حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أحمد رمزى:

الشعب المصرى لم يثر و"التحرير" لا يعبر عن 80 مليوناً

حوار - العباس السكرى

 

*لم أذهب للتصويت لأى انتخابات منذ عهد عبد الناصر .. ومازلنا نعيش في الدولة الناصرية

*أتمنى أن يعود الشعب المصرى للعمل قبل "ما نموت من الجوع".. وأرجو ألا نصبح مثل سوريا

*صناعة السينما ذهبت من مصر إلى دول عربية لا يسمع عنها أحد .. ولا أشاهد سوى الأفلام القديمة

فضّل النجم الكبير أحمد رمزى أن يهرب بعيداً عن صخب السياسة والمظاهرات، ويقيم بالساحل الشمالى، يتأمل ويفكر ويستعيد شريط ذكرياته مع الفن والسينما والحياة.

وفى حديثه مع «اليوم السابع» يفصح الفنان عن رؤيته السياسية حول ثورة يناير، وما أعقبها من أحداث، وسر رفضه الذهاب للإدلاء بصوته فى الانتخابات الرئاسية، متطرقا فى حديثه عن شكل السينما المصرية فى الماضى، وما آلت إليه الآن.

◄◄ اتخذت قرارا بعدم الإدلاء بصوتك فى الانتخابات الرئاسية وأيضا جولة الإعادة، لماذا؟

- لم أرفض الذهاب للتصويت بسبب أى مرشح رئاسى أعلن خوضه للانتخابات الرئاسية، لكن فى حقيقة الأمر أنا لم أعتد الذهاب لأى انتخابات أجريت طوال عمرى، ونشأت على ذلك منذ عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، ولعل هذا الإحساس انتابنى وقتها لأن صوتى لن يؤثر فى العملية الانتخابية، وإرادة الرئيس كانت فوق كل إرادة.

◄◄ على مدى ثلاثة عقود مضت لم يتغير فكرك حول مشاركتك فى العملية السياسية والذهاب إلى صناديق الاقتراع، خاصة بعد زوال الدولة الناصرية؟

- نحن مازلنا حتى الآن نعيش داخل أركان الدولة الناصرية، وكل ما كان يجرى فى عهد الرئيس الراحل أنور السادات وعصر حسنى مبارك، نسخة كربونية لما كان يجرى فى عهد جمال عبدالناصر، ولا توجد سمة واحدة تميز بها رئيس من الثلاثة الذين حكموا البلاد فى الفترة الأخيرة، وأود أن أقول إننا أدخلنا هذه العصور ولم ندخلها بإرادتنا، وربما يتلخص نجاح ثورة يوليو فى استمراريتها حتى الآن بالحكم.

◄◄ الشعب المصرى كسر الصمت وخرج معلناً عن غضبه وصنع ثورة مصرية أسقطت نظاماً فاسداً واحتفى بها العالم؟

- لا أستطيع أن أجزم بنجاح الثورة المصرية لحداثة عمرها، ولا يمكننا معرفة هذا إلا بعد سنوات طويلة، لكن أستطيع القول بأن الشعب المصرى طوال حياته «مغلوب على أمره».

◄◄ كيف تصفه بـ«المغلوب على أمره» وهو الشعب الذى تمرد على رئيسه وخلعه من منصبه؟

- الشعب المصرى لم يثر، وأقصد بذلك الـ80 مليون مصرى، ولو وصل تعداد الذين ثاروا وتمردوا على النظام لخمسة ملايين داخل ميدان التحرير والميادين فى المحافظات الأخرى فإن ذلك لا يعنى بأن الشعب كله ثار.

◄◄ إذن هل ترى أن هناك أخطاء أعقبت ثورة يناير فور اندلاعها؟

- حدث خلل ملحوظ، وظهرت تيارات سياسية ركبت الموجة وحصدت كل شىء، وتحولت إلى الحكاية إلى ما يشبه «العركة».

◄◄ هناك مليونيات مستمرة تخرج أسبوعيا إلى ميدان التحرير لعرض مطالبها، ما رأيك؟

- أتمنى أن يعود الشعب المصرى للعمل، حتى نستطيع النهوض بالمستوى الاقتصادى للبلد، قبل «ما نموت من الجوع»، وأرجو أن نستقر ولا نصبح مثل سوريا.

◄◄ هل تتوقع أن تتصدر ثورة يناير كتب التاريخ؟

- التاريخ من السهل إلغاؤه مادمت تستطيع أن تتحكم فى المناهج والكتب، وعبدالناصر ألغى تاريخ أسرة محمد على من الكتب فى أول 5 سنوات من حكمه.

◄◄ كيف ترى فوز الدكتور محمد مرسى مرشح جماعة الإخوان بمنصب رئيس الجمهورية؟

- بداية عظيمة أن يأتى رئيس جمهورية غير عسكرى، لكن بالتأكيد هناك «لخبطة» فى الكثير من الأمور لحين الاستقرار التام.

◄◄ أحمد رمزى شريط سينمائى طويل، فكيف يرى شكل السينما المصرية الآن؟

- أريد أن أطرح سؤالا فى هذا الشأن وهو: أين السينما المصرية الآن؟، ببساطة «مفيش سينما»، فنحن فى عهد جمال عبدالناصر كنا نقدم 120 فيلما مصريا فى العام الواحد، رغم حالة الكساد والحرب التى كانت تمر بها البلاد، أما الآن فعدد الأفلام المصرية التى تقدم فى السنة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وللأسف صناعة السينما حاليا ذهبت إلى بلاد عربية أخرى لم يسمع عنها أحد، بعدما كان لا يستطع أحد أن «ينطق سينما غيرنا».

◄◄ لم يدفعك الفضول لمشاهدة الأفلام الحديثة التى تعرض حاليا بدور العرض السينمائية؟

- أنا لا أشاهد سوى الأفلام العربية القديمة، والأفلام الفرنسية القديمة أيضاً.

◄◄ وما شعورك عند متابعة أفلام الزمن الجميل؟

- عندما أشاهد فيلما يدور بخيالى شريط من الذكريات الطويلة التى جمعتنى بأبطال العمل ومؤلفه ومخرجه، وأسترجع ذكريات عمرها ستون عاما، عندما بدأت التمثيل وكنت لا أتوقع أبدا أن أحظى يوما بهذه النجومية على الإطلاق.

◄◄ برأت العندليب من زواجه بالسندريلا أكثر من مرة فهل تمتلك أدلة البراءة؟

- الأمر ليس محتاجا لأدلة، لأن عبدالحليم حافظ كان بمثابة الأخ لى وأعرف أدق تفاصيله الشخصية، وكذلك سعاد حسنى كانت صداقتنا قوية جدا، وأؤكد أنهم لم يتزوجا مثلما أشيع، وكذلك شائعة قتل سعاد حسنى ليست صحيحة لأنها انتحرت بالفعل، بعدما تجاهلها عدد كبير من أصدقائها أثناء محنتها، وهو ما أدى إلى كرهها لنفسها وللحياة.

◄◄ هل ترغب فى توجيه رسالة للشعب المصرى؟

- أريد أن أبعث له بجملة واحدة هى «بهدوء وبدون استعجال»، وكل شىء سيصبح فى مكانه الصحيح، وحذار من السرعة لأنها لن تفيد.

اليوم السابع المصرية في

12/07/2012

 

شَعَرتْ بأنها لا يحق لها أن تحب أحداً فمن تحبه يموت

زينة صفير: صُنْعُ فيلم يشبه العلاج والإنجاب

أجرى الحوار: نديم جرجوره 

هذا فيلم وثائقي لبناني آخر يندرج في إطار الحفر البصري في الذاكرة الفردية. يندرج في الذهاب بعيداً داخل الذاكرة الفردية، كجزء من قراءة بعض الجماعة، واقعاً وانفعالاً وسلوكاً. هذا فيلم وثائقي لبناني آخر يقول حكايات شفوية لم تُكتَب. يرتكز على العلاقة الحميمة بين المخرجة ووالدها. لكن العلاقة الحميمة مدخلٌ إلى ما هو مختلف عنها: إلى بلد وتاريخه، أو بعض تاريخه على الأقلّ. إلى بيئة وتفاصيلها، أو بعض تفاصيلها على الأقلّ. الوثائقي، هنا، أداة تعبير، ومرآة. تعبير عن حالات، ومرآة لها في آن واحد. بوح ذاتيّ أيضاً بين المخرجة ووالدها. التعبير نابعٌ من معاينة الوالد هذا الحدث أو تلك الحكاية. يسرد الوالد هذا الحدث أو تلك الحكاية كما عاشها. كما عرفها. كما اختبرها. كما تذكّرها الآن. المرآة جزء من التعبير. أو مُكمِّلة له. فعبر سرد الحكاية من خلال انفعال ذاتيّ، تُصبح الحكاية مرآة واقع ومسار.

مادة دسمة

«بيروت عالموس» آخر فيلم وثائقي أخرجته الشابّة اللبنانية زينة صفير. تحية مزدوجة هو: أولى لأب حَمَل في ذاته وأحلامه ومخيّلته وذاكرته تاريخاً طويلاً من الحكايات اللبنانية العامّة، في السياسة والاجتماع والحياة اليومية والقصص الحميمة. ثانية لمدينة مفتوحة على خرابها، لشدّة انفتاحها على الخارج. أولى لأب شاهد بعينيه مسار بلد وناسه، منذ منتصف القرن الفائت تقريباً، أو قبل هذا بقليل. شاهد بعينيه ارتباك هذا المسار، وغليانه المدوّي. ثانية لمدينة عاشت ارتباك مسارها التاريخي، وعانت تداعياته.

الفيلم، باختصار، مبنيّ على تركيب درامي لقصص رواها الأب هنا وهناك. مبنيّ على متتاليات قصصية، جعلتها زينة صفير نواة جمالية لحقبة وحالة: «اخترتُ والدي شخصية رئيسة في الفيلم، لأنه مثيرٌ للاهتمام. لأن قصصه مثيرة للاهتمام. كبرتُ عليها. لكن، عندما يدخل الأمر في حياتك اليومية، يصعب عليك معرفة قيمته. في ما بعد، شعرتُ بأن هذه القصص المروية على لسان والدي مادة «دسمة» سينمائياً». هذا ما قالته زينة صفير. أضافت المخرجة: «المثير للاهتمام أيضاً كامنٌ في أنك، عبر هذه القصص، تروي قصّة البلد والمنطقة. أو بالأحرى، تروي قصّة البلد والمنطقة عبره هو شخصياً. فهو لديه شيء: ما من «خبرية» يرويها لك، إلاّ وفيها شيء من حكمة». يُمكن القول إن «بيروت عالموس» منطلقٌ من إحساس زينة صفير بأهمية الـ«خبرية»، في مستويات عدّة: ما الذي حدث (مضمون الخبرية). كيف رُوي الحدث (أسلوب سرد الخبرية). البُعد الإنساني. الجوانب السياسية والاجتماعية والحياتية للبلد. هذه أمور تتوضح معالمها في السياق الدرامي لـ«بيروت عالموس». في بُناه الجمالية والفنية والتقنية والحسّية.

للقصص وأهميتها، ولسردها على لسان الأب وجمالية هذا السرد، أولوية أساسية في اهتمام زينة صفير بنقلها إلى فيلم وثائقي، مفتوح على البوح الذاتي، والصورة الجماعية. لكن، هناك دافعٌ أساسي حرّضها على البدء بتحويل الفكرة إلى مشروع سينمائي: «هناك أمران حصلا معي: الأول متمثّل بقريب لي، ظلّ يُكرِّر على مسامعي ضرورة تأريخ هذه القصص التي نحتاج إليها. الثاني متمثّل بلاوعي خاص بي. بانفعال شعرت به مراراً: «أنا خائفة على والدي». خوفي عليه، ثم «إعجابي» به بعد إنجازي الفيلم. لعلّ «بيروت عالموس» تكريم له. «تخليد» له أيضاً. خوفي عليه ناتجٌ من تقدّمه في العمر. إنها مسألة مرتبطة بالعاطفة. لا أعرف. باسم، أحد أقاربي، ربط المسألة بالحرب. نحن عشنا بالقرب من الموت. شخصياً، خسرتُ أناساً أحببتهم كثيراً. خسارتي إياهم جعلتني، ذات مرّة، أخشى حبّي أحداً. شعرتُ بأنه لا يحقّ لي أن أحبّ أحداً، لأنه كلّما أحببت احداً، يموت. أولاً، هناك عمّي: كانت علاقتي به أقوى من علاقتي بأبي. مات عمّي وأنا في الثالثة عشرة من عمري. ارتباطي به نشأ بسبب انشغال أبي عنّي بمهنته (حلاّق). ثانياً، هناك صديقتي. أعزّ صديقة لي فقدتها وأنا في الواحدة والعشرين من عمري. هي أيضاً كانت في العمر نفسه. أخبرك هذا لأقول شيئاً عن علاقتي بالموت. عن علاقتي بالخسارة أو الفقدان. هذه أزمة حياتي. إلى هذا اليوم، لديّ قلق. خسارة الناس حولي، والناس الذين لا أزال أعيش معهم، كوالديّ مثلاً. هذا كلّه اكتشفته، شيئاً فشيئاً، أثناء اشتغالي في تنفيذ الفيلم. كأن الفيلم علاج لي. أو نوع من علاج».

تاريخ بلد

مهنة الأب كحلاّق لديه محل داخل «فندق فينيسيا»، أتاحت له فرصة جمع هذا الكَمّ الهائل من القصص. شخصيات متنوّعة المسؤوليات والجنسيات والهواجس. على مدى سنين طويلة، راكم الأب قصصاً استمع إليها من هذا أو ذاك. عاشها أيضاً. او كان «شريكاً» في صنعها. هذا أو ذاك مرتبط، بطريقة أو بأخرى، بما حدث ويحدث داخل البلد، وفي المنطقة المجاورة له: «تاريخ البلد، بالنسبة إليّ، احتلّ المرتبة الثانية في لائحة اهتماماتي بقصص والدي. مهتمّة أنا بوالدي أصلاً. بشخصيته. لهذا، حاولتُ تفكيك هذه الشخصية. أبي مُسيَّس جداً. استماعه إلى الموسيقى والغناء اقتصر على نتاجات المطربين القدماء، كأم كلثوم مثلاً. اليوم، يستمع إلى نشرات الأخبار فقط. يُحلّل في الشأن السياسي. هذا جزءٌ منه، دفعني إلى الاهتمام بهذه القصص. بمعرفة زبائنه واهتماماتهم ومسؤولياتهم. بأخبارهم أيضاً. بالمكان نفسه الذي عمل فيه سنين طويلة. في هذا الفضاء العام (مكاناً وزماناً)، أمورٌ عدّة افتُضحت: ارتباك سياسي. مسعى لاغتيال شخصية معينة. تحضيرات لانقلاب ما في السياسة مثلاً. هناك أمور أخبرني إياها لم أستطع استعمالها في الفيلم لضرورات فنية. ربما لأنها غير مروية كما يجب. أو لا مكان درامياً لها. هناك خيارات اتّخذتها. هناك أشياء حذفتها غصباً عنّي». مع هذا، قالت زينة صفير إنها غالباً ما تشعر بعدم ثقة بنفسها أو بشغلها. هذا أشبه بقلق ذاتي إزاء فعل إبداعي: «هناك دائماً إعادة نظر في ما أفعله. هناك لحظة لا أعرف نفسي فيها. أعطيك مثلاً: داخل غرفة المونتاج، كارين ضومط (مولّفة الفيلم) وأنا، في «جمعية بيروت دي. سي.» في العام 2010. وصلنا إلى آخر مشهد في الفيلم. المشهد الوحيد الذي نخرج فيه، أبي وأنا، من البيت. مشهد «فندق فينيسيا». أغنية «ليت للبراق عينا» لأسمهان. أعترف لك بأن كارين «طردتني» من الغرفة، ليتسنّى لها تركيب المشهد كما يجب. أنا أردت وضع أشياء أخرى كثيرة. شاهدتُ الفيلم بتركيبته النهائية الخاصّة بالمشهد الأخير. تأثّرت كثيراً به. هذا غريب جداً. أنت تُركِّب شيئاً يؤثّر فيك كثيراً. هذا انطباع غير عادي أبداً». أضافت صفير: «هناك، في المقابل، مشهد يجمعني بأمّي. هذا مشهد يُضحكني، لأنها هي امرأة مثيرة للضحك».

رأت زينة صفير أن صنع فيلم أشبه بعلاج، «كالمرأة التي تُنجب. «خلص». هناك شيء ما انتهى. أنجبتُ الفيلم، وبدأ يعيش حياته. المؤكّد أني لم أتحرّر من القلق، على نقيض آخرين. ربما لأن هذا شيء عضوي وقريبٌ منّي جداً. أثناء اشتغالي الفيلم، دخل أبي المستشفى لإجراء عملية جراحية بسيطة. أثناء توجّهه إلى غرفة العمليات، ظلّ يروي قصصاً لي. هذا أيضاً أثّر فيّ كثيراً». أضافت، ردّاً على سؤال عمّا إذا كانت مستمرّة في إنجاز أفلام عن عائلتها: «لا أعرف. ربما. فيلم تخرّجي في العام 1996، كان عن السكك الحديد في منطقة ريّاق، قرية أمي. يومها، اكتشفتُ أن جدّي كان يقود قطاراً. مرّ وقتٌ طويل. اليوم، لديّ فكرة بدأتُ كتابتها: السكك الحديد». إلى ذلك، اعتبرت صفير أن قلقها على أهلها زاد: «بالنسبة إليّ، هم أغنياء بأخبارهم. بطريقة سردهم تلك الأخبار. أمي تُقلِّد جيداً، وتحبّ السينما. أبي لديه أخبار. كل فيلم سأصنعه لاحقاً، سيكون مستوحى من أخبارهما».

يُعرض «بيروت عالموس» لمدّة أسبوع واحد، بدءاً من بعد ظهر اليوم، في صالة سينما «متروبوليس» في «أمبير صوفيل» (الأشرفية)

السفير اللبنانية في

12/07/2012

 

السينما الفلسطينية لم تتجاوز «المخدوعون»

محمد شعير / القاهرة 

في مشواره الفني المميز والشحيح في الوقت ذاته، أخرج المصري توفيق صالح سبعة أفلام، جميعها مأخوذة من نصوص روائية، لكن يظل الأقرب إلى قلبه فيلما «يوميات نائب في الأرياف» (عن رواية بالاسم ذاته لتوفيق الحكيم)، و«المخدعون» (1972) المأخوذ عن رواية «رجال في الشمس» لغسان كنفاني.

هذا الشريط الذي واجهت تنفيذه صعوبات وتأجيلات كثيرة، شارك به صالح في «مهرجان كان السينمائي» ضمن برمجة «أسبوعا النقاد»، بعدما استحالت مشاركته في المسابقة الرسمية بسبب انتهاء موعد استقبال الأفلام. لكن مع ذلك، لاقى الفيلم إقبالاً واسعاً، وأشاد به الكثير من النقاد، وقد أثار عاصفة من الغضب الصهيوني حين عُرض في فرنسا. لكنّ هذا لم يكن عثرة في طريق «المخدوعون» الذي نال جوائز عدة، من بينها «التانيت الذهبي» في «أيام قرطاج السينمائية» (1972)، وجائزة «المركز الكاثوليكي» في مصر (1975). لكنّ الغريب أنّ الفيلم لا يزال يُطلب للعرض في مهرجانات كثيرة إلى اليوم، حتى أن «مهرجان دمشق السينمائي الدولي» كرّم مخرجه بعد 30 عاماً من رفضه إياه لأنه «دون المستوى»، وكان التكريم بناء على أن «المخدوعون» يعتبر «من أهم إنجازات السينما السورية»! الفيلم أيضاً، بحسب وصف صالح، «من أهم 100 فيلم سياسي في العالم». ويقول مخرجه إن غسان كنفاني شاهد الشريط قبل وفاته، «حيث ذهبت إلى بيروت وأخذت الفيلم معي من أجل الحصول على موافقة كنفاني. لم يكتفِ غسان بالموافقة فقط، بل احتجزه طيلة أسبوع من أجل عرضه أمام عدد من أصدقائه وزملائه من «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» حينها». بعدما اشتهر الفيلم، رأى كثيرون أن السينما الفلسطينية لم تستطع تقديم شريط يتجاوز «المخدوعون» حتى اليوم. يفخر صالح بهذا، معتبراً أن العمل «محاولة لإيقاظ الشعب العربي من غفلته». وقد قارن البعض بين الفيلم والرواية، ليخلصوا إلى أن «أكثر ما ميّز «المخدوعون» هو إخلاصه لرؤية غسان كنفاني في «رجال في الشمس»». الفيلم الذي أدى بطولته كل من محمد خير حلواني وعبد الرحمن آل رشي وبسام لطفي، تدور أحداثه في مدينة البصرة العراقية عام 1958. هناك وفي ذلك الوقت، يقرر ثلاثة فلسطينيين الهرب إلى الكويت من أجل البحث عن فرصة عيش أفضل. لن يجد هؤلاء فرصة لدخول الحدود إلا إذا وافقوا على الاختباء في خزان صهريج مخصص لنقل الماء. يسير بهم في سيارة قاطعاً الصحراء في ظهيرة صيفية قائظة، وعند الوصول إلى الحدود الكويتية، ينشغل السائق مع أحد رجال الجمارك الكويتيين الذي يصرّ على أن يروي له قصته مع راقصة عراقية. هكذا، سينسى السائق الفلسطينيين الثلاثة الذين سيموتون بفعل الحرّ والعطش. عندما يعود السائق، ويكتشف ما جرى، سيتخلص من جثث الفلسطينيين برميها في القمامة.... في النهاية التي وضعها غسان كنفاني لـ«رجال في الشمس»، يتشنّج السائق أمام الجثث التي رماها، ويوشك رأسه أن ينفجر من فكرة مفزعة سيطرت عليه: «لماذا لم يدقوا جدران الخزان؟... لماذا؟!». لكن هذا لن يحدث في الفيلم، حيث النهاية صامتة هنا: نرى الأشخاص الثلاثة وسط القمامة، ويد واحد منهم (أبو قيس) متصلبة ومرفوعة إلى الأعلى، كأنها مهيأة لحمل راية أو بندقية، أو قد تكون القبضة المتكورة كناية عن احتجاج صامت.

الأخبار اللبنانية في

12/07/2012

 

إيفان باسر متذكراً حياته السابقة وهربه إلى أميركا مع فورمان:

كانوا يلقّبونني بعدوّ الطبقة العاملة والقليل من القمع مفيدٌ للفنّ

هوفيك حبشيان ـــ سويسرا  

في جعبة إيفان باسر (1933) حكايات كثيرة مرتبطة بالمرحلة التاريخية التي مرّت بها تشيكيا وخرجت من احشائها أفلام أصبحت اليوم محطات مضيئة في تاريخ السينما، منها "رجال الاطفاء" (1967، إخراج ميلوش فورمان وكتابة إيفان باسر) الذي عُرضت نسخة مرممة منه في الدورة الأخيرة من مهرجان كارلوفي فاري. المخرج التشيكي الذي انتقل ورفيق دربه فورمان للعيش والعمل في أميركا هرباً من القمع والاذلال، أنجز هناك دزينة من الأفلام لا يمكن تجاهلها، في مقدمها "طريقة كاتر" (1981) الذي عُرض في مهرجان فريبور السينمائي، حيث سنحت لـ"النهار" فرصة لقائه والتحدث معه في السينما وخارجها. في الآتي، شذرات من هذا الحوار.

·        ¶ أين تعيش الآن؟

- أنا الآن مقيم في لوس أنجليس.

·        ¶ طيب، كيف يصنع مخرج مثلك أفلامه حين يكون بعيداً من بلده؟

- عندما هربنا، ميلوش فورمان وأنا، من تشيكوسلوفاكيا الى أميركا، وهو الشخص الذي كنت اعرفه مذ كنا على مقاعد الدراسة معاً، لم أكن أفكر في الاخراج، على الرغم من أنني كنت عملتُ مساعداً له وكتبتُ السيناريو لثلاثة من أفلامه. كنت أفكر: لماذا يستعين الأميركيون بمخرج تشيكي لا يحكي كلمة واحدة بالانكليزية؟ فكان ان أهملت الفكرة. ثم، كنت أؤمن أيضاً انه من أجل انجاز فيلم ذي قيمة، على المخرج ان يكون متجذراً في البيئة التي ينقلها الى الشاشة.

·     ¶ لكن، هناك الكثير من السينمائيين الأوروبيين الذين نجحوا خلف المحيط. الى الآن، لا تزال عيون الأميركيين على المواهب الأوروبية الفتية. فضلاً عن ان السينما لغة عالمية قائمة في ذاتها. ما الذي كان صعباً في تجربة جيلكم؟

- من حيث المبدأ، انت محقّ في ما تقوله: كل ما تحتاج اليه هو موهبتك السينمائية. لكن معاييري كانت اعلى من ذلك. أقولها اليوم وأنا أضحك، ولكن حينذاك كنتُ أؤمن بأنني فقدت القدرة على صناعة أفلام لن يصنعها غيري، بسبب مغادرتي تشيكوسلوفاكيا. لكني أؤمن بالحظّ (...). في تشيكوسلوفاكيا الخمسينات، لم يكن في امكاني الدراسة؛ الشيوعية لم تتركني اتعلم، لذا اشتغلتُ في البناء. أشعر بالفرح اليوم لأنني عملتُ في هذا المجال. هذه كانت تربية ولم اكن أحبّ أن تفوتني. أمضيتُ عاماً كاملاً مع الغجر، كان عندي قاطرة صغيرة فتجولنا في أرجاء البلاد. كنتُ أحلم دائماً بالرحيل، لكن لم يكن يُسمح لي بذلك. لم يكن ممكناً الحصول على تأشيرة للذهاب الى بلدان شيوعية أخرى. لكن هذه الديكتاتوريات كانت تحمل دائماً ثغراً يمكن المراهنة عليها للخروج. اذاً، بعد عام من الترحال، أيقنتُ انه عليّ أن أدرس، فالتقيت صديقاً بالمصادفة، وهذا الصديق كان يعاني مشكلات سياسية. ذهبتُ معه الى معهد للسينما، اذ كان يريد أن يدرس ليصبح منتجاً. هناك علمتُ ان مَن يتسجل في صفّ الاخراج وينجج في مباراة الدخول اليه، يتم اعفاؤه من البكالوريا. وكان هذا لمصلحتي لأنني كنتُ تعرضتُ للطرد من المدرسة لأسباب سياسية، قبل ثلاثة أشهر من التخرج.

·        ¶ كنت ضد النظام القائم، أليس كذلك؟

- نعم. كانوا يلقّبونني بعدوّ الطبقة العاملة. غباء! كنتُ في السابعة عشرة آنذاك. ناظر المدرسة كان وعدهم بتنظيفها من "اعداء الأمة". ألقوا القبض على شاب هيبي كان يدخن في الحمّامات (لا أزال اتذكر اسمه)، وتم استدعاؤنا جميعاً الى صالة الرياضة، وانهالوا علينا بخطب رنّانة وبلهاء، وطلبوا ان نؤيد طرد هذا الشاب من المدرسة. رفع الجميع أيديهم تأييداً للقرار. أما أنا فلم أفعل. استاذة اللغة الفرنسية راحت تبكي لأنها كانت تعلم ماذا سيحلّ بي. كان قلبي يخفق بسرعة، وادركتُ في تلك اللحظة ان فصلاً جديداً من حياتي قد بدأ.

·        ¶ أيّ حقبة كانت أكثر الهاماً، تلك الحقبة أم الآن؟

- كل زمن مختلفٌ عن الآخر. في تشيكوسلوفاكيا، كان هناك قمع سياسي وايديولوجي. كنا نحاول القفز فوق جماليات الواقع الاجتماعي الذي حدّده جدانوف. القليل من القمع يفيد الفنّ. هذا القمع يرغمك على الذهاب عبر طرق ملتوية واللجوء الى اساليب بديلة. من 1962 الى 1968، مررنا بست سنوات أفضت الى "ربيع براغ"، أنجزنا خلالها أفلاماً، من النوعية التي لطالما حلمنا أن نراها على الشاشة. قبل تلك المرحلة، كانت السينما التشيكوسلوفاكية عبارة عن أكاذيب وادعاءات وهراء.

·     ¶ الشيء نفسه حصل في فرنسا الستينات: "الموجة الجديدة" اطاحت السينما التقليدية المقتبسة من الأدب...

- نعم، ولكن مع فرق ان الأفلام الفرنسية القديمة لم تكن بذلك السوء. تدرك ذلك عندما تعود لتشاهدها اليوم. أعتقد ان "الموجة الجديدة" صنعت أفلاماً مهمة جداً لكنها ظلمت ايضاً سينمائيين من الجيل القديم، من أمثال مارسيل كارنيه وجوليان دوفيفييه...

·     ¶ عندما زرت تشيكيا للمرة الاولى عام 2007، كان في بالي دائماً "غراميات شقراء". لكني وجدتُ نفسي أمام واقع جديد، لا يشبه ما رأيته في الفيلم الشهير...

- بالتأكيد، صار الوضع مختلفاً تماماً. انجزنا هذا الفيلم عام 1964، وقبله "بيتر الأسود"، ثم "رجال الأطفاء"، وكنا نواجه مستوى معيناً من الضغط العقائدي. كانت الدولة تموّل أفلامنا، وتموّل أفلام الآخرين على قاعدة "35 فيلماً سنوياً". عندما سقط الاتحاد السوفياتي، بدأت السينما بمواجهة الضغوط التجارية، وكانوا يجهلون من أين يأتون بالمال. الحماسة اختفت لأنه لم تكن هناك ضغوط، فبدأت فترة ضياع.

·        ¶ انه غياب العدوّ!

- تماماً. ايجاد لغة خاصة بالسينمائيين تطلّب وقتاً. في المرحلة التي عملنا فيها، كنا كلنا اصدقاء نأتي من مدرسة واحدة. كان عندنا فلسفة مفادها: نجاح أحدنا هو خلاصٌ للآخر.

·        ¶ لكن، أنت وفورمان سلكتما طريقين مختلفتين في ما بعد...

- بالطبع، وحتى أيام تشيكوسلوفاكيا كنا كذلك. اذا عاينت الأفلام التي كانت تُنجز آنذاك لرأيت انها كانت مختلفة، بعضها عن البعض الآخر. كان لكل منا اسلوب مختلف عن اسلوب الآخر. أحياناً، أتساءل ماذا كان حصل لو لم يحصل الاجتياح السوفياتي الذي جعلنا نضطر الى التوقف. لو تركونا نعمل عشر سنين اضافية فقط لحققنا شيئاً كبيراً للسينما.

·        ¶ هل تعتقد ان هناك استيتيكية تنتمي الى تلك المرحلة؟

- سؤال جميل (بعد تفكير عميق). يجب أن أتمعن طويلاً في هذا السؤال. كانت الجماليات مختلفة عن تلك التي اتبعتها "الموجة الجديدة". عند الفرنسيين، ثمة تشابه بين غودار وتروفو مثلاً. اعمال يان يميتس مختلفة تماماً عمّا انجزه فورمان. كان نطاق عمل الفرنسيين ضيقاً، فيما كنا أكثر انفتاحاً على الـ"جانرات"، من الكوميديا الى الأفلام الميتافيزيقية. كانت السينما المجرية مرجعيتنا الأهم في تلك المرحلة. أتكلم عن مرحلة ما قبل الاجتياح السوفياتي. كثر يعتقدون اننا استلهمنا الواقعية الايطالية الجديدة، لكن هذا خطأ تاريخي، مع اننا كنا نحبها. بيد ان المجريين كانوا يعملون في ظروف مشابهة لظروف عملنا (بلد شيوعي وضغط من السوفيات)، ما جعلنا نشعر بوحدة الحال.

·        ¶ عندما ذهبت الى الولايات المتحدة، اخترت مسألة المخدرات موضوعاً لفيلمك الأول. لماذا؟

- حصل هذا بالمصادفة. لم أكن أتوقع أن أنجز الأفلام عندما ذهبتُ الى أميركا. لم أذهب إلى أميركا حباً بها، بل لأنه لم يكن في مقدوري البقاء في براغ. بعدما انجزنا "رجال الاطفاء"، كان يمكن الزج بنا في السجن في مرحلة ما بعد الاجتياح. مرة كل عام، كان رجال القرار في السلطات العليا يجتمعون للمناقشة، وكان هذا الفيلم على لائحتهم. كنا نعرف اننا في ورطة! كثر من اصدقائنا لم ينجزوا أفلاماً لمدة عقدين وأكثر.

·        ¶ هل ذهبت مع ميلوش الى أميركا؟

- نعم، في اليوم نفسه، وفي السيارة نفسها. هناك حكاية ظريفة خلف هروبنا. كانj في حوزتنا جوازات السفر، لكن كنا نخاف أن تُقفل علينا الحدود وتُحتجز جوازاتنا. كنا نخاف أن نحاصر في براغ فلا نتمكن من انجاز الأفلام. هربنا من الجانب النمسوي للحدود، ليلاً، ميلوش وأنا، ومعنا حقيبة صغيرة، مستفيدين من انتقال الحاجز العسكري من مكان الى آخر. اخترنا طريقاً غير مستخدمة كثيراً. كان ذلك في الرابع من كانون الثاني 1969، الساعة الرابعة فجراً. كانت الثلوج تغطي المكان. توقفنا بالقرب من منزل صغير على الحدود، فخرج منه عسكري حاملاً كلاشنيكوفاً، وسألنا: "أيها الرفيقان الى أين تذهبان؟". ثم طلب مني أن أبرز ما كان يعرف آنذاك بتأشيرة الخروج. فقلتُ له إنها في الحقيبة وان الحقيبة في الصندوق وأنا مدرك تماماً أن لا شيء في الحقيبة. وبينما كنتُ اتظاهر بأنني ابحث عنها في الصندوق، سمعتُ العسكري يقول لميلوش: "ألستَ ميلوش فورمان، المخرج السينمائي؟". ردّ ميلوش بصوته الجهوري بـ"نعم". فأخبره العسكري بأنه شاهد كل أفلامه. لم يجد ميلوش الا ان يقول له: "... وأراهن أنه لم يعجبك أيٌّ منها". فراح العسكري يقلّد فصولاً من أفلامه ليؤكد انه فعلاً من المعجبين بعمله. فأعفانا من التأشيرة، وقال لنا وهو يفتح الباب "ليكن الله معكما"، بدلاً من كلمة وداعاً. تركنا نرحل (...).

فيليب عرقتنجي يروي لقاءه بغسّان تويني

هـ. ح.

عام 2009، صوّر المخرج اللبناني فيليب عرقتني ("تحت القصف"، 2007) وثائقياً عن غسان تويني في بيت مري. جال معه في أرجاء المنزل المهيب، وحثّ مضيفه على استذكار فصول من حياته وهو يتنقل في مكان حيث للذكريات حضورٌ أليم. حمل الوثائقي عنوان "أرضٌ لرجل" (40 دقيقة)، تيمناً بعنوان قصيدة لناديا تويني. سبق أن عُرض الشريط على شاشة LBCI غداة رحيل تويني، ويُعاد عرضه على شاشة كبيرة مساء غد الساعة السابعة في "متروبوليس" (أمبير ــ صوفيل) في أربعين غياب المعلّم الذي دعا الى دفن "الحقد والثأر". هنا شهادة من فيليب عرقتنجي في هذه المناسبة.

"رندلى خوري هي التي جاءت بالفكرة. هي منتجة الفيلم، بالاضافة الى طرفين آخرين شاركا في الانتاج هما "مؤسسة غسان تويني" وأنا. خرج الفيلم من قلوبنا وبطريقة عفوية. اتصلت بي يوماً لتقول انه يجدر بنا أن نأخذ من تويني شهادة مصوّرة. كانت رندلى ساعدته في إتمام كتاب "فلندفن الحقد والثأر". الصداقة التي ربطتهما بدأت بواسطتي: قبل إعادة إعمار بيروت في مطلع التسعينات، أصبتُ بحالة هلع. فطلبتُ الى شقيق رندلى أن يساعدني في تصوير هذه المدينة محافظةً على ذاكرتها. عندما انتهيتُ من التصوير، فازت اللقطات المصورة بالإعجاب، لكن قيل لي: "لماذا لا تضع نصاً عليها؟". فقلتُ "أيّ نصّ؟". كان الردّ: "قصائد لناديا تويني". قلتُ: "عظيم". فذهبت رندلى عند غسان تويني، فقال لها إن المشاهد التي التقطتُها كأنها التُقطت لقصائد ناديا تويني. بالنسبة اليه، كان هناك ثمة تناغم بين صوري وشعرها.

لطالما حلمتُ بأن أعيش في بيت مري، ولكن اقتصرت اقامتي فيها على عطل الصيف فقط. صداقتي بمكرم تويني ولدت هناك. عندما اقترحت الفكرة عليَّ، لم أكن قد درستُ بعد غسان تويني جيداً، ولم أكن قد دخلتُ بعد في تفاصيل شأنيه السياسي والاعلامي. كنتُ أعرف سيرته الشخصية بسبب الصداقة العائلية. أهم ما في الأمر أن تويني لم يكن يريد أن نصوّره. لكن رندلى اصرّت. زرناه مرتين أو ثلاثاً. لم يكن يريد. كان يسأل: لماذا هذا الفيلم، ومن هو فيليب، الخ. لم يكن يأبه. كان متردداً. كان يحمل قدراً عالياً من الحشمة والتواضع. في النهاية، قبِل فقط أن نصوّر البيت ونتحدث واياه عنه.

هذا فيلم غسان تويني وليس فيلم فيليب عرقتنجي. انه شخصية في منتهى الروعة. في مشهد من المشاهد، صارحتنا زوجته شادية انه لم يقل يوماً كلمة "آخ"، برغم كل ما عاناه. لذلك، لم يكن يحبذ أن ندخل في خصوصياته. أثناء التصوير، تخليتُ عن كل أفكار مسبقة أو أحكام، ووضعتُ نفسي في وضعية المتلقي. شيئاً فشيئاً، دخلنا في الحديث عن البيت وما يتضمنه، هذا البيت الذي يحبه كثيراً لأنه ملجأه. هذا البيت بمثابة دير. في البداية، رحتُ أخاطبه بالعربية، وكان يرد عليَّ بالفرنسية! سألته عن السبب، فقال لي إن الفرنسية لغة القلب، والعربية لغة السياسة. بعد هذا الجواب، فتح لي باباً جديداً، وشرع لي نافذة على حيز أكبر من الحميمية.

عندما نزلنا الى الكنيسة المكشوفة في حديقة بيته، كان قد مرّ أكثر من سنتين من دون أن يزورها. هناك تفجرت دواخله. وعندما يتفجر شخص كهذا جرّاء جرح كجرحه، يجب ان تكون حذراً. امتد التصوير على ثلاثة ايام، وفي احد الأيام، كنا انتهينا من التصوير في الكنيسة المكشوفة، وفيما كنا في طريقنا الى البيت، جاءنا خبر الإفراج عن الضباط الاربعة المتهمين في قضية اغتيال الحريري. فنادته زوجته ودخل البيت ليتابع الخبر على التلفزيون. هنا قالت لي رندلى: "الآن يجب أن تطرح عليه الأسئلة". في عين غسان بريق. فجأةً رأيته يستعيد وعيه. فأخذتُ الكاميرا وبدأتُ أطرح الأسئلة عليه وتكلّمنا عن الغفران. فجأةً، التقى التفكير الفلسفي التجربة المعيشة. المشهد هذا لا يتضمن أي مونتاج. الكاميرا عليه طوال الوقت. كان مشهداً حقيقياً وصادقاً عن السؤال: لماذا يطلب المرء الغفران. هذه هي الفقرة التي أفضّلها في الفيلم. وطرحتُ عليه هذه الأسئلة لأنني مهتم بمسألة التكرار في التاريخ وهي ستكون محور فيلمي المقبل.

أحياناً، كنتُ أطرح عليه سؤالاً لم يكن يردّ عليه. أحياناً أخرى كان يردّ. هناك مرات، كان يسعده أن أطرح عليه سؤالاً ما. لم ألعب دور المخرج المستفز الذي يريد حشر محاوره. سألني مرةً: هل أنت فيلسوف أم صحافي أم راهب؟ فكان ردّي "ربما الثلاثة معاً"! كنتُ أحاول التحرش به من منطلق صحافي، لأرى الى أيّ مدى يريد الذهاب بعيداً. لم تكن لديّ أجندة، ولم تكن خلفي محطة تلفزيوينة، كنتُ فقط متسلحاً بمحبة تجاهه وبهاجس التحية. المونتاج كان صعباً لأننا كنا نريد تجميع الأفكار بطريقة تسلسلية واضحة. السينما كذبة، وما نراه على الشاشة ليس في الضرورة ما صوّرناه. ولأن الفيلم بشكل مشوار، كنا ننتقل من حكاية الى أخرى انتقالاً حاداً. مثلاً، قررنا أن نضع مشهد الكنيسة المكشوفة في منتصف الفيلم وليس في نهايته لأننا لم نرد أن ننهي الفيلم بهذا المشهد الحزين، بل كنا نريد أن ننهيه بفكره وبوصاياه الى اللبنانيين.

لماذا لم يُعرَض الفيلم فور انتهائه؟ في الواقع، شاهده تويني وكان سعيداً جداً به. فسألته، وأنا خائف من ردّ فعله ورأيه، اذا كان يريد أن نغيّر فيه شيئاً، فقال "لا". عندما سألته اذا كان يريد عرضه، فقال "ليس الآن". فأدركتُ من هذه الكلمة، ان هذا الفيلم هو بمثابة وصية. فتركتُ القرار الى مؤسسة تويني. لم أكن مصاباً بعنجهية المخرج الذي يريد عرض الفيلم مهما يكن. عندما توفي، قررنا إمراره كتحية له، وهو أصلاً صوّرناه في هذا الهدف.

أجد نفسي في كل ما عاشه غسان تويني: كيف صنع مثلاً تلك المسافة بينه وبين العاصمة كي لا تقتنصه مصائبها. كان هذا نوعاً من صومعة. عندما افكر في التصوير، لديَّ نوعان من الأحاسيس: أولاً، اشعر بأنني كنتُ محظوظاً لأنه تيسرت لي فرصة الدخول الى حميمية هذا الرجل؛ وثانياً اشعر بالقهر لأنه لم يعد موجوداً بيننا. مثلما اقترب مني، اقتربتُ منه، وكان الاقتراب من جانبي أكثر، كوني عملتُ على المونتاج لثلاثة اسابيع، فكان حاضراً معي طوال هذه الفترة. في النهاية، ندمتُ لأنني لم أتعمق في معرفته إلا في نهاية حياته".

النهار اللبنانية في

12/07/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)