رحيل عمر أميرالاي.. الفيلم الأخير لحياته!
إبراهيم صموئيل
بعد أن عانى المخرج السينمائي عمر أميرالاي طوال حياته (1944-2011) من
التعتيم المقصود والإهمال المتعمّد بسبب مواقفه المنحازة إلى الإنسان
المقهور والمفقر، وبسبب أفلامه التسجيلية التي رصدت بؤس الناس عارياً،
وتحوّلات عيشهم من السيئ إلى الأسوأ ومن الهوامش إلى ما دونها... حمل إليه
القدر عتمة الرحيل الأخير، لكأن هذا الفنان المبدع قد وُلد ليحمل على كاهله
الظلم والظلام طوال سبعة وستين عاماً.. حتى رحيله!.
ومع أن العديد من المخرجين السوريين قد اشتغلوا في حقل السينما
التسجيلية، وقاموا بعرض أفلامهم في مهرجانات عالمية، إلا أن السينما
التسجيلية قد ارتبطت باسم عمر أميرالاي ارتباطاً وثيقاً حيث لم يعد من
الممكن الحديث على المستوى العربي عن هذا اللون من الفن السابع دون أن يكون
اسم عمر في المقدمة بسبب تكريس جهده كله وموهبته كلها لهذا الحقل من عالم
السينما.
ومن سخرية المفارقات السوداء في حياة هذا الرجل أن يكون وداعه (6
شباط) فيلماً تسجيلياً يوثّق بامتياز الحال التي أحاقت بحياته وأعماله، كما
أحاقت وستحيق بمن هم مثله من المبدعين حملة المشاعل في هذا الليل الطويل،
فينضاف شريط تسجيلي جديد إلى مجمل أعماله، ليس مخرجه عمر أميرالاي هذه
المرة، بل الواقع البائس الذي كثيراً ما رصد أميرالاي مفرداته وتعبيراته
وتشكّلاته من خلال أفلامه العشرين وعلى امتداد خمسة وثلاثين عاماً!.
كان مشهد وداعه يشبه حياته:
فبعد الصلاة على الراحل في أحد المساجد وسط دمشق، وما إنْ أُخرج النعش
من الباب حتى استقبله عدد من الأصدقاء السينمائيين والكتّاب (في غياب لافت
لأي مسؤول يُذكر) بتصفيق مديد بدا مفعماً بالأسى والأسف، ومترعاً بالاعتذار
له عن حياة كان يستحق خلالها أن يُحتفى به وتكرّم أعماله ويتم توزيعها
وعرضها.. بيد أن ذلك كله وبقرار رسمي لم يحدث قط، فما كان من أصدقائه إلا
أن ودعوه على طريقتهم هذه معتذرين منه عن ذنبٍ لم يرتكبوه، بل كانوا ضحاياه
أيضاً! حُمل النعش إلى سيارة دفن الموتى، نادى المنادي: "ترحّموا على
الأستاذ...."، فضاع الصوت في ضجيج الشارع وتداخلت سيارة دفن الموتى مع
سيارات عابرة، متزاحمة، ثم تقاطرنا خلف النعش المحمول إلى مقبرة الشيخ
إبراهيم بالقرب من ضريح الشيخ محي الدين بن عربي على تخوم جبل قاسيون،
ليوارى هناك في مسقط رأسه وسط مزيج من ذهول وكآبة، وكثير من التخيلات
السوداوية التي راودت الأصدقاء المشيعين، إلى أن أخذنا نعود أدراجنا خائبين
خاسرين، كلٌّ في طريق!.
***
أراد عمر أميرالاي أن تكون السينما التسجيلية أداته الرئيسة في توثيق
حياة الناس، وبؤسهم، وأحلامهم، وفي توثيق سيرة وطن كما هي على الأرض، خارج
البهرجة الإعلامية الرسمية، وفي توثيق رؤاه ومواقفه وما يصبو إليه عبر صورة
تنقل الدلالة والمعنى، وترصد الخافي والهامشي والمتروك، وتسجّل المفارقات
الصارخة بين الواقع الحقيقي والتعبير المزيّف الرسمي عنه كما في فيلمه
الأشهر "الحياة اليومية في قرية سورية" الذي أنجزه بالتعاون مع الراحل سعد
الله ونوس العام 1974 (وأنتجته المؤسسة العامة للسينما ومنعت عرضه في آن!)
وقدّم خلاله "يوماً" هو عيّنة من أيام أُخر وأيام سبقت تصح أن تكون شهادة
على عصر ومرحلة نتلمس فيها ثقل الوجع، ومساحة الأحلام، ودرجة الإحباط، ومدى
الهدر.
وإذا كانت السينما التسجيلية تعتمد الواقع، وتقوم عليه، فإن عين
أميرالاي التقطت من هذا الواقع، بموهبة عالية وانتماء أصيل، الزوايا والصور
والمشاهد والتعابير التي تفصح عن مكنونه، وتعرّي لبَّه، وتثري عين المشاهد
لا بقسوة الواقع فحسب، وإنما أيضاً بجماليات الفن المتمكّن من رصد الواقع
الحي، حتى ليمكن القول إن الصورة لدى عمر أميرالاي المحتشدة بالحركة
والسكون، الممتلئة بالوجوه والأصابع والأجساد، والمشغولة بتفاصيل المكان
ونمنماته... لقادرة على التعبير من دون أي كلام أو حوار كما في فيلمه
"الدجاج" (1977) عن قرية "صدد" السورية التي يقول عنها أميرالاي: "لاحظت في
(صدد) هذا التحوّل العجيب من ضيعة عريقة كانت معروفة بصناعة البسط، إلى
دخول نمط رأسمالي صناعي هو تربية الدواجن (....)، فاخترت أن أحكي عن البشر
بلغة الحيوان، لأن في ذلك نوعاً من التعبير عن قهر المثقف وعجزه عن إنطاق
الناس".
عمر أميرالاي الذي لم يعرف في حياته الشخصية والفكرية المساومة
والمهادنة، أو التملّق والتهريج، سعى لأن تكون أفلامه على غرار ما عاش دون
مهادنة أو تجميل للواقع أو قفز من فوقه. ومما له دلالة في هذا السياق أنه
في مطلع حياته وأحلامه الثورية أخرج فيلماً سمّاه "محاولة عن سد الفرات"
(1970) يمتدح فيه ذلك الصرح الحضاري، ثم عاد في العام 2003 إلى موقع السد
ليقدم فيلماً معاكساً تماماً، بعد أن تردّى الوضع وانهار، تحت عنوان "طوفان
في دولة البعث"، حيث لم يتردد في بداية الفيلم من انتقاد نفسه وتجربته
الماضية وأفكاره السابقة على غرار ما يقوم به الفيلم نفسه عبر التقاط ما
آلت إليه الأمور من تخريب المكان والبشر.
ولعل من الأفلام المهمة التي أخرجها أميرالاي فيلمه "هناك أشياء كثيرة
كان يمكن أن يقولها المرء" عن أيام المرض الأخيرة التي عاشها صديقه سعد
الله ونوس، وكذلك فيلمه "نور وظلال" بالمشاركة مع المخرج محمد ملص، إضافة
إلى فيلم أثار جدلاً واسعاً واختلافاً شديداً في الرأي بين معارض ومؤيد
بعنوان "الرجل ذو النعل الذهبي" عن حياة رفيق الحريري.
***
بدقة كاملة يمكن المصادقة على القول إن عمر أميرالاي صاحبُ أكبر قائمة
من الأفلام الممنوعة في السينما السورية، إذ واصلت الرقابة حجب أفلامه عن
العرض بشكل كامل حتى باتت أعماله أسيرة فئة قليلة من الأصدقاء وبعض
المتابعين، فيما ظل المخرج "من المغضوب عليهم" حتى بعد رحيله، إذ تمَّ
تشيعيه من دون اهتمام من الجهات الثقافية الرسمية، وامتنعت الصحف المحلية
عن ذكره والحديث عن أعماله امتناعاً مريباً إلا من رحمه ربه وأخجله التعتيم
المطبق فذكره على استحياء! بل أكثر من ذلك، فإن مدير المؤسسة العامة
للسينما لم يتلعثم وهو يقول بالفم الملآن على شاشة الفضائية السورية: "لدى
عمر أميرالاي مشكلة أساسية لم يتنبّه أحد إليها من الذين قيّموا تجربته،
فهو شخص تاه بين السياسي والمخرج التسجيلي"، مضيفاً ومعمّماً بالقول:
"المشكلة في أفلام عمر أميرالاي هي مشكلة كل السينمائيين السوريين، حيث
أخفق هؤلاء في نقل البيئة السورية المحلية"!.
ولِمَ ستكون سيرة عمر وحاله على غير ذلك؟! هو الذي قضى حياته فارساً
نبيلاً شجاعاً، لم يأبه يوماً بشباك التذاكر، ولم يسعَ لأن "يسوق بحسب
السوق" وفق المثل الدارج، إذ كان فن السينما، التسجيلية منها حصراً، عشقه
وولهه وهاجس حياته، يعمل على إنجاز أفلامه حراً، طليقاً من كل خوف، مناهضاً
للفساد والقمع، وناهضاً بهذا الفن إلى أرفع ما يستطيع، فيكون بذلك علامة
على الطريق لأجيال تأتي بعده. يقول في حديث عن تجربته ورؤيته: "أنا كمخرج
لا أستطيع أن أقدّم عملاً لا يكون شاهداً وصادقاً مع نفسه. إن عملاً يزيّف
الواقع أرفضه، ويجب أن ننقل هذا الواقع بموقف نقدي كي يصبح للعمل الفني،
وللفيلم التسجيلي تحديداً، معنى. وفي تجربتي الشخصية، فإنني ومع كل فيلم
أكتشف عاملاً رقابياً شخصياً".
أبرز وأعظم ما في تجربة عمر أميرالاي، ليس مشاكسته ومعارضته السياسية،
وجرأته على كشف الواقع وتعرية الفساد فقط، وإنما -وربما قبل ذلك وبما لا
يقلّ أهمية- شغله الدؤوب، وهاجسه المقيم، وهمّه الحافز على أن يرتفع بالفن
السينمائي، وعلى أن يؤسس لمشروع سينما تسجيلية توثّق عبر الصورة قبل
الكلمة، وتضيف جديداً إلى الإبداع من خلال المشهد، وزاوية النظر، وطريقة
التعبير المرئي، واللقطة، والافتتاح، والخاتمة... وعبر كل ما له صلة
بالنهوض بفن السينما وتقدّمه ورقيه وجدّته.
شهادات
- "كان عمر أميرالاي يعمل باحتراف كبير، لكنه يعرف متى يستّل
المفاجأة، متى يتلفظ الطرفة التي تتعدى الحرفة. كان حين يعمل يدير جهازاً
كاملاً من الاستعارات والمجازات والمواربة والإيعاز والإلغاز واللمح
والترميز، كل هذا الفن كان يجعل أعماله وخاصة الأخيرة قريبة من الصمت. لقد
كان عملاً على الإيقاع بحيث أن الفيلم يشبه أن يكون قطعة موسيقية تنتهي
بخاتمة حاسمة وتظل تتردد في ما بعد في ذاكرة المتلقي ووجدانه".
عباس بيضون
- "أميرالاي واحد من النادرين في هذا الالتصاق بين حياته وشخصيته
وأعماله الفنية التي كان قوامها الأساسي النقد الصاحي والحادّ للظواهر. ومن
المعيب أن نجد بعض المؤسسات الرسمية تحشر أنفها في جنازة هذا الحر، وهي
التي حاربته على مدى أربعين عاماً، ولم تعرض أفلامه في بلده. إن المؤسسات
دائماً تحب أن تُظهر حسن نواياها للأحرار والديمقراطيين عندما يغادرون
الحياة".
يوسف عبدلكي
- "عمر أميرالاي، كأي مبدع سينمائي حقيقي، صنع من رؤاه موقفاً تعمَّم
واكتسب جدارته من لحظة خروجه. أفلامه ليست من النوع الذي كان على المرء
العودة إليه لاحقاً لتقديره، بل كان قادراً على ترك البصمة السريعة على
وجدان المُشَاهد لأنه كان صادقاً، يعمل بمقتضى مفهوم واضح. مفهوم من وجد أن
عليه رسالة، ولديه موهبة، وكلاهما وجه واحد لعملية صوغ الدور الذي على
الإنسان أن يلعبه".
هيثم حقي
سيرة
• وُلد أميرالاي في دمشق العام 1944.
• درس الفن المسرحي في "مسرح الأمم" في باريس 1966 – 1967.
• انتقل لدراسة السينما في معهدIDHEC ، ومنه التحق بالمعهد العالي للدراسات السينمائية في باريس، لكنه
انقطع عن الدراسة بسبب أحداث الطلبة العام 1968.
• أفلامه: "محاولة عن سد الفرات" 1970، "الحياة اليومية في قرية
سورية" 1974، "الدجاج" 1977، "عن ثورة" 1978، "مصائب قوم" 1981، "رائحة
الجنة" 1982، "الحب المؤود" 1983، "فيديو على الرمال" 1984، "العدو الحميم"
1986، "سيدة شيبام" 1988، "شرقي عدن" 1988، "إلى جناب السيدة رئيسة الوزراء
بناظير بوتو" 1990، "نور وظلال" 1994، "فاتح المدرس" 1995، "في يوم من أيام
العنف العادي مات صديقي ميشيل سورا" 1996، "هنالك أشياء كثيرة كان يمكن أن
يتحدث عنها المرء" 1997، "طبق السردين" 1997، "الرجل ذو النعل الذهبي"
1999، "الطوفان" 2003.
|