وفاة ألبير.. ولادة يوسف
منذ عشرات السنين، وفي إحدى ليالي الإسكندرية الماطرة ربما، تقدم
جوزيف لخطبة فتاة تصغره بعشرين عامًا، لم يكن جوزيف وسيمًا، لذا لم
ينجح في خطف قلب الفتاة أبدًا، لكنه نجح في إقناع والديها أنه
كمحام وفدي ينتمي لأسرة برجوازية هو الأنسب لابنتهما، نجاح كان
مقدمة قدوم “ألبير” لحياة تلك الأسرة الصغيرة؛ كانت الأسرة مهددة
بالافلاس بسبب فوضوية الأب، أما الأم التي لم تنس في أي لحظة أنها
تزوجت بغير رضاها كانت أرهف حسًا، نعرف ذلك من ارتباطها بالسينما
التي ستصحب إليها ألبير فيما بعد.
قبل أن يتم ألبير ستة أعوام كان القدر يخبئ له هدية عيد الميلاد،
يموت شقيقه الأكبر، ثم يسمع جدته تتمنى لو كان الموت من نصيب ألبير
لا أخيه، ربما كان ألبير بدوره يتمنى أن لم يأتِ أبدًا للحياة على
إثر زيجة إجبارية من رجل يفتقر للوسامة، وللمفارقة يكون هذا الوجه
ذو الملامح الفظة هو الشيء الوحيد الذي يرثه ألبير من أبيه، ليحرمه
حلم طفولته في أن يصبح ممثلًا، ويكسبه أولى مهارات التعامل مع
الذات والحياة والآخر: السخرية.
ينتهي ألبير من دراسته في “فيكتوريا كوليدج”، ثم يقرر أن يمسك
بزمام حياته، من الآن فصاعدًا لن تسيطر عليه الأشياء التي لم
يخترها، وقوفه لساعات طويلة أمام البحر علّمه التمرد، لذا عندما
يحاول والده إنهاء ما بقي له من آمال في دراسة فن التمثيل، يقاومه،
ويرفض دراسة الهندسة، يكتفي ألبير من الوقوف أمام البحر، ليقرر
أخيرًا أن يخوض غماره بنفسه والمضي قدما نحو حلمه صعب المنال.
ألبير ليس سوى المخرج العالمي يوسف شاهين، والذي اختار يوسف اسمًا
بديلًا عن الاسم الذي منحته له العائلة؛ أما المواقف البسيطة التي
شكلت ذاكرة شاهين الطفل، من المدينة والعائلة والطبقة البرجوازية،
هي ما ستصاحبه في أغلب أفلامه بداية من عمله الأول “بابا أمين”،
لكنها ستصبح ذات دلالة أقوى عندما تخرج من حيز الذات والذاكرة
للحيز العام والموضوعيّ، لتصل ذروتها مع هزيمة عام 1967. يقدم
شاهين في رباعيته بعد النكسة تحليلًا عميقًا لأسباب الهزيمة، يبدأ
بفيلم “الأرض”، ثم “الاختيار” و”العصفور” و”عودة الابن الضال”..
هذا النصّ يحاول قراءة الهزيمة وتداعياتها في ضوء أربعة مفاهيم
ناقشتها الرباعية وهي “الصراع الطبقي، العائلة، الجنس، المكان”.
اعتاد النقاد تجاهل فيلم “الأرض” أثناء الحديث عن الأفلام التي
يناقش فيها شاهين أسباب الهزيمة، ربما بسبب انتماء الأرض من
الناحية الشكلية للأفلام الكلاسيكية، على عكس الأفلام الثلاثة
الأخرى التي تبدو أكثر حداثة، لكن حقيقة أن “الأرض” هو الفيلم
الأول لشاهين بعد الهزيمة، تجعل من الصعب إغفاله، ليس فقط لأنه كان
ردة الفعل الأولى الأكثر صخبًا، بل لأنه عندما قرر أن يناقش أسباب
الهزيمة، عاد بوعي شديد إلى قاعدة الهرم الاجتماعي “الطين” مع وجود
رابط قويّ بين موضوع “الأرض” وبين باقي الرباعية.
إذًا يمكن اعتبار فيلم الأرض عن مقدمات الهزيمة بينما الاختيار
والعصفور يفحصان آثار تلك الهزيمة، أما عودة الابن الضال فهو
محاولة للانعتاق من بوتقة الهزيمة تلك، والمضي بالحياة قدمًا.
الصراع الطبقي:
«الأرض»..
الصراع الطبقي من الماضي للحاضر، هزيمة ممتدة
يفتتح يوسف شاهين رائعته “الأرض” بأيادي محمد أبوسويلم تحتضن براعم
القطن وترعاها حتى تزهر، ويختتم بها متشبثة بأزهار القطن التي
أينعت، لكنها هذه المرة مخضبة بالدماء، أحد المجازات التي تحتملها
تلك النهاية التي جاءت بعد هزيمة يونيو بعام واحد، هو انتهاء فكرة
البطل المخلص ــ أبوسويلم ــ الذي يقود ويقاوم وحده.
يستعرض شاهين الهزيمة في هذا العمل من خلال الصراع الطبقي في أكثر
صوره قدمًا وكلاسيكية، صراع الفلاحين مع الإقطاع، الممتد عبر
السنين، أو كما يقول أبو سويلم “النهبة هي الفقير، هي دي حكايتنا
مع محمود بيه، وأبويا وأبوه وجدي وجده، الحكاية اللي من قديم
الأزل”، لكنه هذه المرة لا يعرض هذا الصراع بوصفه يشير للفوارق
الطبقية والظلم الاجتماعي، بل يربط ذلك بشكل رئيسي بالهزيمة.
الهزيمة تحضر هنا بمعنى أوسع من كونها عسكرية، يرى شاهين أن النكسة
ليست سوى تجلٍ حتمي للهزيمة الأهم” انتكاسة الثورة، أو بشكل أكثر
تحديدًا مبادئها ــ القضاء على الاقطاع، العدالة الاجتماعية،
التوزيع العادل للثروة ــ لذا يختار شاهين أن يعود بسرديته لزمن
العهد الملكي، نقطة انطلاق ثورة يوليو، لتذكير رجال الثورة بأسباب
قيامها أولًا، وانحرافها عن مبادئها ثانيا وأن تلك المظالم التي
تراكمت في الثلاثينات ــ زمن الفيلم ــ أعقبتها هزيمة عسكرية في
العام 1948 وعلى أيدي العدو نفسه، لذا لن يكون غريبًا أن يعيد
التاريخ نفسه في صورة هزيمة أخرى.
لا يكتفي شاهين بتنقيبه عن الفساد كأحد أسباب الهزيمة، لكنه أيضًا
يحلل مظاهر ذلك الفساد، والذي لا يقف من وجهة نظره عند الظلم
الاجتماعي، بل هو أحد تمظهراته التي تمتد حول كل شىء لتفسده، يرى
شاهين أننا هزمنا في الداخل قبل أن نهزم في الخارج، فقدان الأرض
بدأ من النظم الاجتماعية المهترئة قبل أن يصل للنظم العسكرية
المهترئة أيضًا.
يدلل شاهين على هذا المعنى عند انتقال محمد أفندي كمندوب عن القرية
للبندر، لتقديم شكوى ضد تقليص أيام الري والمعاملة الظالمة التي
لقيها الفلاحون بسبب رغبة الباشا الإقطاعي في نهب حقوقهم، عندما
يصل محمد أفندي للقاهرة، المشهد الوحيد الذي يلتقط في شوارعها يكون
لمظاهرات المصريين المنددة بالاستعمار الإنجليزي وقتها، من خلال
ذلك القطع المونتاجي بين أزمة الفلاحين ومقاومتهم للإقطاع في
القرية النائية وبين نضال الأفندية في شوارع القاهرة، يظهر شاهين
أن ذلك النضال الممتد من القرية للمدينة هو في الحقيقة ضد عدو
واحد، فذلك الإقطاعي الذي يحيل حياة القرية إلى جحيم ويحاول اغتصاب
الأرض هو امتداد مجازي للاستعمار، يتضح الأمر أكثر من خلال اختيار
الباشا الإقطاعي بملامح أجنبية لا تشبه المصريين.
«الاختيار»..
الصراع الطبقي كمشكل للهوية الفردية وللتصدع الذاتي
إذا كان محور الصراع في “الأرض” هو الصراع الطبقي في أكثر أشكاله
كلاسيكية، فإن فيلم الاختيار يعد تجليًا آخر للفساد الاجتماعي الذي
تتسبب به الطبقية، لكن هذه المرة من ناحية نفسية؛ يتأمل شاهين دور
الطبقة الاجتماعية في تشكيل الإنسان وخياراته في الحياة، من خلال
شخصيتي التوأمين محمود وسيد، محمود الذي عمل كقبطان في البحر ويهوى
الرسم حدد انتماءه للطبقة العاملة ملامح شخصيته الحرة والمنطلقة،
فهو “جدع” يضحي بالمرأة التي يحب لأجل الوازع الأخلاقي، يعيش في
الهامش بلا أملاك أو أحقاد، لكنه في القلب من الكثير من المهمشين.
فضل شاهين أن يعرض بعدًا جديدًا لأزمة الفوارق الطبقية، وهو هنا
هذه المرة لا يعرضها بوصفها صراعًا اجتماعيًا، بل ينتقل من هذه
الحالة العامة التي تسم المجتمع للحالة الفردية، ويفسح المجال
لمعاينة آثار الانتماء البرجوازي التدميرية التي طالت الذات وحتى
الوجود.
على عكس محمود، سيد المؤلف والروائي المشهور الذي ولد في ذات
البيئة اختار طريقا مختلفا، تحت ضغط غواية الترقي الطبقي السريع،
يجعل سيد من الزواج سلمًا لأحلامه، فيرتبط بشريفة من أجل علاقات
والدها، ثم يرتبط بالسلطة من أجل الحصول على مزايا اجتماعية أكبر،
فيما عاش محمود حرا ومتسقا مع ذاته عانى سيد من نتائج اختياراته،
معاناة بدأت من انفصامه الشخصي، الانفصام الذي بدأ مع تمرده على
واقعه للالتحاق بالطبقة البرجوازية، فخسر كل شىء حتى ذاته.
يؤكد شاهين على الهوية الطبقية تلك وأثرها من خلال رؤية المحقق فرج
للأخوين محمود وسيد، فهو يعتقد أن محمود القاتل، فقط لأنه فقير،
فدافع القتل بالنسبة له كان “الحقد الطبقي” بحثا عن الحياة السعيدة
وهو يعتقد أن تلك السعادة لا يمكن تحقيقها إلا من خلال السلطة
والترقي الطبقي ــ وهو ما يحوزه سيد، لكن الضابط رءوف يرفض ذلك
الحكم المرتبط بالتصنيف الطبقي “إنما محمود من الحضيض للحضيض، خلاص
حكمت!” وكما نرى نحن من خلال الفيلم، عاش محمود حياته أكثر انطلاقا
وسعادة لأنه نجح في التخلص من قيود السلطة والمال بالتحديد، هذا ما
لم يفهمه فرج إلا متأخرا جدا.
يدين شاهين الحكم الخاص بفرح من خلال المونتاج، فهو يقطع من حوار
رءوف وفرج إلى حوار سيد نفسه مع شريفة ومع ذاته، “محمود ياريت
الواحد يبقى زي محمود، منطلق بدون التزامات، على إيه ده كله نجري
من هنا لهنا، أضحك لده وده ونسافر لآخر الدنيا، ومهما روحنا
منقابلش غير نفسنا”، ينتصر سيد في لحظة مصارحة مع الذات لنمط
الحياة الحرة التي يعيشها محمود، يكتشف تهافت القيم البرجوازية
التي سعى لامتلاكها إلى أن امتلكته هي، هنا يدين شاهين النظام
الاجتماعي بأكلمه.
«العصفور»..
الطبقة البرجوازية كوقود للهزيمة والطبقة العاملة كوقود للنضال
والمقاومة
بعد أن يسلط شاهين الضوء على دور الانحيازات الطبقية في تشكيل وعي
الإنسان بالذات والعالم، من خلال تسليط الضوء على الحياة الفردية،
ينتقل في العصفور إلى تمظهر أكبر لهذا الصراع، فيتحول من الذات إلى
السلطة، ومن الفرد إلى المجتمع، من خلال الصراع بين البرجوازيين
الجدد أو “اللصوص الشرعيين” من جهة كما أطلق عليهم الصحفي يوسف
وبين مجموعة من المثقفين المنتمين للطبقة العاملة “بهية والصحفي
يوسف والضابط رءوف والشيخ أحمد” من جهة أخرى.
إذا كان شاهين قد آثر الإشارة المجازية للفساد كأحد أسباب الهزيمة
في فيلم الأرض، فإنه في فيلم العصفور يعلن موقفه ذلك بوضوح ودون
مواربة، ومن اللحظة الأولى في تتر الفيلم، إذ يتوسط خبر خوف
إسرائيل من الجيوش العربية، خبران عن “أبو خضر” ــ كرمزية عن
الفساد السياسي والاجتماعي، وهنا، هو يدفع المشاهد للتساؤل، كيف
تحول خوف إسرائيل ذلك إلى انتصار عسكري مباغت؟ ثم يجيبه في اللحظة
ذاتها، من خلال تغليف ذلك الخوف بخبرين آخرين عن الفساد الذي يحيط
المجتمع العربي.
الهزيمة سبقت الحرب، ليس بفعل تفوق إسرائيل العسكري، بل بفعل فساد
الطبقة البرجوازية وبيروقراطية الدولة التي أشار إليهما شاهين من
خلال شخصية “أبو خضر”، وتحول المبادئ التي قامت عليها الثورة لمجرد
شعارات جوفاء، فالثورة التي كانت أحد مبادئها هي العدالة
الاجتماعية والتوزيع العادل لرأس المال، لم تقض على الطبقة
الأرستقراطية والإقطاع والقبضة الأمنية، بل اكتفت بتأميم تلك
الطبقة واستبدالها بطبقة جديدة من العسكر، مع الاحتفاظ حتى ببعض
رموزها، يقول جوني ليوسف في أحداث الفيلم “أبوك كان باشا وفضل
باشا”، أي أن الباشا الذي قامت الثورة على نفوذه وظلمه الاجتماعي،
تحول في ظلها لعضو بارز في الحزب الاشتراكي، ويشارك بلا هوادة في
إفساد القطاع العام لصالح القطاع الخاص التي باتت تملكه الطبقة
الجديدة.
ثم يعود شاهين ويؤكد على المعنى نفسه في المشاهد النهائية للفيلم،
عندما يربط من خلال المونتاج الذكي للغاية بين أخبار الهزيمة التي
تأتي من الجبهة والتي أعقبتها انتفاضة شعبية، وبين تكثيف رجل
الأعمال فؤاد فتح الباب عملية تهريب المعدات المسروقة من القطاع
العام، أي أن الانتفاضة الشعبية والحماس الملتهب للجماهير لن يكون
ذا فائدة لو استمرت تلك العربات الضخمة تطأ أحلامهم وتسرق
منجزاتهم، فالهزيمة بالنسبة لشاهين بدأت مع إهدار تلك الفرص لخلق
صناعة وطنية حقيقية، على أيدي البرجوازية الجديدة.
«عودة
الابن الضال».. الانفجار الحتمي للطبقة البرجوازية
في عودة الابن الضال، يبدأ شاهين من حيث انتهى في العصفور، ما بعد
اجتياح الهزيمة، لا يمكن استبعاد أن السيارات المحملة بالمعدات
المسروقة من مصانع القطاع العام، استقرت إحداها في معصرة طلبة،
ورغم أن أحداث الفيلم التي تقع في قرية “ميت شابورة” قد توحي أن
الصراع الطبقي هنا سيتمثل في صراع الفلاحين مع الإقطاع، إلا أنه
وعلى العكس يُعرض من خلال صراع العمال مع طلبة مالك المعصرة.
نلحظ بوضوح أن العمال الذين اكتسبوا قوة مع الثورة فباتت حقوقهم
ومطالبهم مؤثرة، فقدوا تأثيرهم بعد ذلك، بات كل ما يملكوه هو هتاف
عابر لا يتخطى حدود حناجرهم. ذلك الحراك الذي بدا صلبا وصعب المراس
في “الأرض” يصبح هنا مستأنسًا.
يستخدم شاهين الفلاش باك ليعطينا لمحات عن ذلك الصراع في الماضي
وقت وجود علي، نلحظ بوضوح أن الطبقة العاملة كانت أكثر حيوية
وتأثيرا، لكن بعد الهزيمة، بات حراكا شكلانيا، لم ينجح العمال في
انتزاع أي من حقوقهم، فصل طلبة للعمال لم يلق أي مقاومة، حتى بعد
رفضه منحهم المكافأة الخاصة بنهاية الخدمة، وهي ما تقره وزارة
القوى العاملة كما لوح حسونه، لكن وزارة القوة العاملة، والاإضراب،
وتلك الأدوات التي كانت تمنح الحراك العمالي ثقله، لم تظهر في
الفيلم سوى كأشباح ميته.
الفكرة المجازية التي عرضها شاهين في نهاية “الأرض” عن انتهاء زمن
البطل المخلص، تعود ويؤكد عليها مرة أخرى في عودة الابن الضال،
الفيلم الذي أنتج بعد ثلاثة أعوام من أكتوبر، ظل الناس في ميت
شابورة، منتظرين عودة علي كبطل مخلص، يضعون عليه أحلامهم وآمالهم
في مواجهة طلبة، إلا أنهم فوجئوا بعلي الذي كسرته الهزيمة يتحول
لأحد أدوات طلبة؛ في أحد المشاهد طلبة يسأل فاطمة “هو ده البني آدم
الي استنتيه 12 سنة؟” تجيبه: “بصراحة لأ، لكن..” يقاطعها: “لكن انك
تحلمي بيه بقت عادة، داء.”
الأمر لا يتوقف عن شعور فاطمة بالخذلان من النسخة المدجنة
والمهزومة من علي بل تطال أهل البلد بأكملهم، يوضح شاهين ذلك من
خلال مفارقة داخل أحداث الفيلم، بعد عودة علي من المعتقل يجتمع أهل
البلد ليلتقوا به بعد أقل من ساعة واحدة من وصوله، وبعد خيبة أملهم
في الرجل الذي انتظروا عودته طويلا، عندما يحين زفاف علي الذي وصلت
دعواته لأهل البلد جميعا لم يحضر منهم أحد، لأن علي الذي انتظروه
في صورة المخلص عاد يجر ذيول الخيبة، إنه تأكيد أخير ونهائي حتى
بعد النصر المفترض على نهاية فكرة البطل المخلص، وأن الهزيمة
الحقيقية تمت بفعل تهميش طبقة باكلمها كان يقع عليها عبء النضال
كحاضن للثورة، بمعنى آخر: فإن الهزيمة التي سبقت نكسة يونيو استمرت
حتى بعد انتصار أكتوبر.
ما يمكن اعتباره أحد أهم ما عرضه شاهين في عودة الابن الضال، هو
انتهاء الصراع الطبقي التقليدي الذي يحفظ توازن النظام الاجتماعي،
وذلك من خلال القضاء على شروطه، فليس ثمة طبقات في المجتمع، لقد تم
تصفيتها تماما، فالأجيال التي سبقت الثورة وعاصرتها حتى الهزيمة،
لم تعد صالحة للاستمرار، لذا ينتهي الفيلم بالأجيال القديمة في قلب
صراع صفري، ليتحرك الجيل الجديد مخففًا من أعبائها وأثقالها نحو
مستقبل يتمنى شاهين أن يكون مشرقا من خلال تحركهم نحو الشمس، وهو
يؤكد على ضرورة امتلاك هذا الجيل للمجال العام لأن “الشارع لنا” أو
لابد وأن يكون يومًا ما.
العائلة:
العائلة البرجوازية من السلطة الأبوية لسلطة الدولة
يعرض شاهين في الاختيار نوعين من العائلة، العائلة البرجوازية التي
تربط بين أفرادها رابطة الدم والمصالح المشتركة، وهي محضن أولي
لإنتاج السلطة وإعادة توليدها، وللمفارقة فأفراد هذه العائلة لا
تتاح لهم حرية الانتماء للعائلة، في المقابل يطرح شاهين فكرة عن
العائلة التي تتكون من مجموعة من الأفراد العاملين بشكل طوعي،
تجمعهم رؤية واحدة، بلا مركزية أو سلطة، رغبة عارمة في الحرية
وإحساس عام بالمصير المشترك.
يسلط شاهين الضوء من البداية على كيفية تكون نواة العائلة
البرجوازية من خلال زواج سيد وشريفة، فهو يختارها ليس لأنه يحبها
بل لأن ذلك يسهل له طموحه في الترقي الطبقي، أي أن العائلة تتشكل
بالأساس وفق مصالح طبقية لا قيم مجردة كالحب، وهو ما تشير إليه
شريفة: “يحبوا بالأمر يتجوزا بالمركز المهم”، لم يكتف سيد بتحويل
زوجته إلى تذكرة عبور للطبقة البرجوازية بل حولها لسلم للترقي
داخله أيضا واستنزفها في توطئة علاقاته داخل ذلك الوسط، “ومن وقت
للتاني ألعبلي برتيتة بريدج مع ناس مبحبهمش، معرفهمش، لكن مهمين،
مدام فلان ومدام علان، كل واحدة أوحش من التانية”.
يحاول شاهين نزع القداسة عن فكرة العائلة عن طريق تفكيكها
وتعريتها، إذا كانت العائلة البرجوازية تدعي أنها تسعى لمراكمة
الثروة لا من أجل حاجة مادية رخيصة إنما من أجل هدف أسمى هو الحفاظ
على العائلة وعلى أفرادها، وتقدم نفسها باعتبارها راعيًا للأخلاق،
فإن شاهين من خلال ذلك التفكيك يعرض كيف أن العائلة بالنسبة لهذة
الطبقة ليست أكثر من استثمار برجوازي جديد.
يتكرر ذلك مجددا في فيلم العصفور من الطريقة التي يتعامل بها فؤاد
فتح الباب مع ابنه يوسف، ومحاولته أن يثنيه عن عمله كصحفي، فهو يرى
أنه كأب يعرف مصلحته بشكل أفضل، وأنه يجب عليه ترك الصحافة للعمل
في البيزنس، صحيح أن يوسف يتمرد على ذلك، لكن آفة العائلة
البرجوازية في تخيلها امتلاك حياة أبنائها لمجرد انتمائهم
البيولوجي لها هو إحدى الآفات التي لا تنتهي بتمرد فرد واحد.
لذا يعود ويؤكد في “عودة الابن الضال” على أن العائلة آفة يجب
التخلص منها، من خلال عرض محاولة طلبة امتلاك حياة ابنه إبراهيم،
الذي هو شاب حالم يطمح في دراسة علم الفضاء والحياة في عالم مختلف
بلا صراع أو سلطة أبوية تتحكم في مصيره، يتمنى الصعود إلى القمر،
ويضع صورة له في غرفته، يقول عنه جده في أحد المشاهد “لو سألنا
مجنون مين هو المجنون: اللي عايز يمشي مع التيار ولا اللي عايز
يعلم بصماته على القمر، لا أنا ولا انت قدرنا نعلم برجلينا ولا حتى
نخربشها على وش الأرض، لكن إبراهيم مش ماسك عصاية، بينه وبين القمر
باسبور”؛ لكن طلبة يرفض منح إبراهيم الباسبور، يقف عائقًا بين
المستقبل والحرية التي يطمح لهما إبراهيم، ويتعامل معه كملكية
استثمر فيها من أمواله ويجب أن يحصد نتيجة ذلك الاستثمار، فيحاول
إجباره على دراسة الطب البيطري: “الزريبة الي عندنا هنوسعها
ونخليها قد دلوقتي أربع مرات، غير السيما والمعصرة وانت الي هتمسك
ده كله، ثم إن دي رغبتي، يعني لازم تبقى رغبتك أنت كمان”.
العائلة البديلة كمحاولة للخلاص
في مقابل العائلة التي تتعامل مع أبنائها كممتلكاتها، يطرح شاهين
مفهومًا مغايرًا عن العائلة التي رغم اقتسامها الظل وتشاركها
الهامش، إلا أنها تختار بناء روابطها الخاصة على الحرية والحب
والمرح، ويقدم ثلاثة نماذج لتلك العائلة البديلة في أفلامه
“الاختيار والعصفور وعودة الابن الضال”.
من خلال العائلة التي تجتمع في بيت بهية في “الاختيار”، يقدم شاهين
تصورًا معاكسًا للتصور البرجوازي، فهي عائلة بديلة لا تجمعهم روابط
الدم أو الزواج، بل الرغبة في الحرية والمتعة، دون أي مصلحة نفعية
أو بناء سلطوي، ولا تتمركز السلطة في هذة العائلة في أحد أفرادها؛
يستمر تأكيد شاهين على أنها عائلة بالمفهوم المعنوي، أي انها تحتوي
أفرادها دون أن تقيدهم أو تلزمهم تجاهها بشىء، يفتح أحد أفراد
العائلة الباب في أحد المشاهد، تسألها بهية عن الضيف فتخبرها: “ده
أستاذ سيد بيسأل عن “أبيه” محمود”، وعندما يسأل المحقق بهية عن
قدوم محمود لمنزلها تجيبه:
”
آه طبعا، مش احنا العائلة”.
ثم يوضح محمود في مشهد لاحق الروابط البديلة التي أسست عليها هذه
العائلة غير النمطية شراكتها، الحقيقة والحرية والحب: “الحقيقة هي
الإخلاص مع النفس أولا”، “الحرية إنك تكون عبد للحقيقة بس”، “الحب
هو العطاء”.
عائلة مشابهة نلحظ وجودها في “العصفور” وفي بيت امرأة تدعى بهية هي
الأخرى، هذه العائلة تتكون من بهية وابنتها، والصحفي يوسف والضابط
رءوف المتمرد على مهنته وعائلته، والشيخ أحمد؛ يركز شاهين على
طبيعة الأسرة غير الرسمية التي تتشكل في بيت بهية، فهي أسرة سعيدة
وحرة وراقصة رغم الصعوبات المادية، يظهر ذلك من خلال أجسادهم الحرة
المتمايلة التي ترقص على أنغام الحرية في “مصر يا اما يا بهية”.
يقطع شاهين من هذا المشهد السعيد لمشهد يتذكره رءوف عن أسرته
القديمة، تلك الأسرة التي ينتمي إليها بيولوجيًا، ــ دون ارادة منه
او وعي ــ إنها لحظة تفكك هذه الأسرة، بعد معرفته أن زوج أمه
“اللواء إسماعيل” هو والده الحقيقي وليس الشاعر المتوفي جابر زيدان
الذي يحمل اسمه، لحظة تعرية ومكاشفة أخرى للعائلة والطبقة
البرجوازية التي يدعي أفرادها أنهم حراس الأخلاق والفضيلة، نكتشف
ان اسماعيل كان على علاقة بزوجة أحد أصدقائه: “جابر زيدان”، بل
وأنجب منها طفلًا كبر وهو يحمل اسم رجل آخر خوفًا من الفضيحة، فلا
هم امتلكوا جرأة المواجهة ولا فضيلة المكاشفة.
هذا الموقف يمكن وضعه في مقابل موقف محمود الذي ينتمي للطبقة
العاملة، ويرفض التورط في علاقة مع زوجة أخية رغم حبه لها، يعود
شاهين ليؤكد على فكرة العائلة البديلة التي تتشارك حرية انتماء
أفرادها اليها، عندما يؤكد رءوف أن “جابر أبويا وهيفضل أبويا”، وهو
تأكيد على أن الصلة البيولوجية رابطة عديمة القيمة والأهمية،
والوعي والإرادة والحرية أكثر قدسية.
يعرض شاهين التناقض بين أسرتي طلبة وحسونة، رغم امتلاك الأول المال
والنفوذ فإن شبقه للسلطة يتجاوز حدود امتلاك الأشياء المادية
لامتلاك روح إبراهيم ومستقبله وأحلامه ومصيره، فهو لن يجد أي
معاناة مادية في إرساله إلى الخارج لتحقيق حلمه في دراسة الفضاء،
إلا أنه يرفض، لأنه يفكر فيه كأحد مصادره لمراكمة المزيد من الثروة.
بينما أسرة حسونة رغم فقرها، ورغم أنها تعمل لدى طلبة نفسه، إلا
أنهم أكثر حرية وانفتاحًا في تعاملهم مع ابنتهم، بل إنهم يجعلون
حاضرهم رهن مستقبلها لا العكس، فوالدتها تعرض عليها أن تبيع ما
تملكه من ذهب ونصف البيت الذي تملكه في الأنفوشي وحتى الاستدانة من
أحد أقاربها، حتى تنجح في السفر مع إبراهيم، وتحافظ على علاقته
بها؛ حاول شاهين أن يظهر تلك العائلة العاملة في صورة غير تقليدية
تميزها عن التصورات السائدة عن العائلة، ليوضح الفارق بين أسرة
تمتلك أرواح أفرادها وتنظر إليهم كممتلكات تدر ربحًا، وبين أسرة
تحاول التكيف مع رغبات أفرادها، ليس بوصفهم فقط أبناءها بل
باعتبارهم رمزية دائمة عن المستقبل والأفق الذي ربما يحمل في طياته
حياة أفضل.
لا يقف الأمر على تعامل طلبة السلطوي مع إبراهيم، بل يتعداه ليصل
إلى فاطمة ابنة خالته وأخت زوجته المتوفاة أيضًا، فاطمة تلقى
التهميش والظلم وتعاني من السلطوية ذاتها لكن هذة المرة ليس من
طلبة وحدة بل من الأم التي يفترض أنها خالتها، تهتم الأم بالحفاظ
على فاطمة داخل إطار العائلة وقيودها، لأنها هي الوسيلة للحفاظ على
أموالها داخل نطاق ملكية العائلة؛ من أجل ذلك تحاول تزويجها من
طلبة وعندما تفشل في إقناعها بذلك، تحاول أن تقنعها بأخيه، قيود
فاطمة تدفعها للانتحار كحل أخير ونهائي للخلاص من سلطة تمنع عنها
أموالها وحبها وحريتها، وهو ما يدفع حسونة للخوف من ارتباط ابنته
بتلك العائلة “أنا عايز أحمي بنتي من العيلة الي بتاكل في نفسها دي”.
الجنس:
يُعتبر الجنس أحد أكثر الأمور الإنسانية جدلًا وإشكالية في
المجتمعات العربية، فهو أكثر ما طاله التواطؤ المشترك بالصمت في
تاريخ البشرية، الجميع يدور في فلك الجنس ممارسًا أو متطلعًا،
الجميع يعلم ذلك ضمنيًا، لكن الجميع أيضًا يخشى مناقشة أو فتح حوار
عن الأمر، خصوصًا في عالمنا العربي؛ ولأن الجنس أحد الأمور الحيوية
في حياة الإنسان، ومع أن ذلك يكفي جدًا لأن يكون جزءًا من الدراما
على الشاشة، لكن مع شاهين الجنس له حضور مختلف وأكثر صخبًا، فهو
يحمل وزنًا دراميًا يجعل من الصعب معه فهم ما يدور من أحداث دون
الوعي بالدلالات الجنسية، الجنس يأتي شارحًا للشخصيات ومفككًا
للطبقات أحيانًا.
يفرق شاهين بين الحب والجنس، فالأول شرطه فقدان القصدية ودليله
العطاء، والآخر دافعه الرغبة، وهي لا تقف عند حدود رغبة إطفاء شهوة
الجنس، بل قد تتعداها لإرضاء شبق السلطة، والرغبة في الامتلاك؛ في
فيلم “الاختيار” يظهر محمود وسط أصدقائه من السكارى ويسأل عن
الحرية والحقيقة والبحر والحب، يجيب هو بشكل قاطع عن الأسئلة
الثلاثة الأولى ــ رغم أنهم أكثر إشكالية ــ لكنه يستعين بآراء
أخرى مختلفة لبهية وميري بخصوص الحب، ليس للحب إذًا تعريف سكوني
يمكن صكه والعودة إليه، الحب يحمل خصوصيته مع كل فرد يمر بتجربته
الخاصة؛ رغم حرص شاهين على هذا المعنى، إلا أنه كان حريصًا على
التفريق بينه وبين الرغبة، يرى شاهين أن ما يتحدث عنه الناس كثيرًا
باعتباره حبًا، ليس سوى قناع للرغبة الجنسية أو المصلحة المادية،
لذا هو يرى أنه لا يمكن اختبار الحب فعلًا سوى بعد انقضاء الرغبة،
بحيث “لوفيه تفاهم يبقى تفاهم حقيقي، لو فيه عطف يبقى عطف حقيقي”.
«يا
ناس يا مكبوته».. الكبت من السياسة إلى الجنس
حملت أفلام شاهين بعد هزيمة يونيو مجازا واضحًا عن الكبت السياسي
الذي يعانيه المجتمع المصري، معبرًا عنه من خلال الكبت الجنسي، في
أحد مشاهد “الأرض” نرى محمد أفندي ينادي على أخيه دياب، بينما
الأخير مشغول بمحاولة مضاجعة حماره، يعنفه محمد أفندي: “الحمار ده
للركوب بس”؛ هذا المشهد الذي يعبر عن كبت دياب الجنسي وحرمانه من
أبسط حقوقه، ليس فقط في ممارسة الجنس، بل حتى في الأمل في إمكانية
إقامة علاقة مع أنثى بأي شكل.
تم تقديم دياب كواحد من أكثر شخصيات “الأرض” بؤسًا، ملامحة فظة
ويفتقد أغلب المميزات الاجتماعية، ولم ينل تعليمًا يمنحه بعض
الوجاهة، ما يجعله يعيش حياته في ظل أخيه “الأفندي” الذي يكتسب
حضورًا بين أهل القرية بسبب تعليمه؛ يفتقد دياب كل وسائل الحضور
الاجتماعي بفعل السلطة، فالحياة البائسة التي يحياها والتي لم يعد
بها حتى الأمل أو التطلع الحالم لحياة أفضل، هي بفعل السلطة التي
همشت تلك القرية وكل من على شاكلة دياب الذين لم يعد أمامهم سوى
مضاجعة الدواب!
في “الاختيار” نعاين صورة أخرى للكبت الجنسي، لا تكون للظروف
المادية أي دخل فيها، شريفة سيدة المجتمع التي تنتمي للطبقة
البرجوازية، تعاني الكبت ذاته رغم أنها متزوجة من كاتب روائي
ومسرحي ذائع الصيت ــ سيد.
يركز شاهين في أكثر من لقطة على الحرمان الجنسي الذي تعانيه شريفة،
من خلال عينيها اللتين تلاحقان الجزء الخالي من السرير دائمًا،
الجزء الدي كان من المفترض ان يملأه سيد، فيما يشير محمود في مشهد
آخر لانشغال سيد بطموحه وترقيه الطبقي، لدرجة تجعل الحياة
باحتياجاتها البسيطة والأولية كالجنس غير مهمة؛ ليس هناك أفضل من
وصف شريفة ذاتها لسيد: “زوج مثالي مواعيد مظبوطة، في أكتر من
مناسبة بيبعت ورد، دايما الكلمة الحلوة، دايمًا مهذب، ده مهذب بشكل
زي مبيكتبوا في مجلة حواء حقهم يدوله الجايزة الاولى”، هذه صفات
يمكن أن تصف بها زميلًا في العمل أو صديق دراسة، لكن لا يمكن أن
تكون رؤية زوجة لزوجها، إنه وصف يمتلئ بالإشارات للفتور الجنسي
بينهما، خصوصًا أنها تسرده في اللحظة التي توشك فيها على ممارسة
الجنس مع محمود.
في مشهد آخر، ترتدي شريفة قميص نوم مثيرا وتتعطر وتتهيأ في السرير
لممارسة الجنس، لكن زوجها غير عابئ سوى بمصالحه، فبعد أن اطمأن أن
والدها قام بمكالمة الوزير ليتمكن من حضور أحد المؤتمرات في
الخارج، يتهرب من رغبتها الجنسية، “مش قولنا بلاش آخر كاس ده”، ثم
يترك الفراش، سيد غير آبه بالجنس لأنه منهمك في مضاجعة طموحه
وأحلامه البرجوازية، التي تحل هنا محل حمار دياب، الفارق أن دياب
يفعل ذلك مرغمًا.
في “عودة الابن الضال” تصبح شخصية فاطمة امتدادًا لشريفة، لكن هذه
المرة ليس بفعل الطموح البرجوازي الفردي لزوجها سيد، إنما يكون
كبتها الجنسي نتيجة تضافر السلطة والبرجوازية معًا، فهي تتحول إلى
مسجونة داخل معتقل كبير، نكتشف أن علي الذي تنتظره فاطمة مغيب في
المعتقل ظلمًا بفعل الفساد السياسي، وبعد خروجه يعاني من الهزيمة
التي لحقت به داخل المعتقل، تتبدل ملامحه، ويتحول الذي انتظرته
فاطمة اثنى عشر عاما لنسخة أقل قسوة من طلبة الذى تكرهه، لذا تصبح
مرغمة على استبداله بوسادة بين فخذيها لتداعب ذاتها حتى تشبع توقها
الطبيعي للجنس.
ليس أكثر وضوحًا ودلالة على انتهاكات السلطة لأرواح البشر
وأجسادهم، من ذلك التحول الذي حدث لعلي والذي على إثره عانت فاطمة
من كبتها الجنسي، أي أن السلطة ورغبة العائلة البرجوازية في الحفاظ
على الارث سبب مباشر لحرمانها الذي تلجأ فيه يائسة للوسادة، في
مشهد لا يختلف كثيرًا عمّا كان يفعله دياب، وكأن الكبت الجنسي
انعكاس للكبت السياسي وانعدام الحرية، دائرة تحوم حول المجتمع
لتزيده انغلاقًا وانكفاءً على ذاته.
الحرية من الجسد والذات إلى الفضاء العام
لم يستخدم شاهين الجنس ليعرض من خلاله الكبت الذي يسم المجتمع بفعل
السلطة فقط، بل يستخدمه أيضًا لتشريح الطبقات الاجتماعية، ويعرضها
من خلاله، يقول شاهين: “الجنس داخل العائلة البرجوازية فاسد ومريض
جدًا بينما في الطبقة العاملة صحي وممتع”.
في فيلم “الأرض”عندما ينهمك الجميع في الصراع الطبقي، شخصية واحدة
فقط تتجاهل الصراع وتعيش على هامشه، إنها “خضرة” التي لا تمتلك
أرضًا تدافع عنها ولا عائلة تنتمي إليها، أرادها شاهين تمثيلا عن
الجنس الذي يطمح الجميع إليه ــ من خلال تطلع كل شباب القرية
للارتباط بوصيفة ــ لكنهم يشعرون بالاضطراب تجاهه، يشتهونه ويشعرون
بالعار والخوف عند ممارسته أو الحديث عنه، خضرة أكثر شخصية حرة في
الفيلم غير مثقلة بأي قيود أو ملتزمة تجاه صراع ما، أغلب مشاهدها
القليلة في الفيلم تأتي كروح حرة وخفيفة، إنها تستمتع بالشىء
الوحيد الذي تملكه، وهو جسدها.
تظهر خضرة في أغلب المشاهد متمايلة تدندن بعض المقطوعات التي
تحفظها، يطردها أبو سويلم من منزله بعد ارتفاع أصوات ضحكاتها،
وتتآمر عليها السلطة التي لا تطيق أن يكون ثمه شخص خارج صراعها،
يدفع العمدة أحد المجاذيب للخلاص منها، فيقتلها بعد أن يغتصبها؛
وليس ثمة دلالة أوضح على انتهاك السلطة من مشهد تجلس فيه على
“الترعه” عارية الجسد مدندنة بما تحفظه، متخلصة من كل أثقال
الملكية، غير عابئة بالصراع الذي يخيم على القرية، فيطولها الصراع
ويقطع بقسوته سكينتها وحياتها المفعمة بالبهجة رغم فقرها.
بعد أن يكتشف أهل القرية جثتها ينكرونها، نكران الجزء الأرضي الدنس
الذين يشتهونه في كل لحظة وينقمون عليه في اللحظة التي يفرغون فيها
منه، إنها الازدواجية المدمرة للمجتمع الذي ينبذ خضرة حتى بعد
وفاتها، يرفض أهل القرية أن تدفن في مقابرهم، يستكثر المجتمع أن
يضمها باطن الأرض بعد أن نبذوها فوقها، فقط لأنها أدركت منذ
البداية انتماء جسدها لتلك الأرض بحاجاته ورغباته.
في فيلم الاختيار لا تخلو حياة العائلة البديلة في بيت “بهية” من
الأجساد الراقصة أو المشاهد الجنسية، إنه تذكير باحتفاء تلك الطبقة
بالحياة رغم فقرهم، وقدرتهم على التصالح مع أجسادهم ورغباتهم، ما
نراه في العصفور أيضًا، من خلال مساحة الحرية التي تتركها بهية
لابنتها فاطمة، بدءًا من الملابس المتحررة التي ترتديها وحتى
تعاملها مع الجنس الآخر.
هذه الطبقة بكل أفرادها تتصالح مع الجنس، حتى الشيخ أحمد الذي لا
تفارقه العمامة الأزهرية يهرع لبيت محبوبته ليمارس الجنس أيضًا،
لكنه يذكرنا دومًا أن تلك الحرية والانطلاق والحياة الصحية تأتي
تحت القيود التي يفرضها المجتمع والسلطة، في أحد مشاهد العصفور
يخبر أحد الأشخاص رءوف ــ عندما كان ينظر لامرأة في الصعيد باشتهاء
ــ “نظرة زي دي ضيعت عشرين راجل”.
يتكرر الأمر نفسه في “عودة الابن الضال”، فأسرة حسونة تمنح ابنتهم
تفيدة الحرية ذاتها، يصحبها إبراهيم لأعلى منزل حسونة، في لقطة
يكتشفان فيها جسديمها ويقتنصان قبلتهما الأولى، يشير شاهين هنا إلى
انعدام الثقافة الجنسية في المجتمع، فتصبح السينما هي الوسيلة
الوحيدة لمعرفة الإنسان بجسده وفهمه لرغباته، يقول إبراهيم لتفيدة:
“أصول البوس كدة، مبتشوفيش أفلام؟”.
عندما يغضب حسونة من بداية العلاقة بين إبراهيم وابنته، تذكره
زوجته أن على السطح ذاته بدأت علاقتهما، فهي تستنكر تلك الازدواجية
التي هي في صميم المجتمع أيضًا، إنهم أكثر تماسكا واتساقًا مع
ذواتهم وأكثر احترامًا وتفهما لرغباتهم، والأهم هي الطريقة التي
تدخل بها شاهين في ذلك المشهد من خلال اعتماده على الإضاءة
الطبيعية ونور الشمس الذي أحاط إبراهيم وتفيدة كما أحاط حسونة
وزوجته.
في مقابل الجنس الصحي والممتع عند الطبقة العاملة، نلحظ أن شاهين
يفضل التعبير عن “عفونة” الجنس في الطبقة البرجوازية من خلال عرضه
بالطريقة ذاتها، الاشتهاء المبطن بالشعور بالعار والدنس، لذا لا
تظهر أي مشاهد جنسية لأحد المنتمين للطبقة البرجوازية في “الأرض”
و”العصفور”، بينما في الاختيار لا يظهر الجنس إنما النقيض، حالة
الفتور الجنسي التي أصيب بها سيد في رحلة ترقيه الطبقي، «سيد عمره
ما لمس إيد بنت، طول عمره بيحزق عشان يبقى حاجة، اتجوز بالعافية
وخلف برده بالعافية”، انهمك سيد في مضاجعة طموحه الطبقي فخيم
البرود على حياته الجنسية مع شريفة، ولاحقت الكاميرا هروبه الدائم
من اللحظات الحميمية».
يظل شاهين متمسكًا بحجب مشاهد الطبقة البرجوازية أثناء ممارسة
الجنس في تلك الرباعية، ويكتفي بعرض ازدواجيتهم بين الشبق الجنسي
والشعور بدناءته، أما في “عودة الابن الضال” لا يحضر الجنس بين
تفيدة وإبراهيم بوصفه أحد المنتمين للطبقة البرجوازية بل أحد
المتمردين عليها والراغبين في مفارقتها، لذا يكون الجنس أحد طرق
عبوره للآخر ومفارقته للآني.
يستكمل شاهين مفهومه عن الجنس في الطبقة البرجوازية بشكل أكثر
وضوحا واكتمالا عندما نعرف أن طلبة اغتصب فاطمة بعد أن عجز عن
إيقاعها في حبه، السلطة البرجوازية لا تقبل بالرفض، لذا هو يرى أنه
ليس لفاطمة حرية الاختيار من البداية، تتشارك السلطة والطبقة
البرجوازية الرغبة في انتهاك جسد الإنسان وتحويله لملكية أيضًا.
يتضح ذلك من خلال حوار طلبة مع فاطمة، عندما يقتحم غرفتها فتقاومه
وتهدده بقتله، “طب وحياة ربنا أنا أموت في كدة، نمرة متوحشة، بنت
كاوبوي”، نفهم أن طلبة ليس راغبُا في الجنس ذاته، بل في إثبات
قدرته الدائمة على الامتلاك مهما بدا صعبًا ومكلفًا، فكلما زادت
مقاومة فاطمة كلما زادت رغبته فيها، إنه يحاول أن يثبت أن من حقه
استباحة كل شىء، تعلق قلب فاطمة بأخيه علي يجعله يشعر بنقصه وضعفه،
لذا يصر على إخضاع جسدها وانتهاكه.
يعكس شاهين من خلال شخصية طلبة مجددًا ازدواجية المجتمع فيما يتعلق
بالجنس، يقول لعلي «عندك البنت المتيمة، بنت حسونة أهي تسلية لحد
ما نلاقيلك العروسة»، لا مانع لدى طلبة أن يمارس ابنه الجنس خارج
الزواج، لكنه يمانع أن تصبح تلك المرأة التي مارس معها الجنس
زوجته، لا مانع أن “يتسلى” مع تفيدة طالما أنها تنتمي لطبقة
اجتماعية ينتهكها طلبة بكل الأشكال الممكنة.
في مشهد آخر عندما تشتبك معه “تفيدة” على إثر إصابة أبيها في
المصنع، يقول “جرى إيه يا إبراهيم مش عارف تكيفها ولا إيه”، هنا
امتداد لرؤية طلبة للجنس بوصفه مجالًا لإثبات الفحولة والتفوق
الذكوري، يُظهر شاهين أن المجتمع الذي يحمل كل تلك الأمراض
والتناقضات، ينقاد لرغباته ثم يلعنها، مجتمع غير صحي وغير سعيد
ولابد له أن ينفجر كما حدث في المشهد الأخير، بينما تنجو أسرة
حسونة وإبراهيم وتفيدة بحياتهم الصحية السعيدة.
المكان:
منذ اللحظة التي فتح شاهين فيها عينيه في مدينته الأثيرة
“إسكندرية”، جمعته بالبحر علاقة وطيدة كمجاز دائم عن الأفق المتسع
بالأحلام والخيال، ظل المكان جزءًا من ذات شاهين وهويته حتى انتقل
إلى سينماه، وظلت المدينة معبرًا عن هواجسه وملجأ آمنًا يهرع إليه
من الهزيمة كطفل يتشبث برحم أمه؛ لا يمكن إغفال أثر المدينة عند
شاهين، فقد احتلت قلب الحكاية في رباعيته الذاتية، وحملت اسمها
ثلاثة منها، كما ارتبط المكان بكثير من عناوين أفلامه، فمن أصل
خمسة وثلاثين فيلمًا روائيًا طويلًا، حملت عشرة منها عناوين لأماكن
مختلفة مثل ابن النيل، صراع في الوادي، صراع في الميناء، الناس
والنيل، الأرض، وباب الحديد؛ يمكن من تتبع أفلام شاهين بشكل عام
رؤية تأثير المدينة سواء حضورها أو غيابها على ذاته وحتى على
مسيرته الفنية وعلى مسيرة أبطاله أيضا.
تتجاوز الأماكن في سينما شاهين كونها مسرحًا للأحداث أو مجرد خلفية
صماء للكادر، بل هي دوما جزء مما يحدث في الواقع وجزء مما يُحكى
على الشاشة، فالمكان دائمًا يُلقي بظلاله على الشخصيات معبرا عن
أزماتها وهواجسها، شاهين لا يخلق الشخصيات ثم يبحث لها عن أماكن
تنتمي إليها، بل المكان هو ما ينسج حكاياته رويدًا رويدًا خالقًا
شخصياته، لتبقى دومًا مرتبطة به، وكأن ثمة سلاسل تشد الإنسان لذلك
المكان في انتمائه وتمرده على السواء، شاهين لا يخلق الشخصيات، إنه
يتخيل المكان ثم يدعه يخلقهم، ويشكل وعيهم وذاتهم وأناهم.
من المكان تولد الحكاية، لأن شاهين كان مهمومًا بواقعه على مدار
حياته، وهذا الواقع بحلوه ومره يحدث داخل نطاق مكاني، وهذا ما يجعل
شخصياته إشكالية في أغلبها، إنها لا تتطابق مع شخصيات حقيقية يمكنك
أن تصادفها في الشارع، لكنها على الرغم من ذلك تطابق الواقع الذي
تصطدم به يوميًا، لقد كان شاهين مشغولًا على الدوام بملامسة ذلك
الواقع وتتبع آثاره ومعاينة نتائجه، وأحيانًا طرح أفكار غير مكتملة
عن تغييره وإعادة تشكيله.
في الرباعية ما بعد الهزيمة اقتصر حضور الأماكن على أربعة حتى لو
تعددت مظاهرها، في الأرض الحضور الغالب للقرية مع ظهور عارض
للقاهرة، في الاختيار حضور كثيف للقاهرة مع ظهور عارض للإسكندرية،
في العصفور حضور متوازن بين القرية في الصعيد والقاهرة، وفي عودة
الابن الضال حضور كثيف للقرية وظهور عابر للقاهرة، وحضور معنوي
ورمزي للإسكندرية.
المكان في الرباعية إذًا ثلاثة أماكن يتنقل بينها، القرية/الريف،
وهو مجاز عن التهميش والمسرح الذي يظهر فيه كل الظلم الاجتماعي
والفساد السياسي، ولأنه مكان مهمل ومهمش بعيد عن مركزية العاصمة
ونخبتها المثقفة فهو يعطيه الأولوية والتركيز في الأفلام الأربعة،
لأنه يعكس صورة مكثفة عن الفساد والفوارق الطبقية، أي أن الهزيمة
تتجلى فيه أولا، بينما القاهرة هي المدينة الضاغطة لسكانها
والعاصمة التي يتمركز فيها الفساد السياسي والاجتماعي، هي مصدر
الشر في “الأرض” ومحرك الفساد في “العصفور” ومصدر الهزيمة في “عودة
الابن الضال”، أما الإسكندرية فهي طوبيا شاهين، مرادف الحرية
والخيال والشعور المطلق بالأمان، ومهرب من كل ذلك الفساد والظلم
ومجاز عن الحلم بالتغيير.
الأرض:
تبدأ علاقة المكان/ القرية في الفيلم بداية من الاسم الذي قرر أن
يسميه شاهين الأرض، لتصبح تلك القرية المجهولة هي إحدى شخصيات
الفيلم الرئيسية، ومجازا عن الأرض التي سلبت قبل عام واحد من إنتاج
الفيلم، نحن نرى الارتباط الشاعري بين شخصيات الفيلم والأرض، في
علاقة ممتدة، فهي المكان الذي ينتمون إليه، تمدهم بالحياة والقيمة
فيمدونها بالرعاية كطفل صغير، يقبض أبوسويلم في أحد مشاهد الفيلم
على حفنة من تراب الأرض وكأنها جزء ملتصق به، وعندما تعرض إحدى
الشخصيات على عبدالهادي أن يبيع أرضه ويستغل أموالها في التجارة،
ينهره، فلا قيمة للإنسان إذا فقد اتصاله بتلك الأرض. في افتتاحية
الفيلم يخبرنا الشيخ إسماعيل “دول فلاحين من أهل البلد، اللي سابوا
الفلاحة وراحوا على مصر منفعوش هناك، جحدوا الأرض فجحدتهم”.
يلقي شاهين الضوء في بعض المشاهد على تفاصيل بيوت الفلاحين من
الداخل بجدرانها الطينية وتصميمها البسيط والبائس في الآن نفسه،
تميزت البيوت في الفيلم بأنها جزء ممتد من الأرض، فالأبواب مفتوحة
دومًا وتمكن الفلاح من رؤية أرضه وهو داخل المنزل والعكس، حتى أن
أغلب البيوت تتسم بمقاعد للراحة أمامها، في رغبة للتواصل العميق
والمتواصل مع الأرض، يصبح البيت غير مقيد لا يحد الإنسان عن
التواصل مع الفضاء الواسع الذي يظهر كأفق دائم من بيوت الفلاحين.
تصميم بيوت الفلاحين بهذا الشكل المفتوح دائمًا على الطبيعة، يؤكد
على العلاقة الحميمة بين الفلاحين وبيئتهم، وهو ما يفسر ويعمق
الأبعاد النضالية لهؤلاء الفلاحين للحفاظ على الأرض.
يختار شاهين تلك القرية المجهولة التي تدور فيها الأحداث بعناية،
فهي ترتبط برؤيته عن الهزيمة، والهزيمة كما أوضحنا عند شاهين أوسع
بكثير من الهزيمة العسكرية، الهزيمة هي فقدان تلك الأرض للرعاية
وفقدان فلاحيها القيمة والكرامة على أيدي الفساد السياسي والاقطاع،
ثم يعرض تلك الهزيمة من خلال العلاقة المجازية بين القاهرة/ لمدينة
وبين تلك القرية، فقرار ترشيد الري وتقليل دورته من 10 إلى خمسة
أيام يأتي من البندر، كذلك قرار إنشاء السكة الزراعية التي ستبتلع
أرض الفلاحين لصالح الباشا الإقطاعي يصدر من القاهرة، هذان
القراران يتسببان في فقدان الأرض وهزيمة الشخصيات في الفيلم، أي أن
القاهرة كانت مصدر الشر الذي يقطع حياة القرية المتناغمة، والمكان
الذي يتعرض فيه محمد أفندي القادم من القرية للإهانة على أيدي
السلطة، وتفريغ محتويات حقيبته على قارعة الطريق.
الاختيار:
على الرغم من أغلب أحداث الفيلم تقع في القاهرة، فإن الإسكندرية
كان لها حضور مهم في تأكيد هوية الشخصيات وطبيعة كل منها، يظهر
الاختلاف بين محمود وسيد، من خلال خفة الأول وثقل الثاني، محمود
الذي لا يتعامل مع الحياة بجدية ويختبرها من خلال المزاح الدائم
على عكس سيد الذي تغلب عليه الرسمية، يؤكد شاهين على المعنى من أدق
تفاصيل الشخصيتين، من خلال ارتباط محمود بالإسكندرية المدينة الحرة
وارتباط سيد بالعاصمة، “البحر آخر ملاذ من حمورية الناس”، هكذا يصف
محمود بحر الإسكندرية.
ثم يعود شاهين ويفصل في رؤيته للقاهرة، فهي ليست مملكة الشر المطلق
كمدينة، بل هو حال أي عاصمة مركزية ترتبط بالسلطة الفاسدة هنا،
وسياسات الظلم الاجتماعي، فهو يدين القاهرة كمصدر للسلطة المركزية
والسياسات غير العادلة لكنه يفرق أيضًا بين الحضور الرسمي للمدينة
وبين الحضور غير الرسمي، من خلال المقابلة بين بيت بهية وبيت سيد؛
بيت “بهية” الذي هو جزء من قلعة تاريخية عريقة، والذي يتسع للجميع
بمعماره وديكوراته البسيطة والفريدة التي تعبر عن نفسية الشخصيات،
وبيت سيد الذي يبدو مسرحيًا جدا في ديكوراته، وإضاءته المعتمة في
أغلب المشاهد التي صورت فيه، هو بيت يخلو من الحميمية والحب، لا
يلتقي فيه سيد بابنه أبدا، ولا يجمعهما الكادر في أي مرة، إنه بيت
صلد بارد ومخيف من الداخل.
العصفور:
في هذا الفيلم لا تحضر الإسكندرية بأي شكل، يمكن اعتبار الفيلم
بأكمله معالجة للهزيمة وآثارها التي ربما ترتبط قسرًا عند شاهين
بالقاهرة، بينما ينأى بمدينته الأثيرة ــ الإسكندرية ــ عن أن
ترتبط في ذاكرته أو وعيه على السواء بحدث بهذه المرارة، على عكس
القاهرة في مركزيتها، فهي حتى حين صرفت أنظار الناس في الفيلم إلى
الصعيد حيث أبوخضر، جعلته حاضرًا في النهاية كملهاة، قرر بها
اللصوص الشرعيون الذين ارتبطوا بالقاهرة كبرجوازية جديدة
وكبيروقراطية عتيقة، إلهام الرأي العام بها.
في الفيلم تظهر القاهرة في مقابل قرية مجهولة في الصعيد، هذه
القرية اختارها شاهين بعناية بسبب طبيعتها الجبلية والصحراوية
وعلاقة ذلك بالجبهة التي تدور رحى الحرب فيها، فمن خلال المونتاج
بين البيئتين نشعر أن تلك القرية لم تكن سوى امتداد لجبهة الحرب،
إنها تعاني أشكالًا أخرى من التهديد، تختلف عن شكل العدو على
الجبهة من الناحية الشكلية، لكنها تمارس الإفساد والتجريف ذاته.
القاهرة في العصفور هي امتداد للقاهرة في الاختيار بلا اختلاف،
القاهرة التي يسيطر عليها فؤاد فتح الباب الباشا القديم وعضو
اللجنة المركزية في الحزب الاشتراكي الذي يقوم بسرقة معدات القطاع
العام؛ في هذه القاهرة أيضا نلحظ تغول القبضة الأمنية وغلقها
للمجال العام، فهي مدينة مقيدة تخنق ساكنيها وتضغط عليهم، نلحظ ذلك
من انفجار الشيخ أحمد: “تطوع في الجيش لأ، نتهبب ونفتح مكتبة لأ،
أروح فين؟ أكتف نفسي بنفسي وأقعد اتفرج على روحي؟” يستكمل الشيخ
أحمد صراخه “عمرك حسيت أنك ميت؟” و “بيكيا بيكيا حد يشتري شيخ
هلفوت ملوش لازمة”؛ هذه هي القاهرة في أكثر اشكالها وضوحًا، تعرف
أشكالا أخرى للقتل أكثر قسوة، قتل لا يتم فقط عبر إنهاء الحياة
الفعلي، بل من خلال انعدام الجدوى ووأد الإمكانية.
عودة الابن الضال:
القرية هنا امتداد مكاني لمثيلاتها في الأرض والعصفور، لكنها في
صورة مختلفة، أكثر حداثة وقسوة معا، فالقرية هنا تتبدل معالمها،
بعد أن غزاها التحديث، وهو تحديث قسري لم يتم عن طريق الثقافة بل
من خلال الشبق الرأسمالي في استغلال عمالة أرخص من مثيلتها في
القاهرة، لذا نحن لا نلحظ فلاحين مرتبطين بالأرض كما في فيلم
“الأرض”، بل معصرة وسينما، وهما أحد أملاك البرجوازي الجديد “طلبة”
في قرية تتراكم المظالم فيها بأنواعها.
بينما كل ما يظهر من القاهرة هو السجن بسوره الذي يمتد بلا نهاية،
إن كانت القاهرة ظهرت في العصفور كمجاز عن السجن بانغلاق المجال
العام، فهي في عودة الابن الضال سجن حقيقي، اتسع ليشمل الجميع؛ في
اللحظة التي يخرج فيها علي من السجن، تنكسر عيناه في مواجهة الشمس
للمرة الأولى، يهرب بعينيه منها، وكأنه يخشى مواجهة شىء ما، في
اللقطة التالية يدلل شاهين على انكسار علي بعد إطلاق صراحه من
محبسه بلقطة تعبيرية ذات دلالة ذكية، علي يجري هاربًا من قرص
الشمس، بكل دلالة من الممكن لها أن تحملها، المستقبل، الأمل، الغد
المشرق، وحتى الحقيقة؛ وكأن القاهرة كتب عليها ان تكون ظلا دائمًا
للهزيمة.
السمات الفنية:
شاهين هو أحد أهم المخرجين العرب من الناحية الفنية، يمكنك
الاختلاف أو الاتفاق مع ما يطرحه في أفلامه، لكن لا يسعك إلا
الاعتراف بأسلوبه السينمائي المتميز الذي ينتمي لفن السينما قلبًا
وقالبًا، اهتم شاهين بكل لقطة داخل الفيلم، لدرجة من الممكن أن
يتحول كل كادر على حدة إلى لوحة فنية إن لم يستطع المشاهدة فهم
معناها فهو لن يمر على الأقل دون أن يتأثر بجمالياتها، جاءت سينما
شاهين متقشفة في الحوار أحيانا، لكنها كثيفة في حركة الكاميرا
وتكويناتها واستخدام المجاميع، وغنية بالموسيقى.
الصورة..
منذ فيلم الأرض وحتى عودة الابن الضال، ثمة نضج وتطور ملحوظ في لغة
شاهين السينمائية، يمكن اعتبار الأرض أحد أنضج أفلام الواقعية
الاجتماعية في تاريخ السينما المصرية، امتاز الفيلم بكلاسيكيته
وسرده الخطي، بينما نلحظ اختلافًا واضحا منذ “الاختيار”، في صورة
تبدو أكثر حداثة، زوايا التصوير غير الاعتيادية والسرد غير الخطي
للأحداث، والاعتماد على المونتاج الفكري الخلاق، بينما يصل التجريب
ذروته من خلال الكادرات التعبيرية في “عودة الابن الضال”.
استخدم شاهين الفن التشكيلي في تتر الاختيار، مزيج من التجريد
والبوب آرت من خلال الفوتوغرافيا متعددة الألوان والتي يبدو فيها
تأثر كبير بالرسام “أندي وارهول”، نرى بوضوح انقسام أغلب اللوحات
الي اللونين الأزرق والأصفر، واستخدام الصورة النجاتيف التي تشير
لسيد غالبًا، وهي دلالة على سلبية المثقف وانتقاد لموقف عدم الفعل
أو الحركة الذي وقع فيها إبان وقبل هزيمة يونيو؛ كذلك مجموعة من
الدوائر الحلزونية التي تعطي إحساسًا بالدوار والقلق، والخطوط
الطولية التي تغطع الوجه معطية إحساسًا بالتمزق الداخلي الذي عانت
منه الشخصية الرئيسية، اللوحات التشكيلية التي أضافها شاهين للفيلم
في بدايته هي حكي غني ومكثف لأحداثه.
لم يقف تأثر شاهين بالفن التشكيلي عند اقتباسه في ذلك التتر، بل
امتد لخلق لوحات فنية داخل أفلامه؛ دائمًا ما تشكل الصورة حكيًا
موازيًا لشريط الصوت، يفرق شاهين بين العائلة البرجوازية والعاملة
من خلال الصورة، ديكورات بيت سيد في الاختيار كانت أقرب للطابع
المسرحي في إشارة للزيف الذي يسيطر على المنزل وساكنيه.
يستخدم شاهين الإضاءة والألوان في موضع مختلف من الفيلم، في اللحظة
التي يوشك فيها سيد على التمزق فيركب سيارته بلا وجهة، يعبر شاهين
عن ذلك الصراع من خلال انعكاس أضواء الإعلانات الموجودة في الشارع
على وجهه؛ وبطريقة مشابهة يستخدم الإضاءة في “عودة الابن الضال”
للتعبير عن الحالة النفسية لأبطاله، فأغلب المشاهد في منزل عائلة
المدبولي تأتي بإضاءة معتمه، وفي اللحظة التي يقرر فيها علي
الاشتباك مع طلبة، يعبر شاهين من خلال الأضواء وتداخل الألوان ــ
الأخضر والأصفر والأحمر ــ عن الصراع الذي يمر به داخليًا في تلك
اللحظة.
في أحد مشاهد الاختيار، الذي لم يتورع فيه شاهين عن التجريب كلما
كان ممكنًا، نرى محمود يلعب بالكرة على رصيف الميناء مع مجموعة من
الأطفال، ثم ينتقل بالكرة إلى سيد في غرفة اجتماعات مغلقة، فيمسك
بالكرة ويضعها في خزانة، هذا المشهد كان توضيحًا عبر الصورة للفارق
بين شخصية محمود المرحة والمتحررة وشخصية سيد المثقلة بالقيود ــ
التي يفرضها هو على نفسه.
في “عودة الابن الضال” نسمع طويلًا عن علي قبل أن نراه، نصبح
متورطين مع أبطال الفيلم ننتظر علي كما ينتظرونه، يدلل شاهين من
خلال الصورة على التحول الذي أصاب علي قبل حتى ينطق بحرف واحد،
يتابع شاهين خطوات علي المنكسرة بعد خروجه من السجن، على الرغم من
أنه استعاد حريته ــ ظاهريا فقط، إلا أنه سيبقى مقيدا في داخله،
وفي لقطة معبرة للغاية، تلتقط عدسة شاهين علي بين قضبان السكة
الحديد وحيدًا بخطوات ميتة في اتجاه الغروب.
يتبع ذلك المشهد لقطة تعبيرية مميزة، تلتقط الكاميرا علي وهو يحاول
الفرار من قرص الشمس، كناية عن جيل مهزوم بالكامل وضرورة تجاوزه،
ثم يُنهي الفيلم بكادر مشابه حيث يتجه إبراهيم وتفيدة ــ الجيل
الجديد ــ نحو الشمس ذاتها، تعبيرا عن قدرة الجيل الجديد على عبور
ذلك المأزق.
في مشهد آخر عندما يستعرض محمود مفاهيمه عن الحرية والحقيقة والحب،
يستعرضها بحرية وطلاقة، بينما يقدم شاهين معالجة بصرية تعكس
أحيانًا عكس ما يقوله محمود، عندما يتحدث عن البحر يحرك شاهين
الكاميرا للخلف ليظهر وجهه من داخل “دفة” سفينة، هنا يتطابق الحوار
مع الصورة بغرض تأكيده، بينما في موضع آخر وأثناء تعريف محمود
لمعنى الحرية، يلتقطه شاهين من خلف سياج خشبي لشباك داخلي، فيظهر
وكأنه مقيد في الأسر بل ويحمل الشباك رقمًا كأرقام الزنازين،
معارضة الصورة للحوار هنا كانت بغرض توضيح أن الحرية التي يحياها
محمود هي حرية فردية نجح في انتزاعها من خلال تمرده، بينما المجتمع
نفسه يبقى ضاغطًا ومقيدًا.
يتأثر شاهين في كثير من أفلامه بالميزانسين المسرحي، لكن هذا
التأثر يكون أوضح ما يكون في فيلم “الاختيار”، الفيلم بأكمله يدور
في مكانين رئيسين ــ باستثناء بعض اللقطات في مركز التحقيق وبيت
رءوف- هما بيت سيد وبيت بهية، دوران الكاميرا داخل مكانين فقط
يعطينا شعورًا قويًا بالحضور المسرحي، من خلال ثبات الخلفيات، اهتم
شاهين بأن يخلق كل مكان منهما بما يعبر عن دواخل وطبيعة الشخصيات،
تصميم بيت بهية يوحي بالأصالة ومزدحم دائمًا بالناس والأثاث
البسيط؛ بينما بيت سيد كان على النقيض يوحي بالفراغ والبرودة من
خلال سيطرة ألوان الرصاصي والأزرق على المكان ومن خلال الإضاءة
والديكورات.
الصوت..
ربما لا يوجد مخرج مصري وعربي تعامل مع الموسيقى والأغاني داخل
الفيلم بهذا الاهتمام الذي منحه شاهين، تحضر الموسيقى في الأرض
كخلفية تصويرية تزيد من عمق إحساس المشاهد باللحظة التي يراها،
لتتحول في العصفور إلى جزء رئيسي من الحكي بشكل موازٍ ومكمل
للحوار، وصوًلا إلى قمتها في “عودة الابن الضال”، الذي هو أهم فيلم
غنائي مصري على الإطلاق، الأغاني في عودة الابن الضال ليست سردًا
موازيا للأحداث بل جزء رئيسي من السرد لو تم حذفه سيتأثر البناء
الدرامي للفيلم ككل، نلحظ هنا الطريقة التي طور فيها شاهين
استخدامه للموسيقى على مدار الأفلام الأربعة، فتبدأ كخلفية للحدث
في “الأرض” وتتحول إلى سرد موازٍ في “العصفور” ثم إلى جزء رئيسي من
السرد في “عودة الابن الضال”.
يتضح لنا أكثر مدى اهتمام شاهين بالموسيقى من خلال الأسماء التي
تعاون معها، في الأرض والاختيار والعصفور يتعاون مع موسيقار بحجم
علي إسماعيل، بالإضافة للحضور المميز لصوت الشيخ إمام في العصفور،
بينما تصبح ماجدة الرومي ــ صوت القرن العشرين كما أطلق عليها
شاهين في التتر ــ بطلة فيلم “عودة الابن الضال”، ويشترك في تلحين
أغانيه مجموعة من أهم الملحنين الموسيقيين، كمال الطويل وبليغ حمدي
وسيد مكاوي، وعي شاهين بأهمية الموسيقى والأغنية دفعه لاختيارهم
بعناية، وهو ما جعل لهذه الأغاني حياة مستقلة حتى خارج الفيلم ليتم
تداولها بشكل كثيف.
هذه كانت محاولة لاعادة قراءة أربعة من أهم أعمال يوسف شاهين، التي
اختلط فيها نضجه الفني بمرارة الهزيمة، لذا خرجت بأكثر أشكالها
الفنية شاعرية وقسوة.
نقلا عن مجلة “الفيلم” |