بورتريه
طارق الشناوي يكتب:
داود عبد السيد عقلً ميكروسكوبً وقلبً تليسكوبً
امتلك «داود عبدالسيد» ميكروسكوباً وتليسكوباً معاً، كان يقترب
بالميكروسكوب من التفصيلة الدقيقة ليصنع منها عالماً مترامي الأطراف.. وفي
نفس الوقت كان قادراً بنظرة من خلال التليسكوب أن نري الكون كله في لقطة
واحدة، إنها براعة سينمائي قرر أن يمزج وجدانه مع أحاسيس الناس ويحيل كل
ذلك إلي أفلام تحفر لها مكانة دائمة في وجداننا بعقل الميكروسكوب وقلب
التليسكوب!!
أول مرة تعرفت فيها علي «داود عبدالسيد» ككاتب مقال وذلك في مطلع
الثمانينيات لم يكن قد أخرج سوي عدد من الأفلام التسجيلية ولم أكن قد شاهدت
أياً منها من قبل وأثناء احتفال أقامه المركز القومي للصورة المرئية
بمناسبة بلوغ المخرج الكبير الراحل «صلاح التهامي» الستين من عمره استوقفني
مقال كتبه «داود» من بين عشرات المقالات لأول مرة أعثر علي تعبيرات متفردة
حميمية وصادقة.. وتعرفت علي صاحب المقال ثم شاهدت أفلامه التسجيلية مثل
«رقصة من البحيرة»، «وصية رجل حكيم» ثم بدأت رحلته مع الأفلام الروائية وفي
كل مرة أتذكر أن تفرده وصدقه وحميميته في المقال هي نفسها التي تعلن عنها
أفلامه!!
تأخر كثيراً دخول المخرج «داود عبدالسيد» لعالم السينما الروائية فهو
خريج دفعة 1967 في معهد السينما كان من بين زملائه علي نفس التختة «علي
بدرخان» و«خيري بشارة».. «علي» أخرج عام 73 أول أفلامه «الحب الذي كان»
و«خيري بشارة» 82 «العوامة 70»، سنوات الانتظار ساعدت «داود» علي طرح ثمار
ناضجة.. وكانت أولي الثمرات فيلمه «الصعاليك» 1985 رؤية عميقة لما كان يعرف
بسينما الانفتاح الذي كان الطابع المميز لتلك الفترة.
يتناول الفيلم حياة الصعلوكين «نور الشريف» و«محمود عبدالعزيز».. نعود
في الفيلم إلي بدايات الستينيات وتستمر الأحداث حتي نهاية السبعينيات وكان
التطور في حياتهما انعكاساً لما يحدث في المجتمع.. في المشاهد الأولي نتعرف
علي الصعلوكين، فهما يتهربان من دفع الحساب بعد أن تناولا الغداء ولأننا
أمام شخصيات عادية وليسوا من محترفي الإجرام فقد حرص السيناريو في المشاهد
التالية علي أن يقدمهما لنا بعد أن فشلا في السطو علي محل آخر وأشبعا
ضرباً.
وبدقة متناهية وإدراك واع للطبيعة البشرية يختار السيناريست اللحظة
النفسية التي يوقظ فيهما النهم الجنسي - بعد هذه العلقة الساخنة - بعد أن
شاهدا امرأتين في الطريق.. كان اختيار المكان يشغل بال السيناريست دائماً..
كذلك الانتقالات الذكية بين المشاهد مثل الحوار الذي يدور بين المرأة
الداعرة و«نور الشريف» عندما تسأل (كم نفر) فيكون مشهد التالي علي موقف
السيارات والنداء التقليدي (نفر واحد).
وانتقل «داود عبدالسيد» إلي فيلمه الثاني «البحث عن سيد مرزوق» ليسبح
في منطقة إبداعية خصبة.. البعض يطارد الفكرة التي يكتب عنها والبعض تطارده
الفكرة وتلح عليه حتي يقدمها للناس وهذا هو ما حدث لداود عبدالسيد وفيلمه
«البحث عن سيد مرزوق».. إن شحنة الصدق والتلقائية في هذا الفيلم لا يمكن أن
يصنعها فنان مهما بلغت حرفيته ولكن هذه الشحنة كانت أكبر من أن يكبتها
«داود» ولهذا خرجت - ربما رغماً عنه - للناس.. علي مدي ساعتين زمن عرض
الفيلم تهيمن عليك أحداثه تماماً وتعيش عالم «سيد مرزوق».. اللقطات
السينمائية تقف علي خطوط التماس بين الواقع والحلم والكابوس وحرص «داود»
علي أن الشك يظل قائماً ولا تستطيع أن تجزم هل أنت تعيش الواقع أم الحلم؟!
الزمن الدرامي لا يتجاوز 24 ساعة، حيث يستيقظ بطل الفيلم «نور الشريف»
من نومه مسرعاً ليلحق بعمله ولكنه يكتشف أن اليوم إجازة ونكتشف نحن بعد ذلك
أن «نور الشريف» لم يغادر منزله منذ أكثر من 20 عاماً هل ظل «نور الشريف»
بعيداً عن هذا العالم طوال 20 عاماً؟!
الكاتب والمخرج «داود عبدالسيد» يقدم رؤية بصرية وسمعية تستفزك في كل
مرة لتشاهد عالم «سيد مرزوق» مرة أخري لتكتشف أشياء جديدة ورؤية أعمق وكأنك
لم تشاهده من قبل.. أحداث الفيلم لم تتناول يوماً فقط بل عمراً و«البحث عن
سيد مرزوق» لم يكن فيلماً بل حياة وعالماً.. إنه عالم «داود عبدالسيد» وما
أجمله من عالم!!
ثم يأتي أكثر أفلامه شعبية والذي من الممكن أن تصبح مشاهدته مضاداً
حيوياً موجهاً ضد الاكتئاب إنه «الكيت كات».. يمتزج فيه مرح الطفولة
بالشقاوة والذكريات الجميلة في كلمة درجن.. درجن.. درجن.. درجن.. التي
يرددها «محمود عبدالعزيز» مع اقتراب نهاية أحداث الفيلم حيث يغني قائلاً
ياللا بينا تعالوا نسيب اليوم في حاله وكل واحد مننا يركب حصان خياله..
درجن درجن درجن درجن وما أشد حاجتنا لكي نحلق بعيداً مع هذا الفيلم.
كحة ونحنحة خفيفة يطلقها «محمود عبدالعزيز» أو «الشيخ حسني» الكفيف
وهو يغني في اللقطة الأولي مع كتابة «تترات» الفيلم.. إن هذه التفصيلة
الدقيقة أثناء الغناء تنقلك علي الفور من مقعدك أمام الشاشة لتجد نفسك تعيش
مع شلة أصدقاء «محمود عبدالعزيز» أقصد «الشيخ حسني» وتغني وتنسجم معهم وتكح
وتتنحنح مثلهم!!
لسعة البرد الخفيف مع آخر نسمات الفجر تشعرنا بها إضاءة «محسن أحمد»
وشلة الأصدقاء تغادر المكان.. لقد نقلتنا الإضاءة إلي عز البرد، حيث تجري
أحداث الفيلم.. ديكور الحارة الشعبية تشم من خلاله رائحة كل حوارينا لفنان
الديكور «أنسي أبوسيف» وتؤكد عليها موسيقي «راجح داود».
مايسترو يحرك بحرفية شديدة فريق العمل وكأنهم في رحلة فنية ممتعة
يتزعمها «داود عبدالسيد».. ليست هناك حدود فاصلة بين الفنان وإبداعه، لأن
الفنان الحقيقي يقدم نفسه من خلال لوحة أو قصيدة شعر أو فيلم وهذا هو ما
فعله بالضبط «داود عبدالسيد» في فيلمه «الكيت كات» المأخوذ عن قصة إبراهيم
أصلان «مالك الحزين»!!
التحدي هو القيمة التي يحملها بطل الفيلم «الشيخ حسني» محمود
عبدالعزيز والتحدي أيضاً هو السلاح الذي يحمله المخرج «داود عبدالسيد» فهو
يتحدي بهذا الفيلم همومنا وإحباطنا وعجزنا ويجبرنا مهما ضاقت بنا الدنيا
علي أن نمرح ونضحك ونحلق ونغني معه درجن درجن درجن درجن!!
لم تنتقل «فاتن حمامة» من جيل الوسط في المخرجين إن صح التعبير «حسين
كمال» و«سعيد مرزوق» إلا في تجربتين مع مخرجي الثمانينيات وهما خيري بشارة
«يوم مر ويوم حلو» وداود عبدالسيد «أرض الأحلام».. هذا الفيلم يخاطب الطفل
داخل كل منا.. إنه ليس فيلماً للأطفال لكنه يعود بنا إلي مرحلة الطفولة..
حيث الصفاء والمرح والضحك من القلب.. لا تصدق أن أمامك سيدة الشاشة «فاتن
حمامة» التي تتجسد دائماً أمامنا بأمجادها السينمائية التي وضعتها علي
القمة سيدة للشاشة العربية.. إنك أمام فنانة أخري تتحرر من كل القيود التي
فرضت نفسها عليها وللدقة لم تكن هذه القيود من صنع «فاتن حمامة» أو علي أقل
تقدير - أغلبها - ولكن عشاق «فاتن حمامة» هم الذين فرضوا هذه الشخصية
فأصبحت جزءاً من تكوينها الفني أمام الكاميرا!!
إنها «فاتن حمامة» الجادة المعطاءة القوية حتي ولو أدت دور بنت بلد..
ومن هنا كان الرهان صعباً وهو كيف تقدم «فاتن حمامة» أخري؟ وإذا وافقت
«فاتن» هل يوافق عشاق «فاتن»؟! إنها «نرجس ريحان» في فيلم «أرض الأحلام»
للمخرج «داود عبدالسيد» الأرملة التي لم تعش حياتها لكنها تحولت إلي جسر
يعبر عليه الأبناء وهي قانعة بذلك ولكن ماذا فعلت «فاتن حمامة» وما الذي
فعله المخرج «داود عبدالسيد» حتي نشاهد أمامنا «نرجس» وليست «فاتن
حمامة»..؟ «اللدغة» في حرف الراء التي تميزت بها الشخصية وهو ليس إضافة من
أجل الإضحاك عند نطق الكلمات لكنه تعايش أكثر مع الشخصية.. وهو أيضاً ربما
يمثل لفاتن حمامة إحساساً بالعودة للطفولة.. وهو إحساس خاص جداً لكنه ضروري
في تقديم هذه الشخصية كما رسم ملامحها «داود عبدالسيد».. لقد كانت أيضاً
«فاتن حمامة» في طفولتها وشبابها تعاني صعوبة في نطق حرف الراء وأحست في
أدائها أنها تريد أن تعود لتلقائيتها وهذه التلقائية مرتبطة نفسياً
بالطفولة!!
إن «فاتن حمامة» تتحرر أيضاً في هذا الفيلم من الصراع مع الزمن
الواقعي.. وأيضاً الزمن السينمائي.. فهي في أحداث الفيلم تطرق باب الستين
وإبناها «هشام سليم» و«علا رامي» يعلنان في كل مشهد ذلك الإحساس.. إن
الكاميرا تقترب من «فاتن» لنري بصمة الزمن علي وجهها ولا تخشي «فاتن» من
هذا الاقتراب.. الباروكة التي تضعها علي رأسها نشاهدها أمامنا وهي ترتديها
أو تخلعها إنه انطلاق وتحرر آخر تمارسه «فاتن حمامة» مع «داود»!!
الخط الأول الذي يقدمه الكاتب «هاني فوزي» هو ضياع جواز السفر
والتذكرة ليلة سفر «فاتن حمامة» للهجرة إلي أمريكا إنه يبدو كابوساً عشناه
جميعاً من قبل ولكن المخرج يقدمه لنا واقعاً يرتبط أحياناً بالحلم وأحياناً
بالكابوس!!
«فاتن حمامة» أقصد «نرجس» لم تقدم لنا فقط صوت وملامح الشخصية ولكن
جعلتنا نلمسها ونشمها ونتذوقها ولكي تستمتع بنرجس عليك أن تتعامل بحواسك
الخمس وإذا كنت تملك السادسة فسوف تستمتع أكثر وتلك هي سينما «داود
عبدالسيد»!!
انطلق «داود» بعد ذلك وتحديداً عام 1995 إلي «سارق الفرح».. القصة
القصيرة التي كتبها «خيري شلبي» تتناول لحظات الفرح الضئيلة التي يسرقها
البسطاء من الحياة.. «خيري شلبي» يقدم هذه السرقة العلنية في لوحة أدبية
حيث نلتقي مع هذا العالم المهمش الذي يعيش أفراده علي جبل المقطم حيث تبدو
القاهرة علي البعد متلألئة بالأضواء والعمارات الشاهقة لتؤكد هذا التباين!!
ووضع «داود» نبضه السينمائي علي وريقات «خيري شلبي» وأحالها إلي قصيد
سيمفوني تختلط فيه لحظات الشجن مع فرحة العين والقلب.. إن الشخصيات تمتد
جذورها إلي تلك التربة التي رواها «خيري شلبي» ولكنها تنمو وتتفاعل مع رؤية
«داود» وعالمه السينمائي.. ويلجأ «داود» إلي استخدام الأغنيات بكلمات بسيطة
تصبح معادلاً لا شعورياً للحظة الحلم المستحيل.. تبدأ الأحداث مع التترات
بموسيقي غنائية وهي بمثابة التعاقد المبدئي مع الجمهور الذي عليه أن ينتظر
مزيداً من الأغنيات ومن خلال التلسكوب العتيق الذي اشتراه «حسن حسني»
القرداتي نتعرف علي شخصيات الفيلم بينما هو يبحث عن «حنان ترك» إنها الأمل
المستحيل لرجل يقف علي عتبة النهاية!!
الفقراء الذين يقدمهم «داود» لا يملكون قيماً مثالية يحطمها الواقع..
ولكنها نتاج لهذا الواقع ولهذا يقدمون تنازلات من أجل أن يسرقوا الفرح!!
تأخر كثيراً لقاء «داود عبدالسيد» مع «أحمد زكي» ولكنه أبداً لم يغب
عن أفكاره فمنذ أول أفلامه «الصعاليك» و«أحمد زكي» يشكل لداود أحد الجسور
الإبداعية ولكن لأسباب خاصة اعتذر وكان «أحمد» أيضاً هو المرشح الأول لسارق
الفرح واعتذر .. وجاء اللقاء المرتقب عام 2000مع «أرض الخوف».
من الممكن قراءة الفيلم بمنظار أحادي مباشر تري أجهزة الدولة من خلال
وزارة الداخلية وهي تزرع الضابط الذي يؤدي دوره «أحمد زكي» داخل عصابات
المخدرات من أجل أن تكتشف تفاصيل ما يجري في كواليس هذه العصابات!!
هكذا تبدو الحكاية علي السطح أشبه بالعديد من الأفلام الأجنبية
والمصرية التي شاهدنا الكثير منها علي مدي سنوات هي عمر السينما نفسها حيث
لا يوجد جديد.. ويظل أن هناك إحساساً بأن هذه الأفلام الاستهلاكية قد تعجب
الجمهور وتحقق إيرادات.. ولكن بعد أن تشاهدها تفقد ما بينك وبينها من
تواصل.. أما في «أرض الخوف» فإن «داود عبدالسيد» يطرح تساؤلات عن التزام
الإنسان هل هو مجرد موقف يحاط بقدر كبير من الخوف من العقاب وذلك لو افتضح
أمره؟ أم أن بداخل الإنسان دائماً قيماً ومثلاً تحميه من السقوط وتبعد عنه
شبح الوقوع في الرذيلة؟!
إن المعادلة التي طرحها «داود» هي أن بطل الفيلم والذي أطلق عليه اسم
«آدم» يحصل علي وثيقة من أجهزة الدولة تحميه من أي عقاب قانوني طوال حياته
وأيضاً كل أمواله التي يحصل عليها تظل ملكاً له ولورثته من بعده.. ولأن
المهمة خطيرة فإنه سوف يمارس نفس المهام الإجرامية التي يرتكبها أفراد
العصابات التي يتعامل معها من اتجار في المخدرات وقتل ونهب وضرب.. إلا أنه
في اللحظة الأخيرة يشعر بالأمان المطلق فلا أحد يستطيع أن يقترب منه لأن
الدولة تحميه!!
في العديد من المشاهد كان «داود عبدالسيد» يريد أن يقول لجمهوره الذي
تعود علي أن يري السينما السائدة بكل تقليديتها إننا أمام رؤية أبعد ولهذا
كان يحرص علي أن يقدم تبريراً يشرح فيه بطل الفيلم «أحمد زكي» مواقفه
وإحساسه بالتناقض والصراع الداخلي في أعماقه.
لعبت موسيقي «راجح داود» دوراً إبداعياً حيث حملت النغمات التي قدمها
قدراً من الفطرية والبدائية وكأنها تحاول أن تستعيد مرة أخري صوت الطبيعة
في بكارتها الأولي.. وكذلك استطاع مدير التصوير «سمير بهزان» والمدير الفني
«أنسي أبوسيف» والمونتير الراحل «عادل منير» أن ينقلوا لنا حالة من
الانسياب في الرؤية البصرية.. وكانت عين المخرج «داود عبدالسيد» قادرة علي
أن تنقل لنا تفاصيل الصورة بكل درجات الإيحاء الجميل والنبيل أيضاً!!
كان «أحمد زكي» في هذا الدور في حالة إبداعية خاصة.. ولذلك توهج
إبداعياً مع تفاصيل شخصية «يحيي أبودبورة» أو «آدم» في «أرض الخوف» وكم كنا
نتوق للقاءات أخري تجمعهما معاً لكنه القدر الذي حال دون اللقاء الثاني في
«رسائل البحر»!!
ثم نأتي إلي «مواطن ومخبر وحرامي» عام 2001 عندما ذابت الفروق بين
اللصوص والشرفاء وانهارت قوة القانون أمام قانون القوة.. الصراع الذي كان
حتمياً في الماضي بين الحق والظلم.. بين الجمال والقبح.. بين النغم
والنشاز.. تحول مع مرور الزمن إلي تعايش سلمي يأخذ الحق الظلم بالأحضان..
ويتغزل الجمال في مفاتن القبح.. ويقول النغم للنشاز «الله.. الله»!!
ربما كانت رؤية المخرج «داود عبدالسيد» في فيلمه «مواطن ومخبر وحرامي»
شديدة الاستسلام للواقع القاسي الذي نحسه وكأنه يقول «لا داعي للمقاومة»
إما الخضوع المطلق أو الطوفان الذي ينهي الحياة!!
تأمل «داود» الواقع المصري واستطاع أن يحيله إلي ثلاث قوي تبدو
متعارضة وهي المواطن الذي يمثل الشعب بكل طبقاته لكن «داود» سلط الأضواء
علي المثقف واختار من السلطة أصغر من يمثلها ويعبر عنها وهو المخبر ثم
الحرامي وهو الخارج علي القانون.. هؤلاء الثلاثة يتأرجح بينهم الصراع
واختار «داود» مكان المعركة في بيت قديم متهالك لكنه يتشبث بالماضي العتيد
وكأنه الوطن الذي يحمل الكثير من القيم النبيلة.. لكن الزمن جار عليه
واللصوص عبثوا به والمواطنون رفعوا أياديهم واستسلموا!! وقف مع «داود» عين
المدير الفني ومهندس الديكور «أنسي أبوسيف» الذي قدم لنا تفاصيل موحية أذكر
منها منزل «خالد أبوالنجا» بهذا الجمال المعماري الذي يهزمه الزمن.. ثم
العشة التي يقطن بها «شعبان عبدالرحيم» حيث الكتب علي الرف والنار تبدو
وكأنها تنتظر ما تلتهمه من كتب.. وحقق «سمير بهزان» في تنفيذه للصورة درجة
عالية من الإتقان.. وقدم «راجح داود» موسيقي لا تعبر عن الحالة بأسلوب
مباشر تنتقل فيه من بيت «خالد الكلاسيكي» إلي عشة «شعبان الشعبية» كان من
الممكن أن تتباين النغمات والإيقاعات بين الروح الكلاسيكية والشعبية ولكن
هذا بالطبع تناقض مع العمق الذي أراده «داود» لفيلمه وهو أن نتأمل ما وراء
الحكاية المباشرة وكانت موسيقي «راجح» هي الجسر الذي عبرنا به إلي شاطئ
التأمل. وفي «مواطن ومخبر وحرامي» قدم وجهة نظر لحياتنا المعاصرة.. إنها
رؤية تخلو من بطولة لأن المقاومة كما يقدمها ويراها «داود» مستحيلة في زمن
القهر.. ولهذا لا يملك المواطن سوي أن يتصالح مع المخبر والحرامي واللي
يتجوز أمي أقوله يا عمي!!
ثم جاء في 2010 بعد تسع سنوات من الانتظار فيلمه «رسائل البحر» بهذا
الغموض المحبب ليطرح علينا هذا السؤال ما الذي تحمله تلك الرسالة التي
نراها في بداية الفيلم داخل زجاجة ثم يلتقطها صياد يخشي منها ويقذفها
بعيداً عنه لتطفوا مرة أخري عبر الأمواج حتي تأتي إلي الشاطئ يلتقطها بطل
الفيلم «يحيي» الذي أدي دوره «آسر ياسين» بعد أن يستيقظ من إغفاءة.. قبلها
بلحظات كانت أمواج البحر تهدر وتثور وترتطم بالصخور وتصل إليه وهو يسأل
الله أين الرزق، جاءت له الرسالة التقطها وأخذها معه إلي بيته إلي أرضه؟!
هل توقفت رسائل الله إلي البشر مع انتهاء رسائل السماء التي اكتملت مع نزول
القرآن..؟ التواصل بين الله وعباده لم يتوقف، دائماً ما يرسل الله شفرات لا
نستطيع أن نقرأها وهذه واحدة منها لا يهم كلماتها ولكنها لو تأملناها أكثر
لاكتشفنا الرسالة وفهمناها كما بالضبط يريدها الله.. رسالة الله هي أن نقبل
الآخر أن نتقبل الجميع كما خلقهم لا كما نريدهم أن يكونوا عليه.. ولهذا كان
«داود عبدالسيد» يملك عمقاً فكرياً وهو يذهب بهذه الرسالة داخل أحداث
الفيلم إلي العديد من مختلفي الجنسيات وبكل اللغات من أجل أن يفك شفرتها
ولم يتمكن أحد لأنها لا هي إنجليزية أو إسبانية ولا روسية وبالطبع ولا هي
عربية.. إنها لغة أخري رسالة الله مثل الإيمان بالله ينبع من داخلنا نؤمن
به ونعبده ونتوجه إليه غير قائم بالضرورة علي منطق عقلي بل كثيراً ما يعجز
الإدراك عن التفسير.. ما الذي أراده «داود عبدالسيد» بهذا الفيلم وتلك
الرؤية.. بطل الفيلم لديه مشكلة في التواصل مع المجتمع عبر عنها مباشرة
بهذا التلعثم فهو يعرف نفسه جيداً ولهذا في حواره الداخلي ينطلق ولكن جسور
التواصل مع الآخر تظل هي التي تشكل المأزق الأكبر في حياته.. ولد الإنسان
وبداخله كل عوامل المقاومة لكي يتواصل مع الحياة مهما بلغت عوامل الطرد فهو
يبحث عن قنوات اتصال!!
قدرة «داود» علي أن يضع نجومه في مناطق إبداعية ووهج وألق خاص هكذا
رأيت «آسر ياسين» لم تكن المرة الأولي له في البطولة سبق أن لعبها في
«الوعد» إخراج «محمد يسن» هذه المرة أري درجة حميمية عالية جداً مع
الكاميرا تنقل إلينا قدرة علي التلوين الحركي والنفسي في أداء درامي لواحدة
من أدق الشخصيات المرسومة درامياً إنه محتفظ بالبراءة التي لم تلوثها قسوة
الزمن.. «بسمة» أمسكت بمفردات الشخصية.. اقتصاد وتكثيف هي ليست داعرة
ولكنها تدعي ذلك أمام «آسر» وهكذا صار عليها أن تمثل أنها تمثل والتعبير عن
الاحتياج العاطفي أكثر مما هو احتياج جنسي وتلك هي المعضلة الرئيسية في
الفيلم وهو ما نجحت «بسمة» في اجتيازه والتعبير عنه بتألق وحضور «محمد
لطفي» يبدع في دور عمره إنه «قابيل» الذي قتل أخاه «هابيل» لكنه رفض أن
يكرر فعل القتل!!
«داود» يقدم رسالة من الله ولكن من قال إن كل البشر يستطيعون قراءة
رسائل الله.
الحصيلة التي قدمها لنا «داود» حتي الآن ثمانية أفلام روائية.. تعيش
فينا أكثر مما نعيش معها.. تشاهدنا قبل أن نشاهدها!!
الدستور المصرية في
06/04/2010 |