مقال نادر ساخر يروي فيه تجربته مع توفيق صالح في إنتاج
وكتابة الفيلم الجميل «درب المهابيل»
عبد الحميد جودة
السحار يكتب:
مخرج يعتنق المذهب الحنبلي
* درب المهابيل أقسي تجربة سينمائية عشتها .. وخسرنا بسببها 11 ألف جنيه ..
وحصل مخرجها علي جائزة الإخراج
* أثبت توفيق صالح أنه مخرج عبقري .. ولكن أقسمت بسببه ألا أعود إلي
السينما مرة أخري
كنا نجتمع صباح يوم الجمعة في كازينو أوبرا وقد وفد علينا كثير من الفنانين
والكتاب وكان ممن يترددون علينا توفيق صالح، كان عائدا من باريس وكان يبدو
هادئا وبدا من أحاديثه أنه مثقف يتذوق الأدب.
وعلمت أن توفيق صالح يشترك مع نجيب محفوظ في كتابة سيناريو «درب المهابيل»
وعجبت من أن توفيق لم يفكر في قصة من قصص نجيب المنشورة، وما دار بخلدي في
ذلك الوقت أنه سيكون لي علاقة بهذا الموضوع.
وفي ذات يوم فاتحني أحد الأصدقاء في أن أحاول أن أفعل في السينما ما فعلته في
الكتابة، فقال لي إنك ساعدت علي نشر كتب كثير من الكتاب الذين أصبحوا معروفين
في عالم الأدب فلماذا لا تحاول نفس التجربة مع السينمائيين المثقفين؟
ورفضت الفكرة من أساسها فشتان بين نشر قصة وإنتاج فيلم وعاد الصديق يزين لي
الموضوع ويؤكد لي أن توفيق صالح عبقرية ينبغي إتاحة الفرصة لها ورفضت ولكن
صديقي محمد محمد فرج اشترك في الحديث وعرض استعداده للمشاركة وحمل تبعات
الموضوع علي أكتافه العريضة.
قلنا إن الخبرة السينمائية تنقصنا ، فقيل لنا إنه سيشترك معكم بماله أحد
العاملين بالحقل السينمائي وحدد لنا ميعادا لمقابلة الشريك الجديد وذهبنا إلي
كازينو أوبرا وقابلنا الرجل.
كان يشد أنفاسا من مبسم الشيشة وقد ارتدي ثيابا نظيفة وبيد أن هيئته ما كانت
توحي بأنه يملك مالا، وقيل لي إن كل أغنياء الحرب مثله إنه سيدفع لكم نصيبه
قبل أن يبدأ العمل.
وتحدث الرجل في ثقة الخبير قال إن ثلاثة آلاف جنيه كافية لإنجاز المشروع ولم
أصدق، ولكن ما أكثر الذين تبرعوا لاثبات صدق الأرقام التي قدمها الخبير.
وذهبت لمقابلة الشريك العزيز ولما قابلته راح يحدثني عن عظمة روايتي «همزات
الشياطين» وأنه يفكر جديا في إنتاجها للسينما، ولما سألته عن نصيبه في رأس
المال قال لي إنه أرسل إلي البلد ليبيعوا العجول وسيصل إليه المبلغ غدا،
وتواعد مع صديقي محمد محمد فرج علي أن يذهبا معا لاستديو الأهرام للتعاقد علي
إيجار البلاتوه.
وذهبا ووقعا العقد وبعد أن عاد صديقي سألته هل دفع الشريك شيئا؟ قال لا إني
دفعت خمسمائة جنيه وسيدفع الشريك نصيبه عندما تصل إليه اثمان العجول من
البلد.
ووقعنا في المصيدة ورحنا نبحث عن أناس طيبين من أصدقائنا ليشاركونا في
المشروع ، وعثرنا علي صديقين حددا نصيبهما بألف جنيه لا يزيدانه مليما مهما
كانت الظروف.
كنا قد اتفقنا علي إنتاج «درب المهابيل» وكنت أعلم أن توفيق قد كلف بعض
أصدقائه من الأدباء بكتابة الحوار.
وقال صديقي فرج: لن أوافق علي أن يكتب الحوار أحد غيرك، وكلم توفيق وقال له
إني سأكتب الحوار فلم يعترض توفيق بل رحب بالفكرة.
بدء عمل المهابيل
عرف نجيب أننا اشترينا قصة وسيناريو «درب المهابيل» فراح يقص علي قصة قريبه
الذي دخل هذا الميدان وخرج منه مفلسا محطما، وأسدي إلي النصح أن نبعد عن هذا
العمل الذي لا طاقة لنا به، وما كنت في حاجة إلي نصيحة كنت علي يقين من أننا
وقعنا وانتهي الأمر.
كان توفيق صالح دمث الأخلاق حلو الحديث، ولكن ما إن بدأت في كتابة الحوار حتي
وجدت الأمر يختلف تماما، تغيرت الصورة التي في ذهني عن العبقري الذي قبلنا
المشروع من أجله، كان يشطب الحوار بقلمه الأحمر دون أن يناقشني فيه .. لم أكن
أعلم سبب اعتراضه ولم يكن يحدثني عما يريد.
وكنت أعيد الكتابة وكان توفيق الحاكم التركي الذي يلهب ظهري بالسياط ولا ينطق
حرفا، لقد عذبني توفيق بما لم أعذب به طوال حياتي وأحسست بصدري يضيق وذهبت
إلي صديقي وشريكي في الفيلم محمد فرج أرجوه أن يعفيني من هذا العذاب، وأقسم
إنني كنت أحس أيامها بآلام أشبه بآلام الذبحة الصدرية.
ولم يدفع الشريك الموعود شيئا، كل ما تمخضت عنه محاولاتنا معه أنه وعد أن
يشترك معنا بخبرته.
الاستعداد للمهابيل
وأصر توفيق علي أن تبني حارة كاملة وكان إصراره شديدا لا يقل في ضراوته عن
شطب كل نكتة في الحوار، ولم يقتنع أبدا بأن الحارة المصرية لا تكون حارة
مصرية إذا لم يسدها خفة الظل، وراح يشكوني لأصدقائنا بأني أحاول أن انكت في
الحوار كأنما قد خدشت كرامة صلاة جنائزية.
وبنيت الحارة في فناء ستوديو الأهرام وجاء يوم التصوير ولم يكن للفيلم مدير
إنتاج وطلب توفيق 24 بسكليت وأصر علي أن تظل في دكان العجلاتي سواء أكان
التصوير في الدكان أم بعيدا عنها، وقلنا له: ألا يجوز أن تكون بعض العجلات قد
أجرت؟ ورفض هذا العرض وأجرنا 24 بسكليت طوال أيام التصوير وأمرنا لله.
ومر اليوم الأول وعشرات الممثلين في الانتظار ولم يتم تصوير لقطة واحدة.
وكان بطل الفيلم «قفة» ترافقه معزة وقد أجرنا المعزة واستمر التصوير ستة
أشهر، وحملت المعزة واضطررنا أن نستعين بـ«دوبلير» للمعزة في المشاهد
الأخيرة، ولن أقص تفاصيل ما جري أثناء تصوير هذا الفيلم حتي لا أعيد إلي
ذاكرتي مشاهد يقشعر منها بدني.
كان أمر التصوير يحدد موعد بدء التصوير في أغلب الأيام بمنتصف الليل، وكان
العمل يجري دون نظام واضطررنا إلي أن نبحث عن شركاء جدد يلقون بأموالهم في
البالوعة التي فتحت وأبت أن تسد.
11 ألف جنيه
كنا قد عزمنا أن ننهي الفيلم دون أن نلجأ إلي أموال الموزعين، وانفقنا أحد
عشر ألف جنيه ولكن نظرا لطول مدة التصوير فقد نفد المبلغ وبقيت بعض المشاهد
دون تصوير واضطررنا إلي أن نلجأ لشركة الشرق للتوزيع.
كان من المقدر أن ألفين من الجنيهات تنهي الفيلم ولكن دخول شركة الشرق في
الموضوع جعل العاملين في الفيلم يطلبون رفع أجورهم لأن إخراج الفيلم استغرق
وقتا أطول من أي فيلم آخر، وسافر أحد ممثلي الفيلم الرئيسيين إلي الإسكندرية
ورفض العودة قبل أن يسلم له المبلغ الذي طلبه.
ورضخنا لكل الطلبات ودفعت شركة الشرق سبعة آلاف من الجنيهات وتسلمت الفيلم ،
وأحب أن أقرر أن الفيلم لم يغط هذه الآلاف السبعة حتي الآن حسب الحسابات التي
قدمتها لنا شركة الشرق وخسرنا أحد عشر ألفا من الجنيهات.
وانتهي الفيلم ولا أدري حتي الآن كيف انتهي، فقد اختلف المخرج مع المونتير
وترك العمل، وجاهد الصديق محمد فرج حتي أصبح الفيلم حقيقة واقعة وعرض في
سينما ريفولي، وانهال النقد ولم يذكر ناقد واحد الفيلم بكلمة طيبة، وكتب
صديقنا يوسف السباعي مقالا يقطر سخرية قال «المهابيل وراء الكاميرا».
وعشنا في مأساة كلما تذكرت السينما أفزع وكلما وقعت عيناي علي توفيق صالح
ارتجف رعبا، كان يخيل إلي أنه سيلهب روحي بسياطه التي لا تعرف الرحمة علي أن
هذا الشعور الشخصي نحو تجربة «درب المهابيل» لا يمنعني من أن أقول إن توفيق
صالح قد أثبت بعد ذلك أنه مخرج من الدرجة الأولي، فهو من ألمع المخرجين عندنا
وأكثرهم كفاءة وإن كان في عمله «حنبليا» متعبا إلي أقصي حد .
جائزة «للمهابيل»
كان صديقي محمد فرج مؤمنا بالفيلم ومؤمنا بمخرجه حتي إنه قال لو قدر لي أن
أخرج فيلما آخر لأسندت إخراجه إلي توفيق صالح، ولكن الجماهير أعرضت عن الفيلم
وضاعت أموالنا، وأقسمت ألا أعمل بعدها في السينما أبدا كانت تجربة «درب
المهابيل » أقسي تجربة عرفتها.
وتقدم توفيق صالح بالفيلم لنيل جائزة الإخراج، وحدث أن نال الجائزة الثانية
وقبض خمسمائة جنيه في الوقت الذي كانت الصحف تطاردنا لتحصيل ثمن الإعلانات
التي رفض الموزع أن يدفعها.
وحدث أن ديكورات الفيلم استمرت في فناء الاستديو ستة أشهر، وطالبنا الاستديو
بدفع ستة آلاف جنيه ثمن إيجار الأرض وهددنا برفع قضية، ولما كان بعض شركائنا
من التجار الذين يخشون علي سمعتهم فقد دفعنا للاستديو المبلغ، وقد كرهت أصحاب
الاستديو ومديره كراهية شديدة فقد كان المدير متعنتا متعجرفا، وأقول الحق لقد
كنت أكثر فرحا يوم أمم استديو الأهرام فإن ما سرق منا عاد إلي الدولة.
|