محـض سينما أم سينما محضة ؟ !
محمد ملص
تنـفرد الأفلام السينمائية التي حققها المخرج
السينمائي السوري عمر أميرالاي ، الذي خسرته السينما وخسرناه
قبل أسابيع قليلة،
بأهميتها الكبيرة على أصعدة متعددة : سواء فيما تقوله ، أو كيف تقوله
!.
كما
تمتلك هذه الأفلام الأهمية ذاتها، على صعيد اللغة السينمائية والمفردات
التي تتشكل
منها هذه اللغة. فالعناصر العديدة التي تنفرد بها هذه الأفلام ، هي من
الأهمية إلى
الدرجة التي تفرض علينا التساؤل إلى أي سينما تنتمي هذه الأفلام؟
وما هو النوع
السينمائي الذي تأخذنا إليه؟ ولأن التصنيف التقليدي للنوع السينمائي
السائد منذ
بدايات التطور السينمائي ، قام بشكل رئيسي على أن السينما نوعين أساسيين :
روائي و
وثائقي
.
فلأي نوع من هذين النوعين تنتمي الأفلام التي حققها عمر
أميرالاي؟
هل تنتمي لواحد من هذين النوعين ؟
هل تجمع بينهما ؟ أم ماذا ؟
أعتقد أن أفلام أميرالاي المصنفة وثائقية تستحق هذه التساؤلات
وأبعد.
في عام 1971 قدم عمر أميرالاي نفسه كسينمائي في فيلمه الأول " محاولة
عن الفرات "،
وهو فيلم قصير قد لا يتعدى العشرة دقائق كما أذكر . بدا من
خلاله وبوضوح تام ، أن
السينما وليست السورية فقط، تكتسب سينمائيا مقتدرا وخاصا، يحكي بلغة جديدة
ومتفردة
، وأن هذه اللغة تأخذ المتلقي في الصالة، فتـقتحم عالمه الذهني والوجداني،
وتضعه
تائها بين الدهشة والمرارة، وحائرا بين السخرية والتهكم، تارة على نفسه ومن
نفسه ،
وأخرى من الواقع وعليه ، لكنها دائما ما تدفع به وبعقله للتـفكير بما يحيط
به، ثم
كي يجد نفسه منحازا بموقفه للرفض أو القبول وللحب أو الكراهية
للواقع الذي شاهده ...
بل ربما يعثر أحيانا على إيحاء بما عليه أن يفعله.
هذه الأشياء العديدة التي
يواجهها المتفرج أمام فيلم قصير، كفيلم " محاولة عن الفرات "
ستتكرر فيما بعد،
بأشكال مختلفة في كل الأفلام التي حقـقها عمر فيما بعد ، فهي ليست سمات عثر
عليها ،
وليست عناصر يبحث عنها بطاقة وذهنية تختلف بين فيلم وآخر ، بل هي سمة خاصة
وكينونة
مبدعة وهوية شخصية لسينمائي لم يتخلى عن موقفه من الواقع الذي
يحيط به في أي لحظة
من اللحظات التي عاشها. "ترفعا عن الألم وإيغالا فيه" كما يقول . والذي
لولاه "لما
كنت قد فرغت شحن العدمية والعبثية التي وسمت علاقتي بالحياة قبل السينما "
كما قال
لي يوما ما .
ليست هذه الرؤية مبالغة وجدانية، أو استخلاصا تجريديا أو عاما،
وليست على الإطلاق مفاهيم نظرية وأفكارا مجردة... إنها تعبير عن العناوين
العامة
لقراءة هذه القامة السينمائية النادرة، ومدخل لتحليل الأفلام التي حققتها،
هذه
الرؤية التي كانت تتأكد لدي في المعايشة الذاتية الطويلة،
وخلال المعايشة الوجدانية
والعملية في لحظات التعاون السينمائي للعديد من الأفلام الأخرى ، سواء تلك
التي كان
يحققها ، أو التي كنت أحققها. فهذه المعايشة التي كانت تبدأ من لحظة نشوء
الفكرة،
والتي لم تكن تنتهي بإنجاز الفيلم. وفي كثير من المرات كانت
تتمدد خارج الفيلم
للواقع الاجتماعي والسياسي الذي نعيشه، وتتطاول لوضع الثقافة والسينما في
بلدنا
والأفلام، ولا تتوقف عند الذاتي والخاص والبحث عن الفكرة الأكثر راهنية
لتناولها في
المشروع القادم ، خلال ما يقارب الثلاثين عاما.
إذا عدت الآن إلى "محاولة عن الفرات " وإلى
بداية السبعينات، فإن التساؤل الأول الذي لابد للمتفرج من أن يسأله
:
من هو هذا السينمائي ؟
ومن أين ظهر ؟
وما هي
السينما الوثائقية التي كانت في سوريا قبل هذا الفيلم ؟ وهل كان في السينما
السورية
حقا سينما وثائقية ؟ وربما سيتساءل المتفرج ما هي المرجعية التي يستند
إليها هذا
السينمائي ؟
يتساءل المتفرج هذه الأسئلة ، لأنه ومهما كانت علاقة هذا المتفرج
بالسينما علاقة عابرة ، فإنه سيبقى إثر مشاهدته لهذا الفيلم واقعا في براثن
الأثر
الوجداني ، وربما الذهني ، ولعله في الاثنين معا.
فهذا متفرج خرج من الصالة ،
ليروي في اليوم ذاته ، وربما بعد سنوات عديدة ، نتفا من الفيلم
، وربما لقطة أو
لقطات ، كلمة أو كلمات قالها واحد من هؤلاء الذين ظهروا على الشاشة في هذا
الفيلم .
وذاك مشاهد تعتمل في داخله الرغبة ليتحدث
بعد مشاهدته الفيلم عن ذاك الذي ظهر في
المشهد السينمائي وتعثر في ما كان يريد قوله . أو ليروي لصديقه
أو لأبيه أو لنفسه ،
ثم يفكر أو يختطفه الضحك أو السخرية ، فيحكي ثانية على الشاشة بدقائق
متعددة ...
بل أن يطاردني واحد من هؤلاء المتفرجين، بعد أربعين عاما على تحقيق هذا
الفيلم ،
حتى في اللحظة التي نقف فيها لنواري عمر ، فيتقدم معزيا وهو
يقول :
بتتـذكر
لقطة البلدوزر الذي يغرف عمال السد في فيلمه الأول ؟!
أين يكمن التألق والمهارة
والموهبة التي تجعل لأفلام عمر هذه القدرة على استقبال المتلقي
لها بمثل هذا التأثر
ورغم مضي السنوات على أي منها ؟ هل ذلك في الأفكار، في الرؤية السينمائية ؟
في
التصوير ؟ في المونتاج ؟
أم في ذلك كله متداخلا في وحدة واسنجام للعالم الوجداني
الخاص بهذا الإنسان...؟؟
يبوح عمر إن "عالمه ومزاجه السينمائي يراوح بين حدين :
"حد السخرية
من الواقع باعتبار السينما بالنسبة لي ترفعا عن الألم وإيغالا فيه" فيغدو
الفيلم
صرخة تلخص الرفض والعجز والكبرياء تجاه هذا الواقع.
و"حد ثان هو الجنوح نحو
تيه وجداني ، يتجسد في اللعب داخل السينما ومعها" كان عمر يبدو
للآخرين في حديثه ولقاءاته وفي أفلامه أنه راض ومقتنع بتصنيف سينماه كسينما
وثائقية
، لكنه في داخله لم يكن معنيا بأي تسمية أو تصنيف لها . فقد كانت السينما
بالنسبة
له هي السينما . يخوض غمارها ويعيشها كسينما ، وكأنها كرة في مباراة هو
الذي يحدد
قواعدها وقوانينها وزمنها. ولم يكن الفيلم بذاته، إلا اللحظة التي يسدد
فيها ليشوط
الكرة في شباك الخصم . مهما تعدد أو تبدل أو اختلف حراس هذا المرمى الذي
تستهدفه
الكرة.
بين الفيلم والآخر ، لم يكن عمر ليخرج من الملعب أو يستسلم أو يستريح .
فالحياة بالنسبة له هي هذا الملعب .
والسينما هي هذه المباراة . وليس الفيلم إلا
اللحظة التي يقدم فيها على اقتحام خط الجزاء ويشوط الكرة ليهز
الشباك . ونادرا ما
كانت تخطيء في هزها له .
أما ما يتبقى من لحظات في هذه المباراة ، فهي لكل ما
يمكن عمله كي يترنح هذا الخصم أمام النقاط الكثيرة التي يمكن له أو لغيره
من
اللاعبين ، أن يسجلوها في مرماه
.
لم تكن الحياة بالنسبة لعمر أميرالاي خارج
الملعب أبدا
.
قال لي ذات مرة
:
"
لولا السينما
لما وعيت حقيقة بديهية هي أني جزء من الحياة وليس العكس
" .
لذلك لم
يكن أمام الموت إلا أن يغدر به . فيبدو وكأنه مدرب غريب عنه وقد رشاه الخصم
،
ليخرجه من المباراة ومن الملعب، في لحظات غنية وصعبة وهامة كانت تعبق في
أجواءها
صرخات التشجيع وهواء الانتصار. غدر صعق رفاقه ومحبيه ومحبي
السينما ومشاهدي أفلامه
ومناصري مواقفه . فلم يجدوا أمامهم إلا نعشه محمولا يخرج من الملعب،
فيصفقوا
ليكسروا جبروت هذا الغدر .
ينفرد عمر أميرالاي بين السينمائيين العرب بخصوصية
سينمائية ، تتعدى التصنيف الذي يميز بين الروائية والتسجيلية والوثائقية ،
وتتخطى
المرجعيات التي يتم الارتكان لها في النظر والقراءة والتقييم للسينما في
البلدان
العربية. لذلك لا يبدو لي أن ما أطلقه سينمائي ، مثل قيس
الزبيدي عن فيلم " الحياة
اليومية في قرية سورية " بالفيلم " الأسطورة " أنه إعلان عابر، أو مبالغة
عاطفية
أفلتت منه في لحظة مؤثرة وهو السينمائي ذو الخبرة العملية والنظرية العريقة
التي
تشهد بمكانته السينمائية في كتاباته وأفلامه وفي الأفلام التي شارك في
بناءها ،
ومنها فيلم " الحياة اليومية في قرية سوريا " . فهو رأي يعبر
عن الإدراك العميق
للسينما التي حققها عمر أميرالاي . وهي سينما تفيض بطاقاتها التعبيرية عن
شواطئ
الوثائقية ، وتتمدد بروائية ذاتية خاصة تخرجها من أقفاص التصنيف الذاتي
والموضوعي .
وهي سينما الصورة حين تكون الصورة ينبوع كلام . وحين يكون الصوت ينبوع صور.
صور تنبثق من داخل مبدعها بذاتها . وقد يكون هذا الانبثاق فكرة ، أو
قول ، أو
كلمة ، أو حبة رمل ، أو قشرة موز، أو بقايا عظام نافقة . فيعيد انبثاقها
ليندهش بها
ولها هو بنفسه . ويبني لها صوتها من صوته ، لأن سينما كهذه تبث ذبذبات
الصوت ، لا
ليكون كلاما ، بل موجات من الصور . فيتضافر ذلك كله لينتـقل
للمتلقي كشحنات من
التعبير، لا تكتب ولا تقال ، بل تشاهد وتحس و تعاش فهي سينما محضة . لأن
عمر
أميرالاي لم يكن محض سينمائي ، بل كان سينمائيا محضا
.
|