في يوم واحد عرض المهرجان، من بين عشرات الأفلام
التي عرضها، فيلمين يمكن وصف أحدهما بأنه أصغر فيلم (او من بين أصغرها حجما
على أي حال) ويمكن وصف الآخر بأنه -بالتأكيد- أكبر الأفلام المعروضة.
الفيلم الصغير هو “عطش” فيلم فلسطيني بتمويل من
التلفزيون “الإسرائيلي” لتوفيق أبو وائل: السينما كما يجب أن تكون حين يعمد
مخرج الى تعابير ذاتية يستمد منها قوّة الفيلم وخاصيته. الموضوع بدوره مثير
وجيّد التكوين: هنا قصة رب عائلة نسيها الزمن وقوات الاحتلال، اذ تم إخلاء
القرية العربية التي كانت تسكن فيها منذ زمن بعيد لكن العائلة اختبأت فيها
بعد هجرة الجميع. الآن القرية عبارة عن بيوت صغيرة موزعة تشبه الخراب وهذه
العائلة تعيش وحدها بمشاكلها باحثة عن تأمين الماء والبقاء بعيدا عن أنظار
قوّات الاحتلال اذا ما زارت المنطقة. في هذه الأجواء يعمد المخرج الى سينما
من الملاحظات المركّبة تكشف عن دكتاتورية الأب وجنوح الأفراد الآخرين الى
الوقوع ضحايا خصوصا الابن الذي يضطر للانقطاع عن مدرسته (البعيدة) من مطلع
الفيلم عندما يصيح الأب في وجهه طالبا منه البقاء في البيت “أنا أهم” (يقصد
أهم من المدرسة).
الفيلم دراما جادة ومشغولة بأسلوب يقترب من أسلوب
المخرج السوري أسامة محمّد، لكن خبرة توفيق أبو وائل المحدودة غير مؤثرة
كثيرا على الفيلم الذي يبقى مثيرا للاهتمام وشغوفا بموضوعه وجدية طرحه.
حرب طروادة
أما في “طروادة” فلا وجود لشيء اسمه الإمكانات
المحدودة: 175 مليون دولار (ومجلة “فارايتي” تقول إن المبلغ ربما كان أعلى من
الإنتاج الكبير). ميزانية أكبر من تلك التي تصرفها بعض الدول الأفريقية، بل
أكبر مما تصرفه كل الدول العربية مجتمعة على الشأن الثقافي (والإنتاج
السينمائي جزء من هذا الشأن). المخرج وولفغانغ بيترسون (“عاصفة تامة”، “في خط
النار”، “القارب” الخ...) رجل يجيد الإمساك بأطراف الأزمات التي يمر بها
أبطال ويجيد استخدام التقنيات المتوفرة بين يديه ليصنع الفيلم الجيد بصرف
النظر عن موضوعه. هنا هو في وضع تاريخي: القصة الإغريقية التي وضعها هومر في
“الإلياذة” حول كيف تمكّن الإغريق من دخول طروادة خدعة بعدما استنفدوا كل
وسائل القتال. لا يتبع الفيلم ما ورد في الإلياذة بل يتحرر صوب إبداع داخل
إبداع ورواية “طروادة” نفسها كتبها هومر بعد 005 سنة من وقوعها نقلا عن
حكايات الأجيال (هذا إذا ما كانت صحيحة أساسا) ما يعني أنه أضاف إليها ملحا
وبهارات لكي يجعلها مثيرة دراميا. والآن المخرج بيترسون يضيف ملحه وبهاراته
أيضا والنتيجة فيلم جيد كان فرد زنما في الخمسينات أخرج قصته، لكن الفيلم
الجديد يبزّه في أكثر من ناحية.
يتمحور الفيلم حول أكيليس (براد بت) المحارب الذي
لا يشق له غبار الذي يستعين به الملك الإغريقي (برايان كوكس) لكي يحارب،
وجنوده الأشاوس، ملك طروادة (بيتر أوتول) بعدما خطف أحد ولديه (أورلاندو
بلوم) من شقيق الملك زوجته. ولد ملك طروادة الآخر (إريك بانا- لديه نظرات
شبيهة بنظرات محمود حميدة) اسمه هكتور وهو يخوض حربا شجاعة ضد الجيش الإغريقي
تساعده أسوار المدينة المنيعة في حربه إذ يعجز الجيش الإغريقي الوصول إليها.
خلال اثني عشر يوما من مراسيم الحزن على هكتور الذي قتله إكيليس في حرب
منفردة، يبني الإغريق حصانهم الكبير ويختبئون فيه ثم يدعون أنهم تركوا
السواحل ورحلوا. بسذاجة تتحول الى كارثة يقود الطرواديون الحصان الى داخل
القلعة وفي الليلة ذاتها يخرج من بطنه المحاربون الإغريق ويفتحون الأبواب
لباقي الجيش الذي يدخل المدينة ويحرقها. في النهاية يجد كل حتفه الذي يستحق
بمن فيهم أكيليس الذي يندفع للتدخل إنقاذا لحياة محبوبته الطروادية ويقتل
الملك الإغريقي بنفسه.
في ساعتين ونصف يقول الفيلم كل ما يمكن قوله في
التاريخ وفي الحروب وفي فعل الحب في النفوس. أول “روميو وجولييت” إذا ما
قبلنا أن مبدأ مسرحية شكسبير لا يبتعد كثيرا عن مبدأ حكاية طروادة: حب يتصدى
لموقف الطرفين وبشأنه تقع معركة (في “روميو وجولييت”) وحربا (في “طروادة”).
يقول المخرج إن الفيلم متصل بالحرب في العراق.
وعلى المشاهد أن يبحث عن تلك الصلات لأنها غير واضحة. وفي نهاية الفيلم لا
يجدها باستثناء القول إن صراع القوى والحروب ما زالت متواصلة منذ ذلك العهد
الى اليوم.
الأفلام التي أثارت الى الآن الحماس أكثر من غيرها
لم تكن داخل المسابقة. الجميع يتحدّث مثلا عن الفيلم الفلسطيني “عطش” بإعجاب:
“ليس تحفة وليس فيلما عظيما، لكنه فيلم جيد وصاحبه موهوب” كما اعترف ناقد
أمريكي. الفيلم الأفغاني “تراب ورماد” له معجبون مؤيدون أكثر من فيلم أمير
كوستاريتزا، وهو المخرج اليوغوسلافي المعروف، “الحياة أعجوبة”. والسبب
المباشر أن البحث عن مواهب جديدة ورؤى مختلفة وطازجة يبدأ من خارج المسابقة
أكثر مما يبدأ داخلها. خصوصا وأن المهرجان يبدو غير متوازن على نحو شديد
الوضوح.
“الحياة أعجوبة” هو “صحن” المخرج كوستاريتزا
المعهود: قصة فضفاضة. شخصيات عديدة. أجواء متناثرة. خروج ودخول شخصيات وأطراف
خيوط وأشباح قصص أخرى طوال الوقت ولا نصف دقيقة للتأمل. في البداية، أيام
أعمال المخرج الأولى، أصاب كوستاريتزا باختياراته. كانت أكثر أمانة ورغبة في
الإتيان بجديد. هذه المرة، فإن هذا المعهود، مع موسيقاه وحركات الممثلين
والكاميرا المستعجلة دائما، أصبح فوضى مطلقة. الساعة الأولى والنصف من
“الحياة أعجوبة” تكفي لتقديم الفيلم بكامله، لكن المخرج أفاض في جولاته غير
الضرورية والطويلة لما هو ثانوي، وحين أمّ القصة ذاتها في الساعة الأخيرة من
الفيلم (134 دقيقة) كان تأخر في لملمة ما سبق وتطوير شخصياته على نحو جيد.
قصّة رجل صربي يعيش في البوسنة ويعشق القطارات
ولديه زوجة تعتقد أنها خامة فنية كبيرة وشاب يعشق الفوتبول والجميع يتحدّث عن
مستقبله. بعد إسهاب في تقديم هذا الخط ومعه خطوط وشخصيات أخرى، يجعل المخرج
زوجة الصربي تهرب مع عشيق مجري، وتقع الحرب ويتقدم البوسنيون الى القرية ويقع
البطل في حب ممرضة مسلمة ويقضي معها أجمل الأوقات. انها تلك الأوقات الجميلة
التي تجعل المرء يفيق على أن الفيلم كان بإمكانه أن يقول أكثر لو أراد.
وأحد الصحافيين الأمريكيين وقف في المؤتمر الذي
عُقد للمخرج وقال له: “أنا أمريكي وأهاجم بوش على حربه في العراق. وأنت تحقق
فيلما عن الحرب من دون إدانة الطرف الذي قتل مسلميها... كيف تسمح لنفسك
بذلك؟”.
على هذا رد المخرج: “أنا إنسان غير كامل”.
الحقيقة هي أن أمير من أب مسلم وأم صربية وصاغه
ذلك على نحو لا يستطيع معه تحبيذ طرف ضد آخر وهذا ما كبّله وانعكس على أفلامه
كلها بما فيها هذا الفيلم.
حالة يابانية
مثل فيلمه السابق “مسافة”، فإن “لا أحد يعرف”
مأخوذ عن قصة حقيقية. الموضوع آسر والطرح مؤثر جدا والتمثيل، خصوصا من
الصغار، يلوّع القلوب- كما هو مطلوب، لكنني وجدت الفيلم يتكل أكثر من اللازم
على أسلوب تلفزيوني: كاميرا هي ليست خفية بل تتعامل مع الممثلين كما لو كانت.
تتحرك بتتابع معين ولو أنها تبدو عفوية وشكل محدود في العوامل والعناصر
الفنية.
الحدث الحقيقي وقع سنة 1988 عندما تم اكتشاف أربع
أطفال تُركوا وحدهم في شقة أقرب الى علبة سردين من أمهم التي اختفت. والمشهد
الأول الذي يقدم هؤلاء الأولاد مثير: الأم (ممثلة قليلة الظهور اسمها يو)
تستأجر البيت ومعها طفلان. لكن عندما تدخل الشقة وتبدأ بفتح حقائبها تستخرج
طفلين آخرين كانت أخفتهما لأجل أن تفوز بالشقة من دون الإعلان عنهما.
والأطفال الأربعة بدورهم غير مسجلين في أي سجل نفوس ما يضيف على العزلة التي
تفرضها الأحداث بعدا اجتماعيا خاصا. في أحد الأيام تقرر الأم الاختفاء مؤقتا
عن حياة عائلتها فتترك ظرفا فيه رسالة ومال الى ابنتها الأكبر أكير (يويا
ياغيرا) لكي تعتني بأشقائها. ثم تعود بعد أسابيع محمّلة بالهدايا. والمنوال
يبدو روتينيا الى أن تختفي يوما من دون أن تترك خطابا او تعليمات. ويصبح على
أكيرا تحمّل مسؤولية مبكرة في إعالة نفسها والأطفال الثلاثة. أحيانا يصلها
بعض المال من الأم وأحيانا لا يصلها شيء على الإطلاق .. هذا الى إن يُكتشف
الأمر في نهاية المطاف وتدخل العائلة الصغيرة مرحلة حياة مختلفة.
لا شيء عن الأم. ليس فقط بعد اختفائها، بل عن
تاريخها خلال ظهورها. فنحن لا نعلم شيئا عن علاقاتها التي أنجبت بسببها أربعة
أطفال من أربعة آباء مختلفين. هل هي عاهرة؟ إذا كانت لم تقل إنها وقعت في
“الحب من جديد” عندما تقرر الاختفاء لبضع أسابيع؟ لِمَ لم يتم تسجيل
الأطفال؟ من هي هذه الأم وما هي شخصيتها؟ ماذا عن مشاعرها حيال ما تقوم به؟
لماذا هذه المشاعر محجوبة؟ ثم ماذا عن الأطفال؟ لم ليست لدى أي منهم حب
الفضول لمعرفة شكل العالم الخارجي؟ فقط المخرج يستطيع الإجابة عن اختياراته
لكن الواضح هو أنه لم يرد تأليف نوايا واقتراح إجابات والتدخل فيما لا يعرفه
تأكيدا، فترك الأمور على نسيج من التلقائية ولو أنه هو أيضا نسيج من البرود.
الكاميرا محمولة طوال الوقت والأسلوب تسجيلي ذو
طابع تلفزيوني (عمل المخرج طويلا لحساب التلفزيون) ما يبعث على الرتابة خصوصا
وأن الفيلم لا يعكس أحداثا بقدر ما يصوّر وقائع. أكثر من ذلك، فإن مدة عرض
الفيلم لأكثر من ساعتين مع نحافة المادة المروية وقلة أحداثها تنقل هذه
الرتابة بعد حين الى نسبة ملحوظة من الملل. في ذات الوقت فإن الفيلم لا يعكس
حتى مشاعر او حالات تستدعي بناء وضع دراماتيكي او شحنة عاطفية ما. على ذلك،
يستأثر العمل الاهتمام وقدراً كبيراً من الفضول والمتابعة نظرا لموضوع وبسبب
تمثيل جيد من يويا ياغيرا وعفوي جدا من الأطفال كيتاورا، كيمورا وشيميزو.
وهذا ما يبقى من الفيلم الى جانب حسن شغل المخرج
على تفاصيل صغيرة تبدو عادية لكنها تنسجم تماما مع الموضوع المصوّر. أيضا
هناك حقيقة أن البعد المتمثل للفيلم كامن في تصوير المدينة بأسرها من دون أن
يصوّرها المخرج عملياً. ذلك إنه إذا ما كان أحد لا يعرف أحدا في الشقة
المجاورة، ومصير أربع شخصيات صغيرة يبقى عالقا في فراغ الحياة لستة أشهر فإن
التعليق الاجتماعي يتبدى واضحا وهو حول خامة الحياة الاجتماعية المُعاشة -
حسب الفيلم- في طوكيو و-حسب علمنا- في الكثير من بقع العالم.
همسات “كان”:
·
المخرج نيل جوردان (“لعبة البكاء”) مطلوب ليصوّر فيلما عنوانه “إفطار على
كوكب بلوتو”. والدعوة استلمها من شركة خوّلته 20 مليون دولار لصرفها على هذه
الكوميديا التي سيتم تصويرها في لندن خلال شهر سبتمبر/ أيلول المقبل.
·
آل باتشينو وقّع عقدا لبطولة
فيلم بوليسي جديد يخرجه جيمس فولي بعنوان “88 دقيقة”. فيه يؤدي باتشينو دور
محقق أف بي آي لديه 88 دقيقة فقط ليعيش.
·
الممثلة كلير دانس تلعب بطولة
“مطلوب مروّجون” الذي ستصوّره في ابرلندا.
·
تطلب الأمر أكثر من ساعة لنقل
الممثل براد بت من فندقه الى قاعة المهرجان حين تم عرض فيلمه الجديد “طروادة”:
السبب ألوف المعجبين الذين تجمّعوا لتحيته. وحسب شاهد عيان: “حملوا السيارة
به”!
·
تسعى إدارة مهرجان “القاهرة”
السينمائي الى إثبات وجودها في مهرجان “كان” وسط منافسة عربية هذه المرة.
فهناك الاستعداد الجاري لإقامة حفلة إعلان لحساب مهرجان دبي السينمائي
الدولي، ثم - وعلى محيط أضيق- مهرجان “جنوب- جنوب”، وهو مهرجان تونسي جديد،
ومهرجان “السينما العربية في باريس” الذي يتبع مركز العالم العربي في باريس.
الى ذلك هناك مهرجان “قرطاج” الذي ينوي إقامة دورته الجديدة في سبتمبر/
أيلول من هذا العام.
# # # #
يوسف شاهين الوحيد من
أبناء جيله في دورة "كان" الحالية
نظرة على "الكبار"
الذين صنعوا مجد المهرجان
محمد رضا
يوسف شاهين، المخرج الذي يقدم في “كان” هذا العام
فيلمه الجديد “الاسكندرية نيويورك” هو أكبر المخرجين المشاركين في الدورة
الجديدة عمراً وشأناً. المخرجون الكبار من جيله اختفوا. بعضهم مات وبعضهم
الآخر اعتزل، والثالث استلم مهام إدارية. “كان” اليوم ليس كما كان بالأمس.
ولمناسبة انعقاده لا بأس من أن نلقي نظرة وداع على أمسه وكيف كنا وكيف كان!
يترأس لجنة التحكيم هذه السنة المخرج الأمريكي
“جيري تشاتزبيرج” وهو، الى جانب أنه مخرج يهودي ناقد للمسائل الصهيونية كما
برهن بعض أفلامه، مخرج متوقف عن العمل منذ نحو خمس عشرة سنة. إنه ليس على صلة
حميمة بهوليوود، ليس على صلة بالنظام الجديد المعمول به في الاستوديوهات
الكبيرة وليس من أتباع العمل لغرض يخرج عن نطاق السينما الهادفة والفنية وذات
المكانة الإنسانية.
في عام 1973 حاز فيلمه “الفزّاعة” (او “خيّال
المآتة”) على جائزة مهرجان “كان” الذهبية. وهو فيلم مزدهر بأحاسيسه الإنسانية
والاجتماعية. قصة رجلين (آل باتشينو وجين هاكمان) يلتقيان من دون موعد على
طريق ريفي. يجلسان الى قارعة الطريق منتظرين سيارة ما تنقلهما. يطلب أحدهما
سيجارة فيعطيه الآخر آخر سيجارة معه. وعود الثقاب الذي أشعلها هو الذي أشعل
تلك الصداقة. يفتح لنا الفيلم آفاق كل شخصية: باتشينو يريد العودة الى
محبوبته. هاكمان يبحث عن رجل يعقد معه صفقة تجارية تنقذه من وضعه. كلاهما
منهار اقتصادياً وكلاهما يجد في الآخر ما يبعث على احترامه والاعتزاز
بصداقته. وفي النهاية، يخفق كل منهما في الانتقال الى الوضع العاطفي او
الاقتصادي الذي كان يأمله.
المخرج الجزائري محمد الأخضر حامينا الذي قدّم
فيلمه الثوري “رياح الأوراس”. في دورة عام 1967 لا يزال يحضر الى “كان” من
باب الوفاء لذكراه وفي العام الماضي عرض فيلمه اللاحق “ذكريات سنوات الجمر”
الفيلم العربي الوحيد الذي نال جائزة ذهبية في “كان”.
السويدي بو ويدربيرج، الذي لا يزال حياً يرزق
بدوره، قدم عام 1969 فيلما أفضل من “ألفيرا ماديجن” هو “أدالين 31”: إبداع
رائع ودرس في كيفية تقديم فيلم ذي خامة سياسية من دون يافطات وخطب وحشد مواقف
عاطفية سمجة. وبينما ذهبت الجائزة الأولى في ذلك العام للإنجليزي “ليندسي
أندرسون” عن فيلم “إذا...” (فيلم رائع لمخرج مات بلا عمل قبل نحو ثلاث سنوات)
دخل المخرج اليوناني الأصل كوستا جافراس العرين الدولي بفيلمه السياسي “زد”
(ونال جائزة لجنة التحكيم). حاليا يطلق كوستا جافراس ما تسنى له من أفلام
لكي يبقى في الصورة، وآخر أفلامه تمجيدا في مسألة الهولوكوست بعنوان “آمين”.
ومن البرازيل شاهدنا جلوبير روشا وفيلمه “انطونيو الميّت”. حتى الممثل
الأمريكي دنيس هوبر أصاب نجاحا حين أخرج فيلمه الأول “إيزي رايدر” وكان واحدا
من أفضل أفلام الحركة الشبابية في تلك الفترة الى اليوم.
الأسماء كانت كثيرة ووفيرة ولا تنتهي. الدورة
الواحدة كانت زخما من أفضل الأسماء والأعمال. في أي سنة أغرت فيها على “كان”
ما بين العام 1967 و1980 كنت تواجه بأسماء كبار المخرجين وبنوعية من الأفلام
التي لم نعد نشاهد مثيلا لها اليوم. عبر هؤلاء المخرجين وعبر هذه الأفلام
استقطب “كان” كل هذا النجاح الذي حققه. نتكلم، الى جانب من ذكرناهم، عن
البريطاني “جون بورمان” الأمريكي “روبرت ألتمن”، المجري “استفان جال”،
الإيطالي “لوكينو فيسكونتي”، الأمريكي “ميلوش فورمان”، المجري “كارولي ماك”،
الروسي “أندريه تاركوفسكي”، السويدي “إنجمار برجمان”، المجري “ميكلوش يانشكو”
الأمريكي “جورج روي هيل”، الإيطالي “فرانشسكو روزي”، الأمريكي “هال أشبي”،
الإيطالي “بيير باولو بازوليني”، الفرنسي “إريك رومير”، الألمانية “مرجريت
فون تروتا”، الأمريكي “مارتن سكورسيزي”، الإيطالية “ليليانا كافاني”،
الفرنسية “مرجريت دورا”، الروسي “أندريه كونتشالوفسكي”، الأمريكي “فرنسيس
فورد كوبولا” وهناك أكثر من هؤلاء.
العام الأول الذي ذهبت فيه “كان” هو 1974 العام
الذي عرض فيه فرنسيس فورد كوبولا فيلمه الرائع “المحادثة”: جين هاكمان خبير
تلصص على أسرار الناس. مهنته التجسس لحساب الوكالة الخاصة التي يعمل لها وفي
أحد الأيام يكتشف أن هناك جريمة يحيكها صاحب هذه الوكالة للتخلص من زوجته
وحبيبها ومطلوب منه توفير المعلومات عن لقاءاتهما وأحاديثهما. إذ يفعل ذلك
يُصاب بصحوة تفقده إتزانه فهو لا يستطيع أن يفعل شيئا يذكر نتيجة هذه الصحوة
بل يبدأ الشك بأن الوكالة تتجسس عليه. في الصورة الأخيرة من الفيلم يجلس على
كرسي يلعب الساكسفون بعدما خرب بيته بحثا عن أداة إنصات مزروعة فيه. لم يجد
لكنه لم يعد الرجل الذي كان عليه.
ما شاهدته هنا بإعجاب كان “التفصيلة الأخيرة”
للأمريكي هال أشبي.. مخرج رائع رحل قبل عامين والفيلم هو صرخة ضد النظم
العسكرية من دون التخلي عن الترفيه المصاحب لصنو الحكاية: جنديان (أحدهما جاك
نيكولسون) عليهما اصطحاب مجند محكوم عليه بالسجن في ولاية أخرى. على الطريق
يكتشف الثلاثة قدرا من الروابط الإنسانية التي تجمعهما خصوصا وأن هذا المجند
المحكوم عليه سنوات عديدة لا يزال عذريا ما يدفع الجنديين للبحث له عن امرأة.
كل شيء في إطار موضوعي وأجواء واقعية ونكهة من الكوميديا السوداء ذات النقد
الواضح وغير المكثّف.
الأسباني كارلوس ساورا كان هناك وقدّم “ابنة العم
أنجليكا” وعاد بعد عامين ليقدم “صيحة الغراب” ويخطف عنه جائزة لجنة التحكيم
الخاصة الكبرى (ثاني الجوائز). أما الأولى فذهبت الى “سائق التاكسي” لمارتن
سكورسيزي.
أفلام عربية
السينما العربية لها تاريخ قديم في مهرجان “كان”
يعود الى عام 1946 عندما عُرض للمخرج محمد كريم فيلم مصري عنوانه “دنيا”. في
عام 1949 تم عرض فيلمين مصريين آخرين هما “البيت الكبير” لمحمد كامل مرسي
و”مغامرات عنتر وعبلة” لصلاح أبو سيف.
وعادت السينما المصرية عام 1952 واشتركت بفيلم
“ليلة غرام” لأحمد بدرخان و”ابن النيل” ليوسف شاهين (أول مرة لشاهين الذي خص
“كان” بمعظم الأفلام التي أطلقها على شاشات المهرجان). والجدير بالذكر أن عام
1952 شهد فوز فيلم قدّمه السينمائي الأمريكي الكبير الراحل أورسون ويلز
بعنوان “عطيل” باسم المغرب (حيث صوّر الفيلم واستفاد من تمويل هامشي). بذلك
حين نقول إن “ذكريات سنوات الجمر” للجزائري محمد الخضر حامينا هو الفيلم
العربي الوحيد الذي فاز سنة ،1975 بالجائزة الأولى، فإننا نعني الفيلم الوحيد
الذي أخرجه عربي.
أما “ابن النيل” فاستقبل بتصفيق كبير بين المدعوين
حين شاهدوه ما حفز شاهين على العودة الى المهرجان بفيلمه اللاحق “صراع في
الوادي” (1954). والحقيقة أن السينما المصرية خصوصا، والعربية عموما، وعدت
ولم تنفذ وعدها إلا قليلا. حملت طموحات رائعة ورشحت لأن تكون “يابان” الشرق
الأوسط (نظرا لحالة اكتشاف مواهب يابانية رائعة في تلك الفترة أيضا) لكنها في
السنوات اللاحقة لم تستطع سوى الظهور بنفس مظهر السعي والمحاولة الدؤوبة...
وإلى اليوم لا يزال السؤال واردا: هل ستصل يوما؟
# # # #
ظاهرة
تصفيق حاد و... نسينا
محمد رضا
الضجة التي رافقت قيام “حركة الدوجما” سنة 1995
هدأت اليوم كثيرا عما كانت عليه. حينما انطلقت في منتصف التسعينات بفضل بعض
المخرجين الاسكندنافيين وفي مقدمتهم توماس فينتربيرج ولارس فون تراير، ارتفع
تصفيق النقاد الغربيين معتبرين أنها ظاهرة ثورية في الأسلوب السينمائي، وما
لبث أن انضم إلى حفلة التصفيق تلك العديد من النقاد العرب الذين لا يستطيعون
البقاء بعيدا عن تقليد ردّات الفعل الغربية. صفق الغرب نصفق. صفّر نصفّر.
الدوجما، لمن لا يعرفها، وسيلة عمل في السينما تنص
على عدم استخدام أي تقنية دخيلة على الكاميرا (بما فيها المرشّحات وعواميد
التركيز) وعلى الإضاءة (لا لأي إضاءة غير طبيعية) ولا في الصوت (لا تسجيل
للموسيقى بعد انتهاء التصوير بل تسجل كصوت خلاله) وأشياء أخرى من هذا القبيل.
أي أن الجماعة ترفض أي شيء يزيد عن الكاميرا والفيلم الذي في الداخل والقطع
المونتاجي كما نعرفه. وفي سياق التبرير البحث عن لغة سينمائية صافية.
في أفضل حالاتها، فإن الدوجما بدت ونؤكد كلمة
بدت ظاهرة إبداع تتوخى تقديم ما تستطيع السينما توفيره من دون الاعتماد على
التقنيات الجانبية. لكن حتى في هذه الحالة، فإن المعروف أن ما يصنع الفيلم
الجيد ليس إذا حملت الكاميرا في يدك او وضعتها على عواميدها الثابتة، بل ما
تفعله بها في اي من الحالتين. وليست الإضاءة هي المشكلة بل في توزيعها. وإذا
كانت الإضاءة الطبيعية غير كافية لمشهد يدور في الداخل فما فائدة ألا يبصر
المشاهد شيئا من المشهد الذي أمامه؟ ومن ثم إذا اعتبرنا أن “الدوجما” هي
المستوى الصحيح من الإبداع السينمائي فماذا عن 100 سنة سينما من الإبداع
واكبت خلالها حركات وموجات وأساليب تعبير لا يمكن ضحدها؟
إذاً هي حركة مردود عليها حتى كنظرية. لكن النقد
الحديث يواكب عوض أن يطرح الاسئلة والحركة بوركت وأفلامها مجّدت وأصبحت فجأة
واقعا لا يُسأل فيه. لكن بعد تسع سنوات من حياة “الدوجما” أصبح حتى هذا الجزء
من النقد اللمّاع عليه أن يبحث عن إجابات تشفع تشجيعه لنظرية جرى تطبيقها من
دون نتائج رائعة. فاذا ما كانت الدوجما في أفضل حالاتها توحي بالإبداع، فإنها
في الحالات الأخرى لا توحي بشيء سوى الرغبة في إثارة الحديث عنها وتقديم
مخرجيها كمن لو أنهم يخترعون الماء الساخن. يكفي أن أصحاب الدوجما استخدموا
كاميرات الدجيتال الرقمية وهي آخر إبداعات التصوير. كيف ترفض “تصنيع” السينما
والوقوع تحت “مؤثراتها” التقنية وتقبل بأن تصوّر بآخر ما ابتدعته تلك التقنية
من وسيلة تصوير وتصنيع ومؤثرات؟
أكثر من ذلك صار واضحا أن الدوجما استخدمت الاسم
لشق طريق تجاري للسينما التي تنتمي اليها خصوصا وللسينما الاسكندنافية عموما.
هذه شطارة استفادت منها السينما الاسكندنافية: تعالوا نقدم لكم نفس الأفلام
والمواضيع إنما بصندوق جديد مكتوب عليه “دوجما”. لا بأس لولا أن العملية
التجارية تتناقض والسعي الفني المعلن للدوجما.
الآن حركة الدوجما موجودة في الدنمارك فقط.
السينمائيون الاسكندنافيون الآخرون تخلّوا عنها. في السويد والنرويج أفلام
جديدة بالوسائل “التقليدية” حققت في مطلع هذا العام نجاحات تجارية كبيرة نتج
عنها تقلص التأثير الذي حاولت “الدوجما” الاحتفاظ به. حالما وجد المنتجون أن
أفلامهم “التقليدية” تحقق نجاحات كبيرة انطلقوا في ركبها ومعهم بعض المخرجين
الذين تحمّسوا سابقا للدوجما.
المنتج إبراهيم ترديني أنتج فيلما عنوانه “في
مقدورك” شهد إقبالا غزيرا منذ مطلع السنة وأدرك أن أي أسلوب آخر لتقديم هذا
الفيلم الدرامي كان سيضر بالفيلم ولن ينفعه. يقول: “لو اعتمدنا مبدأ الدوجما
لما وجدنا هذا الإقبال. الناس أحبوا الفيلم كما هو وأي طريقة أخرى كانت
ستنتهي الى فشل ذريع”.
هذا من منتج لا يرى أن الدوجما أمر سيئ بل يدافع
عنها بالقول: “الدوجما ليست شيئا عاطلا. اذا ما مورست على نحو صحيح أعطت
نتائج جيدة. لكنها صعبة التطبيق والمخرجون الجدد فيها عادة لا يدركون مغبّة
قبولهم مبادئها فيثورون ويتنازلون”.
|