكن بين أقوال أبو الخيزران وسرد الراوي).

إن ما توصل إليه أسعد هو ان أبو الخيزران إنما يقوم بتهريب أشياء خاصة بالتاجر الكويتي الثري، الحاج رضا، وانه يقوم بتهريب الأشخاص في طريق العودة من العراق إلى الكويت لحسابه الخاص من وراء ظهر رب عمله الحاج رضا.  غير انه إذا كان الأمر كذلك حقاً فَلِمَ يقوم الحاج رضا بالتضحية بُمَهَرِّبِهِ مختلقاً تلك القصة الفانتازية عن العلاقة الجنسية بين أبو الخيزران والراقصة كوكب؟.

في الحقيقة إن الراوي، في السرد، مصدرنا الوحيد لمعرفة الأمر على نحو موثوق به في ان تلك المكالمة قد حدثت بالفعل.  لكن الراوي في "رجال في الشمس" لا تمكن الثقة به لأنه كان قد ضلل بنا من قبل، فعلى سبيل المثال كان هذا الراوي قد أخبرنا بأن الشاحنة التي كانت مهمتها تأمين الماء لضيوف الحاج رضا في رحلة الصيد الصحراوية قد أصابها عطل بسيط قبل أسبوع من يوم تهريب الفلسطينيين الثلاثة  [96]، وهذا ما يتناقض بصورة فاقعة مع قول أبو الخيزران بأن "الخزان لم يَرَ الماء منذ ستة شهور" [98].  ولذلك فإن يقيننا ان الحاج رضا قد هاتف أبو باقر وأخبره بشأن العلاقة المزعومة بين أبو الخيزران والراقصة كوكب يبقى يقيناً مهزوزاً في أحسن الأحوال، حتى وإن لم نتوافر على بيِّنة جليَّة بأنه لم يتصل.

إن ذا هو ما يقود إلى النقطة الثالثة التي أشرت إليها سلفاً، ألا وهي كابوسية المشهد السينمائي الذي يجري في مكتب الموظفين في مركز المطلاع الحدودي الكويتي بعد دخول أبو الخيزران إليه لاستكمال إجراءات العبور الروتينية.  إن تنفيذ هذا المشهد قد اعتمد على البساطة البالغة سواء لجهة حركة آلة التصوير (التي على سبيل المثال لم تلجأ لزوايا تصوير معقَّدة)، أو لجهة "الديكورات" (حيث ان "ديكورات" المشهد طبيعية وواقعية وليست تعبيرية)، أو لجهة الإضاءة (حيث لا مؤثرات بصرية كاللجوء إلى الإضاءة القاتمة مثلاً).  غير ان هذا المشهد على الرغم من كل ذلك، أو ربما بسبب منه، ينطوي على حسٍّ كابوسي عالٍ يبدأ بدخول أبو الخيزران إلى المكتب.  وفي كُنْيَة أبو الخيزران ثمة علاقة جِناسيَّة لا تخطئها الأذن الحصيفة بين "أبو الخيزران" و"الخزّان".  وهذه العلاقة اللغوية إنما تحيل إلى علاقة تماثل وظيفي في الدور الموضوعي الذي يشترك فيه الإثنان.  وإضافة إلى هذا فإن الكُنية إنما تنطوي على حمولة سلطوية وعِقابيّة حيث انها تُذَكّر بعصا الخيزران واستخداماتها المعروفة في الضرب، والتأديب، والعِقاب في الثقافة العربية.  كما انها تنطوي كذلك على رمز قضيبيٍّ (phallic symbol)واضح بما فيه الكفاية.

غير ان أبو الخيزران يدخل إلى المكتب الحدودي في مركز المطلاع بصفته "أبو الخيزران"، حيث هكذا يحييه الموظف علي، لكنه يصبح فجأة "أبو خيزرانة" على لسان أبي باقر.  وفي هذا التضمين الجنسي التأنيثي ما يحيل إلى "لا رجولة" أبو الخيزران من وجهة نظر ذكوريّة.  ولا شك ان أبو الخيزران الواعي بعجزه الجنسي قد فهم الإشارة.  بيد ان المفارقة هنا هي ان "أبو خيزرانة" متهم في ذات الوقت بقضاء ليالٍ حمراء مِلاح مع راقصة تدعى كوكب.  وهذا اتهام قد "ينقذ" رجولته (من الخارج في الأقل)، حيث يكمن "البارادوكس" هنا في أن المؤنث (تقريباً) يقوم بدور ذكوري.  غير ان "رجولة أبو خيزرانة" كما يعتقد بها أبو باقر (في الأقل، كما يقول) هي بالضبط ما يتسبب في موت الفلسطينيين الثلاثة القابعين داخل صهريج شاحنة المياه انتظاراً لإكمال أبو الخيزران إجراءات عبور الحدود إلى الأرض الكويتية عبر مركز المطلاع.

لكن المفارقة هنا هي انه حين يؤكد أبو الخيزران للموظفين الحدوديين بأنه لا أساس من الصحة لقصة علاقته المزعومة بالراقصة كوكب فإنه إنما كان فعلاً يقول الحقيقة بسبب من حقيقة معرفته الشخصية الداخلية انه غير قادر جسدياً على إقامة هكذا علاقة.  غير ان أبو باقر يصرخ به في عبثٍ مدمِّر:  "لا تكذب!"، و بالتالي فإن قول الحقيقة هنا لم يسعف أبو الخيزران في النجاة من المأزق الرهيب.  ليس هذا فحسب، بل ان "الكذب" الذي اقترفه أبو الخيزران (من وجهة نظر أبو باقر طبعاً) لم يكن بحق موظفي الحدود في مركز المطلاع الكويتي الذين لا يصدقونه فيه حين يقول الحقيقة، بل كان بحق مواطنيه الثلاثة الذين وعدهم بإيصالهم إلى الكويت فصدّقوه ليس بالمجّان، بل دفعوا له أجر ذلك مُقَدَّماً.  وها هو الآن يتركهم في بطن صهريج شاحنة المياه كي يموتوا مختنقين بعيداً عن فلسطين، وكذلك بعيداً عن الكويت التي على مرمى حجر من مكان الوفاة.

وإضافة إلى المفارقات المريرة التي تنبثق في الموقف من كُنية أبو الخيزران فإن هناك تساوق رقمي صارخ بين عدد الفلسطينيين المحتجزين في صهريج شاحنة المياه (ثلاثة) وعدد الموظفين في مكتب مركز المطلاع الحدودي (ثلاثة أيضاً)، فهناك إذاً تكافؤ عددي بين الطرفين (34).  هذه مسألة ينبغي التوقف عندها من حيث انها توحّد بين المكتب الحدودي وصهريج شاحنة المياه بصورة "غير معقولة" وكابوسية.  غير انها بالضبط هي تلك الكابوسية التي يظهر بها هذا المشهد أصلاً، فالموظفون الحدوديون الثلاثة  الذين يظهرون في لقطات مقربة (close ups)إنما يعرِّضون أبو الخيزران لمحاكمة جائرة هي أشبه ما تكون بالمحاكمات الكافكاوية، وهذا في الوقت الذي يعلم فيه أبو الخيزران ان كل لحظة من لحظات التأخير في المكتب/ المحاكمة تُقَرِّب المختبئين داخل صهريج المياه في الشاحنة من موت محقق.  غير انه في اللحظة التي يضرب فيها أبو باقر على طاولة مكتبه بيده كمطرقة القاضي مُثْبِتَاً بعد تذكير علي له بأن اسم الراقصة المزعومة هو حقاً كوكب فإن المونتاج يقطع إلى لقطة مقربة (close up)لشاحنة الماء حيث نسمع طرقات الرهناء الثلاثة (مروان، وأسعد، وأبو قيس) وهي تنطلق من داخل الصهريج وهي تطلق بدورها حُكْمَاً، وتقدّم إفادة ليس ضد "قائدهم" أبو الخيزران (بصفة القيادة هذه كما نعته أسعد) الذي وضعهم في هذا الموقف فحسب، بل كذلك ضد الموظفين الحدوديين الثلاثة (35).

وثمة تساوق رقمي أيضاً بين إجمالي جمع عدد الضحايا الذين هلكوا في كارثة صهريج شاحنة المياه (ثلاثة) وعدد الموظفين الحدوديين (ثلاثة أيضاً) أي أن الرقم هو ستّة، وعدد المرات التي استفسر فيها الحاج رضا عن أبي الخيزران وفقاً لأبي باقر (ست مرات أيضاً).  إن في الاشتمال الرمزي لشخص مفرد على معادل لستة أفراد ما يشي بقوته، وسلطته، وغلبته عليهم.  غير ان الفيلم، كما أسلفت، لا يجسد شخصية الحاج رضا بأي شكل من الأشكال، حيث تبقى هذه الشخصية الغامضة حاضرة بالإسم عبر الإشارة فقط، ومطلّة مثل شبح على السرد.

لقد عبّر كنفاني عن مسعاه الفني قائلاً بأنه متمثل في كتابة "قصة واقعية مائة بالمائة، وبنفس الوقت تعطي شعوراً هو غير موجود" (36).  وتنفيذ صالح لذلك المشهد الكابوسي في واقعيته، أو الواقعي في كابوسيّته، إنما يضعنا في روح نفس التصور الذي أراده الكاتب، ويفرض علينا تحديات تتمثل في قراءة العمل  ليس باعتباره تعبيراً فنيّاً عن المعاناة الفلسطينية كما جُسِّدت في محاولة دخول ثلاثة فلسطينيين تهريباً إلى الكويت، والذين كانوا يمكن أن يكونوا أيضاً ثلاثة مكسيكيين يحاولون دخول أراضي الولايات المتحدة الأمريكية، أو ثلاثة أتراك إلى ألمانيا، بل كذلك بوصفه تعليقاً على مأساة الشتات البشري بعيداً عن الوطن برمّته، حيث يمثّل المشهد "مايكروكوزما" وجودياً.  إذ انه على الرغم من السياق السياسي "المباشر" (كما يبدو)، والذي تدور فيه أحداث رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" وفيلم توفيق صالح "المخدوعون" فإن الأمر مرتهن إلى مناخات عبثيّة وكابوسيَّة عبّر عنها كُتّاب مثل صمويل بِكِتْ Samuel Beckettوفرانز كافكا Franz Kafka.  وأظن انه ليس في مقدوري قول أي شيء بعد هذه الجملة.       

هوامش: 

(32).  تتصل أرقام الحواشي تباعاً في هذه المادة بما سبقها في الحلقات الخمس السابقات.  كما ان توثيق مصدر الاقتباس سيرد بالصيغة الاختصارية إن كان قد أُثبت بالصيغة الكاملة في تلك الحلقات، كما يستمر إيراد أرقام صفحات الاقتباس من رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس" من الطبعة المذكورة في الحلقات السابقة بين معقّفات إن في المتن أو في الحاشية.

(33).  تعاني اللهجة الكويتية (كما اللهجة العراقية في المشهد العراقي القصير) في فيلم توفيق صالح من تحويرات مُكَسَّرَة وذلك على شاكلة التحويرات المُكَسَّرَة التي تعرضت لها اللهجة الفلسطينية.  يقول توفيق صالحان غسان كنفاني – الذي أعاد كتابة الحوار- كان قد نسي لهجته الفلسطينية فبدت اللهجة في الفيلم شاميَّة أكثر.  أنظر سليمان المعمري "المخرج الراحل توفيق صالح في حوار عن تجربته السينمائية: على السينمائي أن يحلم، وأن تكون أحلامه حقيقية وضرورية"، ملحق "شرفات" الثقافي، صحيفة "عُمان"، 27 أغسطس 2013، 12.

(34).  يتوقف سامي سويدان عند الدلالات الرقمية في رواية كنفاني، ويشير في ملاحظة هامشية إلى تكرر الرقم "3" في السرد، ولكنه للأسف لا يحلل هذه النقطة.  أنظر:  سامي سويدان، "قراءة رجال في الشمس"، "شؤون فلسطينية" (81/ 82) 1978، 331 – 367.

(35).  أود الإشارة هنا إلى ان كلاً من رواية كنفاني "رجال في الشمس" وفيلم صالح "المخدوعون" كانا من أوائل الأعمال الفنية التي قدّمت "الخليجي" في الثقافة العربية المعاصرة بصورة نمطيّة (stereotype)هي مستمرة لغاية الآن للأسف الشديد، وذلك باعتبار ان "الخليجي" شخصغبي، وتافه، ومتخلف، ولا همّ له في الحياة سوى الجنس.  غير انني لا أود التطرق إلى هذا الأمر في هذه النسخة من مشروع الكتيب.  وقد أثرت هذا الأمر مع توفيق صالح في لقاءاتنا في مسقط بصراحة وشفافية اظن انهما ينبغا أن تُحسبا لكلينا، غير اننا للأسف أخفقنا في التوصل إلى أي رأب للصدع المؤسف.

(36).  أقتبس في:  فضل النقيب، "عالم غسان كنفاني"، "شؤون فلسطينية" (13)، 194.

روابط إلى الحلقات السابقة من الدراسة:

الحلقة 1

الحلقة 2

الحلقة 3

الحلقة 4

الحلقة 5

عين على السينما في

03/11/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2013)