حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل توفيق صالح

توفيق صالح.. سبعة أفلام قبل أن يلفّه الصمت

طائر العزلة

نديم جرجورة

إذاً، توفي توفيق صالح. الرجل الذي وجد في العزلة السينمائية ملاذاً لنفسه من كل شيء. السينمائيّ الذي قرّر الخروج من البلاتوهات والاستديوهات نهائياً قبل ثلاثة وثلاثين عاماً. الإنسان الرائع الذي ارتضى الصمت تعبيراً وبوحاً وانكفاء. توفي توفيق صالح. النبأ بحدّ ذاته مُثقل بألف سؤال وسؤال. لكن السؤال الذي لم يتسنّ لي طرحه عليه أبداً، أو بالأحرى لم يتسنّ لي الحصول على جواب «واضح وأكيد وثابت ونهائي» عليه أبداً كامنٌ في المعنى المخفيّ في قرار الاعتزال. كامنٌ في المغزى المبطّن في أعماق قرار أخذه إلى الهامش، وجعله ينظر إلى المتن بعين هادئة، وبسكوت عظيم. الأسئلة كثيرة، لكن نبأ الرحيل بحدّ ذاته كفيلٌ بالتوقّف قليلاً عند اللحظة نفسها: لحظة سكونه في الموت. لحظة التقوقع في العزلة. لحظة ولوج الصمت. لحظة الانحياز إلى التدريس بديلاً من الاشتغال. لحظة التأمّل. لحظة الانبثاق من داخل عدسة الكاميرا إلى خارج غرف المونتاج.

صباح أمس الأحد، تردّد الخبر عبر شبكة التواصل الاجتماعي. التأكّد من الخبر دونه رغبة دفينة وخفرة في أن تكون هذه الشبكة، على عهدها، ميّالة إلى اختراع أنباء ليست صحيحة. لكن مضمون الخبر صحيح. الوفاة مؤكّدة. الوفاة ناتجةٌ من شيخوخة ألمّت بالرجل، ومن قعود طويل خارج الكادر والصورة. الوفاة نابعةٌ من خلل صحي، متأثّر (الخلل) بتمدّد العمر إلى ما بعد الثمانين عاماً. لكن أخباراً عدة ردّدت، خلال أعوام ماضية، أن الرجل المنكفئ على ذاته وجد في خلوته الطويلة راحة جعلته يعيش كسلاً إبداعياً بدا لي أجمل من كل كسل آخر. التدريس في «المعهد العالي للسينما» في القاهرة محاولة للتأمّل في مسار تاريخي تعيشه صناعة الصورة السينمائية في مصر، من خلال متابعة أحوال طلاب يتخرّج من بينهم من يُصبح، ذات لحظة، سينمائياً من طراز رفيع. محاولة لتبيان مآل تلك الصناعة وأحوالها، عبر المُشاركة الفعلية في صناعة من يُفترض بهم أن ينهضوا بها، وأن يأخذوها إلى آفاق أجدّ وأجمل، وأن يجعلوها حكاية تتجدّد كل يوم، بتجدّد إبداعهم.

تُرى، ما الذي جعل توفيق صالح يصمت سينمائياً ثلاثة وثلاثين عاماً؟ هل لهذا الصمت علاقة بالتجربة «المريرة» التي خاضها بتصويره «الأيام الطويلة» (1980)، الفيلم الذي دفعه إلى الغربة عن السينما، بعد خمسة وعشرين عاماً فقط على بدايته الإخراجية، المتمثّلة بـ«درب المهابيل» (1955)؟ نقّاد عديدون أجمعوا على أن «الأيام الطويلة» شكّل منعطفاً سلبياً في المسار الإخراجي لصالح. قالوا إنه «أسوأ» أفلامه على الإطلاق. ردّدوا أن المخرج أنجزه في «ظروف استثنائية»، يوم عمل في بغداد مدرّساً للسينما بدءاً من العام 1973. عندما التقيته في دمشق، ذات دورة من دورات مهرجانها السينمائي، سألته عن الفيلم، وعن المشاكل العديدة التي واجهها أثناء تصويره وبعده، وعن مدى حقيقة ما قيل حول تململ صدام حسين من الفيلم، لأنه لم يعثر فيه على التمجيد المطلوب، والتقديس المرتجى. عندها، اكتشفت أن لتوفيق صالح تلك الابتسامة، الأقرب إلى الضحكة الخفيفة، التي يُمكن وصفها بأنها طفولية جميلة. ابتسم أو ضحك. لم أعد أذكر تماماً. لكنه انصرف عن الجواب بابتسامته تلك، أو بضحكته تلك، كأن ما حصل قد حصل، وما حصل قد انتهى، والماضي مضى، وها نحن اليوم هنا الآن، وكفى. لا أعرف سبباً واحداً منعني من إجراء حوار معه حينها. أهي القناعة بأن المقبل من الأيام كفيلٌ بإتاحة فرص عديدة لحوار أو أكثر؟ أهو التأكّد الضمني بأن حواراً طويلاً معه لا يستقيم إلاّ في القاهرة، في أحد الأمكنة القليلة التي يُفضّلها؟ أهي المتعة الذاتية بالجلوس إليه، صحبة الصديقة ريما المسمار، لدردشة تشعّبت كأنها تريد أن تكون حواراً عميقاً مع سينمائي موصوف بأنه أحد ألمع مخرجي الواقعية السينمائية المصرية؟

من الإسكندرية، التي وُلد فيها يوم السابع والعشرين من تشرين الأول 1926، إلى باريس ودراسة السينما والعمل مساعد مخرج في أفلام فرنسية متنوّعة، بدا واضحاً أن توفيق صالح سيعود إلى القاهرة محمّلاً بدراسة وخبرة ميدانية جديرتين بالانتباه، لشدّة تأثيراتهما الإيجابية على من سيتحوّل، منذ منتصف الخمسينيات الفائتة، إلى أحد سينمائيي الواقعية المصرية، قبل أن ينخرط في دائرة «الحرافيش» التي صنعها نجيب محفوظ (1911 ـ 2006). الروائي الفائز بجائزة نوبل للآداب في العام 1988، سيكون مدخله الأدبي إلى السينما. محفوظ، الناشط السينمائي حينها، أعانه على اختراق عالم الصورة بطريقة مجدية، متعاوناً معه في أول أفلامه «درب المهابيل». محفوظ، الروائي المتمكّن من رسم الملامح الشعبية للحارات والفضاءات الإنسانية المصرية، سيكون طريقه إلى عوالم وتفاصيل، قبل أن يكتشف صالح في ذاته تلك القدرة الإبداعية على توظيف اللغة السينمائية في مقاربة الحكايات

السياسة؟ حاضرة في أفلامه. الحيّز الشعبي من منظور إنساني؟ حاضرٌ في ثقافته واشتغالاته. النكسة والقضية الفلسطينية؟ وجدتا في عالمه الإخراجي مكاناً بارزاً. لكن فلسطين لم تكن القضية بل الناس. «المخدوعون» (1972)، الذي اقتبسه صالح من رواية «رجال في الشمس» (1963) للفلسطيني غسان كنفاني (1936 ـ 1972)، التقط نبض القضية من خلال أناس من لحم ودم، عانوا مرارة التهجير، وعاشوا أقسى الاختبارات، وماتوا احتراقاً في صهريج كاد يوصلهم إلى محطّة جديدة في حياة مريرة. لكن، قبل «المخدوعون»، أنجز توفيق صالح أفلاماً اتّسمت بتلك الشفافية القاسية في التوغّل داخل الذات، وفي أعماق البيئة الاجتماعية، وفي عبقرية الاقتباس الأدبي. عمله مع نجيب محفوظ لم يمنعه من إيجاد المعادل السينمائي لروايات أخرى. توفيق الحكيم (1898 ـ 1987)، هو أحد الروائيين الذين اختارهم صالح لعمل سينمائي، باقتباسه «يوميات نائب في الأرياف» (1937) في العام 1968. من عوالم التجسّس والاستخبارات والصراعات الأمنية والسياسية، وجد السينمائي في صالح مرسي (1929 ـ 1996) ما يعينه على منح النصّ الروائي أبعاده البصرية، فإذا بـ«السيّد البلطي» تُصبح فيلماً في العام 1967. كما رأى في «المتمرّدون» (1966)، عن نصّ للكاتب الصحافي صلاح حافظ (1938 ـ 2008)، مادة حيّة لتبيان وقائع العيش السياسي في ظلّ النظام الحاكم أيام جمال عبد الناصر.

مناكفاته في المسألتين المصرية والفلسطينية معروفة. الترميز والمواربة في «المتمرّدون» (عن الحالة السياسية في مصر الناصرية) مثلاً لم يُخفيا كلّياً تلك المناكفة التي أرادها توفيق صالح بوحاً ذاتياً عن واقع جماعي. «يوميات نائب في الأرياف» كاد يُعرض ممزّقاً ومُشوّهاً، لولا تدخّل جمال عبد الناصر نفسه مانعاً أي حذف: «أحسستُ بالغصّة تزداد مرارة في حلقي. شعرتُ بالاغتراب والنفي وأنا في بلدي، فقرّرت الرحيل». يومها، حدثت «النكسة». يومها، ازدادت المطاردة ضده. يومها، كان البوح خطراً، والاعتراف بالواقع جريمة. يومها، حمل توفيق صالح أمتعته وذهب إلى بغداد، فإذا بـ«الأيام الطويلة»، أو بالأحرى بتلك الحكاية التي أحاطت بالفيلم، تدفعه إلى «رحيل» جديد صوب العزلة والاعتكاف والاعتزال.

رحل توفيق صالح. أميل إلى الاعتقاد أن رحيله يُمكن أن يكون دعوة إلى إعادة قراءة تاريخ كامل من سينما وحياة والتزامات أخلاقية وحساسية إنسانية. أميل إلى الاعتقاد أن رحيله مدخل إلى إعادة تشكيل تلك الحقبة، وإلى محاولة التقاط الدفق الإبداعي الممتدّ على مساحة الزمن، بل على مساحة السينما

هيثم حقّي: حالة خاصة

إنه موسم الرحيل. رحيل الكبار

وداعاً لصاحب واحد من أجمل الأفلام العربية على الإطلاق: «درب المهابيل»، وصاحب الفيلم السوري الهام «المخدوعون»، عن رواية الكبير غسان كنفاني «رجال في الشمس». وداعاً لمخرج كان حالة خاصة في تاريخ السينما العربية بإصراره على تفرّده. رحلتَ بعد أن شهدتَ أنهم دقّوا على جدران الصهاريج ـ المصيدة، وخرجوا منها وهم يصيحون «حرية». وعلى الرغم من أن هناك من يريد إعادتهم إلى الصهاريج من جديد، لكنّهم، على الرغم من كل شيء، لن يسكتوا. إنه مخاض عسير شهدتَه مخرجاً وإنساناً

وداعاً توفيق صالح.

(مخرج سوري)

رضا الباهي: العملاق

المخرج السينمائي المصري توفيق صالح لم يعد بيننا. السينما المصرية تفقد واحداً من آخر عمالقتها. لم يُنجز سوى سبعة أفلام طويلة، لكنه وَسَم السينما العربية بطابع «الواقعية الجديدة» بجدارة.

أتمنّى على إحدى محطّاتنا التلفزيونية عرض أفلامه، خصوصاً من أجل الشباب الذين لا يتمنّون شيئاً آخر غير هذا.

فليرقد بسلام.

(مخرج تونسي)

السفير اللبنانية في

19/08/2013

 

أسطورة الطفل المزعج

عصام زكريا (القاهرة) 

قصيرة هي حياة المخرج الراحل توفيق صالح (27 تشرين الأول 1926 18 آب 2013) رغم أنها تقترب من التسعين إلا قليلاً.

حياة مهدرة إذا جاز القول، لم تتفتح خلالها موهبته إلا عبر سبعة أفلام روائية طويلة ومثلها وثائقية قصيرة، أحاطت بمعظمها عقبات إنتاجية ورقابية حالت دون خروجها على المستوى الذي كان يطمح إليه صاحبها، قبل أن يتوقف عن الإخراج منذ العام 1980 ولأكثر من ثلاثين عاماً.

جيل وراء جيل ظل توفيق صالح أسطورة حية لعشرات السينمائيين والنقاد وعشاق السينما. أسطورة ساهمت في صنعها عناصر عدة يمكن إيجازها فيما يلي

1- ذلك الجدل واللغط السياسي الذي أحاط بكل أفلامه، من الاتهامات بالشيوعية ومعاداة النظام الناصري في أفلامه الأربعة المصرية، إلى القضية الفلسطينية ومديح الطاغية صدام حسين في فيلميه الأخيرين خارج مصر

منذ فيلمه الأول «درب المهابيل» (1955) تم تصنيف الشاب توفيق صالح باعتباره «ولداً مزعجاً» enfant terrible. من الصعب ترجمة هذا التعبير الفرنسي الشائع في كلمتين، إلا أن تعريفاته المختلفة تنطبق كلها على توفيق صالح

«الولد المزعج» هو الطفل الصريح الذي يتفوّه بأشياء محرجة لا يصح قولها في حضرة الكبار. وفي مجال الثقافة يطلق التعبير على الفنانين الذين يحرجون السلطة والمجتمع بقول الأشياء المسكوت عنها، وبطريقة طفولية تحمل الكثير من المباشرة والابتكار. وفي مجال السياسة هو الشخص الذي لا يتورع عن إحراج زملائه وحزبه بصراحته. حتى في ثمانينياته كان توفيق صالح مولعاً بقول هذه الأشياء المحرجة لزملائه ومعارفه مهما كلفه الأمر من خسائر.

تعرّضت أعمال توفيق صالح في مصر لمشاكل مع الرقابة استدعت أحياناً تدخل رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر ووزير الثقافة ثروت عكاشة، وخضعت كلها لعمليات حذف وإضافة منذ مرحلة كتابتها وحتى بعد الانتهاء من مونتاجها. كذلك تعرّض فيلم «المخدوعون» لانتقاد حاد من بعض الأنظمة العربية التي صوّرت في الفيلم كمعادية للقضية الفلسطينية والفلسطينيين، أما فيلمه الأخير «الأيام الطويلة» فانتقد لاتهام عكسي وهو الدعاية لأحد الأنظمة العربية الديكتاتورية.

هذا الجدل السياسي المصاحب لأفلام توفيق صالح أثر على تناول هذه الأعمال نقدياً، وحال في معظم الأحيان دون تقييمها فنياً بشكل مجرد عن التوجه السياسي... ساعد على ذلك أن الفترة التي ظهرت فيها هذه الأعمال كانت «ساخنة» سياسياً على المستويين المصري والعربي.

2- قلة الأعمال التي صنعها توفيق صالح وفترة الصمت الطويلة التي امتدت لعقود ساهمت بدورها في تعزيز الأسطورة. على مدار العقود الثلاثة الأخيرة، وخاصة العقد الثاني منها، ارتبط اسم توفيق صالح بعدد من المشروعات السينمائية، من بينها فيلم من انتاج وتمثيل الراقصة والممثلة لوسي، ولكن لم يظهر أي منها إلى النور. ترى ما الذي كان يمكن أن يقدمه المخرج الكبير لسينما التسعينيات والألفية الجديدة؟ سيظل السؤال بلا إجابة تاركاً خلفه مساحة كبيرة من التخمينات والتوقعات. وحتى الأعمال التي تركها توفيق صالح كانت تبدو قديمة ونادرة، قلما تعرّض في محطات التليفزيون أو في بعض المراكز الثقافية، وبعضها يصعب الحصول على نسخة منه أو مشاهدته مثل فيلميه الأخيرين. كل ذلك ساهم في جعل توفيق صالح بعيداً وغائماً في عيون الأجيال الجديدة، التي تقرأ وتسمع عنه قبل أن تستطيع مشاهدة أفلامه.

3- على عكس عدد آخر من المخرجين الذين توقفوا عن العمل في سنواتهم الأخيرة، مثل حسين كمال وكمال عطية، لم يكن توفيق صالح في حالة عزلة أو انسحاب كامل من المشهد السينمائي. بعد توقفه عن الإخراج ظل توفيق صالح على تواصل مع الأجيال الجديدة من خلال تدريسه في معهد السينما، وهو ما شكل رابطاً من علاقة الأستاذ بتلاميذه مع هذه الأجيال التي تحترم ثقافته وعلمه حتى لو لم تكن من «دراويش» أفلامه. وحتى أيامه الأخيرة كان يشارك في لجان التحكيم والمشاهدة ويحرص على حضور فعاليات بعض المهرجانات والأسابيع السينمائية. وقد اشتركنا سوياً في لجنة تحكيم آخر مهرجان قومي للسينما أقيم قبل ثورة يناير بأشهر عدة. كنا على طرفي النقيض في رؤيتنا وتقييمنا للأفلام، وكان توفيق صالح قوياً وحتى شرساً في الدفاع عن وجهة نظره. هذا الحضور القوي يمكن تتبعه أيضاً في عمل توفيق صالح خلال لجنة المهرجانات الدولية التي كانت تختار الأعمال الصالحة للمشاركة في المهرجانات خارج مصر، وكانت آراؤه الحادة والقطعية في الأفلام وأصحابها سبباً في كسب الأصدقاء وخسارتهم كل يوم

توفيق صالح، مع هذا كله، كان يتمتع بدماثة خلق وصوت هادئ وابتسامة خفيفة ساخرة وأسلوب في الحديث والملبس تنتمي كلها لعصر مضى، وكأنه قادم من أحد أفلام الأبيض والأسود، ولا تنسَ أنه من مواليد الأسكندرية في العشرينيات، وأنه أقام في باريس سنوات عدة خلال الأربعينيات التقى خلالها بكبار المثقفين والسينمائيين أمثال سارتر ورينيه كلير وإيتان سوريو.

توفيق صالح نفسه كان أسطورة قادمة من عصر ذهبي قديم، يؤكدها حضوره العميق وثقافته الواسعة وإجادته الفائقة للانجليزية والفرنسية، وقدرته التي لا تنضب على الحكي عن ذكريات شبابه وأفلامه!

برحيل توفيق صالح نبعد خطوة أكبر عن عصر كامل ومرحلة تاريخية شديدة التميز من تاريخ مصر والأمة العربية... تتزين بأسماء بقامة نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم ويوسف شاهين وصلاح أبو سيف وتوفيق صالح.. مرحلة تزداد ألقاً بقدر ما تبتعد عنا.

السفير اللبنانية في

19/08/2013

 

أسرار وأسماء وحكايات عن «المخدوعين»

محمد شعير (القاهرة) 

«اجتاز من القرف والخيبة ما لا يعجب قطعا عدوا ولا حبيبا ..شلت أحاسيسي تجاه كثير من الأشياء ومنها الكتابة والقراءة.. ولكنها حتى الآن لم تفلح في شل قدرتي على السخرية من نفسي والتهكم على حالي وظروفي»... يلخص المقطع السابق احوال المخرج الراحل توفيق صالح فى رحلته الطويلة في المنفى (دمشق بغداد 1969-1985) ..والتي حكى عن تفاصيلها في رسائل خاصة تبادلها مع الناقد السينمائي سمير فريد (صدرت عن أكاديمية الفنون). الرسائل حسب الناقد جلال الجميعي الذي قام بجمعها تعتبر: «سجلا ذاتيا لحياة ومشاعر وأفكار واحد من أهم المبدعين المصريين في زمن انكسار الوطن.. ربما يمكن اعتبارها بمثابة مذكرات كتبت في لحظة فاصلة، لحظة انقلب فيها مسار الاحداث والوقائع وتبدل في مجراها وعي التاريخ ..لحظة أخذت السينما المصرية تبحث خلالها عن سبيل الحياة الجديدة والسينما الجديدة..».

في الرسائل نعثر على «دروس الأحزان» إذ تجاهد محاولات تجديد العقل ..فتكاد تغرق في بحر السائد ودواماته الشرسة والأنين الذي صدر مكتوما منذ ثلاثين عاما ما زال مسموعا حتى اليوم ..وصرخات الاستغاثة الأليمة لم يوارها مرور الزمن».

تكشف الرسائل عن أفلام لم تكتمل شرع فيها صالح من بينها فيلم مع سعد الله ونوس ذو طابع سياسي ..ولكن الفيلم يكتمل: «كنت قد زهقت من أفلام لا يقبل عليها أحد» .

المدهش أننا بمراجعة السيرة الذاتية لصالح نكتشف أن مشواره الفني الشحيح (7 أفلام) جميعها مأخوذة من نصوص روائية، ويظل حسب الرسائل فيلم «يوميات نائب في الأرياف» الأقرب إلى قلبه، وهو الفيلم المأخوذ عن رواية بالاسم ذاته لتوفيق الحكيم، والمخدوعون المأخوذ عن رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني. الرواية رفضت في البداية انتاجها المؤسسة العامة للسينما في مصر، كما رفضت الرقابة الموافقة عليه بدون أن تبدي أسبابها، وبعد سنوات من الرفض سافر توفيق إلى دمشق، وأثناء زيارته حدثت ماسأة أيلول الأسود وموت عبد الناصر، فقدم الفيلم إلى المؤسسة العامة للسينما هناك لتنفيذه، ووافقت، وحينما انتهى من التصوير عرض الفيلم على لجنة من المؤسسة وقرروا أنه دون المستوى، فأصدر وزير الثقافة أمره بمنع الفيلم ووضعه في المخازن. يوضح صالح: «كانت بيني وبين أعضاء في مؤسسة السينما مشاحنات كبيرة، حتى أنهم اشتكوني لأني جئت لأنافسهم واحرمهم من العمل.. وقال أحدهم أن أي مساعد مخرج في سوريا بامكانه إخراج فيلم أفضل وأصبحت لعنة في نظر النقاد». ظل الفيلم ممنوعا، وكان سعد الله ونوس هو الوحيد الذي كتب يشيد بالفيلم، حتى حدثت المفاجأة. جاء الناقد المصري سمير فريد في زيارة للتحضير لمهرجان دمشق، شاهد الفيلم واعجب به، وطلب أن يعرض في المهرجان، وقوبل طلبة بالرفض بسبب «تدني مستواه».. وشاهد في الوقت ذاته المخرج التونسي الطاهر شريعة الذي اذهله مستوى الفيلم، ودعا ثلاثة نقاد فرنسيين من ضيوف المهرجان: كلود ميشيل كلونيه، مارسيل مارتان، جى هيننيل، لمشاهدة الفيلم. وفي مكتب مدير المؤسسة دار نقاش طويل مع شريعة الذي أصر على أنه لن يخرج من المكتب إلا قبل أن يرسل الفيلم إلى مهرجان «كان». وكان ميعاد المسابقة الرسمية قد انتهى ولذا تم ارساله إلى برنامج «أسبوعي المخرجين».. يتذكر صالح: «تمت الموافقة على عرض الفيلم في كان، وأرسلت إدارة المهرجان تذكرتي طيران أحداهما للمخرج للمشاركة في المهرجان، والغريب أن مدير المؤسسة وقتها أخبرني أنني لست موظفا في وزارة الثقافة السورية حتى يحق لي السفر وأخذ تذكرة لنفسه والأخرى منحها لموظف في إدارة التوزيع». بسبب الاقبال على مشاهدة الفيلم في كان لم يستطع مدير المؤسسة أن يشاهد الفيلم من شدة الزحام، وأشاد به الكثير من النقاد، وحصل موزع فرنسي على حق توزيعه، وقوبل بعاصفة من الغضب الصهيوني عندما عرض في فرنسا وقتها، لدرجة تهديد دور السينما التي عرضته وقتها بالتفجير، وقد حصل على عدة جوائز من بينها «التانيت الذهبي» من مهرجان قرطاج، ثم جائزة المركز الكاثوليكي في مصر (1975)، والغريب أن الفيلم لايزال يطلب للعرض في مهرجانات كثيرة

الفيلم الذي يعتبر من أهم «مائة فيلم سياسي في العالم» حسب وصف صالح، شاهده غسان قبل اغتياله، عندما حمله إلى المخرج إلى بيروت حيث يقيم ووافق عليه، بل إنه حجزه لمدة اسبوع من أجل أن يعرضه لأصدقائه وزملائه من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. بعد الفيلم اعتبر كثيرون أن (توفيق صالح) فلسطيني في مصر، ومصري في فلسطين، كما اعتبروا أن السينما الفلسطينية لم تستطع رغم تفوقها تقديم فيلم مثل (المخدوعون) حتى الآن. وهو أمر يفخر به صالح كثيرا معتبرا أن الفيلم هو «مجرد محاولة لإيقاظ الشعب العربي من غفلته وأن الهروب من المشاكل لا يحلها ولكنه يزيدها بل وقد يؤدي إلى هلاكنا وإلقائنا في مزبلة التاريخ». ورغم أن كثيرين ممن قارنوا بين الرواية والفيلم واعتبروا أن أكثر مما ميز فيلم صالح هو إخلاصه لرؤية الكاتب إلا أن صاحب «المتمردون» يؤكد أنه بالرغم أن أفلامه كلها اعتمدت على قصص أدبية، إلا أنه لا يتصور أن العمل الأدبي الجيد يمكن أن يصبح بالضرورة عملاً سينمائياً جيداً، أنا مقتنع بأن اللغتين مختلفتان تماماً، وأرى أن ضعف السينما العربية يعود إلى اعتمادها على الأدب...». 

ويرى صالح أن أكبر صعوبات الفيلم اعتماده على اسماء جديدة لانجاز الفيلم، كل فريق العمل الذي كان يعمل معه يشارك لأول مرة في فيلم سينمائي بداية من مدير التصوير إلى أصغر فني في الفريق وبالرغم من ذلك فإن حبهم للعمل هو ما دفعهم لإخراج الفيلم بالصورة التي ظهر بها، الفيلم كان من بطولة محمد خير حلواني وعبد الرحمن آل راشي وبسام لطفي أسعد.

عندما يلقي السائق بالجثث فوق أكوام القمامة يتوقف امام سيارته متشنجا يوشك رأسه ان ينفجر من فكرة مفزعة سيطرت عليه «لماذا لم يدقوا الخزان؟! ولم يقرعوا الخزان؟! اما نهاية الفيلم ، لا نسمع كلاما، اذ نرى الثلاثة وسط القمامة بينما يد ابي قيس متصلبة ومرفوعة الى أعلى مهيأة لحمل شيء، قد يكون راية او مدفعا رشاشا وقد تكون القبضة متكورة في صرخة احتجاج صامت.

في الرسائل الكثير من الأسرار والأسماء وآراء حساسة تعتبر شخصية وسرية جدا، خلال فترات الحساسية السياسية وانعكاسها على علاقة توفيق صالح السياسية والثقافية بالعديد من المشروعات السينمائية في كل من سوريا والعراق، واعترافاته واسراره المفاجئة عن اقطاب الفن والثقافة سواء في البلدين، او في مصر، بما يشكل صورة عن اجواء الثقافة والفن والسياسة في هذه السنوات.

السفير اللبنانية في

19/08/2013

 

ذهب توفيق صالح وبقي «المتمرّدون»

 سيد محمود/ القاهرة 

بعد ساعات على وفاة الناقد الكبير رفيق الصبان أمس، ووري «سندباد السينما العربية» في الثرى بحضور عدد قليل من المخرجين. قبل رحيله، كان يشعر بخطر شديد على مصر، مشبهاً حالها بأبطال فيلمه «المتمرّدون»

عشرة سينمائيين مصريين فقط كانوا في «مسجد السيدة نفيسة» في القاهرة أمس يودّعون المخرج الكبير توفيق صالح (1926 ــ 2013) قبل أن يوارى في الثرى بجوار نجيب محفوظ في مقبرة العائلة على طريق الفيوم. هكذا، فقدت السينما العربية أحد أبرز أعلامها الذين اشتغلوا طويلاً في ابتكار لغة سينمائية خاصة، جعلته أيقونة تلخّص عطاء جيل كامل رغم قلة أعماله (٧ أفلام روائية طويلة).

أحد روّاد الواقعية في السينما المصرية، ولد في الاسكندرية عام ١٩٢٦ ورافق في سنوات دراسته مخرجاً آخر تمرّد في سياق مختلف هو يوسف شاهين الذي قاده تمرّده إلى رسم صورة أخرى للمخرج السينمائي كانت أكثر شعبوية، مقارنةً بصالح الذي اتهم دوماً بكونه مخرجاً نخبوياً. غالبية الأفلام التي صنعها، تأسّست على نصوص أدبية (راجع المقال المقابل) وانشغلت بأبطال عانوا من مأزق وجودي، وهو الهاجس الذي رافقه في أفلامه الأخرى («صراع الابطال»، «درب المهابيل»).

المطّلع على سينما توفيق صالح يلمس فيها انفتاحه على الفنون والآداب الأخرى التي دعمت عمله المميز. هو لم يكن مخرج «تكنيك» فقط بقدر ما أظهر انحيازات تتعلق بالرغبة في التأسيس لرؤية جمالية انطلقت من تجاور الأنواع الأدبية والفنية. انفتاح يسهل ردّه إلى سنوات طفولته في الإسكندرية الكوزموبوليتانية ودراسة السينما في فرنسا التي دعّمها بدراسات لفنون الرسم والتصوير وعلم الجمال. إضافة إلى هذا الانحياز الجمالي، عمل صالح على التفكير في السينما أداةً للتغيير والتوعية حين عاد إلى القاهرة في كانون الأول (ديسمبر) 1953.

بعد ثورة ١٩٥٢، كانت لديه هواجسه إزاء ضبّاطها. خلال تلك الفترة، تعرّف إلى صديقه نجيب محفوظ الذي ضمه إلى شلّته «الحرافيش» وشاركه الهواجس المتعلقة بشعار «الكلّ في واحد» الذي دعمه الضباط الأحرار وأدى الى إلغاء صوت الفرد. هواجس انعكست في أعمالهما المشتركة التي جاءت بعد ذلك، وكانت في معظمها مؤسّسة على أفكار توفيق صالح. لكنّ محفوظ نصحه دوماً بعدم تنفيذها بصورتها الحادة «لئلا يتهم بالشيوعية». هكذا، فإنّ محفوظ الذي كان قد قطع شوطاً مع صلاح أبو سيف، أعاد صياغة هذه الأفكار، مغيّراً موقع الأحداث إلى حارة قاهرية، فأعطاها عنوان «درب المهابيل»، ثم عملا معاً على كتابة سيناريو الفيلم الذي أنتج عام 1955. بعد ذلك، أدت الصدفة دورها بعد مرض المنتج والمخرج عز الدين ذو الفقار، فانتقلت إلى صالح مهمة إخراج فيلم «صراع الأبطال»، فقام بتعديلات على السيناريو وأخرج الفيلم سنة 1962.

في أفلامه الأولى، لم تلتفت الرقابة الناصرية إلى ما احتوته تلك الأفلام من أسئلة. لكنّ صدامه الحاد مع المؤسسة بدأ حين راح يناقش الحالة السياسية في مصر في فيلم «المتمردون» الذي أنتج عام 1966 أي قبل النكسة. أجبرته الرقابة على إضافة نهاية جديدة للفيلم وإدخال تعديلات على السيناريو، فلم يشفع له بأنّ أحداثه ــ على الشاشة ــ تدور قبل الثورة. ولم يصرّح بعرض الفيلم إلا عام 1968 أي بعد أحداث يونيو 1967. أما فيلم يوميات «نائب في الأرياف» (1968 ـ مقتبس عن رواية توفيق الحكيم)، فقد أجيز عرضه كاملاً من دون حذف بأمر من جمال عبد الناصر الذي كان معجباً بتوفيق الحكيم وأدبه بعدما كان أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي قد اقترحوا 16 حذفاً.

لكن أجواء النكسة وما أحاط بها من تشكيك في جدوى المشروع القومي ذاته، أصابت توفيق صالح بما كان يسمّيه «الغصة» التي راكمت من شعوره بالاغتراب والنفي، وخصوصاً مع تراجع دور المؤسسة العامة للسينما في مصر، فقرّر الرحيل وتنقّل بين سوريا والعراق الذي استقر فيه لتدريس السينما حتى لُقِّب بـ«سندباد السينما العربية».

في عام 1972، أخرج فيلم «المخدوعون» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما في دمشق) في سوريا عن رواية غسان كنفاني الشهيرة «رجال في الشمس» الذي يمثّل طفرة في دعم القضية الفلسطينية. وانعكست فيه طاقة الغضب من مذبحة أيلول الاسود ونكبة موت عبد الناصر. نال الفيلم العديد من الجوائز عالمياً وعربياً، وكان متوقعاً أن تمضي مسيرة توفيق صالح إلى المزيد من التألق لولا ظروف الانفتاح الاقتصادي في مصر وطغيان موجة الأفلام التجارية، ما دفعه إلى الاستقرار في العراق والقبول بـ«سقطته الأشهر» أي إخراج فيلم «الأيام الطويلة» (1980) عن صدام حسين. حتى بعد عودة صالح إلى مصر في منتصف الثمانينيات، كان ثمة جيل آخر يعلن مشروعاً مختلفاً هو جيل عاطف الطيب، وخيري بشارة، ومحمد خان، وداود عبد السيد الذي تجاوز لغة الرمز التي ميّزت سينما صالح، وراح يوجه نقداً جمالياً واضحاً لكل ما عاشته مصر. نقد لم ينج منه جيل صالح نفسه الذي كان ضرورياً التخلص من سطوته الجمالية والإبقاء عليه كأيقونة يمكن الشغب معها من دون المساس بقيمتها التاريخية.

الأخبار اللبنانية في

19/08/2013

 

سينمائي الادباء | رسم ألغازه

محمد خير/ القاهرة 

كان فيلم «درب المهابيل» من إنتاج «أفلام النجاح»، إلا أنه حقّق فشلاً ذريعاً في شباك التذاكر. كانت «أفلام النجاح» تجربة إنتاجية لضابط جيش متقاعد وثري، عرّفه الروائي الصاعد نجيب محفوظ على الشاب المتحمس العائد من فرنسا توفيق صالح. وافق المنتج على المغامرة شرط أن يكتب الحوار عبد الحميد جودة السحار والسيناريو لمحفوظ وصالح. لكن ذلك لم يسعف الفيلم. كانت الخمسينيات حقبة الفشل الجماهيري للأفلام الطليعية. عرف يوسف شاهين فشلاً أشد مع «باب الحديد»، لكن شاهين، ومحفوظ مع صلاح أبوسيف، واصلوا طموحهم بإصرار حتى عرفوا النجاح الكاسح. أما توفيق صالح، فظل لغزاً إلى يومه الأخير، أمس.

طلب توفيق صالح أن يدفن بجوار محفوظ، ليس ذلك لأن محفوظ شريك فيلمه الأول، بل لأنّ صالح اشتهر أيضا بوصفه أحد أهم حرافيش محفوظ مع الفنان أحمد مظهر، شركاء الجلسات المحفوظية القاهرية الشهيرة.

بعد فشل «درب المهابيل» الذي حوّل عميد الرواية فكرته الفلسفية إلى قصة حارة شعبية، تفرغ صالح لصنع أفلام تسجيلية عن «كورنيش النيل» ( 1956) و«فن العرائس» (1957) إلى فيلم عن اللاجئين الفلسطينيين (من نحن؟ ـ 1960)، قبل أن يخوض تجربته الروائية الثانية «صراع الأبطال» من إنتاج عزالدين ذو الفقار، وتأليف مجموعة تكوّنت من ذو الفقار وعبد الحي أديب ومحمد أبويوسف وصبري عزت بالإضافة إلى صالح نفسه. أما القصة فذات بُعد ستيني بامتياز، عن المرض والدجل والفلاحين ومحاربة الإقطاع، لم يكن محفوظ في التجربة لذا غاب الملمح الفنّي الفلسفي لصالح «الأفكار التقدمية».

سريعاً، تعلّم صالح من التجربة فعاد إلى الرواية والروائيين، فيقدم «المتمردون»( 1966) عن قصة لصلاح حافظ، و«السيد البلطي» ( 1967) عن رواية صالح مرسي، ثم «يوميات نائب في الأرياف» ( 1968)عن رواية توفيق الحكيم، ثم ينتقل إلى سوريا ليصنع «المخدوعون» ( 1972) عن رواية غسان كنفاني «رجال في الشمس» (إنتاج المؤسسة العامة للسينما). لكن الرواية الأسوأ التي اشتغل عليها توفيق صالح، هي «الأيام الطويلة» للعراقي عبد الأمير معلة، ليخرجها أثناء إقامته في العراق بطلب من صدام حسين. فيلم «الأيام الطويلة» (1980) يحكي قصة هروب صدام حسين من السجن بعد اغتيال عبد الكريم قاسم، ومن بطولة صدام كامل، الذي صار في ما بعد زوج ابنة «الزعيم»، قبل أن يُقتل إثر حادثة انشقاقه الشهيرة منتصف التسعينيات. لقد فضّل صالح –وفضّل النقاد- أن يُحذف الفيلم الأخير من مسيرته الفنية، لكن لماذا لم يصنع المخرج الهام المقلّ أفلاماً أخرى؟

ظل ذلك لغزاً رغم أن صالح أجاب على هذا السؤال في كل لقاء صحافي في الأعوام الثلاثين الأخيرة من حياته، فكان يتكلم عن مشاريع لم تكتمل أبداً، وإن بدا أنه اكتفى بعمله كأستاذ إخراج غير متفرغ في معهد السينما في القاهرة، كان من المدهش أن فترة توقفه عن صناعة الأفلام (33 عاماً من 1980 إلى 2013)، تفوق فترة نشاطه السينمائي (25 عاماً من 1955 حتى 1980).

وأياً يكن تفسير صالح لامتناعه عن صناعة الأفلام كل هذه السنوات، تبقى الحقيقة أن أربعةً من أفلامه الروائية السبعة، أي أكثر من النصف، قد اختيرت من بين أهم مئة فيلم عربي على الإطلاق، وتلك بالتأكيد نسبة لم يحققها غير توفيق صالح.

الأخبار اللبنانية في

19/08/2013

 

رحيل توفيق صالح..

ناقش سلبيات مابعد ثورة يوليو وتعرض للدولة البوليسية

كتب العباس السكرى 

فقد الوسط السينمائى المخرج توفيق صالح الذى رحل عن عمر 86 عاما وشيعت جنازته أمس الأحد، عقب مشوار مميز مع السينما رغم قلته، حيث قدم 7 أفلام روائية طويلة و7 أفلام قصيرة، إلا أن الجمهور اعتبره أحد رواد السينما الواقعية فى الستينيات، حيث كان يتعمد طرح قضايا تمس واقع تلك الفترة، عكس بعض المخرجين الذين اتجهوا بأفلامهم لنقد مجتمع ما قبل الثورة أكثر من تعاملهم مع قضايا يطرحها الواقع فى الخمسينات والستينات، ولعل القضية الفلسطينية كانت تشغل اهتمام الراحل وظهرت فى أغلب أفلامه التى قدمها ومنها فيلمه "المخدوعون".

كما قدم توفيق صالح أعمال ناقشت واقع الريف والحضر، ورصدت سلبيات المجتمعات، وهى "يوميات نائب فى الأرياف" للكاتب الكبير توفيق الحكيم وبطولة مجموعة من النجوم منهم توفيق الدقن، وأظهر من خلاله مدى معاناة الفلاح المصرى مع الدولة البوليسية، وأيضا فيلمه الأول "درب المهابيل" للأديب الكبير الراحل نجيب محفوظ وبطولة شكرى سرحان وبرلنتى عبد الحميد، و"صراع الأبطال" لشكرى سرحان وسميرة أحمد، و"المتمردون" لتوفيق الدقن وشكرى سرحان والذى رصد فيه سلبيات الفساد فى المستشفيات والمصحات الطبية، بجانب أفلامه "السيد البلطى" و"الأيام الطويلة" الذى تم تصويره بين سوريا والعراق ولم يتم عرضه بمصر حتى الآن.

ويبدو أن المخرج الراحل توفيق صالح حرص طوال مشواره على تقديم أعمال تحمل اختلافا فكريا وثقافيا، حيث أخرج روايات للعملاقين نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم، والتزم عند إعدادها سينمائيا بالطابع العام لترتيب الحدث دراميا، وكانت أمنياته أن يجد لغة سينمائية مصرية خاصة، حيث كان يعتقد أن السينما أداة تغيير لا تكريس.

والمعروف أن المخرج توفيق صالح ولد فى الإسكندرية 27 أكتوبر 1926، كان والده طبيبا يعمل فى الحجر الصحى فى الموانئ وبحكم ظروف عمل والده قضى طفولته المبكرة متنقلا بين عدة مدن ساحلية مختلفة إلى أن استقرت العائلة فى الإسكندرية، وتعلم فى كلية فيكتوريا وكان المخرج الراحل يوسف شاهين زميله على مقاعد الدراسة، بعد تخرجه من المدرسة درس الأدب الإنجليزى فى جامعة الإسكندرية وحصل على البكالوريوس فى عامه التعليمى الأخير، وقام بإخراج مسرحية رصاصة فى القلب وتم عرضها فى جمعية الصداقة الفرنسية وعلى إثرها عرض عليه رئيس القسم الفرنسى فى كلية الآداب بعثة لدراسة المسرح فى فرنسا لكنه طلب أن يدرس السينما، وعمل قبل سفره مساعدا للمخرج حسين فوزى إلا أن خلافات بينه وبين النجمة نعيمة عاكف حالت دون استمراره معه، بعدها غادر توفيق صالح إلى فرنسا عام 1950 لدراسة السينما فى باريس، قابل هناك عالم الجمال "آيتان سوريو" فتغيرت حياته حيث ترك السوربون ودرس الرسم والفوتوغرافيا وذهب إلى اللوفر وتعرف على الأدب الروسى فسحبت منه المنحة بعد سنة واحدة لعدم انتظامه فى الدراسة، لكنه عاش فى باريس سنتين إضافيتين قام فيها بتثقيف نفسه بالقراءة ومشاهدة الأفلام وحضور المعارض المختلفة، وعمل مساعد مخرج فى ثلاثة أفلام فرنسية، وعاد توفيق صالح إلى القاهرة فى ديسمبر 1953 وتعرف على نجيب محفوظ الذى عمل فى تلك الفترة مؤلفا للسينما وعرض عليه معالجة سينمائية كان قد ألفها أثناء إقامته فى باريس، ونصحه محفوظ بعدم تنفيذها "لكى لا يتهم بالشيوعية" وقام محفوظ بإعادة صياغتها مغيّرا موقع الأحداث إلى حارة قاهرية وأعطاها عنوان "درب المهابيل" ثم عملا معا على كتابة سيناريو الفيلم الذى أنتج عام 1955 وكان أول أفلام المخرج الراحل.

الأحد، 18 أغسطس 2013 - 11:39

وفاة المخرج توفيق صالح ودفن جثمانه اليوم بمقابر العائلة بطريق الفيوم

كتب العباس السكرى

رحل المخرج توفيق صالح عن عالمنا، صباح اليوم الأحد عن عمر يناهز الـ 87 عاما، بعد رحلة من الأعمال السينمائية على رأسها "درب المهابيل" لشكرى سرحان، و"السيد البلطى" لعزت العلايلى، و"يوميات نائب فى الأرياف" وغيرهم.

وأكد نقيب السينمائيين مسعد فودة لـ"اليوم السابع"، أنه سيتم دفن جثمان الراحل بمقابر العائلة عقب صلاة ظهر اليوم بطريق الفيوم بجوار مقبرة الراحل الكبير نجيب محفوظ.

اليوم السابع المصرية في

19/08/2013

 

الموت يُغيّب توفيق صالح مخرج فيلم "المخدوعون"

حوار لم ينشر معه

د. محمد شاهين* 

على مدى 40 عاما من العمل الفني قدم المخرج الراحل حديثاً (الأحد 18 أغسطس آب 2013)  توفيق صالح (ولد 27- أكتوبر 1926في الإسكندرية)  سبعة أفلام روائية طويلة ، كان آخرها فيلم "الأيام الطويلة" الذي انتهى تصويره بين سوريا والعراق في العام 1980 ولم يعرض في مصر حتى الآن ، وكان قد استهل حياته الفنية بإخراج مسرحية توفيق الحكيم "رصاصة في القلب" التي عرضت على مسرح جمعية الصداقة الفرنسية . أما أول أفلامه السينمائية فهو فيل " درب المهابيل" 1954 الذي تعاون فيه مع الكاتب الراحل نجيب محفوظ بصفته مؤلفا لقصة الفيلم، وتوقف توفيق صالح عن العمل لمدة سبع سنوات تقريبا، أخرج بعدها فيلم "صراع الأبطال" 1962تلته ثلاثة أفلام، هي: " المتمردون" عن قصة للصحفي صلاح حافظ، و" يوميات نائب في الأرياف" 1968 عن رواية الكاتب توفيق الحكيم المشهورة، وفيلم " السيد البلطي " 1969 عن قصة لصالح مرسي. وعلاوة على هاتيك الأفلام لتوفيق صالح ستة أفلام قصيرة هي: كورنيش النيل 1956 فن العرائس 1957 نهضتنا الصناعية 1959 وفيلم من نحن؟ 1960..  وهو فيلم باللغة الإنجليزية عن اللاجئين الفلسطينيين و فيلم نحو المجهول   1961وفيلم( فجر الحضارة 1977 ( من إنتاج العراق وهو عن الحضارة السومرية القديمة. 

أما فيلمه "المخدوعون" فقد سافر من أجل تصويره إلى سوريا، وبعد عرضه الأول في القاهرة 1972رفض السماح باستمرار العرض، وما زال الرفض قائماً  حتى بعد مرور أربعين عاما ونيف على عرضه التجريبي ذاك. وعلى الرغم من أن الفيلم عرض في أكثر من مهرجان وفاز بعدد من الجوائز أولاها جائزة مهرجان كان 1972 وجائزة مهرجان قرطاج 1972 وجائزة مهرجان ستراستبورغ لأفلام حقوق الإنسان، 1973، وجائزة المركز الكاثوليكي الدولي ببلجيكيا 1973 وجائزة لينين للسلام في مهرجان موسكو1973.

فيلم " المخدوعون " يقوم على رواية للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني، عنوانها " رجال في الشمس " صدرت للمرة الأولى في بيروت سنة 1963 وتقوم على حبكة سردية بسيطة يؤدي الأدوار الرئيسة فيها اربعة اشخاص هم مروان وأبو قيس وأبو الخيزران وسعد . وقد حاول هؤلاء الأشخاص الذهاب إلى دولة الكويت إبان عهد الاستعمار دون أن تتوافر لديهم تأشيرات، فاتخذوا من صهريج لنقل المياه يقوده سائق وسيلة نقل تمكنهم من الدخول للكويت دون أن تعيدهم سلطات أمن الحدود، وقد اسهمت ظروف لم يتوقعها السائق ولا الشبان الثلاثة في تأخير الصهريج عند نقطة التفتيش، ولأن درجة الحرارة داخل الصهريج المغلق مرتفعة وبازدياد ارتفعها نتيجة الانتظار قبل أن يستأنف السائق قيادة الصهريج فقد لاقى الرجال الثلاثة حتفهم ،ولم يقم اي منهم بقرع جدران الصهريج لإنقاذهم من الموت المحقق داخل الخزان. وهذا هو السؤال الذي انتهت به الرواية عندما تساءل أبو الخيزران بعد أن رمى بجثثهم واستولى على ساعاتهم وعلى ما في جيوبهم من أوراق نقدية قليلة وعلى ما بحوزتهم من ممتلكات قائلاً: لماذا لم يدقوا جدران الخزان لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟..

هذه الحكاية هي المادة التي حولها توفيق صالح لسيناريو جرى تصويره في مواقع قريبة من فضاء الحدث.وعلى الرغم من أن الفيلم مر على إنجازه أربعون عاما وما زالت الجهات ذات العلاقة ترفض عرضه في مصر، ولم يكتب عن هذا الفيلم ولو مقالة واحدة تقريظا أو نقدا. وتقتصر مشاهدته على تجمعات خاصة وعلى سينمائيين مهتمين وعلى أفراد من هذا القبيل أو ذاك، أما شعبيا فإن الفيلم لم يعط فرصته للعرض حتى هذه اللحظة، والأمر لا يقتصر على هذا فقد حظي هذا الفيلم الذي حصل على الجائزة الأولى في  مهرجان قرطاج ، فلم يذكر في مصر مثلا أن الفيلم نال مثل هذه الجائزة أوتلك. قصة هذا الفيلم وحكايته مع الرقابة، وتجاذب الممانعين بين العرض والحَجْب كانت مدار الحوار الآتي مع المخرج توفيق صالح.

·        ما الذي تعرض له فيلم "المخدوعون"؟ ولماذا لا يجري عرضه؟ ما هي المشكلة ؟

حتى هذا اليوم، أي  بعد ما يقارب الأربعين عاماً على انتاجه، لم يعرض الفيلم في مصر، فهم يرفضونه. أنا لم أقرأ، لأكون صادقاً، أي نقد للفيلم. لم ينقده أحدٌ، كما لم يقبل أحدٌ أن يشاهده إلا في التجمعات الخاصة، في الجامعة، السينمائيين، شي من هذا القبيل، أما شعبيًا فلا. أنا أخذت الجائزة الأولى عن هذا الفيلم في مهرجان قرطاج في تونس، مع ذلك لم يذكر هذا في مصر.

·        ما السبب؟ هل هو ضمني أم معروف؟

السبب أنني مرفوض كسينمائي.

·        هل هي الغيرة من الموهبة؟

- أدبيًا أقول هي الغيرة، لكنّ الحقيقة ليست كذلك. إنما هي رجل خارج الفريق (خارج السرب). يقال: ما هي عيوب توفيق صالح؟  فيقولون: متمسك بأفكاره (شيء بهذا المعنى) وأنَّ افكاري لا تعْجبُ المُنتجين، ولكنْ هي المِهْنة.

·     أنا أعتقد أن التاريخ الفني سينصفك، وهذا ليس اعتقادي فقط، ولكنّه اعتقاد العديد من أصدقائي النقاد والأدباء، ويبدو أن هنالك مواهب كثيرة لا تظفر بحقها من التقدير في الوقت المناسب، وأنّ الناس- في ما بعد- سيدركون أن موهبة كبيرة كانت وراء هذا العمل الفريد ويقدرونها حق التقدير. كيف فكرت في إخراج رواية "رجال في الشمس" التي ما زال الناس يتحدثون عنها؟

كانت الرواية في السوق فاشتريتها، وقرأتها، وأعجبتني جداً. كان ذلك في الستينات بُعيْد ظهورها بثلاثة أو أربعة أشهر. أعجبتُ بها جداً، ولم أكن أعرف غسان كنفاني حينئذٍ. كنت أعرف أخاه مروان الذي انضم لفريق النادي الأهلي لكرة القدم. ولكني كنت أعرف أحمد بهاء الدين- الصحفي المعروف-  الذي كان يشارك شلتي في الحفلات، وفي السفر، والرحلات. قلت لبهاء إني قرأت القصة، وأريد أن أحولها إلى فيلم. فأجاب إنّ غسان سيحضر بعد أسبوع، أو نحوهُ، لاجتماع فلسطيني في القاهرة، وعندما يأتي سأعرفك به. بعد أيام دعاني وزوجتي إلى العشاء في منزله، وكان غسان حاضراً، فانفردت به جانبًا، وأخبرته أني أريد أن أحول قصة "رجال في الشمس" إلى فيلم فوافق، وسألته بعض الأسئلة عن تفاصيل تتصل بموضوع الرواية، وأجابني عنها، وهذا ما كان.

·        هل تتذكـّـر بعض تلك الأسئلة؟

سألته لماذا لم يدقوا - أي أبطال الرواية- جدران الخزان؟ فأجابني، وقبلت إجابته كرؤية معينة منه، وخلال ثلاثة أيام تمَّ توقيع العقد وتسلمَ النقود، وكنا سنقوم بتصوير الفيلم. ولكن حدث شيء غريب جداً. تغيرت قيادة مؤسسة السينما، وقالت الإدارة الجديدة: "ما لنا وما لفلسطين؟ " قلت لهم: إن الدولة تساعد الفلسطينيين (كان ذلك أيام عبد الناصر) فكيف تقولون "ما لنا ومالهم؟" فكان منطقهم غريبًا. وأجَّلوا العملية سنتين أو ثلاث سنوات.

·     لكن الفيلم ، على الرغم من ذلك ، جرى إنجازه. كيف حدث هذا مع معارضة هيئة السينما الشديدة؟

سافرت في نهاية الستينات إلى سوريا لأني لم أجد عملاً في مصر. وهناك تعرفت إلى سعد الله ونوس الذي أخذني إلى عزبة والده، وجلسنا هناك عدة أيام.. وكتبنا فكرة الفيلم. وكان يجب أن تعرض الفكرة على لجنة لتقرؤها (كان هذا شغل الحكومة) المهم سلمنا الفكرة للمؤسسة في سوريا. فكتب أحدهم تقريراً ولكن ليس عما كتبناه، وإنما عن وجود مُخرج مصري في سوريا، وأننا (أنا وسعد الله) شتمنا النظام السوري، وفي اليوم التالي أقصيَ سعد الله ونوس من عمله، وكان مديرا للهيئة العامة للمسرح، وَطُلِبَ مني المغادرة في غضون 48 ساعة. وطالبوني بالنقود التي كنت قد قبضتها عند توقيع العقد، ولكني لم أكن أملكها فقد دفعتها أجرة للبيت الذي سكنته وأبنائي الذين اصطحبتهم معي. فقالوا لي: قدم رواية جديدة، فقدمت ما يقرب من 12 رواية من الأدب السوري رُفضت جميعها. وكانت تحت عيني " رجال في الشمس " فقلت: أعمل هذه الرواية، وكانوا قد أحضروا شخصا لا يفهم في السينما كتب السيناريو للفيلم، فقالوا لي خذ هذا السيناريو.. ها هو جاهز، فقرأته، وقلت: عيب، أنا لا أعمل هذا. فقالوا اكتبه أنت، فكتبته بسرعة، وتم عمل الفيلم في ظروف، الحقيقة أنّ ربَّنا أعان، على الرغم من أن الظروف لا تشجع على إخراج أيّ فيلم. بعد ذلك منعوا عرضه على أساس أن مستواه الفني لا يرقى إلى مستوى الفيلم السوري، بناء على تقارير المخرجين التابعين للمؤسسة. وقد جرت العادة أن يُجمع جلّ المخرجين في البلد، وموظفي المؤسسة كلهم لمشاهدة الفيلم في عرضه الأول. وأنا رأيت تأثير الفيلم على الحاضرين في ذلك العرض، كان مذهلاً، ففرحت. فعندما ترى رجلًا كبيرًا ومحترمًا يبكي في نهاية الفيلم من شدة التأثر، تحمد الله على هذا الكثير الذي حققته. واعتقدت- بسبب ذلك -  أن الفيلم سيعرض قريباً ولكن ذلك لم يتم، لا بل تمّ منعه من العرض.

·     ولكن الفيلم أحرز جوائز عدة إحداها الجائزة الأولى في مهرجان قرطاج السينمائي؟ وجائزة من مهرجان كان؟

كان هناك مهرجان سينمائي اسمه السينما البديلة يشارك فيه أشخاص وتعرض فيه أفلام من مختلف البلاد. ومن ضمن المشاركين صديق لي هو طارق شنيع وهو مؤسس مهرجان قرطاج في تونس، وكان أحضر معه ناقدين فرنسيين أحدهم يدعى مارسيل، وهو الذي ترجم كتاب اللغة السينمائية. طلبوا عرض الفيلم ثانية فعرضته لهم، وخرجوا مندهشين، ذاهلين، وتوجهوا لمدير المؤسسة وأخبروه أنهم لا يستطيعون إرسال الفيلم إلى كانْ لأن تاريخ قبول الأفلام قد انتهى، ولكنهم يستطيعون إرساله من خلال شيء جديد اسمه (15 يوم مخرجين) وكان قد تبقى يومان على الموعد النهائي لتسليم الأفلام. وجلس أحدهم في مكتب المدير معلناً أنه لن يغادر حتى يتم الأمر، وهكذا كان. وكان الوزير قد رفض إرسال الفيلم. وأرسلت تذكرتين واحدة لي والأخرى لمدير المؤسسة، ولأنني لم أكن موظفًا في المؤسسة وإنما متعاقدًا، فقد رفضوا إعطائي التذكرة وأعطيت لموظف صديق للمدير، وذهب الاثنان إلى كان، وبقيت في سوريا أتلقى الأخبار من أصحابي الذين ذهبوا إلى كان.

·        هل حقق المخدوعون ما توقعته من نجاح في مهرجان كان؟

- طبعًا، الفيلم أحدث ضجة في ذلك المهرجان، كانت الأفلام تعرض مرتين ولكن فيلمي عرض ثلاث مرات بناء على طلب الجمهور. وعندما عاد المدير من فرنسا أخبرنا أنه عندما دخل قاعة السينما كانت الناس تجلس على الأرض من شدة الازدحام، وأن الفيلم أحدث ضجة وكتبت عنه مقالات. ثم انتقل الفيلم إلى تونس وحصل على الجائزة الأولى، وبعد تونس وصل إلى ستراسبورغ ونال الجائزة الأولى في مهرجان لأفلام حقوق الإنسان، وفي بلجيكا في النظام الكاثوليكي للكنائس (للعالم كله) نال أيضاً الجائزة الأولى، ولم يذكره أحد في مصر.

·        السؤال هو لماذا منعوا الفيلم؟ 

أولاً لأنه عن الفلسطينيين، وكما أسلفت قال المدير فتحي إبراهيم (كان يعمل قبل ذلك في Twentieth Century Fox) قال: أيامها "مالنا ومالهم". وعندما غيروا نظام المؤسسة، وأتوا بمديرين جددٍ طلبتُ من المدير الجديد أنْ يبعثوني إلى العراق، كنت أريد أن أستأجر سيارة، وأقطع المسافة من البصرة للحدود لأعرف جغرافية المكان (كم شجرة هناك، هل يوجد جبل...) فقالوا: اكتب السيناريو أولاً، وبعدها نبعثك للعراق. فقلت: كيف اكتب سيناريو وأنا لا أعرف طبيعة الأرض؟ أعرف أنها صحراء، لكنها قطعاً مختلفة عن صحراء مصر. هنا عندما رفضوا سفري نشروا الخبر في الجرائد ولكن كما لو أن  مُخرجًا "يتدلع" (والذي هو أنا) يريد أن يرى طبيعة الأرض التي سيصوّر فيلمه فيها. والذين كتبوا هم كتاب معروفون أمثال: صبري موسى (صاحب السادات).

·        وماذا عن علاقتك بصالح مرسي؟

- عندما جاء مرسي تكررت الحكاية، واضح أن مرسي (مش دارس كويس). أنا سمعته يقول إنه كان يعمل في ناسا، وقلت هذا شخص يُحترم، ناسا مركز علوم فضائية، ومُستقبل. بعدها بعشرة أيام تقريبًا- وفي لقاء آخر - أنكر ذلك قائلاً: أنا لم أقلْ هذا الكلام.

·        وكيف كانت ردود الفعل بعد إخراجك " المخدوعون "؟

- عندما أخرجت الفيلم سألني أناس كثيرون: لماذا جعلتهم يدقون جدران على الخزان؟ وفي الرواية لم يفعلوا، وعلى العكس من ذلك يصرخ أبو الخيزران: لمَ لمْ يدقوا الجدران؟ وتردد صدى صرخته تلك في الصحراء؟ أجبت بأنني أنا منْ قرّر هذا. فقال لي ناقدُ يحب غسان جدّا: ما هذا الغرور؟! هو لم يقلها هكذا، وإنما بمعناها؟ أي كيف تغير نهاية الرواية هكذا؟  فأجبته: إن غسان أخبرني أنّ الفلسطينيّين وقبل أن يبدأوا المقاومة، أو الكفاح المسلح، كان الفلسطيني " سايب نفسه يموت وسايب الغريب يتحكم فيه " وهو لا يفعل شيئًا. كان هذا كلام غسان لي عندما قابلته أول مرة. وظل هذا الكلام يطن ّفي رأسي.  ووجدت وأنا أكتب السيناريو أنه أكثر إنسانية، وأكثر بعدًا عن أيّ سياسة أنْ " يُخَبّطَ " الإنسان قبل أن يموت. سألت الناقد يومئذ، ولم يكن قد مضى على معرفتي به بضعة أيام، ما تفسيرك أنت للموضوع؟ أجاب بأن غسان كان "خجلاً " من أن الفلسطيني يترك بلاده بحثًا عن عمل. تفسيرهُ هذا كان صدمة لي، فلو كنت أعرف هذا المغزى " وأنه كان خجلاً " والتزمت بهذا التفسير في الفيلم،  لتغير كل شيء فيه، وأصبح " المخدوعون "  كأيّ فلم من الأفلام المصرية في الثلاثينات. وهو ناقد كبير، وأقنعتُ نفسي أنه يمزحُ، ولا يمكنُ أنْ يكون جادًا.

·     كيف يحول المخرج الرواية إلى فيلم؟ عندما تقرأ رواية هل ثمة شيء معين يحركك حتى تحولها إلى فيلم؟

- عيب أن أنتقد مؤلفاً، ولكني سأعطيك مثلاً، أنا قراتُ كذا قصة لمؤلف جديد اسمه عز الدين شكري فيشر*، ثم قرأت له رواية مؤخراً اسمها" بابُ الخروج " (2012) رفضتها، ولم أكملها بالرغم مما فيها من وعي سياسي وتاريخي يستحق أن يقرأه الناس، إنما أنا لم أطقه من الناحية الفنية.

·        ما هي استراتيجية تحويل الرواية إلى فيلم؟

- ممكن أن تأتيك فكرة في أثناء قراءة الرواية، وقبل أن تأخذ قرارك بعمل الفيلم.

·        وهذه الفكرة هل تستند في الدرجة الأولى إلى متطلبات الفن السينمائي؟

- ليتنا نجد رواية فيها هذه المتطلبات. دعني أخبرك. يحيى يخلف كتب رواية في أربعة كتب، أنا قرأت القصّة الرابعة.  في الأول منها أعجبتني، وقلت تصلح أن تكون عملاً سينمائيًا. ثم راجعت نفسي وقلت يجب أن أقرأها من البداية. فقرأتها من سنة احتلال القدس حتى الآن. ومن إعجابي، ليس بالمكتوب في القصة، إنما إعجابي باختيار الأماكن، واختيار ما يسرده من تاريخ، رأيت أن من واجبي أن أخرج هذا الفيلم داخل فلسطين. فأنا أريد الطبيعة الفلسطينية، أريد الأثواب المشغولة الفلسطينية. لا أريد أشياء مصنوعة هنا في مصر. ثم توقفت عن الأمر بعد أن اشتغلت قليلاً في القصة، وأضفت إليها ما ينبغي، وقلت خسارة. فأنا عندما أعمل من تاريخ كذا إلى تاريخ كذا أروي قصة فلسطين كلها، قصة خيبة الأمل المستمرة مع كل حدث، ونحن دائماً نتكلم عن فلسطين كسلاح ولكننا لم نتكلم عن ثقافة فلسطين، أو الأكل الفلسطيني، أو الملابس الفلسطينية، أو طبيعة الأماكن. فأحداث القصة تدور أكثرها على شواطئ بحيرة* طبريا. فلو أخذنا الخلفية الاجتماعية والجغرافية فبالضرورة سيكون العمل الذي ننجزه جميلا، خالدًا.

• عن المجلة الثقافية ع83 الذي يصدر هذا الشهر( أغسطس آب 2013.).

• اسم الكاتب عبد العزيز شكري فيشر، وله روايات عدة منها أسفار الفراعين 1999 و" غرفة العناية المركزة " 2008 ورواية أبو عمر المصري2010 ورواية " عناق عند جسر بروكلين " 2011 وأخيرا رواية " باب الخروج " 2012.

• الإشارة- ها هنا- لرواية يحيى يخلف " النهر يستحم في البحيرة " دار الشروق، عمان، ط1، 1997 

* ناقد وأكاديمي من الأردن، رئيس تحرير "المجلة الثقافية" التي تُصدرها الجامعة الأردنية.

موقع "قاب قوسين" في

19/08/2013

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2013)