كتبوا في السينما

 

 
 
 
 
 

رؤى نقدية

 
 
 
 
 

غواية السينمائي واللا سينمائي

زياد عبدالله

 

حين رأوا البحر للمرة الأولى، كان ذلك في فيلم عمر أميرالاي «الحياة اليومية في قرية سورية» 1974، وقد كنا نراهم للمرة الأولى أيضاً هؤلاء الفلاحين الذين شاهدوا البحر ورواد الشواطئ على سطح شاشة بيضاء وضعت أمامهم في هذا الفيلم المفصلي في تاريخ السينما العربية. إن بداية كهذه تتخذ من تلك اللقطة في «الحياة اليومية في قرية سورية» تأكيداً أولياً على ازدواجية الشاشة بوصفها شاشة للتضليل وشاشة للحقيقة، فالشاشة في فيلم أميرالاي توضع أمام الفلاحين بوصف هذا الفعل فعلاً ثقافياً توعوياً، ومنجزاً يتيح للفلاح أن يشاهد السينما، فإذا به أمام عالم آخر لا يمت له بصلة، وهذا العالم ليس ببعيد عنه إلا مئات الكيلومترات، كما أن الفلاحين ليسوا إلا في منعطف تاريخي شعاره الأكبر هو التحويل الاشتراكي، وكل ما يطالعنا به الفيلم منحاز تماماً إلى أن تطفو الحقيقة على الشاشة، وأن يكون رصداً لواقع مغاير تماماً للمعلن والمحتفى به رسمياً بعد الثامن من آذار ومن ثم الحركة التصحيحية، وحالة عجز مدمرة أمام الإقطاع والعشائرية والأمية، ولينتهي الفيلم بصرخة ثورية تقول لنا «علينا جميعاً أن ننخرط في النضال من أجل خلاصنا المشترك، ما من أيدٍ نظيفة، ما من أبرياء، ما من متفرجين، إننا جميعاً نغمس أيدينا في وحل الأرض، وكل متفرج هو جبان أو خائن».

لا تمكن استعادة أفلام عمر أميرالاي من دون المضي خلف مقارباته السياسية والاقتصادية والاجتماعية للواقع الذي وثّق له، كون ذلك أصلاً ليس ببعيد أبداً عما تأسس عليه التسجيلي، إذ إننا سرعان ما سنكون حيال حقائق كثيرة أولها أن شيئاً لم يتغير إلا نحو الأسوأ في معظم ما رصده أميرالاي بعين ناقدة، ولعل كل قراءة حصيفة للواقع لها أن تحمل في ثناياها معبراً للمستقبل أو تعريفاً عميقاً بجذور الكارثة ومن دون الحاجة لقرع ناقوس خطر أو إضفاء صفة النبوءة، كأن يدفع بنا فيلم «الحياة اليومية في قرية سورية» للقول بأن ما التقطه الفيلم تمادى وتردى بحيث نجح التحويل الاشتراكي في تريّف المدينة بدل تمدين الريف، وصولاً إلى ما آلت إليه سورية، لا بل إن العودة إلى «مصائب قوم» 1981 سيضعنا مباشرة وإن كان عن الحرب الأهلية اللبنانية، حيال ما تشهده سورية حالياً، ولازمة لعبة الفيديو المتكررة ونص الحوار مع المسؤول الأميركي، وصولاً إلى نهاية ذلك الحديث المنشور في «النهار» عام 1981 ونحن نرى حفّار القبور وهو يغني في مدينة الملاهي ونسمع ما يلي: «هل تعرف كيف يشبه المسدس المزيف المسدس الحقيقي؟ إن حربكم هذه، هي لعبة في نظركم، تشبه في نظرنا الحرب العالمية الثالثة، فكما يستطيع إرهابي خطف طائرة بمسدس مزيف، يمكن للشرق الأوسط والعالم أن يشتعل بسبب مسدسكم المزيف هذا، لذلك فإن العالم وأمام عجزه عن عمل أي شيء، يفضل إبقاء لبنان كرنتينا الشرق الأوسط».

يمكن اعتبار ما تقدّم غواية غير سينمائية، كون التجربة الوثائقية لأميرالاي وثيقة الصلة بالمفصلي والجوهري في سورية ولبنان المعاصرين، والصراع العربي الاسرائيلي، حيث اسرائيل مرتبطة برائحة السردين كما يخبرنا في «طبق سردين» 1997 وهو يوثق دمار القنيطرة وكل ما تبقى منها «سينما الأندلس»، أو حتى في فيلمه «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء» وإن كان عن سعدالله ونوس إلا أنه متمركز حول اسرائيل، عن جيل له أن يكون الصراع العربي الاسرائيلي محور إبداعه وحياته، وصولاً إلى «الشرق أوسطي» إن كان لنا أن نصل باكستان وفيلمه المدهش «إلى جناب السيّدة رئيسة الوزراء بينظير بوتو» 1990، حيث «فيلم الشخصية» واحد من أنماط الفيلم التسجيلي الذي اشتغل عليه أميرالاي، وإن كانت بوتو لا تكون حاضرة بشكل خاص في هذا الفيلم، ولنكون في النهاية أمام وثيقة استثنائية عن الباكستان بالاتكاء على معنى أن تحكم هذا البلد امرأة، الأمر الذي لا يكون كذلك مع رفيق الحريري في «الرجل ذو النعل الذهبي» 1999، فعدا الدور المفصلي الذي لعبته هذه الشخصية في التاريخ اللبناني المعاصر، والذي ما زال متواصلاً حتى بعد اغتياله، فإنه فيلم على اتصال بعلاقة المثقف الشائكة برجال السياسة والمال.

إن الانتقال إلى الغواية السينمائية، وسياقات تجربة عمر أميرلاي التسجيلية، ستحيلنا مباشرة نحو الواقع الذي يعيد تنظيمه التسجيلي، بينما يعيد الروائي خلقه، ولعل أميرالاي بوصفه سينمائياً وضع رهانه الأول والأخير في التسجيلي على امتداد ما يقرب العشرين فيلماً تسجيلياً، يضعنا أمام حالة خاصة في تاريخ السينما العربية تلتقي مع أسماء قليلة كان رهانها تسجيلياً صرفاً مثلما هو الحال مع سعد نديم وصلاح التهامي وعطيات الأبنودي ومي مصري وآخرين، وصولاً إلى أنه ما من مخرج تسجيلي عربي تبدت بسطوع توجهاته الفكرية وتطلعاته ومقارباته لا بل المتغيرات التي طرأت عليها كما فعل، من حيث اختيار مواد الواقع الذي يوثّق له، والكيفية التي ينظم فيها هذا الواقع، لا بل إعادة تنظيم نفس الواقع مرة ومراراً بحيث تكون التعرية حاضرة لما صنعه هو بالذات في أفلامه، في اتباع للحقيقة المؤرقة على الدوام، وبالتناغم أيضاً مع بحث لا يهدأ في تقنيات السرد في كل فيلم على حدة.

ولإيضاح هذا السياق يمكن لأفلامه الثلاثة «محاولة عن سد الفرات» 1970 و«الحياة اليومية في قرية سورية» 1974 وآخر أفلامه «طوفان في بلد البعث» 2003، أن تكون مادة توثيقية استثنائية للذاكرة السورية، وقصة أميرالاي الشخصية مع البعث من جهة أخرى، وهي أيضاً مساحة لمعاينة التنويع في التقنيات السردية التي اتبعها في كل فيلم على حدة، ففي «محاولة في سد الفرات» ستكون الكاميرا أكثر كمالاً من العين البشرية كما «العين السينمائية» لدى دزيغا فيرتوف، فهنا أميرالاي «فيرتوفي» بامتياز يصوّر واقع بناء سد الفرات، والحياة حول نهر الفرات ما قبل بناء السد حيث الأقدام المتشققة صنو الأرض المتشققة، والجفاف يطال كل شيء بينما الآلات والرافعات نشطة في بناء السد العظيم، وهنا يأتي المونتاج حاسماً في ربط اللقطات وتنظيمها لكي نصل إلى الحقيقة، المتمثلة بما كانت عليه الحياة ما قبل السد وما يبشر به تشيده.

سيبقى المونتاج عاملاً حاسماً أيضاً في «الحياة اليومية في القرية السورية» (لم يرد في تترات الفيلم توصيف «إخراج» بل «تصور» كل من سعدالله ونوس وعمر أميرالاي)، حيث تنظيم الواقع الذي يعريه هذه المرة ما بعد بناء السد، يكون مشغولاً بأسئلة تتحرى المتغير، وبالتالي فإن تنظيم اللقطات يكون متناوباً بين ما يقوله المسؤول أو الموظف الحكومي أو الحزبي وحقيقة الواقع الذي يعيشه السكان، مع البناء على لازمة اللقطة الشهيرة لذاك الرجل الذي يمزق ثيابه، الذي لا يتكلم إلا في نهاية الفيلم صارخاً «جوعانين ميتين»، مروراً بالأولاد الذين يملأون بالرمل عين الهيكل العظمي لجيفة، وشرب الشاي وأكل الخبز الأشبه بلوحة فان كوخ «آكلي البطاط»، وبالتالي فإن جماليات هذا الفيلم الاستثنائي متأتية من تناغم الكاميرا مع المونتاج والسيناريو، بمعنى أنه فيلم تسجيلي يجمع بتناغم قلّ مثيله بين المدارس التسجيلية لكل من فلاهرتي (الكاميرا) وفيرتوف (المونتاج) وصولاً إلى غريرسون (السيناريو) على اعتبار أن هذا الأخير يعتبر أن الأهم في الفيلم التسجيلي يكمن في طرح الأسئلة ومقاربة الأجوبة.

مع «طوفان في بلد البعث» ستكون الإجابات جاهزة تماماً، كل الأسئلة قد طرحت في الفيلمين السابقين، وبالتالي تأتي الوثيقة فيه التي اعتبرت الأكثر هجائية للبعث على تأسيس مسبق، يتأتى من الإجابات الواضحة، التي تشكل رهان الفيلم في فضحه ما آلت إليه الأمور بعد مضي أكثر من 33 سنة على فيلم «محاولة عن سد الفرات»، وليكون آخر أفلامه، رغم أن عنوان فيلمه عن سعدالله ونوس «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدّث عنها المرء» يشكل عبارة رنانة تحضر متى ذكر عمر أميرالاي كونها بحق أشياء كثيرة حدثت وتحدث ما كان على الموت اللعين أن يحرمنا من مقاربته لها.

(ناقد سوري)

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

فارس من جيلنا

عباس بيضون 

قاد عمر اميرالاي إلى الفيلم الوثائقي، يأسه من السينما العربية، كانت بالنسبة له غير السينما، التمثيل غير التمثيل والإخراج غير الإخراج، والسيناريو غير السيناريو والسينوغرافيا غير السينوغرافيا. مع ذلك كانت جزءاً من تاريخ هذه البلاد العامر بالمفارقات، العامر بالأعاجيب وحين كان عمر يفكر بهذه السينما يفكر بها من داخل هذا التاريخ ويراها بذلك وثيقة اجتماعية، هكذا رحل وهو يفكر بفيلم عن «إغراء»، هكذا فعل في فيلمه عن ناديا الجندي، حيث عرف عمر اميرالاي كيف يخرج المرأة من جلد الممثلة ويضعها داخل ثقافتها وبيئتها وموروثها اللغوي والاجتماعي، عملية التفكيك هذه كانت تنحسر عن كومة من المفارقات والطرائف. كان عمر حاضراً دائماً ليسجل تلك اللحظات التي تتعثر فيها الشخصية بتقاليدها وموروثها.

كتبوا كثيراً عن مكر عمر وكان عمر يحب ان يشار إلى مكره، بالتأكيد لم يكن ينفر من شيء قدر نفوره من السذاجة والطيبة البلهاء. كان ذكياً وكان الذكاء بالنسبة له معياراً حقيقيا، المكر كما كان يسميه من مفاعيل هذا الذكاء، ان تكون ذكياً فذلك يعني أن لا تصدق الأشياء كما تقدم نفسها وكما تتظاهر وتدعي، أن تفسّرها وتكشف عن خباياها ودخائلها وتناقضاتها، المكر كان يعني الابتعاد عن النظرة الأحادية والمبسطة والشعائرية والدوغمائية. هو بذلك في أساس نظر يحلل ويعالج ولا يكتفي المصادقة والتحبيذ.

عمر اميرالاي الوسيم كان أقرب ما يكون إلى جيل الـ68، جيل الانتفاضة الشبابية الأوروبية والاحتجاج العالمي. كنا نشعر بأنه وافد من الكوكب الأرضي، بأنه زائر كوني. لعل صلته بمحطة ار تي عززت هذا الانطباع. لكن عمر الذي عاش هوجه الـ68 لم يتنكر لها، لقد بقي في أعماقه يسارياً ومتمرداً كما بقي زائراً كونياً. كانت سخريته نفسها توحي بأنه يرى من بعيد، بنفس الطريقة يلاحظ تداعي مجتمع وتهافتات نظام وتساقطات طبقة واحتقانات تاريخ. كان عمر يرى من فوق، بمنظور الطائر. يرى فضاءات كاملة وكتلا قائمة وجماعات وأوساطاً وشوارع بينات وفواصل تاريخية. نظره على أفلامه فنرى انها في النهاية عوالم أو مدارات أو شبكات اجتماعية وتاريخية. يمكن ان يكون في عمر شيء من بطله أو أبطاله، كان دائماً كامناً في موضعه في حال من التحدي، لم يفارق بلده حتى حين كانت الإقامة فيه محفوفة بالخطر، حتى حين كان يمنع من السفر ليرتفع عنه المنع بعد حين. لقد بقي في مكانه لم تزحزه عنه مخاوف أكيدة وبقي يتجول فيه وخارجه حتى كأن شيئاً لم يكن، كان حراً وطليقاً وخفيفا وثابتا بين الفخاخ والمصائد والتهديدات. والأرجح أن رحيله المبكر لم يزح عن هذه البطولة فقد غادر عمر في عزه.

لا أريد ان اعرض لصلتي بعمر اميرالاي هذه سيرة، لكني أريد أن أقول ان مدار هذه الصلة كان دائماً أفلام عمر. كنت بالنسبة لعمر أحد متلقيه الأثيرين. لا اعرف ما الذي أعجب عمر في كلامي عن فيلمه الذي أعده لمحطة آ ر تي عن الرئيس الشهيد رفيق الحريري بعنوان الرجل ذو النعل الذهبي. هذا الفيلم الذي هو على حد الصلة بين المثقف والزعيم السياسي. نعى عليه كثيرون مجرد موضوعه، استكثروا ان يجعل سينمائي من شخصية سياسية موضوعاً لفيلمه، اخرون لم يجدوا في الصلة بين مثقف وسياسي سوى التملق والانتفاع ولربما فكروا أو لمحوا إلى الاتجار والارتزاق. كان هذا بالتأكيد حصيلة يساريين دوغمائية لا تجد في السياسة كلها سوى مستنقع ولا تفهم أي حوار مع سياسي إلا على انه تلطيخ. لم يجدوا ان في تنازل الرئيس الشهيد إلى ان يلعب امام كاميرا عمر اميرالاي كسراً لعلاقة المثقف بالسياسي وان عمر في الفيلم كان هو الذي أدار اللعبة، وان الفيلم كان فيلم المثقف الذي يعترف في النهاية بمناعة السياسة واستغلاقها عليه، اعتراف كان من النزاهة بمكان، لكنه اعتراف ماكر مزدوج، نجا فيه عمر إلى إدانة ثقافة تتنزه عن السياسة وتتنصل منها فيما تجعل منها موضوعها، لكنه في الوقت نفسه مكر بالصورة التي سعى إلى أن تكون ثابتة كملصقات الجدران أو منتصبة كتماثيل الفراعنة أو متطلعة من فوق، بدا المثقف مبلبلا ضعيف الحجة أو غير واثق لكن السياسي بدا بدون كلمة غالباً، بدا تقريباً عادياً للغاية، لدرجة أن هذه العادية هي التي هزمت المثقف وجعلته يقر بتراجعه.

بمكر نجح عمر اميرالاي بفيلمه «ذو النعل الذهبي» في التعريض بالمثقف والسياسي معاً، بمكر نجح في تجريد الاثنين من امتيازهما. لم تعد حجة المثقف ولا أداء السياسي في مكانهما التقليدي، لم يعود امتيازاً. لقد سلف عمر اميرالاي الرئيس الحريري تراجعه لكن في المقابل حرمه من الانتصار في اللعبة، أدار كاميراه ومنتج الفيلم بطريقة توازن بين تراجع المثقف وصمت السياسي، نتيجة لم ترض يساريين رأوا في ذلك تنازلاً امام الزعيم السياسي وبيعه نصراً مجانياً له ولمواقفه. مثل هذا الرأي لم يكن فيه سوى الدوغما اليساروية، سوى خلاصة سياسة شعاراتية وثقافة شعاراتية. لم يقدر هؤلاء ما يعنيه تنازل الرئيس الحريري كما لم يقدر هؤلاء ما في اللغة السينمائية من إشارة إلى تصنيم الزعيم السياسي وفوقيته، كما لم يفهموا حبكة الفيلم التي تدير قصته حول محاكمة السياسي مهما تكن نتيجة هذه المحاكمة.

كان عمر اميرالاي حساساً للغاية تجاه الموضوع، لذا امتنع عن ان يجعل من فيلمه مباراة كلامية بين المثقف والسياسي لأن هذه المباراة ستفضح بدون شك دوغمائية المثقف وشعاراتيته، وستؤدي هكذا إلى كسب السياسي المحنك كالرئيس الحريري للمباراة.

في ندوة دارت في الـ م ت ف اشتركتُ فيها إلى جانب الشهيد سمير قصير وفواز طرابلسي بالإضافة بالطبع إلى عمر نفسه، عرض قسم مَن «رشز» الفيلم (ما أهمل من الصور ولم يدرج في الفيلم) كانت هذه الصور في معظمها للرئيس الحريري الذي يبدو فيها غالباً متألقاً قوي الحجة، الأمر الذي لا يستغرب من رجل كان يعرف جيداً عمله، إسقاط هذه الصور وإهمالها في المونتاج كان يبدو مقصوداً وضرورياً لتوازن الفيلم ولرؤية مخرجه.

أثار الفيلم ما أثار من جدل لم يكن كله مثمراً ولا غنياً، كان من ذيول الثقافة الدوغمائية، وفيما كانت اتهامات ظالمة وجاهلة تتوجه إلى عمر. كان الرئيس الحريري الأذكى حين فهم وحده لعبة الفيلم وتوازناته، لذا لم يعرض الفيلم في «المستقبل» في حياته، ويحكى انه قال لعمر ان فيلم عمر عنه وليس عن الرئيس. كان هذا بالتأكيد ولا يزال نقداً جيداً ونفاذا للفيلم.

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

مخيلة الوثائقي

بشار عباس 

انهار سدّ الفرات العظيم إذاً، وعلى عشرات الكيلومترات منه سُمع دوي الانفجار الرّهيب، إنّ أربعة آلاف وخمسمائة متر من الاسمنت بارتفاع ستين مترا تطايرت دفعةً واحدة، فاندفع من خلفها وحشٌ أزرق من أربعة عشر مليار متر مكعّب أخذ في طريقه كلّ شيء. مدن بأكملها زالت، مئات الآلاف من السكّان قضوا غرقاً وفي الأوحال، وقع ذلك على حد سواء في المدن السوريّة: الرقة ودير الزور والبوكمال، وأيضاً في المدن العراقية: الحديثة والرمادي، القرى القائمة على جانبي النهر صارتْ أطلالاً، آثار بابل درستْ تماماً، وأخيراً وصل الطوفان إلى شط العرب ومدينة البصرة، فترنّحت السفن وناقلات النفط وانزلق بعضها فوق الأرصفة في تسونامي رهيب رصدته صور الأقمار الصناعية التي اصطبغت باللون الأزرق.

ولكن مهلاً، لنفترض أنّنا نشاهد كل ما سبق في فيلم كوارث خيالي ولنقم بإعادة الشريط إلى الوراء بالحركة السريعة؛ ها هو الماء ينسحب إلى الوادي الممتد بين شط العرب والرقّة، الأسماك تقفز إلى حوضها، آلاف القتلى تدبّ فيهم الحياة ويرجع كلّ إلى صنعته فتعود الأسواق والمدارس عامرة. ويُحبس الماء من جديد وراء جسم السد. ذلك كان، المضمون الخيالي للفيلم الوثائقي «طوفان في بلاد البعث» الذي صنعه عمر أميرالاي عام 2003، فما الذي تبقّى من وثائقيّة الفيلم ؟

جاء في تعريف الاتحاد الدولي للأفلام الوثائقية عام 1948 بأن الفيلم الوثائقي هو «كافة أساليب التسجيل على فيلم لأي مظهر من مظاهر الحقيقة» وفي تعريف آخر لليونيسكو «التسجيل على مادة فيلمية لأي مظهر من مظاهر الواقع». لكنّ الفيلم يذكر لفظاً، أي بالتعليق، وعلى عجالة، أنّه ثمّة تقارير رسميّة تتحدّث عن تصدّع جسم السد في انتحال بصري اعتمد الطريقة التالية: قدم مشققة لرجل يرتدي زيّاً فراتياً تظهر في اللقطة الافتتاحيّة؛ تشقّقات الجلد تصحب بصريّاً المادّة السمعيّة التي تتحدّث عن تشقّقات في جسم السد، فيندمج المرئي بالسمعي ويغدو الأخير أمراً واقعاً، ذلك شكّل مع العنوان المدوّي للعمل أسلوباً مُبتكراً لتنفيذ كارثة وطنية مجازية في عالم التخيّل. إنّ ذلك لا يعني أن الفيلم من فئة «الديكو دراما» فهذه الأخيرة تقوم على إعادة تمثيل بعض الوقائع التي يشق على الوثائقي أن يحصل عليها؛ إمّا لأنّها انقضت كالمواد التاريخية، أو لأنّها استقصائيّة ذات طبيعة قريبة من التحرّي كالوثائقيّات المتعلّقة بالجريمة، لكن إذا أخذنا في الحسبان اللقطات القريبة من القدم المشققة في البداية، مع مزاج الإضاءة الأصفر لشخصيّة لا نعلم علاقتها تماماً بعالم الفيلم، فإنّنا يُمكن أن نصنّفه في فئة أفلام الدراما الوثائقيّة، نظراً لتضمّنه على عديد من الصور والمقاطع المأخوذ بعضها من الواقع.

الفيلم الذي يوصف بالوثائقي لا يذكر مصدر التقارير الرسمية عن وشك انهيار السد، لا تاريخها ولا الجهة المسؤولة عنها، ليس ثمّة أرقام أو تاريخ، لا أطراف حكوميّة أو مستقلّة قامت بالفحص أو المعاينة؛ إنّها تظهر فقط لفظيّاً بما يُشبه الإشاعة الشعبيّة؛هذه المعلومة قد تكون مفهومة الأسباب والدوافع كحالة أدبيّات مجتمعيّة تنتشر عادةً في حالة مشافهة بعيدة عمّا هو موثّوق، غير أنّها عصيّة على الفهم عندما تظهر في مستهل التعليق المُدرج على فيلم يُفترض أنّه وثائقي، هذا لا يمكن فهمه إلّا بالعودة شيئاً إلى التاريخ.

عند نشأتها أو عند اتخاذها لمسار ديني أو أيديولوجي جديد، فإن للدول عادة تكاد لا تُقلع عنها، إنّها تبدأ بمشروع ضخم كنقطة انطلاقة لزمن جديد وعالم مفارق، يكون انجازاً عمرانياً مرئيّاً ملموساً وماثلاً كتعبير مادّي عن الفكري أو الأيديولوجي؛ الدولة الأمويّة فعلت ذلك عندما خمدت الثورات في ولاياتها ببناء مسجدها الشهير الذي كلّف أحد عشر ألف دينار في حسبة ذلك الزمان، كذلك أهرامات الفراعنة لا تزال ماثلة للعيان، بناء بغداد كانطلاقة للدولة العبّاسيّة الجديدة، اللاذقيّة والإسكندريّة إيذاناً ببدء عصر الإسكندر في المشرق، قرطاج وثيقةً عمرانية أنّ الفينيقيين انتقلوا إلى غرب المتوسّط. أمّا في الأزمنة الحديثة فلم تختلف تلك النزعة الإنسانيّة السياسية؛ الدولة البلشفيّة استهلّت وجودها المادي الملموس بمشروع كهرباء روسيا العملاق، بينما قام الأميركيّون منذ عشرينيات القرن الماضي بنصب شواهق تطال السماء شرقاً عند مدينتهم نيويورك لكي تستقبل بمشاعر العظمة كل وافد من أوروبا بحراً. فما هو الشكل العمراني الملموس الذي كان على دولة البعث أن تنزع إليه وهي تستهلّ وجودها الملموس عياناً في سورية ؟

بما أنه يصف نفسه بأنّه حزب الفلّاحين والعمّال، فإنّه بإنشاء سدّ عملاق على الفرات يستطيع أن يعبّر عمرانياً عن أيديولوجيّته؛ منشأة عملاقة صناعية زراعية شكّلت مادّة معنوية للعمّال والفلّاحين في آن، وإنّ لها بعداً أسطوريّاً؛ السدّ سيضبط الماء رمز الفوضى في الأساطير البابلية والسومرية القديمة التي ازدهرت نصوصها في نفس مكان المشروع؛ بطريقة تشبه ضبط فوضى انقلابات وتحالفات سياسيّة كانت قد عصفت بالبلاد منذ الاستقلال، إنّ النهر العذب الذي تبدأ عند ضفّته جغرافيا الرافدين، ومعقل الآشوريين الذين منهم اشتقّ اسم سورية، هو نفسه الذي كانت مياهه «في البدء» لحظة انطلاقة الوجود تشكّل جسد الإله البابلي الفراتي «نمو». ومنه خرجت البيضة التي انشقّت عنها الطفلة سميراميس؛ سيُطلق اسمها بعد خمسة آلاف عام على فندق شهير في العاصمة دمشق. لقد قام البعث بتقييد الماء بسلاسل الاسمنت بما يحقّق تصوّراً ذهنيّاً بين عموم الشعب يحاكي التصوّر الأسطوري الميثولوجي: انتصار «بعل» على «يم» إله الفوضى الماثل في الأمواج، وها هي دولة العمّال والفلّاحين الجديدة تقيم عرش حكمها على الماء، ثمّ إنّ صور ذلك المشروع ستملأ صفحات طلّاب المدارس، وأوراق العملة، ونشرات الأخبار، وتترات برامج التلفزيون، فانجذب الفنّانون والشعراء للحديث عن الماء السحري الذي يُنتج النار المكهربة، حتّى أنّ شاعراً متخصّصاً بشؤون الحب والمرأة مثل نزار قبّاني لم يفته أن يمتدح المشروع بمقالته الشهيرة التي يستهلّها بـ«في بلادي يغيّرون تاريخ حياة نهر».

من مشاعر الفرح بالسدّ كانت انطلاقة عمر أميرالاي، في وثائقي بعنوان «محاولة عن سد الفرات» عام 1970. النسخة السوريّة عن فيلم المخرج السوفياتي الشهير فريتوف؛ كاميرا تدورعلى نفسها في مساقط عمودية، مونتاج يساهم بشكل حاسم في افتراض قيمة الفيلم عبر وضع اللقطات في مقارنة سينمائيّة، ثمّ حركات «بان» ترصد أذرع آلات نقل الأتربة الأسطوريّة تروّض بدن النهر.

إنّ ظهور عمل فنّي ثانٍ عن المنشأة نفسها، وذلك بعد ثلاثة وثلاثين عاماً، ليشكّل فرصة نادرة للتحقّق من مقولة أن «كل عمل فنّي، شاء صاحبه أم لم يشأ، هو حوار ومقارنة مع الأعمال الشبيهة به؛ سواء كانت معاصرة له أو في الماضي» وهل أفضل من عمل جديد لنفس المخرج عن نفس الموضوع بل عن نفس السدّ ؟ الدراسة المقارنة بين الفيلمين قد تقود إلى الاقتراب خطوة من كيفية فهم المثقّف العربي الراهن لمعنى السلطة.

رحيل منع مشروعه الوثائقي المؤجّل «جدّي العثماني» أن يرى النور. إنّه مشروع يصفه بـ«سعي لاكتشاف الهويّة الحقيقيّة». ولكنّ العثمانيين أنفسهم كانوا قد حافظوا على كنيسة آية صوفيا، رمز الدولة البيزنطيّة عندما اقتحموا القسطنطينية، فالمسألة لا تتعلّق بسلوك الغرباء فقط؛ وبذلك يبدو التدمير الافتراضي للسدّ عصيٌّاً على الفهم؛ ذلك ما لم تفعله المعارضة التي تُسيطر منذ قريب العام على السد في عالم الحقيقة لا الخيال الوثائقي، بل إنّ التقارير المتلفزة من هناك تتناول خوفهم عليه من القصف؛ لقد اندملت التشققات التي أحدثها الفيلم في جسم السد، لكن «الطوفان» الوهمي سيبقى ماثلاً في الأذهان كعيّنةً تاريخيّة عن أنموذج مثقّف تجاوز في صراعه مع السلطة كلّ محظور، ليس على مستوى تعريف الفيلم تقنيّاً إذْ ليس فيه من الوثائقي شيء، بل على مستوى عدم الدقّة في ابتكار الإشاعة، فالسدود هندسيّاً - لا يتهدّدها عادةً التشقق أو التصدّع؛ وإنّما التسرّب أو الرطوبة اللذان يتسببان بانجراف ثم بانهيار يكون جزئيا فيتّسع، أو ارتفاع المنسوب، والحالتان لم يرد ذكرهما في التعليق الفيلمي..

(سينمائي سوري)

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

تطبيع اليأس

سامر محمد إسماعيل

كان ذلك في شتاء عام 1965، عندما توصّل عمر أميرالاي إلى حقيقة أنّ حلمه بدراسة الغناء الأوبراليّ يتعارض ومبدأه الـرّافض لأشكال الانضباط القسريّ، والامتثال لقواعد التدريب الصّارمة التي يخضع لها فنانو الأوبرا عادةً، لذلك هاجر من برلين الغربية متجهاً إلى باريس؛ منكباً على دراسة المسرح بين عامي 1966ـ1967 في (الجامعة الدولية ـ مسرح ساره برنار)، ليلتحق بعدها بمعهد الدراسات السينمائيّة العليا عام 1968، حيث كانت سنته التحضيرية في «جامعة نانتير» الأكاديمية التي انطلقت منها شرارة «ثورة الطلاب» في فرنسا على يد زعيمها «كونبنديت» إلا أنه لم تمضِ أشهر قليلة على دخول عمر أميرالاي المعهد حتى بدأ يفكّر من جديد في ترك السينما أيضاً، فنظام التلقين وغلاظة المناهج الأكاديميّة التي كانت متّبعة آنذاك جعلت أميرالاي ينزوي عن زملائه، فاستحقّ لقب «الشّاب الذي يمشي فوق السحاب» اللقب الذي أطلقه عليه رفاق الدراسة، إلى أن جاء اليوم الذي طلب فيه أستاذه المخرج الفرنسي «جان بيير ميلفيل» تقديم معالجة سينمائيّة لمشهد من رواية أدبية، حيث خصّه «ميلفيل» آنذاك بإطراء وحماس شديدين فاجآه؛ فالشاب الذي كان رساماً ساخراً في مجلات سوريّة استطاع أن ينجز ديكوباجاً سينمائيّاً متقناً للمشهد المطلوب، مدعّماً إيّاه بملاحظات إخراجيّة دقيقة ورسوم تفصيليّة على شكل «ستوري بورد» مما دفع بصاحب « الطوفان» بقوّة نحو حلمه السّينمائي، لكنّ إغلاق المعهد بسبب أحداث ثورة الـ1968 أعاده إلى دمشق في صيف العام نفسه؛ بعد أن بذل جهداً طيباً في المهمّة التي كان يزاولها إبّان أحداث الطلبة؛ بتزويد اللجنة الإعلاميّة التّابعة للحركة الطلابيّة بمواد عن المظاهرات التي كان يصوّرها بكاميرته السينمائية الخاصّة.

في زيارته القصيرة هذه لبلده أنجز أميرالاي أولى تجاربه في الفيلم التسجيلي لمصلحة وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل؛ مُقدماً مشروع فيلمٍ يوثّق نشاط الوحدات الإرشاديّة لصناعة السجاد اليدوي المنتشرة في مختلف أرجاء سوريّة، تدفعه رغبة عارمة في التعـرّف على بلده الذي كان يجهل وقتها غناه وتنوّعه المذهل في ناسه وجغرافيّاته؛ فقد زوّدته جولاته هذه في مختلف أقاليم البلاد وقراها النّائية بمعين هائل من الأحاسيس والانطباعات التي جاءت لترفد حساً بصريّاً ونقديّاً طبع جلّ أفلامه التسجيلية في ما بعد.

موجة اليسار الثوري التي وسمت سبعينيات القرن الماضي في سورية وجدت تربتها الخصبة عند صاحب «الدجاج» في نشاطات نادي دمشق السينمائي الذي كان مقرّه المنتدى الاجتماعي الحالي، وذلك عندما شكّل أميرالاي مع كلٍ من محمّد ملص ونبيل المالح وقيس الزبيدي وهيثم حقي وآخرين، خلية سينمائية نشطة، توجّهها الفكريّ يساريّ، ومواقفها المعارضة علنيّة داخل الحياة الثقافية والاجتماعية للبلاد، لكنّ ذلك لم يتحقّق إلا بعد صراع شرس خاضه سينمائيو النادي الدمشقي ضدّ التيار الشيوعي البكداشي الذي كان يسيطر على مقر النادي في ذلك الحين، وقد نجح أميرالاي برفقة زملائه وعبر انتخابات ديموقراطيّة بانتزاع النادي من أيديهم، ليستمر نشاطهم في ما بعد من عام 1974 ولغاية عام 1981، حين اضطرّ النّادي السينمائي إلى تعليق أنشطته بالكامل بسبب أحداث الإخوان المسلمين الدّامية في سوريا، واشتداد وتيرة القبضة الأمنية في البلاد؛ فنادي دمشق السينمائيّ كان المنبر الوحيد المستقلّ تقريباً الذي مارس نشاطه بحرّية نسبيّة، حيث تحوّل مقرّ هذا النادي إلى منبر مفتوح للنُخب المعارضة في المجتمع للتعبير عن أفكارها ومطالبها، وقد توالى على منبر النادي وجوه من الحياة السياسية السورية بمختلف أطيافها، من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين الديمقراطي، ليكون لعمر أميرالاي ورفاقه من مخرجين ونقاد وفنانين ومثقفين تأثير كبير في بلورة وعيٍ سينمائي مختلف عن سينما القطاع الخاص في سورية التي دأبت على وهم شباك التذاكر ونجومه.

تجربة النادي السينمائي لم تدم طويلاً؛ لتتوقف بعدها لسنوات حتى منتصف التسعينيات، إذ بدأ يلوح في الأفق انفراج نسبيّ في حالة البلاد العامّة، ليقرّر النادي استعادة نشاطه؛ منطلقاً هذه المرة من صالة «سينما الشام» حيث بدأت ملامح لجيل جديد من الأعضاء انضمّوا إليه لحضور عروضه، حتى أنه وصل عددهم إلى ما يُقارب الألف عضو من مختلف الأعمار والفئات الاجتماعية والسياسية، وكان جلّهم من طلبة الجامعة الذين استقطبتهم تجربة أميرالاي ورفاقه كطليعة لمعارضة ثقافية عالية الجرأة عكستها أفلام أميرالاي في سينما قدمت ما يشبه شريطاً مطوّلاً عن الحياة السورية المعاصرة. فالسينمائيون السوريون الذين كانوا جبهةً واحدة في سبعينيات وثمانينيات القرن الفائت لم يشتغلوا أفلاماً مشتركة وحسب، بل عملوا على نشر ثقافة ومعرفة سينمائيّة في أوساط جيلٍ كامل، جعلوه يحبّ السّينما من خلال تعريفه على أهم إنتاجاتها، إضافةً لمذاهب السّينما على اختلاف أنواعها، ليس على صعيد العاصمة وحسب، وإنّما في مدن أخرى أيضاً من خلال تأسيس أميرالاي ورفاقه ما أطلقوا عليه وقتها «اتّحاد عام نوادي السينما بسورية ـ 1978» بحيث أصبح لنادي دمشق مختبرات وورش تفرعت عنه في كلٍ من حلب وحمص ومصياف ودير الزور والسّويداء. سنوات طويلة كان كل من عمر أميرالاي ومحمد ملص يقيمان فيها أسابيع سينمائية للأفلام في هذه المدن، حاملين معهم أفلاماً وآلة عرض سينمائيّة ـ 16 مم ـ كي يعرضوا الأفلام أمام الجمهور ويناقشوها بكل جدية ورغبة في تحقيق عدوى سينمائية أرادوا نشرها في كل بقاع الأرض السورية.

عملهم هذا أقرب إلى الفعل النضالي منه إلى عشق السينما التي ظل أميرالاي حتى أيامه الأخيرة مؤمناً بدورها في حياة الناس الذين تحزّب لهم ولهواجسهم وهمومهم اليومية؛ وليكون الحضور لظاهرة السينما الجوالة هذه مفاجئاً بكثافته وحماسه في أرياف ومدن البلاد، إلى أن توقفت هذه التجربة نهائياً بانفراط العقد الذي جمع سينمائيي سورية، والخلافات التي وقعت بينهم كرفاق مرحلة، أو سواءً الخلافات التي نشبت فيما بعد مع المؤسسة العامة للسينما التي أنتجوا فيها أهم أفلامهم. خيبات أمل كبيرة تعرّض لها صاحب «الرجل ذو النعل الذهبي» بإيجاد فرصة جديدة يطل من خلالها على سينما وثائقية قادرة أن تبتعد عن دور المتفرج المذعن للواقع، فلطالما كان عراب السينما التسجيلية السورية مدركاً لفداحة الخطب القادم وهوله، مدفوعاً بخصومة سياسية واضحة مع السلطة وضعته في أوقات كثيرة أمام مواجهاتٍ معها، كانت ذروتها في فيلمه «الطوفان» ففي ظلّ التصوّر المتشائم للمجتمع السوري الذي نراه واضحاً في سينما الوثائقي الراحل لم يتنكّر أميرالاي لهويته السينمائيّة، ولا للسينما التي بقيت أداته الوحيدة للتعبير عن نفسه، بيد أن هذا الإيمان لم يقِ أميرالاي من أن يكون حزيناً حتى آخر أيامه لما أصاب السينمائيين السوريين من فُرقة وعجز عن جمع أنفسهم من جديد، لـ«تشكيل جبهة سينمائيّة كانت في يوم من الأيّام عصب الثقافة في مواجهة رموز الخراب ومقصّاته» كما وصفها ذات مرة في الحوار الأخير الذي أجريتُه معه هنا في «السفير الثقافي» قبل أسبوع من رحيله الصادم في الخامس من شباط 2011. الشيء الوحيد ربما الذي كان يشغل بال صاحب «محاولة عن سد الفرات» هو كيف على السينما التسجيلية أن تدفع عن نفسها شبهات واتهاماتٍ عدة، أقلّها انتقاؤها السلبي لموضوعات أطلق عليها المخرج السوري الراحل مصطفى العقاد لقب «الواقعية الفضائحية التي تشهّر وتشوّه وتعرض الغسيل الوسخ خارج البلد»؟ إن العجز عن إمكانية فعل شيء ذي جدوى لإصلاح خراب الواقع الذي وصلت إليه البلاد؛ جعل أميرالاي يفكر بأن الخلاص لن يكون إلا بالعودة إلى السينما، وسيكون حتماً خلاصاً فرديّاً، لأنّه في نهاية المطاف؛ الفعل الحقيقيّ بالنسبة لأيّ سينمائيّ هو أن يصنع فيلماً: «نحن اليوم أبعد ما نكون عن تلك الحالة الحماسيّة التي كنّا عليها قبل سنوات فائتة، حين كنّا نشكّل جبهة متماسكة موحّدة، وكانت لدينا مطالب واضحة وصارمة، فالسينمائيون السوريون كانوا دائماً في الخطّ الأمامي الأوّل، كنّا دائماً في المقدّمة، وكان صوتنا هو الأعلى في مماحكة السّلطة لسنين طويلة، لكنّنا لا نستطيع اليوم أن ندّعي بأننا استطعنا الاستمرار، لأنّ الفساد نخرنا مع الأسف من الداخل، مثلنا مثل الجميع، فطال الفساد سينمائيين كانوا في السّابق معارضين، وعملوا معنا لسنين، لكنّ عدالة الفنّ، لحسن الحظّ، كانت لهم ولأفلامهم بالمرصاد، فجاءت أعمالهم على صورة تخاذلهم وتخلّيهم عن قضيتهم الأساس في صون مهنتهم، حين تحوّلوا بدورهم إلى مواطنين بائسين في جمهورية كول وشكور».

عمر أميرالاي في سطور

يعتبر عمر أميرالاي (1944-2011) عرّاب السينما الوثائقية في سوريا؛ حيث يُعدّ من أبرز المخرجين الذين تصدوا لصياغة الفيلم التسجيلي، فبعد عودته عام 1968 من دراسة السينما والمسرح في فرنسا؛ ومشاركته هناك في تصوير أفلام دعائية عن أحداث ثورة الطلاب بباريس، يقدم أميرالاي فيلمه الأول بعنوان «محاولة عن سد الفرات - 1970» ومن ثم قدم عدة أشرطة كانت بمثابة وثيقة عن الحياة السورية المعاصرة، كان أبرزها أفلام «الحياة اليومية في قرية سورية - 1974» و«الدجاج - 1977» وفيلم «عن ثورة - 1978»، بالإضافة لأفلام عديدة أثارت جدلاً كبيراً بسبب نزعتها النقدية للسلطة في بلاده، كان أبرزها فيلمه «الطوفان - 2003»، الشريط الذي انتقد فيه سياسة حزب البعث.

توفي عمر أميرالاي في الخامس من شباط عام 2011 وفي دماغه الذي تفجر بجلطة فاجأت محبيه وأصدقاءه الكثير من المشاريع السينمائية التي ماتت من دون أن يتمكن من إنجازها، كان أبرزها مشروع فيلم بعنوان «إغراء» يتحدث فيه عبر سيرة بطلة سينما القطاع الخاص في سوريا عن حقبة كاملة من حياة السوريين.

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

زائر المناطق المحرمة

خليل صويلح

على سفح جبل قاسيون، يرقد جثمّان عمر أميرالاي (1944-2011)، كأنه اختار مكاناً يتيح له تثبيت العدسة على منظر بانورامي لدمشق كي لا يفوته المشهد كاملاً. عدسة مفتوحة باتساع تلتقط طبقات الجحيم وهول الفجيعة وصلوات موتى طارئين. لعله الآن يدير حواراً مع الشيخ محيي الدين بن عربي الذي يرقد على بعد أمتار منه، حول معنى التصوّف «معطّراً بروحانيته مباركاً باسمه وكنيته، وقد عاهدت نفسي مذ صرت مخرجاً أن أنذر له ذبيحتين على روحه الطاهرة كلما رزقت فيلماً»، وفي رؤية أخرى، ربما أنه يضع اللمسات الأخيرة على الجزء الثاني من فيلمه «الطوفان»؟

ليلة رحيله في ظهيرة 5 شباط، كان مطر خفيف يبلل الشوارع، فيما كانت الصورة مثبّتة على «ميدان التحرير» في القاهرة، وبدا أن زمناً عربياً آخر يعلن مخاضاً مختلفاً. جلطة دماغية مباغتة، ألغت مشاريعه المؤجلة في توقيت سيئ. غيابه الباهظ فاتورة لا تعوّض، في لحظة غائمة، فنحن أحوج ما نكون إلى حكمته الجليلة لمعرفة جهة البوصلة الصحيحة، وإدارة الخطة بدقة وبأخطاء أقل.

كارثة حقيقية أن يغيب سينمائي من مقام عمر أميرالاي، لحظة تراكم مواد خام نادرة لصناعة شريط استثنائي لا يمكن أن يصنعه أحد سواه بالخرائط نفسها ووضوح ودقة العدسة. وكي نقلل من حجم الخسائر سنقول في عزاء أنفسنا: «ألم يطلق الشرارة الأولى للنفير؟»، ذلك أن الأرشيف الذي يحمل توقيعه لا يضاهى، فهو واحد من قلائل ممن وضعوا الفيلم التسجيلي السوري في مكانة رفيعة. أشرطة لا تساوم ولم تذهب يوماً إلى النبرة الفلكلورية والسياحية التي نجدها في مقترحات الآخرين.

غاب عمر أميرالاي في توقيت خاطئ، أو ما يمكن أن نسميه «التوقيت القاتل»، ذلك أن قوة الزلزال تحتاج إلى خبير خرائط مثله كي يفحص صلابة أو هشاشة التضاريس فوق أرضٍ مهتزّة، قبل أن يجرف «الطوفان» ما تبقى من الطمأنينة الكاذبة. ظلّ عمر أميرالاي طوال حياته المهنية مخلصاً للسينما التسجيلية، من دون أن يتخلى عن ظلال روائية في أفلامه، في حكايات قاسية تشبه الصفعات المباغتة، خصوصاً في ما يتعلّق بموضوعاته السورية. هنا عليك أن تبقى متيقظاً بكامل حواسك لاكتشاف «القطبة» المخفية في الصورة التي تبدو بريئة، للوهلة الأولى، لكنها في الواقع تنطوي على شحنة من الألم والبؤس والسخرية المرّة من أحوال الكائن السوري المريض، إذ يضع نماذجه في ورطة الكاميرا «المحايدة»، وإذا به يقتنص ما يريده في العمق، لجهة التحريض والتشريح السوسيولوجي لمجتمع تائه بين البلاغة الجوفاء للإيديولوجيا الرسمية، ومفرزاتها على الأرض، من طريق كاميرا تتوغل في المناطق المحرّمة، وتشتبك مع الواقع مباشرة. سينماه مزيج من الروائي والمسرحي. أبطاله يظهرون من دون أقنعة، في هذه الوليمة العارية التي لم تكتمل فصولها. كان المخرج الراحل، قبل غيابه بقليل، يتهيأ لإخراج أحد مشاريعه الكثيرة المؤجلة، أقصد «جدّي العثماني»، فها هو يسعى متأخراً لاكتشاف هويته الحقيقية، بعيداً عن الرطانة العمومية، وتفكيك هذا المزيج المتنافر لسلالته، فهل هو شركسي أم عربي، أم عثماني، أم هو كل هذه السلالات مجتمعة في هوية واحدة؟

بالطبع سوف نحسّ بالأسى لعدم تمكّنه من تحقيق مشاريع أخرى مهمة، مثل فيلمه عن «أسمهان»، وفيلمه الآخر عن الممثلة السورية المحتجبة «إغراء».

لدى عودته من باريس في السبعينيات، كانت الحماسة على أشدها في بناء مجتمع اشتراكي. اختار أن يحمل كاميراه إلى ضفاف الفرات لإنجاز شريط عن هذا الصرح العظيم الذي هو «سد الفرات»، هكذا أبصر شريطه الأول النور بعنوان «محاولة عن سد الفرات» (1970)، شهادة عن مرحلة كانت ملاذاً لتطلعاته الثورية. وبعد 33 عاماً، سيغلق القوس على رؤية مضادة في شريطه الأخير «الطوفان» (2003)، محاولاً تصحيح الصورة في محاكمة قاسية لا تخلو من نقد صارم لأوهام شباب. «الطوفان» الذي مُنع عرضه في سوريا وجلب المتاعب لصاحبه، هو مكاشفة نقدية ساخنة، لما آلت إليه أوضاع البلاد وصرخة تحذير لتصحيح وضع، أكثر منه تصفية حساب. المخرج يحاكم نفسه علناً هنا، بوصفه شريكاً قبل أن يحاكم السلطة.

هكذا وجد عمر أميرالاي نفسه صاحب أكبر سجل للأفلام الممنوعة: منذ أن منع فيلمه «الحياة اليومية في قرية سورية» (1973) بمشاركة سعد الله ونوس، و«الدجاج» (1974)، لم يتح لأحد مشاهدتهما إلا في عروض خاصة. هذا الحصار لأفلامه قاده مرة أخرى إلى باريس في مطلع الثمانينيات من القرن المنصرم، لينجز هناك أفلاماً تسجيلية لمصلحة محطات تلفزيونية فرنسية: «مصائب قوم» و«الحب الموءود» و«إلى رئيسة الوزراء بنظير بوتو» و«في يوم من أيام العنف العادي» (عن صديقه الصحافي الفرنسي ميشيل ساورا الذي اغتيل في بيروت). ثم أنجز لاحقاً في دمشق شريطاً عن «سعد الله ونوس». وجاء «الرجل ذو النعل الذهبي « (2000) عن الرئيس الراحل رفيق الحريري، ليكون الأكثر إثارة للجدل في مسيرة هذا المخرج.

ليس لدى عمر أميرالاي أجندة جاهزة، بل يعمل على الحدس في التقاط موضوعات أفلامه. لكن ما أن تدور الكاميرا حتى يكتشف أنه يخوض في حقل ألغام. لا يكتفِ هذا المخرج الإشكالي بملامسة الصورة، بل يُخضعها لاختبارٍ قاسٍ ليبلغ جوهرها. وإذا بالمُشاهد متورط معه، يعيد النظر في أمور خالها بديهية، فدائماً «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يقولها المرء» بحسب عنوان أحد أفلامه.

فيلمه الأخير «طوفان في بلاد البعث» نموذج فريد لأحوال الكائن- الضحية، وسقوطه المريع في فخ العبودية المزيّنة بطلاء من قشور الذهب، الكائن الببغائي وقد حفظ «المقرر» من دون أن يفهم المحتوى، ولكنه في ببغائيته هذه، يؤمن طريق السلامة. صورة المعلم في «الطوفان» نسخة يمكن تعميمها على آلية صنع الرجل المعلّب، أو «الرجال الجوف» بقش قابل للاحتراق عند أول محاولة للمواجهة المضادة، حين تبرز القيم العشائرية والقبلية كماكيت أولي لخريطة الدولة نفسها.

شخصياً، سأعود على الدوام، إلى شريطه «الحياة اليومية في قرية سورية»، وأنا أتتبع الوجوه البائسة والكالحة لبشر يعيشون في قرية بعيدة، تحت وطأة الإهمال، والأمراض المستعصيّة، والعسف العشائري والحكومي. قرية «مويلح» عند حدود دير الزور- الحسكة، لا تبعد عن قريتي أكثر من كيلومترات، لكنها صورة طبق الأصل عن ذلك البؤس. إثر مشاهدتي الأولى للشريط، قلتُ لنفسي «أنا واحد من هؤلاء التلاميذ الحفاة الذين نشأوا في العراء»، لكن الخطأ الذي ارتكبته، هو أنني غادرت إلى دمشق لأحقق مشروعي هناك، فيما صفعني عمر أميرالاي بصورة صاعقة، ستكون درساً بليغاً لي، فقد قطعت مسافة ألف كيلو متر كي أكتب نصي الخاص، وإذا بي أكتشف بأنني تركت نصي ورائي. هل كان عليّ أن أوقّع هذا الشريط بنفسي؟ ولكن من يجاري عمر أميرالاي في فضح الخزي، وطبقات العار، وأفعال البرابرة؟

(روائي سوري)

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

مفردة سينمائية

نديم جرجوره 

سؤالان يتبادران إلى الذهن عند الكتابة عن السينمائي السوري الراحل عمر أميرالاي (1944 ـ 2011)، في هذه اللحظة تحديداً: كيف كان سيوثق، سينمائياً وإنسانياً، مسار الثورة السورية؟ ما هي النتيجة السينمائية الوثائقية التي كان يُمكنه صنعها لو تسنّى له تحقيق مشروعيه الحلمين عن أسمهان وإغراء؟ سؤالان منفصلان أحدهما عن الآخر على مستوى المادة، لكنهما متكاملان معاً على مستوى المفردة السينمائية التي اعتاد أميرالاي الاستعانة بها أثناء اشتغالاته السينمائية. مفردة معقودة على آلية بصرية لتفكيك المادة المختارة، والاحتيال الفني على موضوعها، والتنقيب الدقيق في خفاياها ومتاهاتها وامتدادتها المتشعّبة هنا وهناك، وتحويل الشخصيات المختارة إلى مرايا كاشفة للمخفيّ، أو مُكمِّلة للمباشر. مفردة تواجه فتَصدُم، وتقرأ فتُبهِر، وتبوح فتصنع من الصورة قصيدة تغوص في أعماق حكايات منسية، أو في بواطن مخفيّ وظاهر معاً. وسواء تمحور النصّ السينمائي حول بيئة اجتماعية أو حكاية سياسية أو شخصية عامة معروفة أو حالة إنسانية، فإن المفردة نفسها تبقى ركيزة أساسية لتحقيق فيلم وثائقي ساهم عمر أميرالاي في تجديد صناعته وبناه الدرامية والفنية، وفي تطوير أدوات التعبير السينمائي الخاصّة به.

[[[

كلام عموميّ لا يُلغي حيوية السؤالين السابقين، ولا يمنع القيام بمحاولة متواضعة لفبركة أجوبة مأخوذة من اختبار سينمائي ممتد على 33 عاماً (1970 ـ 2003)، يبدأ بقراءة معان مختلفة لإقامة «سدّ الفرات» (هل كانت معاني إيجابية حقة حينها؟)، وينتهي بمعان نقيضة للأولى، مصنوعة من السدّ نفسه، الذي يبدو، مع أميرالاي، كأنه مُقبل على انفجار كبير لاحق («طوفان في بلاد البعث»، 2003). كلام عموميّ لا يحول دون مسعى خفر إلى أجوبة مستلّة من عناوين سابقة صنعها أميرالاي في رحلته الآسرة داخل الزمن والجغرافيا، وفي أعماق الاجتماع والحياة والعلاقات.

الحيلة نواة جوهرية تُعين على تبيان المخبَّأ من دون ثرثرة مباشرة. «الحياة اليومية في قرية سورية» (1974) و«الدجاج» (1977) و«مصائب قوم» (1981) مثلاً نماذج حيّة لثنائية الحيلة ـ المواربة، التي تكشف عبر وضع الصورة المباشرة في عدسة الكاميرا ما هو خلف الصورة المباشرة تماماً. التوغّل في إحدى اللحظات الخطرة في فصول الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990) مثلاً (مصائب قوم)، معقودٌ على مقاربة بصرية للكاميرا في شوارع ومحلاّت وأرصفة وأناس وانفجارات وموت، قبل أن تُعرّي هذه المقاربة ـ العدسة ما يُشكّل ملامح من الخراب النفسي ـ الروحي في بيروت حينها. «طوفان في بلاد البعث» أجمل مثال على معنى الخديعة السينمائية الجمالية في ذهابها بعيداً داخل حقول الألغام. إعلان عن مأزق الواقع، يترافق وبراعة الكاميرا في التسلّل إلى ما وراء الجدران، لفضح ما تُخفيه الجدران. الخديعة السينمائية هنا لا تكتفي بفضح المخفيّ وكشفه وتعريته ومساجلته، لأنها مرتبطة بالفعل السينمائي البحت أيضاً: طريقة التصوير، وآلية الاشتغال في غرفة المونتاج، والإضاءة، وكيفية تشكيل البناء الدراميّ الفيلميّ، إلخ. الخديعة واضحة أيضاً في كيفية طرح الأسئلة، وفي استدراج الشخصيات المختارة إلى قول الأشياء كلّها، قبل أن يتمّ اختيار الأنسب منها في عملية البناء الدراميّ الفيلميّ هذا.

لو تسنّى لعمر أميرالاي تحقيق فيلم سينمائي وثائقي مستلّ من وقائع العيش السوري اليومي في ظلّ ثورة أُشبعت قتلاً واغتيالاً وتغييباً، ما هي الصورة السينمائية التي كان يُمكنه صنعها؟ هل كانت الخديعة ستكفيه أمام قسوة الواقع ودمويته وعنفه، تلك التي ألغت سلمية الحراك الأول؟ هل كانت المواربة قادرة على بلوغ هدفها السينمائي ـ الإنساني؟ أعرف أني أطرح أسئلة يستحيل العثور على أجوبة أكيدة عليها. لكنها أسئلة كفيلة بتمرين سينمائي قد يأخذ المعنيّ ـ المهتمّ بسينما أميرالاي إلى مُشاهدة جديدة لقديمه، في راهن ملتبس، ومسارات قاتلة، ونهايات معلّقة.

[[[

للشخصيات العامّة في السيرة السينمائية لعمر أميرالاي حضورٌ فاعلٌ. هذا سبب أساسي لطرح أحد السؤالين السابقين. لم يُخف أميرالاي رغبته العميقة في الاشتغال السينمائي على شخصيتي أسمهان وإغراء. كأنه عثر فيهما على ما يُغذي نظرته السينمائية الوثائقية إلى الحكاية الفردية. كأنه أراد بهما استكمال مشروعه الوثائقي، الهادف إلى تجاوز فعل التوثيق المباشر إلى قراءة أعمق وأجمل لوقائع وتفاصيل، وفي قراءة سينمائية مغايرة لهذه الوقائع والتفاصيل. كأنه تمنى الذهاب معهما إلى ما هو أبعد من الكاميرا: كتابة شهادة ذاتية عن تاريخه الشخصي. محاولاته الحثيثة والطويلة الأمد لتحقيق فيلم عن الأولى باءت بالفشل. كان هناك ما يحول دائماً دون «اللقاء» المنتظر مع «ديفا الشرق» (عنوان فيلم وثائقي للإيطالي سيلفانو كاستانو عن أسمهان). كان هناك ما يحول دائماً دون بلوغ تلك اللحظة التاريخية في الغناء والعيش والتمرّد والانقلاب على الذات مراراً وتكراراً، بنظرة سينمائيّ لا يقلّ إبداعاً في العيش والتمرّد وممارسة انقلابات سينمائية جميلة وعديدة. إغراء نموذجٌ مختلفٌ لحضور أنثوي في المشهد العام. الممثلة التي وجدت في أفلام سورية (أدّت فيها أدواراً إغرائية) ملاذاً وإطلالة وحكاية، هي نفسها التي سعى أميرالاي إلى الاقتراب من عالمها، وهو عالم مفتوح على زمن وثقافة ونمط حياة في مجتمع يحثّ الخطى حينها (ستينيات القرن المنصرم تحديداً) إلى بلورة أفقه ومكانته وطقوسه، أو إلى عيشها كلّها. الإنتاج، بل غيابه، ربما يكون أحد أسباب عجزه عن تحقيق فيلم عن إغراء. المانع العائلي أكثر من الإنتاجيّ حال دون تحقيق فيلم عن أسمهان. لكن: لماذا لم يستعن بالخديعة البصرية والحيلة السينمائية، اللتين ساعدتاه على تحقيق فيلم عن بنظير بوتو مثلاً («إلى جناب السيّدة رئيسة الوزراء بنظير بوتو»، 1990) من دون أن يلتقيها؟ ألم يرد بلوغ مُراده بأي ثمن؟ إذاً، ما العائق؟ أهي رغبة في تجديد لغة التواصل مع شخصية أسمهان؟ أهي صعوبة الاقتراب التقليدي من شخصية كأسمهان؟ أهي أسمهان نفسها التي فرضت أولوية اختيار نمط آخر في مقاربة حكايتها؟ ألا يُمكن طرح الأسئلة نفسها، أو ما يُشبهها، بخصوص إغراء؟

[[[

حوّل عمر أميرالاي كل شخصية عامّة اختارها إلى حبكة درامية سينمائية، سواء كانت مدخلاً ساخراً إلى تفكيك عوالم بيئة اجتماعية ما (نادية الجندي في «الحب الموؤود»، 1983)، أو كانت ترجمة لصداقة حيّة وحيوية، عاشها المخرج في منعرجات تاريخ وتحوّلات وأفكار ووقائع، إما مع ميشال سورا («في يوم من أيام العنف العادي، مات صديقي ميشال سورا...»، 1996)، أو مع سعدالله ونوس («هناك أشياء كثيرة كان يُمكن أن يتحدّث عنها المرء»، 1997)، أو كانت الشخصية العامّة المختارة دافعاً إلى محاولة تبديد غموض ظلّل علاقته بها (رفيق الحريري في «الرجل ذو النعل الذهبي»، 1999). هناك أيضاً سوريان اثنان: الرائد السينمائي نزيه الشهبندر («نور وظلال»، 1994) والفنان التشكيلي فاتح المدرّس («المدرّس»، 1995)، وهما فيلمان وثائقيان أيضاً انجزهما أميرالاي مع صديقيه المخرجين محمد ملص وأسامة محمد.

بعيداً عن اختلافات واضحة في آليات الاشتغال السينمائي الخاصّة بمقارباته السينمائية الوثائقية هذه الشخصيات، كاختلاف الشخصيات نفسها بعضها عن البعض الآخر، قدّم عمر أميرالاي نماذج سينمائية وثائقية عربية مختلفة، تنوّعت في معالجاتها، وتشعّبت في قراءاتها الذاتية أحوال هذه الشخصيات وامتداداتها. عدم قدرته على لقاء بوتو دفعه إلى تحويل المكالمات الهاتفية مثلاً إلى خط درامي تنبني عليه فصول الرحلة، وشغف اللقاء المعطّل، والإطلالات الغريبة على الواقع. قسوة الموت وضعته أمام خيارين سينمائيين: نشيد مكتوب بالصورة والنصّ والصوت بدا رسالة حبّ إلى صديق مات أثناء خطفه، أو نشيجاً ذاتياً للبوح الانفعالي المليء بكثافة الصداقة والتاريخ والأسئلة (سورا). وحوار مفتوح على ذاكرة وتاريخ وحاضر وحميمية، أشبه برسالة وداع لزمن وتجربة واختبار وحكاية، مرسومة كلّها على سرير الموت أيضاً (ونوس). مع رفيق الحريري، المسألة مختلفة تماماً: هناك ما يشي بانبهار خفيّ للسينمائي إزاء رجل الأعمال السياسي. هناك ما يدفع إلى تفكيك تحصينات رجل الأعمال السياسي للوصول إلى الإنسانيّ فيه. هناك لعبة بين السياسي والسينمائي. هناك ما يطرح ألف سؤال وعلامة استفهام على المشروع المتكامل لرجل الأعمال السياسي، وعلى قدرة كاميرا السينمائي على اختراق البواطن الذاتية والعامة لتلك الشخصية.

ليست الأسئلة عابرة، لكنها ليست قابلة لإجابات واضحة. هذا جزءٌ من لعبة السينما. هذا نمط من أنماط الاشتغال السينمائي لعمر أميرالاي.

السفير اللبنانية في

23.05.2014

 
 

رحيل مدحت السباعي.. سينما مثيرة للجدل

نديم جرجوره  

هل صحيح أن صفة "صانع الأفلام الهابطة الرائجة" تليق به حقّاً؟

يُطرح سؤالٌ كهذا غداة شيوع نبأ رحيل المخرج السينمائي والتلفزيوني المصري مدحت السباعي، أمس الأول. نبأ رحيله دعوة إلى استعادة مسار صنعه الراحل على الشاشتين الكبيرة والصغيرة، مخرجاً أعمالاً متفاوتة الأهمية، طرح فيها مواضيع تصلح لإنجاز فني راق، أو لتنفيذ مشاريع متعلّقة بها وإن بطريقة عادية جداً. لا أدّعي معرفة بأعماله التلفزيونية. لم أشاهد أفلامه السينمائية كلّها. "خلطبيطة" (1994) لا يزال عالقاً في البال، لجماليته المائلة إلى شكل سوريالي مثير للضحك، على الرغم من قسوة حكايته. نبأ رحيله أعاد إلى الذهن "بئر الأوهام" (1986) و"امرأة آيلة للسقوط" (1992) مثلاً. المواضيع المختارة أساسية في الحياة اليومية العامة. أناس كثيرون معرّضون لمواجهة مآزق كهذه: اتّهام أحدهم بجرم لم يرتكبه، مع ما يثيره هذا الاتهام من مواقف وحالات وارتباكات (خلطبيطة). فقدان الذاكرة للهروب من مأزق، أو جرّاء صدمة نفسية قوية، وما يترتب عليها من مآزق تتعرّى شيئاً فشيئاً لجلاء حقائق معينة (بئر الأوهام). العالم السفلي للمدن الكبيرة، بما فيه من إجحاف بالحقّ الإنساني للبشر في العيش بأفضل شكل ممكن (امرأة آيلة للسقوط). هذه تنويعات سينمائية على مواضيع مشغولة كثيراً في العملين السينمائي والتلفزيوني. تنويعات مفتوحة على أسئلة الحياة والاجتماع والعلاقات والانفعالات ومعنى القدر والصدفة والغرائبية.

عنوان أحد أفلامه القديمة مثيرٌ للمُشاهدة: "ثلاثة على مائدة الدم" (1994). الثريّ النافذ في بيئته الاجتماعية وامتداداتها السياسية والقضائية والاقتصادية، ينجو من العقاب لشدّة بطشه النابع من سلطة نفوذه. فيلم آخر يؤكّد فكرة اختيار مدحت السباعي مواضيع جادّة: "الستات" (1992). حكاية معروفة ومُكرّرة، عن علاقة الصحافة بالفن والفنانين (هل أقول بالسياسة والسياسيين؟ بالشرائح الاجتماعية والبشرية كلّها؟). السلطة والنفوذ حاضران هنا أيضاً، لكن عبر فنانة لا تتردّد عن إثارة الماضي لإحراج صحافي لا يريد نشر أخبار عنها. السلطة والنفوذ أيضاً وأيضاً في "خلطبيطة" (قيل إنه مستوحى من "المحاكمة" لفرانز كافكا): هناك "بريء" متّهم بذنب لم يقترفه. الفعل الغرائبيّ أقوى من سؤال السلطة. محمود عبد العزيز في أحد أدواره الجميلة والمُقنعة بغرائبية النص والمعالجة والتنفيذ السينمائي. لكن مدحت السباعي، أقلّه بحسب الفيلم نفسه، لم يشأ الغوص في أعماق الحبكة الأصلية وأسئلتها القدرية والوجودية والإنسانية، فبدا كأنه يُريد توظيف الكوميديا داخل نصّ محكم الكتابة والصُنعة البصرية. بدا كأنه يُفضّل تطويع المسألة الفكرية عند كافكا لحساب التبسيط السينمائي الذاهب إلى الفعل الكوميدي العادي البحت.

بعد رحيله بساعات، كتب البعض أن هناك إمكانية كبيرة لوصف مدحت السباعي بـ"إد وود المصري". المخرج الهوليوودي وود معروف بكونه أحد أهم مخرجي الأفلام الهابطة والرائجة جماهيرياً. لن أدخل في نقاش حول هذه المسألة. لن أقيم مقارنة بين المخرجين. لكل واحد منهما خصوصيته الفنية والاجتماعية والثقافية والحياتية. مدحت السباعي مخرج امتلك وصفة سينمائية متداولة في العالم العربي، خصوصاً في مصر وسوريا ولبنان، منذ خمسينيات القرن الفائت وستينياته وسبعينياته تحديداً. التبسيط والتسطيح والمعالجة السريعة وارتكاب أخطاء تقنية ودرامية وفنية، أمورٌ لا تزال تحصل لغاية اليوم في أفلام عربية عديدة.

سواء أكان "إد وود المصري" أم لا، حقّق أفلاماً هابطة ورائجة أم لا، فإن رحيل مدحت السباعي يجب أن يدفع إلى قراءة نقدية أعمق لأحد ملامح السينما المصرية والعربية، المتمثّلة بهذا النمط من الاشتغال السينمائي.

السفير اللبنانية في

24.05.2014

 
 
 

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2014)