مثيرة هي الإجابات
التي قالتها هند رستم في عدد من الحوارات المنشورة في صحف ومجلاّت عربية
عدّة.
مثيرة لمن يستعيدها اليوم، غداة رحيلها
مساء أول من أمس الاثنين، إثر إصابتها بأزمة
قلبية حادّة. مثيرة لمن يبحث عنها في هذا الأرشيف أو ذاك،
لأنها، ببساطة، عميقة في
قراءة اللحظة، وواضحة في معاينة المسائل، ومباشرة في القول والبوح، وصادقة
في
التعاطي مع الذات والسينما والحياة والعمر. البحث في دلالات إجاباتها تلك
طريقٌ إلى
فهم الشخصية الحقيقية لهند رستم. طريقٌ إلى التعمّق، أكثر فأكثر، في شؤون
التمثيل
والعلاقات القائمة بين الممثلين والمخرجين، وآلية اختيار
المشاريع، والقدرة على
الرفض في ظلّ شهرة مخرج أو نجومية ممثل. ذلك أن هند رستم، في عدد من
الحوارات تلك،
قالت ما يندر أن يقوله فنان. والفنان، إذ يقول كلاماً كهذا، يشي بأنه
متصالحٌ مع
نفسه إلى أبعد حدّ ممكن: لا خوف من الشيخوخة. لا ارتباك أمام
التجاعيد. والأهمّ:
تحليل واف لمعطيات التمثيل، والبراعة في اختيار لحظة المغادرة. أكاد أقول
الجرأة في
الاعتزال، في لحظة العطاء البديع.
اختبارات
هناك صعوبة في الدخول إلى
العالم التمثيلي لهند رستم. فالتعدّد الواضح في أنماط الأدوار
أو أشكال الشخصيات
وبواطنها، التي أبدعت في تقديمها على الشاشة الكبيرة، يجعل المرء، أمام نبأ
رحيلها
عن اثنين وثمانين عاماً، عاجزاً عن استعادة ثلاثين عاما من التمثيل
السينمائي. قيل
إن هند رستم وُلدت في الحادي عشر من تشرين الثاني 1929. قيل
أيضاً إنها من مواليد
العام 1931. لا بأس. أو ربما لم يعد الأمر مهمّاً. لكن لعبة الأرقام مثيرة،
بدورها.
فولادتها في العام 1929 (وهو الأصحّ على
الأرجح)، أفضى إلى ظهورها الفني الأول في
دور ثانوي جداً لمدّة دقيقتين تقريباً، في العام 1949: ظهرت
خلف ليلى مراد، على
أنغام أغنية «اتمختري يا خيل»، في «غزل البنات» لأنور وجدي. وهي اعتزلت
العمل
السينمائي كلّياً في العام 1979 («حياتي عذاب» لعماد عبد الحليم). ثلاثون
عاما من
التمثيل. ثلاثون عاما من مواجهة تحدّيات الحياة والمهنة.
ثلاثون عاما من التأسيس
اليومي لأخلاق مهنية رفيعة المستوى، قلّما يعثر المرء على مثيل لها في
الراهن.
ثلاثون عاما من الاختبار والتمرين. ثلاثون
عاما من الإبداع المتنوّع. ثلاثون عاما
من تاريخ بلد وأمّة أيضاً. هذا، باختصار شديد، العنوان الأبرز
للرحيل الأخير لهند
رستم. المرأة التي عرفت لحظة مغادرتها البلاتوه. المرأة التي عرفت كيف تطلّ
على
العالم من بيتها، أو من سفرها. وكيف تمارس عيشها بحرية انتقتها بنفسها، بعد
أن
اختارت بإرادتها مشاريع وأفلاما، ورفضت بإرادتها مشاريع
وأفلاما. وكيف تواجه الدنيا
ومآزقها بروح مرحة، وبتجاوز دائم للمطبّات، الحياتية والفنية والاجتماعية
والجسدية.
عن الاعتزال، قالت: «أردت أن أعيش حياتي
لنفسي ولعائلتي. أردت أن أرتاح، وأن أحافظ
على أسرتي قبل فوات الأوان. أردت أن أسافر حول العالم، وأعطي
لنفسي حقوقها التي
يحول العمل السينمائي المرهق والقاسي دون تحقيقها». أضافت: «هناك أسباب
ثانوية،
منها عدم وجود نصوص ملائمة لعمر معين للسيّدة في السينما العربية. كذلك،
تغيّر الجو
الفني العام». عن إطلالتها على العالم من بيتها، قالت: «أحبّ بيتي جداً.
وقتي موزّع
بين هوايتين: القراءة ومشاهدة التلفزيون». هذا في الشتاء، أما الصيف، «فهو
وقت
السفر. أفضّل السفر إلى المناطق الباردة. إلى الثلج الأبيض
الذي أعشقه». عن
الشيخوخة، قالت: «أنا أحبّ كل عمر وأعطيه حقّه، وآخذ منه أحلى ما فيه. لست
معقّدة
من العمر والتجاعيد. لا أصبغ شعري، ولا أستخدم مساحيق للوجه. هذا من فضائل
اعتزالي،
إذ لا أضطر إلى معاكسة طبيعتي» («السفير»، 16 أيار 2003).
لا يُمكن اختزال مسار
تمثيلي قدّمت هند رستم أثناءه عدداً من أجمل الأدوار وأفضل الأفلام. ثلاثون
عاما من
الزمن عمرٌ بحدّ ذاته. والعمل بإدارة مخرجين جعلوا السينما مرآة الحياة،
وأضافوا
على الحياة جمالاً متخيّلاً على الشاشة الكبيرة (حسن الإمام،
يوسف شاهين، صلاح أبو
سيف، محمود ذو الفقار، حسين حلمي المهندس، سيف الدين شوكت، حسام الدين
مصطفى، حسن
يوسف وغيرهم)، يجعل البحث في مفردات الأداء التمثيلي للممثّلة الراحلة
صعبا. في
جيلها، أدركت هند رستم باكراً أن التقوقع في إطار تمثيلي واحد
مُضرّ. أن القبول
بكليشيهات ثابتة أو ألقاب معيّنة يحدّ الممثلة واضعاً إياها في كادر جامد.
أي في
أداء باهت ومملّ وممجوج. أدركت باكراً أن التنوّع سمة جوهرية للإبداع. أن
الانتقال
من شخصية إلى أخرى تتكامل الممثلة معهما فتُضيف إليهما، أو
تتناقض وإياها فتختبر
الممثلة طاقاتها وانفعالاتها الخاصّة بها لتمنح كل شخصية ما يتلاءم وجمال
حساسيتها
الأدائية، أقول إن الانتقال من شخصية إلى أخرى غنّى ووفرة أتاحا لها فرصة
امتحان
الذات أمام معنى التمثيل وعوالمه الشاسعة وتقنياته المختلفة.
براعة
أكاد
أقول إن هند رستم، بإصرارها على رفض التقوقع في شخصية واحدة أو دور واحد أو
نمط
واحد، أرادت التأكيد على مخزونها التمثيلي، المليء بتناقضات شتّى، هي نفسها
(التناقضات)
الجوهر المطلوب للبراعة التمثيلية: «كنتُ ضد أن أتقولب في لون. كنتُ
أحارب اللون الواحد» (سمير نصري، «النهار»، 30 آذار 1987). وهذا نابعٌ من،
أو منسحب
على رفضها ذلك اللقب الذي رافقها طويلاً: «ملكة الإغراء». من يقرأ تحليلها
المسألة،
في الحوار المشوّق الذي أجراه معها الراحل سمير نصري (المرجع السابق)،
يكتشف بُعد
نظرها وحيوية ثقافتها وسحر تواضعها وجمال مصداقيتها: أولاً،
قدّمت هند رستم ستة
أدوار إغرائية فقط في ستة أفلام من أصل سبعين فيلم تقريباً، لعلّ أبرزها
ثلاثة
أفلام لحسن الإمام هي: «بنات الليل» (1955) و«جسد» (1955) و«شفيقة القبطية»
(1963)،
و«باب الحديد» (1958) ليوسف شاهين. ثانياً، لم تكن هند رستم
ممثلة مغوية، بقدر ما
جعلت الجسد الأنثوي انعكاساً للروح المبطّنة في طياته، والباحثة عن إثارة
الآخر
بالحركة والسلوك والكلام. وصفت ما قدّمته بأنه «دلّوع». والفرق شاسع بين
الإغراء
والدلع. أميل إلى القول إن الحضور المكتمل لهند رستم على الشاشة الكبيرة
متمثّل
بقدرتها على جعل الدلع نمطاً في مقاربة الآخر، وفي معاينة
الأشياء المحيطة بها. أو
ربما في السعي إلى نُشدان ما ابتغته تلك الشخصية «الدلّوعة» أو تلك. في
الدلع شيء
من الإغواء. شيء من الإغراء. في المرأة، كل امرأة، شيء منهما: «ليس هناك
امرأة في
الدنيا لا شيء من الإغراء لديها، وإلاّ فهي تفتقر إلى الأنوثة»، كما قالت.
حسبي
أن هنّومة، في «باب الحديد»، ترجمت المقولة هذه بسحر لافت للانتباه. هنا،
وفي مقابل
يوسف شاهين الممثل، المحتاج دائماً إلى من يساويه مقدرة على الأداء، أو
يتفوّق عليه
قليلاً كي يمنح النصّ السينمائي حيويته وجنونه، جالت هند رستم في أروقة
الحكاية،
حاملة على منكبيها جزءاً أساسياً من الفيلم. أي إن فتنتها
وجمالها الطبيعيين انعكسا
في شخص هنّومة، وأن حيويتها ودلعها وإغراءاتها تمثّلت في حيلها على الثنائي
الذكريّ
يوسف شاهين وفريد شوقي، رغبة منها في التحايل على قذارة الحياة وبشاعة
الدنيا. أي
إن الجسد هنا لم يتقوقع في ذاته كأداة تحريض غرائزيّ، بل ذهب
مع هند رستم إلى ما هو
أبعد من المادة، وإلى ما هو أعمق من الروح. التحايل، أي انتقاص الفرص
للتحرّر من
مأزق، أو للخلاص من مأساة. الانتقال إلى الرقص في «شفيقة القبطية» مثلاً،
بما
امتلكه من إغواء/ إغراء متفجّر من ثنايا الجسد إلى انبثاق
الروح في متعها وأغراضها
ومباهجها ومتاهاتها وتعاستها، جعل (الانتقال) هند رستم أكثر تمرّساً في صوغ
نصّ
فلسفي للفتنة والإغراء والدلع، بابتعادها عن التكرار، وبابتكارها ما يثير
متعة
الروح وشبق العين معاً. والرقص، إذ اختبرته في أكثر من فيلم،
لم يُحرّضها على
الاستمرار فيه كيف ما كان. عندما عُرض عليها الدور النسائي الأول في «أبي
فوق
الشجرة» (الذي حقّقه حسين كمال في العام 1969، وكان الفيلم الأخير لعبد
الحليم
حافظ)، لم تجد فيه ما «يُغري» قدراتها التمثيلية، وما يحثّها
على الابتكار: «ذُهل
الجميع لأني رفضت فيلماً لعبد الحليم حافظ. لكن، عندما قارنت بين دوري
كراقصة في «شفيقة القبطية» ودوري كراقصة في «أبي فوق
الشجرة»، هالني الفرق. هذا الفيلم مصنوع
أصلاً لعبد الحليم حافظ، والأدوار الأخرى هامشية». رفضت
«المرأة المجهولة» (1959)
لمحمود ذو الفقار أيضاً: «أنا من الممثلات اللواتي يمثّلن بمزاج. لم أشارك
في فيلم
إلاّ كنت مخطّطة جيداً له» («القبس»، 14 تشرين الثاني 2002).
لا للتكرار
لم
تكتف هند رستم بهذا. في معظم الحوارات التي تسنّت لي قراءتها غداة رحيلها،
أكّدت
مراراً أنها رفضت تكرار نفسها، ولهذا رفضت أفلاماً كثيرة عُرضت عليها. ثم
إنها
وافقت، في المقابل، على أدوار صغيرة «شرط ألاّ تكون هامشية».
هذا يعني، من بين أمور
عدّة، أن أحد الشروط الفعلية للنجومية كامنٌ في التواضع: الموافقة على
تمثيل دور،
منبثقٌ من كون الدور إفادة وتطويرا وإضافة. الموافقة على أداء شخصية، نابعٌ
من
قناعة الممثل بأن لهذه الشخصية ما يبلور علاقته بالتمثيل، وما
يساهم في تفجير كل
جديد مبطّن في الطاقة المعتملة في ذاته. مثلٌ على ذلك؟ إعادة مشاهدة
الغالبية
الساحقة من الأفلام التي مثّلت هند رستم فيها، الكوميدية منها والتراجيدية.
أو
التمتّع بمشاهدة الأدوار التي قدّمتها: راقصة، مغوية، راهبة،
زوجة، أم، إلخ.
إذاً، رحلت هند رستم. أمضت عمراً طويلاً في التمثيل. أمضت أعواماً
مديدة في
عزلة شبه تامّة. أو على الأقلّ، في عزلة تمثيلية شبه كاملة. التمثيل،
بالنسبة
إليها، تمرينٌ على مقاربة الحياة. لم تكن عادية أثناء التصوير. لا تحتاج
إلى
«بروفة»
أو إعادة تصوير اللقطة مرّتين أو أكثر. يكفيها أنها مستمعة جيدة إلى ما
يطلبه المخرج، والباقي حكرٌ عليها. مقتنعةٌ هي أن الانفعال الأول أفضل لحظة
لتقديم
أجمل ما تملكه. كأنها، بهذا، شقّت دربها بإتقان لا مثيل له.
بصراحة مفرطة. بقوّة
شخصية وبراعة مخيّلة ووضوح رؤية. كأنها، بهذا، جعلت التمثيل مهنة ناجحة،
وعندما
شعرت أن الوقت حان للابتعاد ابتعدت، حبّاً بالتمثيل والمهنة والعوالم
المختلفة التي
صنعتها، فصنعت العوالم شهرتها وحضورها المتين. أو ربما حبّاً بالحياة
أيضاً: يُخيّل
إليّ أنها عاشت الحياة هذه كما شاءت، حتّى اللحظة الأخيرة.
حتّى الانكسار الأخير
أمام الموت. يُخيّل إليّ أنها عرفت الفرق بين الشاشة الكبيرة والحياة:
قدّمت للأولى
أفضل ما لديها. ومنحت الثانية أجمل ما امتلكته. أي الشغف. شغف التمثيل وشغف
العيش.
وهي وضعت حاجزاً بينهما، إذ قالت ذات مرّة أن لا شيء في حياتها يستحقّ
الكتابة، وأن
الكتابة هذه مسجّلة على الشاشة «ويُعاد تقديمه بين الحين والآخر». كأني بها
تقول:
«أعطوني
ما لي (الحياة)، وخذوا ما لكم (السينما)».
|