وغاب فؤاد المهندس
كان امتدادا لأساتذة الكوميديا الجزايرللي
وأمين عطا الله وحسن فايق
القاهرة ـ من عبدالفضيل طه:
لحق
الفنان الكبير فؤاد
المهندس برفيق دربه عبدالمنعم مدبولي الذي سبقه إلي دار البقاء
بشهور قليلة، وبرحيل
المهندس تكون صفحة ناصعة من صفحات الكوميديا المصرية قد انطوت الي الأبد
فقد كان
رحمه الله امتدادا لأساتذة هذا الفن الذي قدم البسمة المحترمة والكوميديا
الهادفة
للشعب المصري.
كان من
أهم أساتذة هذه المدرسة مع بدايات القرن الماضي، فوزي
الجزايرللي ونجيب الريحاني واستيفان روستي وحسن فايق وأمين عطا الله وكانت
بدايات
تقديم فن الكوميديا علي أسس علمية عندما كون عزيز عيد فرقة سند
1915 لتقدم هذا الفن
وعمد لأمين صدقي بترجمة مسرحيات فيدو مؤلف فن المسرح الكوميدي الفودفيل وضم
للفرقة
عددا من نجوم الكوميديا في بداياتهم، نجيب الريحاني وحسن فايق واستيفان
روستي ومعهم
أمين عطا الله المؤلف والبطلة كانت روزاليوسف وكانت أولي
المسرحيات المترجمة التي
مثلتها الفرقة هي خللي بلك من أميلي علي مسرح برنتانيا ـ وكان هذا المسرح
مكان موقع
سينما كايرو بالاس حاليا ـ وقدم عزيز عيد في فرقته هذه أول ممثلة مصرية
تظهر علي
المسرح لتغني وهي منيرة المهدية وكان قبلها كل الممثلات من
الشام.
وتوالي
بعد
ذلك ظهور ممثلين خصصوا في الأدوار الكوميدية مثل أحمد الحداد
القديم وهو غير أحمد الحداد الذي عرفناه في ساعة
لقلبك بلقب الرغاية وبشارة واكيم وعبدالفتاح القصري
واسماعيل يس ومحمود شكوكو وعبدالمنعم ابراهيم وإلياس مؤدب وفتله وسيد
سليمان وأمين
الهنيدي ومحمد إدريس ومحمد كامل وعشرات غيرهم كما ظهر من
الممثلات اللاتي تخصصن في
الكوميديا عشرات قد تكون أشهرهن ماري منيب وإحسان الجزايرللي أم أحمد
وزينات صدقي
ونبيلة السيد وثريا حلمي ووداد حمدي وجمالات زايد وميمي وزوزو شكيب وكان
لكل واحد
وواحدة ممن ذكرنا وممن لم نذكر شخصية منفردة في الأداء وقد
ساعد ظهور السينما
المصرية في تقديم هؤلاء الفنانين في صورة طيبة وأكد التليفزيون بعد ذلك
وجودهم خاصة
الذين لحقوا بإرساله وكان كثير منهم قد انتقل الي رحاب الله قبل دخول
التليفزيون
مصر سنة 1960.
امتاز فوزي الجزايرللي بأداء أدوار ابن البلد والزوج الذي كان
مغلوبا علي أمره أمام زوجته وكان يعتمد في أداء أدواره علي المبالغة في
استعمال
لهجة أبناء البلد موغلا في الحديث بطريقة توحي أنه لا يعرف
شيئا في الوجود إلا
الكلام المذوق الذي لا يستند علي منطق وقد ظهرت هذه الخاصية عنده في معظم
أفلامه
مثل بحبح في بغداد وبحبح و الباشمقاول والدكتور فرحات وغيرها وقد اشتهر في
ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي باسم بحبح، الذي كان من أحب
الشخصيات السينمائية
الي قلب المشاهد المصري وكان من المفارقات ان الجزايرللي يقاسم ابنته احسان
دور
البطولة وكنت تظهر معه في دور بنت البلد ذات المواصفات الجمالية المطلوبة
في ذلك
الزمن وهي أن تكون ممتلئة الجسم خفيفة الروح ذات لسان طويل،
وأخرج فؤاد الجزايرللي
نجل فوزي وشقيق إحسان معظم هذه الأفلام، وقد ماتت احسان في شرخ شبابها
وأذكر يومها
أن
فؤاد الجزايرللي كتب مقالا يرثيها وكان عنوانه أبكتني التي طالما أضحكتني
.
وامتاز فؤاد المهندس بأداء الأدوار التي تتطلب الحركة الدائبة وكان يعتمد
في
الاضحاك
علي حركات الجسد والصوت الجهوري الذي قد يكون صارخا في بعض الأحيان كما كان
له
طريقة خاصة في استخدام يديه بإشارات معينة وهو يتحدث وكثيرا ما كان يعتمد
علي
ارتداء ملابس رثة هي أقرب الي ملابس البلايتشو، كما عرفه الناس
في السيرك أو في
الحارة وكان يتعمد ان يأتي بحركات مضحكة تساعد هذه الملابس علي عمق الاحساس
بالكوميديا.
وطريقة
فؤاد المهندس هذه تختلف الي حد بسيط مع أداء رفيق دربه
عبدالمنعم مدبولي الذي كان يعتمد في الاضحاك علي تكرار الجملة متصنعا عدم
الفهم أو
يقوم بتوظيف حركات جسمه ونظراته في تعميق ما يريد أن يوصله
للجماهير من شحنات
كوميدية تؤدي الي اضحاك المشاهد.
ولا شك في
أن كلا من المهندس ومدبولي يمتازان
بأداء متشابه الي حد كبير فكلاهما شرب من الآخر، فقد تزاملا منذ زمن بعيد
في برامج
الاطفال الذي كان يقدمه الإذاعي الرائد محمد محمود شعبان بابا شارو ،
يخرجها
للأطفال، ثم انضم مدبولي الي البرنامج ممثلا ومؤلفا فكانت الصداقة التي
دامت بينهما
حتي الرحيل وكثيرا ما اشتركا معا في تقديم مسرحيات وأفلام
وكثيرا ما أخرج عبدالمنعم
مدبولي مسرحيات كان بطلها فؤاد المهندس لهذا أقول أن هناك تشابها في الأداء
وان كان
لكل واحد منهم شخصيته المتميزة خاصة الي المسرح.
القصري
كان هناك
ممثلون سبقوا المهندس ومدبولي في عالم الكوميديا ـ كما قلنا ـ
وكان من أشهر هؤلاء
عبد الفتاح القصري، والقصري ممثل بارع امتاز في أدائه بإجادة أدوار ابن
البلد
الفهلوي والذي يفهم في كل شيء حتي وأن كان لا يعرف عن هذا الشيء أي شيء
وامتاز ايضا
بمشيته التي فيها كثير من الحركة التي تؤدي الي الضحك وحتي
عندما كان يخرج من جلباب
ابن البلد ويقوم بأي دور تجده لا يستطيع التخلص من هذه الروح الفكاهية التي
اشتهر
بها ابن البلد في الثلاثينات وأربعينات القرن الماضي.
بشارة
واكيم
عندما بدأ
المهندس حياة الهواية في الفن كان من الذين تربعوا علي عرش
الكوميديا بشارة واكيم وامتاز بشارة بخفة الروح العالية وكان يجيد الفرنسية
إجادة
تامة لهذا اكتسب روح الأداء الممكن لقراءاته في المسرحيات
الفرنسية وترجمتها
واقتباس الكثير من المسرحيات التي قدمها في بدايات حياته مع نجيب الريحاني،
أجاد
بشارة تمثيل دور الرجل الشامي بلهجته المحببة حتي ظن الكثيرون
أنه من أبناء الشام
رغم انه مصري من أبناء محافظة سوهاج واسمه بشارة يواقيم.
وقدم
بشارة العديد من
الأدوار المسرحية والسينمائية الكوميدية وأجاد دور البخيل
والانتهازي وقدمها بروح
خفيفة جعلت المتفرج يتعاطف معه ويقهقه وهو يشاهده وتوفي بشارة سنة 1949 أي
قبل أن
يبزغ نجم الراحل فؤاد المهندس وإن كان فؤاد قد شاهد بشارة
مسرحيا وسينمائيا لكنه لم
يتأثر بأدائه.
محمد
عبدالقدوس
ومن
الممثلين الفكاهيين محمد عبدالقدوس
والد الكاتب الكبير إحسان عبدالقدوس وزوج الممثلة روزاليوسف وكان محمد
عبدالقدوس
يقوم بأدوار الرجل المحترم لكنه كان يقدمها بطريقة تثير الضحك.
علي
الكسار
كان علي
الكسار من أشهر ممثلي الكوميديا في بدايات القرن الماضي وكان
المنافس القوي لنجيب الريحاني وكان مسرحاهما متجاورين وكانت المنافسة شديدة
بينهما
لدرجة ان اسماء الروايات التي كانا يمثلانها ترد كل واحدة منها
علي
الثانية.
وكان مسرح
علي الكسار في فترات كثيرة أكثر رواجا من مسرح الريحاني لأن
الكسار كان يقدم في مسرحه ابناء الشعب العاديين بينما كان الريحاني يقدم
كثيرا من
الروايات المقتبسة من المسرح الفرنسي أو يقدم المغلوب علي امره
الباحث عن لقمة
العيش والذي يقابله دائما سوء الحظ في حين اطلق علي الكسار علي نفسه لقب
بربري مصر
الوحيد لأنه كان يقلد في كلامه اللكنة النوبية وهو ليس بنوبي لكنه من
القاهريين
ابناء السيدة زينب ووالدته من طنطا وكان علي الكسار يعتمد في
تمثيله علي تقديم
الانسان الساذج الذي يقع دائما في مطبات بسبب هذه السذاجة وعندما توفي
الكسار في
أواسط الخمسينات كان نجم الراحل فؤاد المهندس قد بدأ في الصعود.
اسماعيل
يس
لعل واحدا
من نجوم الكوميديا لم ينل من الشهرة ما ناله اسماعيل يس الذي
لا
يزال حتي الان نجما عند المشاهد، واسماعيل يس بدأ مشواره مع التمثيل وإلقاء
المنولوجات مع أواخر الثلاثينيات في القرن الماضي، وقد اشتهر
في أدائه في استغلال
فهمه المتسع خير استغلال حتي اطلق عليه البعض اسم اسماعيل بغه كما كان
يعتمد علي
حركات جسده والحركة الداخلية النفسية في اظهار الرعب عند أي موقف حتي وأن
كان
بسيطا، وعند سطوع نجم فؤاد المهندس كان نجم اسماعيل يس قد أخذ
في الأفول وأغلق
مسرحه وعاد لإلقاء المونولوجات بعد كل النجاح الذي حظي به في المسرح وفي
السينما
التي قدم فيها أفلاما كثيرة ناجحة.
وكان
لنجاحه الكبير هذا الاثر في أن قدمت
السينما العديد من الأفلام التي تحمل اسمه مثل اسماعيل يس في الجيش وغيرها
وهذه
الأفلام لاتزال تجد الرواج والاقبال علي مشاهدتها.
هؤلاء
قليل من كثير قدموا فن
الكوميديا
في مصر وكان فؤاد المهندس واحدا منهم بل واحدا من
أعظمهم.
البداية
ولد فؤاد
المهندس في حي العباسية في يوم 7 ايلول/
سبتمبر سنة 1924 لوالد هو زكي المهندس الذي كان واحدا من أقدر أساتذة اللغة
العربية
في
المدارس الثانوية ثم انتقل استاذا بكلية دار العلوم وكان من خيرة اساتذتها
حتي
وصل الي منصب عميد الكلية وما أدراك ما عميد دار العلوم ان هذا
المنصب لم يكن يظفر
به
إلا عالم لا يشق له غبار في عالم اللغة العربية وقد كان زكي المهندس هذا
الرجل
اختير عضوا في مجمع اللغة العربية مجمع الخالدين
.
أما
والدته فقد كانت ربة بيت
من سيدات
المجتمع في ذلك الوقت وقد تفرغت لتربية فؤاد وشقيقته درية وصفية وشقيقه
سامي.
وقد أحسن
الوالدان تربية الأبناء فكانت صفية المهندس من رائدات الإذاعة
ووصلت الي منصب رئيس الاذاعة وقدمت العديد من البرامج الناجحة وهي لاتزال
تقدم
واحدا منها حتي اليوم وهو الي ربات البيوت اما شقيقه سامي فقد
نجح في دراسته وفي أن
يكون رياضيا مرموقا فهو كان واحدا من نجوم كرة القدم بنادي الزمالك في
أواخر
الأربعينات والخمسينات من القرن الماضي.
البيئة
ان كانت
أسرة فؤاد
المهندس كان لها تأثيرها في تربيته وتوجيهه فقد كان للبيئة
المحيطة به الأثر في أن
يكون فنانا فالعباسية في ذلك الزمن كانت من الاحياء الراقية التي سكنها
كثير من
الفنانين والأدباء نذكر منهم علي سبيل المثال لا الحصر عاصم باشا المحامي
والد
الموسيقار الكبير مدحت عاصم وموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب
والموسيقار عبدالحميد
توفيق زكي وأديب نوبل نجيب محفوظ والأديب احسان عبدالقدوس والمخرج المتميز
محمود ذو
الفقار وشقيقه عز الدين وصلاح ذو الفقار والصحافي الأديب مصطفي
بيومي والذي كان
يقيم سهرات فنية تحية للفنانة الكبيرة حياة محمد وكان فؤاد المهندس علي
معرفة بهذه
البيئة بحكم صداقة والده لكبار القوم في العباسية، وخاصة اسماعيل بك شاكر
أحد اكبر
أغنياء مصر وكيل نادي الزمالك والذي كانت فيلته مسرحا لتقديم
الكثير من ليالي الفن
التي يحييها كبار المطربين والمطربات والتي كان يحضرها أبناء الطبقة
الراقية في
العباسية.
ولعل فؤاد
كان من روادها خاصة في بداية الخمسينات عندما كانت هذه
الليالي يحييها ابن حي العباسية محمد الموجي ومعه المطرب الناشيء انذاك
عبدالحليم
حافظ والقاريء الشيخ محمد عمران ولحق بهما المطرب والملحن
الناشيء في ذلك الوقت
بليغ حمدي ومحرم فؤاد.
عرب
المحمدي
وبجوار
هذه السهرات شبه
الارستقراطية عرف فؤاد المهندس الطريق الي سوق عرب المحمدي بحي
العباسية وكان هذا
السوق سوقا فنيا يقام كل يوم خميس من الصباح الباكر حتي حلول المغرب.
وكان سوقا
يقدم فيه شتي أنواع الفنون الشعبية من غناء شعبي الي رقص
الغوازي وغناء الأهازيج
ذات الطابع الخاص الذي اشتهر به الغجر في مصر وكانوا في تلك السنوات أواسط
الأربعينيات لا تزال لهم دولتهم القوية في عالم الفن، كما كان هناك من يقدم
فن
الأراجوز والسفيرة عزيزة وعازف البيانولا وغيرها من فنون جذبت
أنظار واهتمام كل
أبناء حي العباسية والأحياء المجاورة وكان المطربون الشعبيون يأتون كل خميس
الي عرب
المحمدي من كل أنحاء مصر خاصة الغجر الذين كانوا يسكنون طنطا
والمنوفية وكثير من
هؤلاء استعان بهم زكريا الحجاوي عندما كان يجوب انحاء مصر بحثا عن كنوزها
الفنية
الشعبية.
عرف فؤاد
المهندس الطريق الي هذه الفنون كما قلنا فكانت زادا له في
حياته الفنية التي احترفها بعد ذلك ومن كانت له معرفة بما كان يقدم في عرب
المحمدي
يجد كثيرا من ملامح شخصيات هذا الحي الفني يستمدها فؤاد
المهندس في بعض أدواره خاصة
في
مسرحية سيدتي الجميلة في طريقة حديثه وتلوين صوته.
صفية
المهندس
هناك
تأثير آخر في حياة فؤاد المهندس وهو شخصية شقيقته الكبري صفية
المهندس فقد كان لصفية نشاطها الفني وهي طالبة في كلية الآداب قسم اللغة
الانكليزية
إذ كانت ضمن فريق التمثيل بالكلية عندما اختارها عميد الكلية
لبطولة اكثر من مسرحية
كانت تقدم في نهاية العام الدراسي بالكلية ومن هذه المسرحية هملت وسيدات
وندسور
لشكسبير.
هذه
البيئة المتنوعة في فنونها واهتماماتها ولد فيها فؤاد المهندس،
والد عالم في اللغة العربية شقيقته تهتم بالأداب خاصة الغربية وتقدم بعض
التجارب
المسرحية حي يموج بأنواع الفنون الأرستقراطية والشعبية فكان
لابد من أن يكون النجم
فؤاد المهندس الذي عرفناه بعد ذلك.
|