كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

ريجاتا

كمال رمزي

السبت 31 يناير 2015 - 8:30 ص

 

الأرجح، حين تسمع أو تقرأ عن قوة وجمال أحد الأفلام، ثم تشاهده لن تجد فيه ما يستحق كل هذا الإطراء.. العكس صحيح أيضا، عندما يأتى فيلم مصحوبا بالاستنكار، وتعلم أن دور عرض رفضته، ثم نشاهده، بحكم المهنة أو الرغبة فى قضاء بعض الوقت فيما لا يفيد، لن ترى فيه ما يدفع للانزعاج، وربما يثير إعجابك عنصر فنى أو موقف أو أداء تمثيلى لممثل ما.. شىء من هذا القبيل حدث لى مع مشاهدة الفيلم المذكور.

ثلاثة من المخضرمين انتشلوا «ريجاتا» من الغرق فى بحر السأم: محمود حميدة، فتحى عبدالوهاب، إلهام شاهين.. حميدة، بعد عدة سنوات من التوقف، يعود إلى عالم الأطياف محملا بطاقة فنية لافتة، كأنه كان يشحن قدراته ليعلن حضوره القوى، سواء بتفهمه العميق للشخصية التى يؤديها، أو بطريقته الخاصة فى التعبير عنها.. هنا، يؤدى دور رجل عصابات صاحب باع طويل فى عالم الجريمة، انتقل نشاطه من المحلية حيث حارته المنسية فى أحد الأحياء الشعبية، إلى آفاق العالم السفلى فى أوروبا، ثم عاد إلى القاهرة ليستكمل مسيرته. تعلم كيف يكون متأنقا فى ملبسه، عصريا فى نشاطاته المشبوهة، والواضح أن نجاحه فى دنيا الظلام جعله شديد الثقة فى الذات، صوته لا يرتفع أبدا، يتحرك ويتصرف بهدوء ورسوخ. فى لحظات الخطر، لا يرمش له جفن، ساخر، صاحب وجه بشوش، مبتهج، لكن، يقنعك أن بداخله قسوة لا يحدها حدود. الشفقة لا تتسلل لقلبه أبدا.. فى أحد المشاهد، يعود إلى شقته فيجد إحدى عشيقاته ـ بأداء رانيا يوسف ـ دامية الوجه، إثر «العلقة» التى نالتها من زوجها ــ عمرو سعد ــ فيعلق، ضاحكا: إنه لم يترك لى مكانا أضربك فيه.

أداء محمود حميدة يستحق المشاهدة، وبينما يبدو الفارق شاسعا بينه وبين شركائه فى العمل، فإن الوحيد الذى يصمد أمامه، هو فتحى عبدالوهاب، المتمكن، صاحب الوجه الحساس، المتسم بالعناء.. إنه ضابط مباحث شريف، ذكى، يدرك الكثير من الأمور، لكنه لا يمسك بالدليل، يتواجه المرة تلو المرة، مع محمود حميدة تارة، وعمرو سعد تارة أخرى، الصراع بينه وبين حميدة من النوع الساكن، الدفين، كلاهما يفهم الآخر تماما، وبينما يتعمد حميدة أن يبدى قدرا غير قليل من الاستخفاف، يحاول فتحى عبدالوهاب كسر ثقة المجرم، بنظرات تفيض بالإدانة والغضب المكتوم.. وعندما يقوم عمرو سعد، جادا، بتهديد الضابط، بإيقاع الأذى بابنته الطفلة، تلتمع عيون فتحى عبدالوهاب بالقلق، قبل أن يسترد رباطة جأشه. إنه إنسان شريف، فى قلبه رحمة تتجلى فى علاقته بإلهام شاهين، الأم المريضة، التى تدعى أنها قتلت ابنها، لكى تحمى ابنها الآخر.. وفى موقف بالغ الرقة، يسحب الضابط طرحة إلهام شاهين فيظهر رأسها الخالى من الشعر تماما. تلمح الدهشة فى وجهه، تقول بصوت يمتزج فيه الوهن بالاعتذار أن شعرها سقط بسبب العلاج الكيمائى.. عندئذ، فى صمت، للحظات، يندلع داخل فتحى عبدالوهاب، صراع بين الواجب والعاطفة، فإما أن يحيلها للنيابة، أو يطلق سراحها ليواصل بحثه عن القاتل.. وطبعا، ينتصر الواجب.

إلهام شاهين، تفاجئنا هذه المرة عن الأنوثة التى اعتمدت عليها فى عشرات الأفلام السابقة. هنا، تراهن على موهبتها، وقدراتها الفنية، وهى تكسب الرهان بامتياز.. تجسد شخصية امرأة شعبية أنهكتها الحياة، عاشت تجارب قاسية، لكن لاتزال واقفة، بصمود، على قدميها مستعدة للنزال فى أى لحظة، مريضة، بذلك المرض الذى ــ من الملاحظ ــ يجعل المصابين به على قدر كبير من القوة المعنوية. تتحرك، فى الشارع، بعفوية، تتشاجر مع سائق «التوك توك» النزق، على طريقة نساء المناطق العشوائية، وبرغم تعنيفها لابنيها، تجعلنا نحس أنها تحنو عليهما.

لكن، هل يشفع هذا المثلث الذهبى ـ حميدة، فتحى، إلهام ـ لفيلم يحاكى واحدة من أسخف وأتفه القضايا الوهمية التى هجرتها السينما المصرية، منذ زمن طويل.. قضية اللقطاء، أو غير المعروفين الأب، فهل تصدق أن تكون مشكلة «شحط»، طويل، عريض، مؤدب، أنه لا يعرف والده، ووالدته أيضا، إلهام شاهين، أنجبته من مجهول، منذ عدة عقود، أيام عملها فتاة ليل، وبالتالى، لا تعرف والده.. إلى جانب بؤرة التصدع هذه، فى السيناريو الذى كتبه معتز فتيحة مع المخرج محمد سامى، الذى لم يستطع إدارة بقية الممثلين، تاركا لهم الحبل على الغارب، فاندفع كل منهم فى الجنوح إلى مغالاة الميلودراما، فبدا حضورهم ثقيلا مملا، لا يخفف من وطأته إلا ألق المخضرمين.


القط

كمال رمزي

الثلاثاء 27 يناير 2015 - 8:05 ص

فى أحد مشاهد البداية، تتابع الكاميرا، بدأب وإصرار، مسيرة عمرو واكد، داخل زقاق ملتوٍ، متجاور الأبواب، بعضها مفتوح، بداخلها أثاث فقير، ومعظمها مغلق، مكتوب عليه، بخط ردىء، أسماء سكانها. الزقاق مسقوف، معتم، لا تتبين معالمه بسهولة، أقرب للمتاهة، خانق، مقبض. يستمر المشهد من دون قطعات ووصلات. هو لقطة واحدة، تعد من أطول لقطات الأفلام المصرية، إن لم يكن أطولها.. يحققه المخرج، إبراهيم البطوط، بمهارة عالية، يعبر به، بتكثيف، عن روح العمل الذى يدور فى العالم السفلى، الليلى، الوحشى، لمدينة القاهرة.

المشهد الطويل ينتهى بـ«القط» ــ عمرو واكد، داخل حجرته الضيقة، القاتمة، يجهز قنبلة موقوتة.. على العكس عن «المشهد ــ اللقطة» المذكورة، تتوالى سريعا، لقطات لثلاثة من أطفال الشوارع، يتحلقون حول بقعة نيران صغيرة، لا تبدد الظلام، أشعلوها طلبا للتدفئة.. عربة تقترب منهم، ينزل منها عدة شباب، يخطفون الأطفال. بنت وولدان.. باختزال، نصل إلى الموقف المروع لمشرط جراح يقع على أرض قذرة، بينما يواصل الجراح التقاط كلية من جسد أحد الأطفال، يضعها فى علبة ثلج.. ندرك أنها عصابة منحطة لتوريد الأعضاء لمن يريدها.

شيئا فشيئا تنكشف العلاقات: «القط»، المجرم أصلا، يناصب العصابة العداء، ذلك أن ابنته اختفت فى ظروف غامضة، وربما يخشى أن يكون مصيرها مثل مصير المغدورين.. «القط» مع مجموعة من شذاذ الآفاق، يطارد أحد أفراد العصابة، فى قلب شوارع العاصمة، وبلا تردد، يوجه له طعنة ترديه نازفا للدم، ميتا.

الفيلم، لا يندرج فى قائمة أفلام الجريمة، أو المطاردة، أو حرب العصابات، لكن ينتمى إلى مخرجه، كاتب السيناريو، إبراهيم البطوط، الذى يحاول، مغامرا، بجرأة، أن يحلق عاليا، وبعيدا، ليرى، ما وراء الواقع، طارحا الكثير من الأسئلة، تعبر عن نحو ما، عن حيرة فكرية، سواء على مستوى التاريخ، أو الديانات، أو سلوك البشر، أو معنى دورة الحياة، على الصعيد الفردى، وبالتالى، جاء «القط» محملا بقضايا فلسفية، غير مطروقة على شاشة السينما المصرية، مبهما إلى حد ما، يتيح للمتلقى الجاد، عدة قراءات متباينة.

فاروق الفيشاوى، يبدأ وينتهى به الفيلم، لا يمكن أن نلخصه فى جملة، فهو أقرب للروح، يهيمن على مسار الأمور، قوى معنويا، عابر للزمن، يطالعنا فى المشهد الافتتاحى هابطا من مكان مرتفع، نازلا على سلالم مقبرة «أوزوريس»، يتأمل النقوش الجدارية، يلفت نظرنا رسم يشبه الطائرة، ولاحقا، مع تراتيل صلاة تتوالى أثناء زياراته لمعابد يهودية، ثم كنائس قبطية، ثم مساجد إسلامية، الصور خلابة، روحانية، ذات طابع تسجيلى، شاعرى، لا علاقة لها بخشونة الحاضر، والواقع، ينظر لها فاروق الفيشاوى نظرة لا تتأتى إلا من ممثل راسخ، تحمل فى طياتها شيئا من الاعجاب، وتبتعد عن الخشوع، وتقترب من الحيادية.. الفيشاوى هنا، قوة مطلقة، لا اسم له، حازم، يتسم بثقة مطلقة فى الذات، لا يهتز له جفن حتى حين يتمرد عليه القط ويهدده، جادا، بالقتل. الفيشاوى، فى الفيلم، يحتمل أكثر من تفسير.

فى اللقاء الأول بين «القط» والفيشاوى، يبدو الأخير كعارف ببواطن الأمور، وكمحرك الأحداث، ينبه «القط»، مبتسما، إلى ضرورة، وجدوى التخلص من «فتحى»، الموغل فى الشر، رئيس عصابة بيع الأعضاء البشرية.. بجملة أخرى: القضاء على الشر بالشر المضاعف.

«فتحى» ــ بأداء موفق من صلاح الحنفى ــ فاسد تماما، يلخص موبيقات المدينة، يعيش حياة صاخبة، نشهد جانبا منها، ينغمس فى ملذات شاذة، يحيط نفسه ببطانة من منحرفين، يندلع الصراع بينه والقط، ساخنا، داميا، إلى أن يلقى مصرعه فى ميتة أليمة.

فى الفيلم العديد من الخيوط المبتسرة، تلمع ثم تختفى، خاصة فيما يتعلق بعلاقة القط مع زوجته التى يطلقها لسبب غير معروف، وعلاقته بوالده المريض، الذى تبتر ساقه، ويغدو على الابن دفن الساق فى مشهد يذكرنا بمسرحيات «العبث» أو «اللامعقول»، خاصة حين يدور النقاش حول مدى وجوب قراءة الفاتحة على الساق أثناء دفنها.. وربما يصل المتابع إلى القول أن سيناريو «القط» كان يحتاج لإعادة كتابة. لكن، مع إبراهيم البطوط، المتمكن إخراجيا، صاحب الرؤية الصادقة، المفتقدة لليقين، تطرح أسئلة بلا إجابات، على المتابع أن يبحث عنها، وقد لا يؤمن بصيحة الفيشاوى، فى النهاية، حين يقول للقط، المبتعد بقارب على صفحة الماء «انت عملت الصح»، كأنه يؤكد أن العنف لن ينكسر إلا بعنف مضاد، موحيا أن دائرة العنف لن تتوقف، وأن «الفيشاوى» نفسه، ليس إلا أحد أباطرة الشر.. «القط»، فى النهاية، ليس للمتعة فقط، بل للتفكير والتأمل.


أسلوب.. فاتن حمامة

كمال رمزي

السبت 24 يناير 2015 - 8:20 ص

على سلالم المحكمة، فى «أريد حلا» لسعيد مرزوق 1975، تجلس فاتن حمامة جوار السيدة الأكبر سنا، أمينة رزق، كلتاهما فى مأزق، لكن الفارق بينهما بالغ الاتساع، وذلك أن الأخيرة، إلى جانب مشكلات الطلاق، وقوانينه المنحازة للرجل، تعانى ضيق ذات اليد، وها هى، تفتح حقيبة يدها القديمة، المهترئة، لتخرج منديلا، تفركه بين أصابعها، بديلا عن البكاء، وتشكو حالها لفاتن حمامة.. المشهد للقديرة أمينة رزق، التى تعبر عن انكسارها الداخلى، بعيونها الحزينة، وصوتها المتهدج بالأسى. لكن قوة وعمق تأثير الموقف، يكتمل بذلك الحنو النابع من قلب فاتن حمامة. إنها تكاد تحتضن المظلومة، الحائرة، بنظرة مفعمة بالتفهم والشفقة، مع ما يشبه شبح ابتسامة تشجيع.

هنا، تتجلى إحدى قدرات فاتن حمامة: تكثيف الإحساس بالآخر، فهى، بموهبتها وخبرتها، تدرك أنها ليست مفردة داخل الفيلم، حتى لو كانت البطولة المطلقة لها، لذا، يصل المشاركون معها، إلى أعلى مستوياتهم، إلى جانبها.. وأحيانا، بأداء بارع، تعبر ببلاغة، عن أحداث قد لا نرى تفاصيلها. آية ذلك ما حققه معها مخرجها الأثير، هنرى بركات، فى «دعاء الكروان» 1959، وبالتحديد فى مشهد قتل «هنادى».. بركات، بشاعريته المرهفة، يتحاشى تماما تصوير الدم، أو الإيغال فى تجسيد القسوة، وبالتالى، اكتفى برصد مقبض الخنجر يرتفع فى الفضاء، فى يد الخال، ثم يهوى على زهرة العلا، وينتقل بركات سريعا، إلى فاتن حمامة، المذهولة، المذعورة، وقد وضعت أصاعبها على فمها، وبنظرات زائعة، متألمة، نكاد نرى تفاصيل لحظات الموت التى لم تعرضها الشاشة.

فاتن حمامة، تمثل وكأنها لا تمثل، تعتمد على حساسية داخلية قائمة على إدراك عقلى للمواقف، ولطبيعة بقية الشخصيات، ونوعية علاقاتها بهم، وعلاقتهم بها، فضلا عن استيعاب الانفعالات البسيطة والمركبة، فى هذا المشهد أو ذاك.. تعبر عنها على نحو سلس، بالغ النعومة، خلال وجهها الدقيق الملامح، بقسماته الجميلة، البعيدة عن الصخب، القريبة إلى النفس، المتميز بعينين واسعتين، صادقتين، معبرتين، تجعلانك تطل من خلالهما على عوالم رحبة من أحاسيس متباينة، متداخلة، متعددة الألوان والدرجات.

أما عن صوتها، الذى غالبا لا يرتفع، فإنه يتسلل إلى القلب حاملا معه شحنات انفعالية، تتجسد بفضل قدرتها على منح الكلمات معانيها، الظاهرة والخفية، وتلوينها بالأحاسيس التى تريد التعبير عنها.. وأحيانا، يتحول صوتها إلى «معزوفة»، تهز وجدان المتلقى، وتظل باقية فى الذاكرة السمعية، فى «الحرام» لبركات 1965، على سبيل المثال، تردد، فى نوبات الحمى التى تنتابها، أربع كلمات بنغمة أقرب للأنين، تلخص مأساة كاملة «عرق البطاطا كان السبب».

«الأخذ والعطاء»، عند فاتن حمامة، ليس مقصورا على علاقاتها بغيرها من البشر «الممثلين»، ولكن يمتد إلى الإكسسوارات التى حولها، ومن الممكن أن يغدو ثلاثى الأطراف، هى، والممثل، وقطعة الإكسسوار.. فى «يوم مر.. يوم حلو» لخيرى بشارة 1988، تؤدى دور امرأة من شبرا، أرملة ربان سفينة تحمل أربعة أبناء، عليها الحفاظ على سلامتهم وسط متاعب لا تنتهى.. إحدى بناتها تزوجت من شاب فالت العيار، أقرب للبلطجى، يؤدى دوره محمد منير.. تزداد شروره مع الأيام.. تقرر مواجهته، وإيقافه عند حده.. وها هى، بإرادة من حديد، تتأسد، وتلتمع عيون فاتن بالعزيمة والتحدى، لكن الوغد، الذى يعرف، كما نعرف نحن، ما الذى تعنيه ماكينة الخياطة بالنسبة لها، وبالنسبة لكل من تعتمد عليها كمصدر رزق.. زوج الابنة، برعونة، يكاد يرفع الماكينة مهددا بتهشيمها على الأرض. حينئذ، فى لحظة، يتلاشى غضب فاتن حمامة، تتحول إلى أرنب هادئ لطيف، ناعم ومحب، طبعا كى تتحاشى غضبه.. تظهر له مودة مزيفة، بينما نحن نعرف ما الذى يدور فى داخلها. هنا، يصبح الأخذ والعطاء بين فاتن، والماكينة، وزوج الابنة.

فى مشوارها الطويل، على الشاشة، طوال ستة عقود، قدمت عشرات الصور المتباينة، وربما المتناقضة، للمرأة المصرية.. عملت مع أجيال متوالية من مخرجين تختلف أساليبهم، من «ميلودرامات» حسن الإمام إلى رومانسيات عز الدين ذوالفقار، ومن طبيعية صلاح أبوسيف إلى واقعية خيرى بشارة، ومن بوليسيات كمال الشيخ إلى كوميديات فطين عبدالوهاب.. وبرغم تنوع الادوار التى قدمتها، فإن موهبتها الكبيرة، اعتمدت على ركائز أساسية، عظيمة الشأن، فعالة، حققت بها لقب «سيدة الشاشة العربية» عن جدارة، وكانت سببا فى نجاح عشرات الأعمال، لكن يبقى السؤال، ليس بالنسبة لفاتن، ولكن بالنسبة لأفلامها: كيف قدمت صورة البنت المصرية، عبر ما يزيد على النصف قرن.. علينا البحث عن إجابة.


لمسات .. فاتن حمامة

كمال رمزي

الثلاثاء 20 يناير 2015 - 7:50 ص

منذ خمسة أعوام، التقيت السيدة المضيئة. المناسبة، تكريم مهرجان دبى لها وتكليفى بإجراء حوار طويل معها.. ولأننى، من الجيل القديم، الذى يذهب إلى المحطة قبل وصول القطار بساعة، توجهت إلى فيللا الأستاذة مبكرا، فى المساء.. كنا فى الشتاء، وبرغم لسعة برد ديسمبر، لمحت قطرات العرق تتفصد من جبهة المصور الكبير، الموهوب، رمسيس مرزوق، لتختفى بين شعر لحيته التى بدت مبتلة، كأن صاحبها خارج من الحمام، ولم يجففها بعد.. رمسيس، ومعه عدة عمال، يوزعون لمبات الكهرباء فى الصالة، ويجهزون آلات التصوير.. وهو، بخفة ونشاط، يصعد على السلم الخشبى النقال، ليضع فرخ الجلاتين أمام هذا «البروجيكتور» وذاك.. جلست فى الشرفة أنتظر.

فى الموعد المحدد، بالدقيقة، جاءت فاتن وجهها البشوش محلى بتلك الابتسامة المشرقة، النابعة من قلب دافئ. ترتدى فستانا أنيقا وبسيطا، تصافحنا.. بعد جلوسها بفترة وجيزة، جاء من يحمل صينية عليها فنجان قهوة وكوب ماء. وضعها على منضدة صغيرة، وفى لمسة متحضرة، تعبر عن ذوق رفيع، قامت، لتقدم فنجان القهوة، بنفسها.. وجدت، فى سلوكها الرقيق، ما يستحق أن يشار له، بإعجاب صادق، لم استطع ان أتوقف عن حكايته، للشخص الواحد، عدة مرات.

أثناء الحوار جاء رئيس المهرجان، عبدالحميد جمعة، مرتديا جلبابه الأبيض، حاملا معه الدرع التى ستتسلمه فاتن، لأنها لن تحضر المهرجان بنفسها.

انتقلنا إلى الصالة، حيث سيسجل رمسيس وقائع تسليم الدرع، مع ترحيب نجمتنا بالضيف، مع جملة تحية لشعب الإمارات، وعدة كلمات من جمعة، يقول فيها: أتشرف بتقديم درع التكريم لسيدة الشاشة الأولى.

على اليسار، فى الصالة، ثمة باب، من المفروض خروج فاتن منه، للترحيب بالضيف الواقف فى المنتصف، ثم تبادل العبارات.. طلب منى رمسيس الجلوس على مقعد فى صالون الصالة، كى أصفق عقب تقديم الدرع.. قلت: لا بأس أن أكون «كومبارسا» مع فاتن حمامة.

بعد البروفة، أعيد التصوير عدة مرات.. مرة لأن فاتن سارت بسرعة، ومرات لأن فترات الصمت طويلة، ومرات لأن عبدالحميد جمعة تلعثم، أو نسى ترتيب الكلمات، كأن يقول: درع التكريم هذه أقدمها.. ثم يتوقف.. حمدت الله أننى مجرد «كومبارس» صامت، غير متكلم.

من موقعى، رأيت فاتن حمامة، الواقفة عند الباب، وقد بدا الإنهاك واضحا على وجهها، وإسناد جسمها على خشب الباب.. لكن ما أن تتحرك حتى تدب الحيوية فى كيانها كله.. أقدامها تتحرك بخفة ونشاط، ملامح وجهها تسترد رونقها.. صوتها الرقيق، العذب، يأتى صادقا، محببا.. عندئذ، لمست بوضوح، ذلك الجلد على العمل، والإصرار على إجادته، بصبر، أتاح لها بطولة أكثر من مائة فيلم، فضلا عن عدة مسلسلات.

الحديث مع فاتن حمامة، إلى جانب ذوقه المرهف، يجعلك ترى، بوضوح وبساطة، ما كان خافيا عليك.. فمثلا، من الأمور التى حيرتنا، البحث عن سبب عدم قيام فاتن حمامة بتمثيل إحدى شخصيات نجيب محفوظ. جاءت إجابتها كالتالى: حين انتبهت السينما لروايات نجيب محفوظ، كنت فى مرحلة عمرية تجاوزت أعمار أبطاله، كما لم أكن قد وصلت لسن الأمهات فى أعماله، لذا فاتنى قطار روايات نجيب محفوظ.. أردفت تقول: علاقتى الفنية بالروائى الكبير بدأت مبكرا، من خلال السيناريوهات التى كتبها أو شارك فى كتابتها، ابتداء من «لك يوم يا ظالم» لصلاح أبوسيف 1950، حتى «امبراطورية ميم» لحسن كمال 1972.

عن نجيب محفوظ، قالت: إنه من أذكى وأظرف وألطف من قابلتهم. يدرك المفارقات فى المواقف، يفاجئك بتعليقات ساخرة، شديدة العمق، لا تخطر على بال.

قادنى حديثها عن نجيب محفوظ إلى سؤالها عن الأدباء الآخرين، كيف تراهم، فكريا وإنسانيا.. برحابة، ونفاذ بصيرة، تكلمت عن يوسف إدريس: انه متوقد الذكاء، له نظرته الخاصة للأمور، ودائما، عنده مشروعات لا تتوقف. قصص وروايات ومعالجات سينمائية، يتحدث بحماس عن تفاصيلها، بالطبع، الكثير منها لا ينفذ، ذلك انه بذات القدر من الحماس ينتقل لغيرها.. فى إحدى المرات، عقب حريق الأوبرا، أخذ يروى عن قصة ذات مغزى سياسى، تدور حول امرأة تدخل السجن بدلا من زوجها، وبعد سنوات طويلة تخرج من وراء القضبان فتجد أن كل شىء قد تغير للأسوأ، وان تضحيتها كانت بلا طائل.. عشرات القصص التى حكى لى عنها، مثل هذه القصة، لم تتحقق. إنه متوهج بالأفكار والخيال، يفتح أمامك آفاقا واسعة. كانت الساعات تمر معه كأنها لحظات.

بعيون فاتن حمامة، رأيت جوانب جديدة، فيمن عملت معهم، تستحق فعلا أن تحبهم وتحترمهم: إحسان عبدالقدوس، يوسف جوهر، بركات، يوسف شاهين، يوسف السباعى، وغيرهم.. بعد ساعات من سرد تفاصيل ذكريات ثمينة، غادرت الفيللا، وبرغم البرد والظلام، كنت أشعر بالدفء وألمس الضياء.


أحد سكان المدينة

كمال رمزي

السبت 17 يناير 2015 - 8:10 ص

مخرج جديد، أتوقع وأتمنى له مستقبلا زاهرا، اسمه أدهم شريف، لا أعرفه شخصيا، لكن تفهمت، واقتنعت، بقوة طاقته الإبداعية، المدججة بروح الشباب الطموح، واستقلال رؤيته التى لا تستعير عيون أحد، وبالتالى، جاء فيلمه القصير، الأول فيما أظن، لا يشبه إلا نفسه.

شاهدت الفيلم على شاشة القناة الثانية، الباهتة، فى أول حلقة من برنامج واعد، تتوافر فيه عوامل النجاح، ذلك أنه من إعداد ناقدنا النزيه، المتحمس دائما للتجارب المتمتعة بروح الحداثة، واستضاف، الناقدة الكبيرة، صاحبة الخبرة العميقة، خيرية البشلاوى، حيث بينت بجلاء، مواطن الجمال فى الفيلم ومفرداته.. لكن، فيما يبدو، أن أزمة الاستوديوهات، وندرتها، التى يعانى منها المبنى الضخم، المسمى «ماسبيرو»، جعل تسجيل «اتفرج يا سلام» يتم فى شرفة تطل على النيل، فى هواء طلق يجعل «الميكات» تصفر وتوشش، بدلا من أن ترصد الكلام واضحا.

عنوان الفيلم هو عنوان العمود، يبدأ بصورة كيس طعام فارغ، تدحرجه الرياح على الأرض، مع صوت معلق، من خارج الكادرات، يتحدث عن الحظ والإرادة ولقمة العيش.. سريعا، ينقذ المخرج فيلمه بعدم الاسترسال فى ثرثرة ذات طابع فلسفى، فالراوى، يقدم نفسه: أنا أتولد هنا، فى القاهرة، المدينة الكبيرة العظيمة، حتة من أرضها بأتدحرج عليها، عارف ريحة كل شارع فيها، حافظ نغم دوشتها.

الراوى، يركز على حاسة الشم، وبعد عدة مشاهد، نكتشف السر. إنه أحد كلاب الشوارع، يعتمد على حاسة الشم.. وفى لمسة إبداعية موفقة، نرى المدينة، بسكانها من البشر، من وجهة نظر الكلب، وفى مستوى عينيه. المخرج، مع مصوره المتفهم، بسام إبراهيم، ومونتيره الجرىء، يرصد أقدام المارة المتزاحمة، عجلات السيارات والعربات الكارو، الأجزاء السفلى من البيوت، صندوق ماسح أحذية، مواسير ملقاة على الأراضى.. لقطات متتابعة، متدفقة، تعبر تماما عن القاهرة بأحد سكانها، الذى لا ينتبه له البشر.

بطلنا، أو كلبنا، يميل للتأمل، ينبهنا إلى آخرين، من زملائه ذوات الأربع، يعيشون فى المدينة. منهم النجوم، مثل أسد حديقة الحيوان، وكلاب اللوى المدللة، والخيول العاملة.. كلهم، حسب اللقطات، مقيدون.. بينما هو «الصعلوك» يعيش حرا. ليس وحيدا، لأنه يدرك ضرورة أن يكون له أقران وعزوة.. يعرفنا على أحبائه: «جميلة»، الرقيقة، الأقرب للزوجة، وصديقه «زنجه»، الجدع، المخلص، وإن كان عقله «على قده».

يتابع الفيلم، بالصورة، سرد الكلمات، مؤكدة معانيها، على نحو أقرب للتوازن.. وبرغم رجحان كفة الكلام، فإن الكثير من المشاهد، مع المؤثرات الصوتية، يكاد يصل إلى مستوى إبداعى لافت للنظر والسمع.. الكلب يتحدث، بلسان الراوى، عن الحرية التى يعيشها، فيطالعنا حضوره، جالسا على قدميه الخلفيتين، مرفوع الرأس، يمتد الأفق وراءه بلا حدوث، فى لحظة غروب الشمس.

القاهرة ليلا، هى مدينة الكلاب، هكذا يؤكد محدثنا، وينبهنا إلى أن لكل مجموعة من الكلاب، منطقة مستقلة، لا تدخلها كلاب أخرى.. وإذا اقتحمت المكان، فإن معركة ستدور حتما، قد تخلف دما وجرحى.. وها هى، بالصورة، مجموعة غريبة تدخل الشوارع الخاصة ببطلنا و«جميلة» و«زنجة». فورا، ينطلق النباح، يتحول إلى زومان، ثم لهاث وعواء ألم مصابين، ومع المطاردات والمواجهات، يرتفع النباح، معبرا، كمؤثرات صوتية موفقة، تؤكد حتمية الدفاع المستميت عن الأرض.. هنا، نلمس فكرة مضيئة، عن «الوطن»، وضرورة الانتباه والاستعداد، لمواجهة الغزاة.. ومن الناحية الفنية، تدخل المؤثرات الصوتية، الواقعية، فى نسيج الفيلم، وبنيته، على نحو أعمق وأقوى من الموسيقى المصاحبة، التقليدية، المستعارة من مقاطع معروفة.. وفيما يبدو أن الراوى، عادل عبدالرازق، صاحب الصوت الواضح النبرات، أصابته الحيرة إزاء طريقة الأداء، فأحيانا يلتزم بأسلوب المعلق المحايد، وأحيانا يجنح إلى الأداء التمثيلى.. إجمالا «أحد سكان المدينة»، عمل مصرى مبتكر، شجاع فى خياله، مجتهد فى تنفيذه، يمنحنا شحنة أمل فى مستقبل سينمانا.


أفلام محتملة

كمال رمزي

الثلاثاء 13 يناير 2015 - 7:55 ص

متابعة الأحداث الساخنة، المبتسرة، خلال الأسبوع الفائت، بوضوحها الظاهر، وأعماقها الخفية، توحى بأنها ستغدو مادة ثرية لأفلام بالغة التنوع، روائية وتسجيلية، بوليسية وعاطفية وتراجيدية وكوميدية، ذلك ان ما جرى فى العاصمة الفرنسية، أقرب للمعالجة السينمائية، مجرد وقائع، مهمة وناقصة، وشخصيات أقرب للأشباح، لا نراها بقدر ما نستشعر أفعالها، غموض، أكاذيب تفضحها حقائق، علاقات مبهمة، صراعات فكرية وبدنية.. كلها، عناصر تحتاج لكاتب سيناريو متمكن، يجدل منها، على الورق، ما يتيح للمخرج الموهوب، تحقيق عمل له شأنه.

السينما، وهذه إحدى ميزاتها، تستكمل، فى الكثير من الأحيان، الجوانب التى تم التستر عليها، مثلما حدث فى جريمة اغتيال «كيندى»، حيث كشف المخرج أوليفر ستون فى فيلمه «J.F.K» دوافع قتل الرئيس الأمريكى وكيفية التنفيذ المعقدة.. وثمة «لقد شاهدت اغتيال المهدى بن بركة» للمخرج سيرج ليبيرون، الذى يدين الشرطة الفرنسية المتواطئة مع الجنرال أوفقير. كذلك الحال بالنسبة لشارل ديجول، الذى تعرض لعدة محاولات اغتيال، تحولت إلى أعمال سينمائية، ومنها «يوم ابن آوى» لفريد زينمان.. جدير بالذكر أن ديجول ــ واقعيا ــ علق على إحدى المحاولات الخائبة لقتله من قبل عدة رجال هربوا قبل القبض عليه، تعليقا ساخرا، عن الهاربين وحراسه، بقوله «كلاهما فشل فى مهمته».

جملة شارل ديجول الصادقة، الطريفة، وردت إلى الذهن، بمناسبة تلك المفارقة الواسعة بين حالة الرضا الكئيبة لنائب وزير الداخلية الفرنسى، عقب انتهاء الأحداث الدامية الأخيرة، حين قدم آيات الامتنان لقوات الشرطة، والجيش، والنخبة، التى نجحت، باقتدار، فى مسعاها.

هنا، ينتمى الموقف إلى «الكوميديا السوداء».. شاهدنا، على الشاشة الصغيرة، عدة طائرات هليكوبتر، سيارات مصفحة، جحافل من عساكر وجنود، ضخام الجثث، مدججيم بالأسلحة، نعلم تماما أن هذا الحشد ضد رجلين، ومجرم ثالث فى مكان آخر، فماذا كانت النتيجة: قتل الثلاثة بدلا من القبض عليهم، ومصرع أربع ضحايا من الرهائن فى أحد المطاعم.. هكذا: ترى الفتيان كالنخل، وما يدريك ما بالداخل.. ومع هذا، بدلا من العقاب على الفشل، تقدم لهم التحايا.

أظن أن أحد صناع السينما، سيلفت نظره تراجيديا العسكرى المغدور، أحمد مرابط، المسلم، الذى لقى حتفه على يد صومالى أو مالى مهووس، يتوهم أنه يدافع عن الدين.. إنه يائس أيضا، شأنه شأن ضحيته، أحمد مريات.

لم نشهد الرهينة التى وقعت فى يد الأخوين «سعيد وشريف كواشى»، ولم نعرف حتى اسمه. من هو، من أين جاء وما هى وجهته، كيف عاش ساعات مع آسريه، وفيما كان يفكر، ولماذا لم يقتل.. كلها أسئلة سيجيب عليها أحد الأفلام.

طوال أربعة أيام بلياليها، انهمرت علينا التعليقات والتحليلات، بعضها انفعالى، والأخرى عقلانية، وثمة من أشار، ربما على استحياء، أن دولا، أو قوى دولية، أرادت مزيدا من تدخل فرنسا ضد «داعش» و«النصرة»، فساعدت، على نحو ما، فى هذه اللعبة الدامية.. فهل هذا صحيح، ربما سنرى الإجابة على الشاشة الكبيرة.

«فتش عن المرأة».. هى موجودة فى هذه الحكاية، لكنها غامضة، يحيط بها ضباب كثيف، اسمها له رنين، يوحى بعدة أمور «حياة بومدين». قد لا يحتاج المرء لمن يؤكد له أنها جزائرية، حقيقتها المبهمة أضخم من صورها القليلة، المتداولة، المتناقضة: مرة بغطاء رأس ونقاب لا يظهر إلا عينين واسعتين، جريئتين، رأسها مستندة إلى صدغ «كلوبالى»، الأسمر، محتجز رهائن المطعم.. لكن صورتها هذه، بنظرائها الجريئة، لا علاقة لها بصورتها على بطاقة هويتها. فى الأخيرة، تتسم بالعذوبة والرقة، حالمة، وديعة، لا تصدق أنها من الممكن أن تقتل الشرطية التى لقيت حتفها برصاصة مجهولة المصدر.. إذا كانت هى القاتلة فكيف ــ فى بلد يتمتع بأجهزة أمن لا تخر الماء ــ أن تصبح فص ملح وداب، ويقال إنه ذاب ما بين تركيا وسوريا، وإذا كانت متواطئة، فلماذا؟

قد نجد الإجابة فى عالم الأطياف، فإذا كان صاحب الفيلم المحتمل، من مدرسة المخرج الكبير، حسن الإمام، فبالتأكيد، سيرجع الأمر إلى الحب المدمر ــ وقانا الله من شره ــ وربما سيجعلها، بعد هروبها، تعمل فى أحد ملاهى اسطنبول.. أما إذا كانت من أبناء يوسف شاهين، مثل خالد يوسف، فربما سيوحى أنها تريد الثأر من مستعمرى بلادها الذين أذاقوا شعبها ألوانا شتى من العذاب.. أما أبناء كمال الشيخ، فسيفسرون الأمر على أنها تعرضت لغسيل مخ، جعلها تقتنع أن إزهاق الأرواح.. حلال.


يوم مع.. أسماء البكرى

كمال رمزي

السبت 10 يناير 2015 - 8:00 ص

فى باريس، عشت واحدا من الأيام المتلألئة فى الذاكرة، والسبب: أسماء البكرى.

الحكاية، ترجع إلى معهد العالم العربى فى «مدينة النور»، حين كانت الناقدة ماجدة واصف، تنظم، بكفاءة، مهرجان السينما العربية. لا يفوتها، إلى جانب مسابقة الأفلام، إقامة ندوات وحلقات بحث، وصلت لذروتها بإصدار مجلد ضخم وثمين وأنيق، يعد الأهم باللغة الفرنسية، بمناسبة مرور مائة عام على السينما المصرية.. كنا، صديقى العزيز، الراحل، فايز غالى، من ضيوف المهرجان.. دأبنا، يوميا، على محاولة زيارة الأماكن الشهيرة.. غالبا، كفلاحين، نفشل بانتظام فى الوصول لمبتغانا. نتوه بين خطوط المترو المتقاطعة، تحت الأرض، كذلك لا نعرف طريقنا على اليابسة.. قبل السفر إلى فرنسا، وعدنى مخرجنا النابه، يسرى نصر الله، أن يكون مرشدا لنا فى دروب باريس. لكنه انشغل بعرض فيلمه الملحمى «باب الشمس».. أقنعنا أنفسنا، فايز وأنا، أن التوهان فى المدينة لا يخلو من متعة، وقبل الاستسلام التام للفكرة، جاء طوق النجاة متمثلا فى أسماء البكرى، صاحبة الثقافة الرفيعة، بنت البلد برغم أصولها الارستقراطية، وعدتنا باصطحابنا، طوال النهار فى تجوال لن ننساه.. بطريقتها البسيطة، التى تجمع بين الطرافة والصرامة، قالت إنها، فى مقابل عملها، ستكون مصروفات اليوم، من مأكل ومشرب ومواصلات، علينا، وأنها لن تدفع فرنكا واحدا، طوال النهار.

وافقنا على مضض، تظاهرنا بالحماس للاتفاق.. قبل أن أحدثك عما رأيناه، ألفت النظر إلى أنها، الخبيرة بدهاليز باريس، أجادت اختيار مقاهٍ ومطاعم فى شوارع جانبية، أثمان مشروباتها ومأكولاتها، أقل من ثلث ما تعودنا على دفعه فى المحلات التى كنا، بجهلنا، نغشاها.

أسماء البكرى، بلا ماكياج، ترتدى بنطالا من الجينز، وفانلة برقبة، فوقها جاكيت واسع، وحذاء كوتشى، رياضى.. بطريقتها المقتحمة، طلبت منا ــ أو أمرتنا إن شئت الدقة ــ أن ينزع كل منا رابطة عنقه، لأنها تعطى إحساسا مزيفا بأننا من السياح «البرجوازيين»، بينما هى تعرف تماما أننا من «البروليتريا» ــ هكذا لغتها ــ وبدأنا المسيرة.

مع أسماء البكرى، تقرأ التاريخ فى شوارع باريس، بل من الأحجار والأسوار.. فى محطة مترو «الباستيل»، ثمة حجرة سوداء أسفل حائط الرصيف. لم ننتبه لها من قبل. أشارت أسماء نحوه وأخبرتنا أنه آخر ما تبقى من أسوار سجن الباستيل الشهير، ترك فى هذا المكان كى يذكر الأجيال الجديدة بأن للحرية تاريخا مكتوبا بالنضال والدم، فعلى أبواب السجن، قتل ما يقارب من المائة ثائر، قبل الاقتحام، يوم 14 يوليو 1789، الذى أصبح عيدا للحرية.

بالقرب من ساحة الكونكورد، جلسنا فى مقهى صغير، أشارت أسماء نحو الشوارع الجانبية الضيقة، وقالت: من هنا خرج الآلاف من الغاضبين، يلقون القمامة على الموكب التعيس للملكة مارى انطوانيت فى طريقها للإعدام بالمقصلة المقامة فى الساحة.. لم يفتها أن تذكر لنا، فى تفصيلة إنسانية لافتة، أن «مارى»، المصابة بنزيف حاد، طلبت من ضابط شاب، تغيير سروالها المضمخ بالدم. الضابط النبيل، أمر بعض جنوده بالالتفاف حولها، بظهورهم، كى تفعل ما تشاء ــ بهذه اللقطة، أتذكر أن مذاق «الإكسبرسو»، ازداد مرارة.

تمكنت أسماء، بحكم علاقتها الوطيدة بمديرة متحف «اللوفر»، من الحصول على ثلاث تذاكر ــ مجانية ــ لدخول المتحف، متجاوزين الطوابير الطويلة.. المتحف، بمقتنياته، وطريقة إضاءته، ونظافته، ونظامه، وزواره من تلاميذ المدارس وطلبة الجامعات، فضلا عن سائحين من ربوع العالم، يعتبر من عيون باريس.. بعد جولة، والوقوف أمام «الموناليزا»، وسط الزحام، توجهنا إلى القسم الفرعونى، العامر بتماثيل ضخمة للملوك، ومسلات، وعدة تماثيل أصلية لـ«أبوالهول».. أكثر من سؤال تبادلناه: متى نهبت كل هذه الآثار، وكيف نقلت من مصر إلى فرنسا.. ثم جاء السؤال المحرج: لو أن هذه الآثار لا تزال فى وطنها، هل كان من الممكن أن تبقى سليمة، ونعرضها على هذا النحو؟ أنبأتنا أسماء، لأننا ننبهر بضخامة الأشياء ولا نلتفت إلى قيمة الإبداع. بعد مهاترات لطيفة، قادتنا إلى حجرة فى نهاية قسم الفرعونيات، خالية إلا من صندوق زجاجى، موضوع فوق منضدة، وعلى سطح الصندوق عدسة مكبرة.. إذا نظرت خلالها، ستجد «دبوس» صدر على شكل القنفد، مصنوع من البلور، عيناه الصغيرتان عبارة عن نقطتين بارزتين بلون أزرق ــ إذا لم تخن الذاكرة ــ أشواك القنفد ليست مدببة، لكن على شكل رأس الدبوس.. قطعة من الجمال الخالص، بالغة الدقة، من إبداعات زمن الأسرات القديمة، علقت مرشدتنا: انها عندى أثمن من التماثيل الجرانيتية الضخمة.. وأردمت، بطريقتها، وقاموسها اللغوى الخاص: من هذه «العكروتة» التى كانت تضع الدبوس على صدرها، وما شكل الملابس التى ترتديها؟.. لا يزال شكل الدبوس، بعد سنوات طويلة، يتراءى لى.

فى المساء، جلسنا فى مطعم قليل التكاليف، هى التى تعرفه طبعا، وكنت، فيما سبق، كتبت مقالا عن فيلمها «شحازون ونبلاء» بعنوان جارح «معرض العاهات»، ذلك أنى لم أجد فى أبطال الرواية التى كتبها البير قصيرى، بعنوان «منزل الموت المحتوم»، والتى اعتمدت عليها أسماء، سوى الوهن النفسى وضعف الإرادة.. تعرضنا للفيلم والمقالة، وبدت متكررة إلى حد ما.. وعدتها أن أعيد مشاهدة كل ما حققته، واكتب عنه، لكنى لم أفعل، وان كنت ما أزال عند وعدى.


الأهرام

كمال رمزي

الأربعاء 7 يناير 2015 - 8:30 ص

ينتمى هذا الفيلم الحديث إلى مدرسة الرعب السقيمة، ويحتل مكانا ضئيلا مع ركام الأعمال المعتمدة على الفرعونيات، وتدور فى المعابد والمقابر القديمة، لا نكترث بأى معلومات ثقافية، لكن يجنح نحو خرافات أقرب للشعوذة، حيث المومياوات التى لا تزال روح الحياة تدب فيها، والأرواح الشريرة القابعة فى الأقبية، بالإضافة لثعابين سامة تخرج من جحورها، وأسراب وطاويط من الممكن أن تنطلق فى أى لحظة، ولا بأس بفئران قميئة، متعددة المهارات، ذات طابع وحشى، تجرى بجوار الجدران.. من ناحية اللغة السينمائية، توارثت أجيال المخرجين مفردات الظلال والإعتام، المباغتات، المطاردات، تشويه الوجوه والأجساد، الموسيقى ذات التأثير الإرعابى، الممزوجة بالصراخ والرياح والعواصف الرملية.

«الأهرام»، بإخراج جريجوى ليفاسور، الفرنسى المولد، يبدأ باكتشاف، عن طريق قمر صناعى، لهرم مدفون تحت رمال الصحراء المصرية.. إحدى الجامعات ترسل مجموعة من علماء الآثار لمعرفة الأمر. القمر الصناعى يتبع وكالة ناسا، وطبعا، الجامعة أمريكية، والإنتاج هوليوودى لشركة فوكس.. من بين العلماء واحد من أصول مصرية، اسمه «زهير»، يتولى، بعربية مهشمة، التفاهم مع ضابط مصرى، ضخم الجثة، ملتحٍ، اسمه «شديد»!، وهو شديد فعلا، يطالبهم، المرة تلو المرة، بمغادرة المكان، كى لا يفقد رتبته.. الأحداث تدور فى الحاضر، فإدارة الجامعة تبعث برسالة للفريق، تأمره بالعودة فورا، لأن الأوضاع فى المدن المصرية غير مستقرة، ذلك أن الجيش يصطدم مع الشعب، فى الشوارع. الأثريون يرفضون الانصياع، ويعلقون: نحن فى مأمن، لأننا فى الصحراء، بعيدا عن فوضى المدن.

أول الغيث قطرة، ما أن يفتح مدخل الهرم، تحت الرمال، حتى يهب من الداخل ما يشبه الدخان، يفزع الجميع، ويصاب أحدهم بجروح ويفقد بصره.. رئيس البعثة، العلمانى، العاقل، يطلب من بطلة الفيلم «نورا» ــ بأداء أشلى هنشاو ــ عدم الحديث الممجوج، الخرافى، عن «لعنة الفراعنة».

المشاهد السابقة لا تستغرق سوى عدة دقائق.. الفريق يدخل من الفجوة، يسير تباعا فى ممرات ضيقة، معتمة، وتتوالى المخاوف. الجدران، آيلة للسقوط. الأرض تطقطق تحت الأقدام منذرة بالتشقق والتداعى.. أحد أعضاء الفريق يتوه فى دهاليز مظلمة. صرخات ألم واستغاثة. «نورا»، بالكاد، ترى المختفى قتيلا، حوله بقعة دم.. تدرك، مع من معها، إنهم وقعوا فى فخ.

كاتبا السيناريو، دانييل مارسيل ونك سيمون، تعلما من هيتشكوك، صاحب «الطيور»، وستيفن سبيلبرج، صاحب «الفك المفترس»، وغيرهما، سحر التشويق، كلما تأخر سر الخطر.. فى «الأهرام» لا يتجسد السر إلا فى الثلث الثالث من الفيلم.. فما هو؟
تأتيك الإجابة بعد طول تلكؤ.. إنه «أنوبيس»، إله الموتى فى الميثولوجيا الفرعونية، يشغل العديد من الوظائف وتتنوع أدواره وتتغير فى الحقب المصرية القديمة، فهو دليل الموتى فى الآخرة، حارس الجبانات، حامى المومياوات، المسئول عن الميزان الذى يوضع فى حدى كفتيه قلب المتوفى، قبالة ريشة فى الكفة الأخرى.. وهو، فى الرسوم والمنحوتات، له جسم بشرى برأس ابن آوى.. الجسم، ممشوق القوام، يمسك إما بمفتاح الحياة، أو صولجان، أو عصاة طويلة، وملامح وجهه على قدر كبير من الحياد.

«أنوبيس»، يظهر فى الفيلم كوحش شرس، قاتل، دميم، أقرب إلى المسخ، أشبه بدراكيولا، عظامه بارزة تحت جلده، أظافره أقرب للمخالب، طويلة، قذرة.. لا يمتص دماء ضحاياه، ولكن ينزع القلوب من الأحياء.. وها هو، فى لقطات متعمدة التشوش، يقضى على فرد تلو الآخر، إلى ألا تتبقى إلا «نورا»، حيث يطاردها من ممر إلى دهليز، وحين يظفر بها، تحلو، فيما يبدو، فى عينيه. يتلمس صدرها بأصابعه الفظيعة، ويلتصق بها على نحو م ريب.. لا نعلم إن كان قد قضى وطره منها أم لا، ذلك أن الاعتام يسدل على المشهد.

يتابع الفيلم، على نحو سقيم، مطاردات المسخ للرقيقة «نورا»، تكاد تصل إلى فوهة الهرم. نصفها العلوى فى الخارج، لكن قوة ما تسحبها للداخل، صراخه يتعالى.. ما الذى فعله الوحش «أنوبيس» بها؟.. عموما، ها هى تخرج من جديد، إلى ضياء الشمس، يقترب منها طفل وديع، يلتفت له، إحدى عينيها مشوهة، وثمة من يطبق، من الخلف، على الطفل البرىء، ومع إطباقته، ينطبق الظلام، وينتهى «الأهرام»، منذرا بجزء ثان من الفيلم النمطى، التجارى، الهزيل، المشبع بالاستخفاف.. والجهل


زجزاج

كمال رمزي

السبت 3 يناير 2015 - 8:40 ص

الشباب، فى جوهره، يعنى الجرأة، حتى لو وصلت إلى حد التهور.. من خصائصه: محاولة إثبات الذات بكل الطرق، بما فى ذلك الصوت العالى.. يتسم بالنشاط، القدرة على الانطلاق.. يحتج غالبا، لا يرضيه واقع يسيطر عليه جيل سابق. هكذا، فى العالم كله، بما فى ذلك مصر، حيث تطالعك الصحافة بعناوين من نوع «وداعا لدولة العواجيز».. وذات الأمر، نراه فى عالم الأطياف. أعمال جديدة، يحققها ويقوم ببطولتها الشباب، أحدثها هذا الفيلم الذى كتبته أمانى البحطيطى، فى أولى تجاربها، وأخرجه أسامة عمر، الوافد من عالم التصوير، وقام ببطولته، طابور طويل من الجددهم: محمد نجاتى، ريم البارودى، ميرنا المهندس، مى كساب، عمرو محمود ياسين، ماهر ماهر، محمد عاطف.. وآخرون.

استعان أسامة عمر ببعض المخضرمين. أسند لهم أدوارا جد صغيرة، لا تكاد ترى بالعين المجردة، وكأنه يعلن عن رهانه على الشباب فقط: عايدة رياض، زوجة الأب، لئيمة وأنانية.. صبرى عبدالمنعم، الأب الهزيل جسمانيا ومعنويا، يتوفى بعد ثلاثة مشاهد قصيرة، وفورا، عقب الجنازة، تحمل أرملته ــ عايدة ــ وتغادر الشقة والفيلم.

بشجاعة، يتابع الفيلم مقاطع من حياة أربع صديقات، من أصول اجتماعية متواضعة، يعملن فى قاعة ديسكو، ساقيات، يتعرضن لعواصف متوالية، ليس بسبب ضعفهن، أو سوء سلوكهن. لكن لعيوب فى المجتمع، يعانى أولاده من ندرة العمل، ويكاد يدفع ببناته دفعا إلى ارتكاب أخطاء فادحة، هن من يدفعن ثمنها.. واحدة منهن، تتزوج من مغنى الديسكو، المتلاف، زواجا عرفيا، وتكتشف أنه يخونها بانتظام.. الثانية، تتفق مع شاب ضعيف نفسيا على الزواج، يأخذ منها «أعز ما تملك» ــ حسب تعبيرات زمان ــ وتصبح حاملا منه، وتتكاتف صديقاتها من أجل الخروج من المأزق.. الثالثة، لا يتقدم لها العرسان، اللهم إلا أحد أقاربها المفلسين.. أما الرابعة، فإن حكايتها أكثر طرافة من الأخريات، تصلح لأن تكون محورا لفيلم مستقل: درجت على استدراج أحد الشباب، تذهب معه إلى بيته، ما إن يهم بها حتى تطلب صديقها الذى يتعقبها. يقتحهم المكان. يأخذ محفظة الشاب المرتجف ذرعا.. يستمر الحال إلى أن تقع فى يد فتى قوى البنية، طويل، عريض المنكبين، لا يترك لها فرصة المراوغة. ينقض عليها لينتزع منها «أعز ما تملك»، قبل أن يصل حاميها.

حمولة الفيلم، بالبنات والأولاد، ودوائرهم الخاصة، أثقل من طاقة العمل، الأمر الذى يتسبب فى الإحساس أن «زجزاج» يترنح، لا يتدفق للأمام بقدر ما يتخبط يمينا ويسارا، ينشط تارة، ويتقافز، ليتكاسل تارة أخرى، منهكا.. السخونة والبرودة لا تتوالى فى سياق الفيلم وحسب، بل تتلمسها فى المشهد الواحد. يبدأ قويا، مليئا بالانفعالات، وفجأة، تتبخر الأحاسيس، وتتوالى العبارات وجمل الحوار، وكأنها قطع محفوظات.. الممثلون والممثلات، حقيقة، فى أشد الاحتياج إلى مزيد من التدريب.

أسامة عمر، مع مصوره الموفق، محمد المراكبى، نجح فى اختيار أفضل الزوايا، ومتابعة الحركة داخل الكدرات، متنقلا، بمهارة، من الأماكن المغلقة، كالديسكو والشقق، إلى الأماكن المفتوحة، كالشوارع.. وتعمد، مع مونتيره، محمد حسن، أن تكون المشاهد سريعة، أقرب إلى أسلوب «الكليبات»، أو «التوك شو»، مما خفف من وطأة الأداء التمثيلى.

فكرة العمل، التى تعبر عنها أغنية محمد محيى، تؤكد أن الدنيا، والحياة، لا تسير على خط مستقيم، لكن خطوطها تتقاطع، وتتعارض، وترتبك، مثل «الزجزاج»، الذى يتطابق مع أسلوب الفيلم الشاب، الطموح، الذى يعدو، منهكا، متخبطا، وراء أربع حكايات.

الشروق المصرية في

03.01.2015

 
 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)