حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

محمد كريم . . طيور الظلام في مدينة السينما

بقلم : محمود علي

 

في أحد مشاهد الفيلم البديع «مواطن ومخبر وحرامي» تنشأ علاقة غريبة بين الحرامي والمواطن المثقف والمخبر، وعندما يعبر الحرامي عن صداقته للمثقف يسرق تمثالاً عاريا ليهديه إياه، وقد غطاه بالقماش فلا يبدو منه شيئاً ويسأله المواطن المثقف.. ماهذا؟ فيكون الرد: ده عيب وحرام! وتزداد غرابة هذه العلاقة بين الثلاثي ليصبح فيها الحرامي هو الذي يوجه الفنان المثقف فيما يكتب وما لا يكتب من وجهة نظره الساذجة للحلال والحرام، ويتحول المخبر إلي وكيل أعماله. الأغرب من كل هذا ان توصيات المخبر سرعان ما تجد رواجها في السوق.. ومن ثم الشهرة. هذه الصورة الموجزة لفيلم المخرج الفنان داود عبدالسيد والذي قد تبدو نوعا من الفانتازيا وإغراقاً في الخيال والتي يدين بها التحولات التي تجري في المجتمع المصري وتعكس انقلاب القيم والمعايير والهرم الاجتماعي، تذكرنا ببعض ما يجري في حياتنا وما أشبه الليلة بالبارحة! ذلك أن الواقع الآن يكشف لنا عن بصيرة المخرج، فما قدمه علي الشاشة صار جسدا يمشي علي أربع ممثلاً فيما نشاهد علي أرض الواقع وشاشات التليفزيون ومجالسنا النيابية من آراء قلة تتكلم باسم الدين وتكاد تكفر المجتمع كله. التقدم إلي الخلف فما الذي يحدث في بر مصر؟ هل قام المصريون بثورة 25 يناير لنلحق بالألفية الثالثة أم للعودة للوراء قرونا من الجهل! وهل أتاحت ديموقراطية الثورة - لمن كان يقف ضدها - أن يري مستقبل مصر كما يحب ويهوي وفقا لرؤيته فقط.. وكل من حوله خارج دائرة الدين، ومن الذي أعطي للقلة من هذا التيار أن يأمر ليطاع ولو بالثورة! إنني أتحدث هنا عن الإسلام السياسي علي إطلاقه.. رغم أن غالبيته يري ويسمع دون أن يعلن صراحة عن موقفه من هذه الظواهر بل الفتاوي الغريبة التي تسللت إلي جسد المجتمع المصري حاملة معها بداوة الصحراء. هذه الفتاوي كانت قد بدأت علي استحياء قبل ثورة 25 يناير بسنوات.. إزاء الفنون عامة.. وخاصة السينما وتجلت في محاكمات بعض الفنانين تحت دعوي الحسبة يرفعها باحثون عن الشهرة لتزحف فتاوي أخري إلي الجامعات فيما يشبه المليشيات.. حتي وصلت إلي كلية الفنون الجميلة لتحريم التماثيل باعتبارها عملا من أعمال الجاهلية لا يجوز ممارسته الآن في ظل مفهومهم الضيق للفن. هذه الرياح الغريبة التي نشأت وترعرعت بعيداً عن العيون ولا أقول تحت عيوننا جميعاً عبر الزوايا وقوانين البناء دون إشراف حقيقي عليها من وزارة الأوقاف لتكون أرضاً خصبة لمثل هذه المفاهيم الدينية الجامدة ليعود الفن إلي قفص الاتهام هذه الأيام بالجملة ليس علي فنان واحد بل علي كوكبة من فنانينا في قضايا لم تعد موضع خلاف إلا في أذهان طيور الظلام، وإلا فلنحاكم الدولة التي أجازت مثل هذه العروض.. والجمهور الذي أقبل عليها ودعمها من جيبه الخاص في شباك التذاكر؟ كل هذا جري ويجري ونحن نتفرج والدولة تري ما يجري وقبضتها الرخوة تلعب بالنار.. إما بالتجاهل أو المطاردة طبقا لرياح السياسة. شاهد جديد وما حدث في الأيام الأخيرة من محاولة إحراق وهدم تمثال واحد من أبرز رواد السينما المصرية شاهد جديد علي مؤامرة الصمت التي نشارك فيها جميعا، وأكاد أجزم بأن من فعلوا ذلك لا يدركون قيمة الرجل، بل وأقول لا يهمهم قيمته بل كل ما يعنيهم كيف يتجسد في تمثال! هذا هو الشغل الشاغل عند بعض المتشددين من دعاة السلفية الذين باتوا يثبتون مثل هذه الآراء المتشددة دينيا علانية وبعد أن صارت المحطات الفضائية مركزا لإطلاق فتاواهم بلا حياء أو مراعاة لطبيعة شعب مؤمن بفطرته السليمة.. لكن بوسطية إلي أولئك وهؤلاء أقول لهم إن محمد كريم واحد من بناة وجدان هذه الأمة بما قدمه من فن سينمائي علي امتداد سيرة حياته، ومن مواقف تعلي من الروح الوطنية، لم يكن رجل سياسة.. ولا كان يميل للانخراط فيها، كانت بوصلة حياته إيجاد سينما مصرية في وقت لم نعرف فيه عصر السينما وكما كان ينادي منذ شبابه: «ليعرف العالم أن لمصر مدنية وثقافة وأنها لم تكن فقط كما كانوا يتوهمون مسرحا للتماسيح يفتك بأهلها الجهل والمرض». وكان أول من رفع صوته عاليا عام 1918 علي صفحات الجرائد بضرورة إنشاء شركة سينمائية مصرية في وقت لم يعر أحد لنداء الثقافة في ذلك الوقت، وتقول الصحافة ردا علي نداءاته «الآن وقد نهض بناء لمصر بهذا المشروع "إنشاء بنك مصر شركة سينماتوغرافية" فأي عقد له في تخيله عن مناصرة مواطنيه؟ ألا يخشي علي العادات المصرية والآداب الإسلامية من أن تعبث بها الشركات السينماتوغرافية الأجنبية فتخرجها للعالم». وطالب في إبريل 1927 بالآتي: - عدم التصريح لأي شركة أجنبية بأخذ مناظر سينماتوغرافية. - ضرورة ظهور اللغة العربية بنفس لغة الفيلم الأجنبي المعروض. - منع دخول الأطفال المصريين دون السادسة عشرة. - تشديد الرقابة علي الأفلام الواردة لنا. ولنتذكر الآن أن هذه المطالب نابعة من إحساس وطني وردا علي تشويه الإنجليز لصورة المصريين وأن الدعوة لإيجاد سينما مصرية تتحدث عن مصر والمصريين وللدعاية لمصر خلال الأفلام التسجيلية كانت شعارات ما بعد ثورة 1919 وما رافقها من مد ثوري طال الأدب والفن، وعندما بدأ تصوير أول فيلم مصري صامت عن رواية هيكل «زينب» 1930 كان حريصا علي أن تظهر القرية المصرية الفلاح المصري في أحسن صورة كان يعتبر السينما وسيلة دعاية وسلاحاً من أسلحة الثورة واستجابة لنداء مصر للمصريين، ولم تكن رومانسية منه أن يحرص علي نظافة الطبيعة ذاتها لتبدو القرية كارث بوشال سياحي، وهو ما قد يأخذه عليه البعض.. ودون مراعاة الظروف السياسية التي أحاطت بظهور الفيلم. سبعة أفلام لقد قدم محمد كريم علي امتداد حياته الطويلة سبعة عشر فيلما منها سبعة أفلام لعبدالوهاب عن العديد من الأفلام القصيرة عن التعاون والإصلاح الزراعي وفي مقاومة العدوان الثلاثي ثم كان أول عميد لمعهد السينما حتي حصوله علي وسام الدولة للفنون عام 1963 وجائزة الدولة التشجيعية عام 1973 اعترافا منها لريادته السينمائية، وكانت آخر مشاريعه فيلمي «الملعونة» عن القضية الفلسطينية والثاني «نور الله» وهو فيلم ديني، لقد مر علي وفاته أربعون عاما «توفي 27 مايو 1972» وقد رأي أحد تلاميذه في أكاديمية الفنون د. مختار يونس أن يعيد تكريم الرجل بنصب تمثال له من تصميم فنان يعمل الآن مستشاراً ثقافيا لمصر في موسكو يوضع في الميدان المواجه لمعهد السينما فقيل له من البعض لا داعي لإثارة بعض السلفيين المتشددين فتقرر نقله إلي داخل مدينة السينما فقاموا بمحاولة حرقه وتدميره أمام أعين الجميع.. ويجري التفكير الآن في نقله إلي دار الأوبرا، بهذا أصبح الفن مطاردا أمام مخاوف بعض المسئولين من هذا التيار الذي بات العنف جزءًا من سلوكه، وهم بهذا الحل يخفون رءوسهم في الرمال. ولو ناقشنا الموضوع دينيا لظهر لنا مدي التعسف والتشدد من جانب هذه القلة التي تعتبر الفن عامة والتماثيل خاصة رجس من عمل الشيطان. وفي هذا يقول الدكتور يوسف القرضاوي إن الحديث عن الفنون من أعقد الموضوعات فيما يتعلق بالمجتمع المسلم، ذلك أن أكثر الناس وقعوا في هذا الآن بين خوف الغلو والتفريط، لأنه يتصل بالشعور والوجدان أكثر مما يتصل بالعقل والفكر. ويصف من يأخذ بالغلو والتطرف بأنه إنسان مريض بالالتواءات النفسية لكي يبرر ذلك السلوك المعيب باسم الدين.. أي أنه فرض طبيعة المنقبضة علي الدين، والدين لا ذنب له إلا سوء فهم هؤلاء وأخذهم ببعض مضمونه دون بعض. الإسلام والفن ويضيف: قد يجوز لهؤلاء أن يشددوا علي أنفسهم إذا اقتنعوا بذلك، لكن الخطر هنا أن يعمموا هذا التشديد علي المجتمع كله ويلزموه برأي رأوه في أمر عمت به البلوي ويمس حياة الناس كافة. وهو يفرق بين أحكام الصور والمصورين كالتالي: الأول: ما يعبد دون الله وهو أشد حرمة. الثاني: من صور مالا يعبد ولكنه قصد مضاهاة خلق الله «أي ادعي أنه يبدع ويخلق كما خلق الله» وهذا أمر يتعلق بنية المصور وحده. ونحن علي ضوء هذه الأحكام نتساءل: أولا: هل يتصور أحد الآن وبعد قرون من انتشار الإسلام من يصنع تمثالا يقصد به العبادة إلا هذا البعض؟ ثانيا: وعن نية المصور هل شققنا الصدور؟

جريدة القاهرة في

12/06/2012

 

توعدت الطفلة فاتن حمامة النجم محمد عبدالوهاب بطرده من استديوهات السينما ونفذت وعيدها بالفعل

بقلم : د. محمد فتحي 

توعدت الطفلة فاتن حمامة النجم محمد عبدالوهاب بطرده من استديوهات السينما ونفذت وعيدها بالفعل عند تصوير أول مشهد يجمع بين الطفلة فاتن حمامة (7 سنوات) ومحمد عبدالوهاب نجم نجوم ذاك الزمان في فيلم "يوم سعيد"، كانت تستبد به بعد كل كلمة تنطق بها نوبة من الضحك، وطلب المخرج الرائد محمد كريم من عبدالوهاب مراراً التركيز والتوقف عن الضحك دون جدوي، فما كان من الطفلة الصغيرة إلا أن صرخت في وجه عبدالوهاب مع ضحكته الجديدة: "ما تبطل ضحك. عيب كده". وفي مشهد تال لم يستطع عبدالوهاب أن يمنع نفسه من الضحك فرفعت الطفلة إصبعها الصغير في الهواء وقالت له بصوت عالٍ: "انت راح تشتغل كويس ولا نجيب غيرك"، فلم يقتصر الضحك هذه المرة علي عبدالوهاب وحده. الطريف أن النظرة الشاملة لتطور السينما العربية تقول إن الفتاة الصغيرة نفذت تهديدها، و"جابت" إلي الاستديوهات نجوماً من غير نوع عبدالوهاب، الذي سرعان ما اعتزل- مع أجيال كاملة- التمثيل السينمائي فعلا، ليترك الحلبة لمن هم علي شاكلة فاتن حمامة! فيديت من يومها ويمكن أن يعطينا إشارة إلي التطور الذي كرسته فاتن، وفتح الباب لأجيال جديدة من الفنانين واقعة أخري من نفس الفيلم. كان المنظر الذي يجري تصويره يجمع بين الطفلة أنيسة وممثلة كبيرة تعمل في السينما الناطقة لأول مرة. يقول المخرج الرائد محمد كريم: "ويبدو أن الممثلة الكبيرة كانت مضطربة (من الموقف الجديد). فكانت تخطئ دائما. وعندما أخطأت في المرة الأولي أوقفت التصوير ووجهت كلامي لفاتن: "ما تبصيش في الأرض". ثم اقتربت من الممثلة الكبيرة وشرحت لها خطأها وأوضحت ما ينبغي أن تفعله. وحين بدأ التصوير من جديد تكرر خطأ الممثلة فأوقفته وعدت إلي تقريع فاتن علنا، وأنا أقترب من الممثلة الكبيرة وأهمس في أذنها بخطئها. وفي المرة الرابعة، وبعد أن قلت الكلمة التقليدية "ستوب"، بادرت الممثلة الكبيرة في عصبية ونرفزة: "انتو جايبين لنا عيال يمثلوا معانا. علموهم قبل ما تجيبوهم". وأثارني هذا التبجح فرددت: "فاتن مظلومة يا هانم. هي مش غلطانة. انت اللي بتغلطي باستمرار وأنا اتهمتها بالغلط علشان ما أحرجكيش". وراحت الممثلة الكبيرة تتمرن علي أداء دورها. وبعد أن انتهت ناديت علي فاتن كأي "فيديت" موثوق بمقدرتها: "تعالي يا فتون دلوقت نقدر نصور". كان التمثيل حين ولجت فاتن حمامة عالم السينما يجمع بين مبالغات التوجهات التمثيلية لعالمي المسرح والسينما الصامتة. بينما جعلت الأفلام الناطقة السينما أقرب إلي الحياة، وبالتالي قادت التمثيل نحو وجهة الممارسات الحياتية العادية، بعيدا عما اعتاده ممثلو المسرح من "تجعير" يصل بصوتهم لأبعد المشاهدين في الصالة الواسعة، إضافة لما فرضه عليهم نفس السبب من مبالغات حركية، اعتمدت ظروف السينما الصامتة علي ما هو قريب منها، لتوصيل المعني بلا كلام. وكانت السينما الناطقة تنتظر بإمكاناتها الجديدة الممثل الطبيعي الذي يمتلك القدرة علي تقمص الشخصيات الأخري، وتقديمها كما لو كان يعيشها في الحياة العادية. ولم تكن الطفلة فاتن في أدوارها الأولي تمثل. كانت طفلة علي الشاشة كما هي في الواقع. كما أن طفولتها ساعدتها علي كسر هيبة "الكاميرا" أو الخوف منها، وحتي في قولها لعبدالوهاب بصوت عالٍ: "انت راح تشتغل كويس ولا نجيب غيرك"، كانت تتقمص محمد كريم وغيره من المتنفذين، وهم يحاولون ضبط خطو العاملين في الفيلم خلال أيامه الأولي. وعلي هذا النحو الطبيعي عبّدت فاتن- مع اكتسابها الخبرة والدرس- درب التمثيل الجديد، الذي تحتاجه السينما الناطقة. تلقائية الفطرة إن التمثيل في جوهره فطرة واستعداد. ملكة تضعها الخلقة فينا، ربما بدرجات مختلفة. وأساس التمثيل هو القدرة علي المحاكاة والتقليد، وهي قدرة إنسانية أساسية. فنمو الوليد فالطفل مبني أساسا عليها، مما يجعل كل طفل "ممثلا" بالفطرة. ويتطلب التمثيل مع ذلك القدرة علي استحضار صور وإحياء شخصيات من الماضي بطريق التخيل، ثم التعبير عنها بالكلمة والإشارة والإحساس و... . وذلك بمساندة قوة أخري من قوي النفس، هي اقتدار الممثل علي "تلبس" معالم الشخصية التي يعمل علي تشكيلها، أي ابتداعها أو خلقها، والذوبان فيها بحيث يعيش في إهابها، مع محاولة مستمرة للتجرد من شخصيته الذاتية. ولأن فاتن جاءت علي طريق التلقائية والبساطة، مع ترنيمة الصدق ومعزوفة الشجن وهزيمة المبالغة ومصرع الافتعال، باتت بين أفضل من مثلوا علي مدار تاريخ السينما. وساعدها علي ذلك أنها بدأت سيرتها في الأداء المتقن البارع منذ أن كان عمرها 7 سنوات، ويمتاز أداء فاتن بصدق التعبير والوصول المباشر السريع إلي قلب المشاهد، ناهيك عن الحضور الطاغي علي الشاشة. وعند فاتن تساوي روعة التعبير بالصوت روعة التعبير من خلال تقاطيع الوجه. هذا كما أن فاتن هي المدرسة التي تعلمت فيها الكثيرات فن الأداء التمثيلي، ومعني الالتزام، والعمل بدأب متواصل، للوصول إلي أعلي درجات الإتقان. فكيف يا تري تأتي لها ذلك؟ وحتي ننهي المشهد الذي افتتحنا به دراستنا لابأس من ذكر أن اعتزال عبدالوهاب التمثيل كان طبيعيا لأن فن السينما الجديد لجأ في البداية إلي الاستعانة بكل ما يمكن أن يحث خطاه من عوالم الفنون السابقة، وكان بين ذلك نجوم الغناء والمسرح، وكان طبيعيا مع النضج أن يعتمد أكثر فأكثر علي الإمكانات الجديدة التي تميزه. ولدت فاتن أحمد حمامة في 11 ابريل 1931 في مدينة المنصورة، وكان والدها يعمل مربيا في وزارة المعارف. ومنذ طفولتها الأولي كانت موضع إعجابه، وكان يراها ابنة مختلفة ينتظرها مستقبل متميز عن بقية إخوتها، وظل يردد ذلك كثيرا وسط دهشة الجميع، بمن فيهم زينب هانم توفيق أم فاتن. وقد بدأ ولع الطفلة بعالم السينما وهي في السادسة من عمرها، عندما زارت السيدة آسيا داغر "سينما عدن" بالمنصورة، بمناسبة عرض فيلم تلعب بطولته، فاصطحب المربي الكبير أحمد أفندي ابنته معه لمشاهدة الفيلم، ومن يومها لم يقتصر ولعها علي عالم الفيلم ذاته. تقول فاتن: لفت نظري وقتها تصفيق الجميع بحرارة للسيدة آسيا، فانتابني إحساس غريب، وتمنيت بل وتخيلت أن كل هذا التصفيق لي بصفتي بطلة للفيلم! وحين أبلغت والدي بهذا الشعور احتضنني بشدة. قرأ المربي أحمد حمامة عن مسابقة لاختيار أجمل طفلة. فاستدعي مصورا محترفا من أقربائه ليصور ابنته. تقول فاتن: "قال المصور تصوري أن أمامك مريض وغلبان يبكي، فبماذا تحسين؟ وما إن سمعت قوله حتي نزلت دموعي". فازت فتون بالمسابقة ونشرت مجلة "المصور" صورتها بزي ملائكة الرحمة علي غلافها. يوم سعيد قرأ والد فاتن يوما أن المخرج محمد كريم يبحث عن طفلة تقوم بالتمثيل مع محمد عبدالوهاب في فيلم "يوم سعيد" (1940) فأرسل صورها. تقول فاتن: «طلب كريم أن ألقي نشيداً، فألقيت عشرة، فاحتضنني بشدة، وقام بتغيير السيناريو ليعطي مساحة أكبر لدور الطفلة". يقول محمد كريم : أعجبت بالطفلة فاتن وجلست أتحدث معها ساعات ، فأيقنت إنها لا تصلح للدور مائة في المائة فحسب ، بل أيقنت إنها أكبر من الدور الذي رشحتها له ، ورجعت إلي السيناريو لتكبير دور أنيسة في كل جزء من أجزائه ، لقد كانت شيرلي تمبل أعظم أطفال السينما في العالم في أوج مجدها في ذلك الوقت . ولكنني كنت أقول لأصدقائي ، عن إيمان ويقين وعقيدة ، إن فاتن حمامة تفوقها بمراحل . ويتذكر محمد كريم تجربته مع فاتن في دور أنيسة في أول أفلامها (1940): قبل البدء في تصوير منظر من المناظر التي تشترك فيها كنت أنفرد بها، وأحكي لها ببساطة ما ينبغي أن تفعل، وكانت الصغيرة لا تكتفي بشرحي بل كانت تستوضح كثيرا من النقاط، وتتأكد، وتكرر الكلام الذي ستقوله في الدور، فإذا ما وقفت أمام الكاميرا أدت دورها بكل دقة ومهارة. وفي فترات الاستراحة كنت أمسك بها بين ذراعي وأطلب منها أن تعبر بوجهها عن بعض العواطف والمشاعر. مثلا كنت أقول لها: متغاظة فتعبر تعبير الغيظ، زعلانة فتعبر تعبير الغضب، مبسوطة فتنفرج أساريرها عن بسمة كلها مرح وفرح. بتفكري فتغرق في تفكير عميق. كانت موفقة قوية في كل التعبيرات التي طلبتها منها، إلي أن قلت لها: احتقريني. - أحتقرك يعني إيه يا أونكل؟ - إخص عليكي يا فتون ما تعرفيش احتقار يعني إيه؟ أمال بتروحي المدرسة إزاي؟ - أصل إحنا لسه ما خدناش خط رقعة. ما أعرفش غير نسخ! ويقول كريم في موقع آخر: "كانت فاتن عملاقة في طاقتها التي فاقت الحدود. كانت تعمل من 6 مساء إلي 6 صباحا دون أن يبدو عليها التعب. لم تطلب يوما شيئا مما اعتاد الأطفال أن يطلبوه، ولم تتذمر، ولم تتأفف، بل كانت تقبل علي العمل بكليتها متشوقة متلهفة. كان أبوها وأمها يلازمانها، فكانت تراهما علي كرسيين في سابع نومة، بينما تجلس فاتن في الساعات المتأخرة من الليل علي كرسي، مفتحة العينين مرهفة الأذنين، لكل ما يدور في البلاتوه". رصاصة في القلب بعد انتهاء الفيلم تم عرضه، وعادت فتون إلي مدرستها لتجد نفسها أشهر من نار علي علم. المدرسون والمدرسات وزميلاتها الأطفال يعاملونها معاملة خاصة، وأينما ذهبت أو ظهرت يلتف الناس حولها. تقول فاتن: تعمق في نفسي الشعور بأنني طفلة غير عادية، وقرر أبوها إبعادها عن هذه الأجواء، فواصلت دراستها كفتاة عادية. لكن محمد كريم لم ينسها فبحث عنها وأقنع والدها- وكانت قد باتت علي أبواب سني المراهقة- بالموافقة علي العمل في فيلم "رصاصة في القلب" (1944) أمام عبدالوهاب وراقية إبراهيم، ورغم أن الدور كان صغيراً إلا أنه وضعها علي الخريطة الفنية مرة ثانية. وفي فيلمها الثالث "دنيا" (1946) مع محمد كريم كانت قد تمكنت من أن تصنع لنفسها موطئ قدم في السينما، فانتقلت الأسرة من المنصورة إلي القاهرة، تشجيعاً ودعما للفنانة الصاعدة. التحقت فاتنتنا بمدرسة الأميرة فوقية الثانوية بالجيزة، وفي نفس الوقت بالدراسة في المعهد العالي لفن التمثيل العربي، ضمن دفعته الأولي (عام 1946 )، التي ضمت نعيمة وصفي وفريد شوقي وحمدي غيث وشكري سرحان وعبدالرحيم الزرقاني، وكانت أصغرهم سناً، وأولاها العميد زكي طليمات اهتماماً خاصاً. تقول فاتن: "بدأ يدربني علي نطق حرف الراء، حيث كنت أعاني لدغة في لساني فأنطق الراء (غيناً) واستفدت كثيرا من هذه التدريبات. كما استفدت كثيرا من الدراسة في المعهد فقد تعلمت اللغة العربية وكان أستاذي هو الدكتور علي مبارك، وتعلمت فن الإلقاء ومخارج الألفاظ ووضوح الصوت". في يوم الدراسة الأول طلب منها الفنان زكي طليمات عميد المعهد ، أن تقدم مشهدا تمثيليا أمام زملائها. وفيما بعد كتب معلقا : لم يكن فيما قدمته فاتن شيء من الحذق الفني . من الصنعة في أحسن أحوالها. لكن كان هناك أشياء تنبئ عن فطرة سليمة وخصبة . صوتها ضعيف ، ولكنه ثاقب وساخن ينفذ إلي ما وراء الأذن ، إلي القلب ، إنها تحس ما تقوله إحساسا عميقا، يرتسم علي كل أعضاء جسمها ، مثل صندوق آلة الكمان أو العود الذي يهتز بكل كيانه عندما تلامسه ريشة العازف . 3000 عريس في سنة أحس يوسف وهبي بخبرته إمكانات الفنانة الناشئة، فجعلها تمثل دور ابنته في فيلم "ملاك الرحمة" (1946)، وبدورها الكبير في هذا الفيلم سرقت الكاميرا من الممثلين الكبار، رغم أن عمرها كان 15 سنة فقط، وهكذا انتقلت إلي مرحلة جديدة، وبدأ اهتمام المخرجين والنقاد بها. تقول فاتن: "يوسف وهبي وضعني علي خريطة السينما، فبعد أن قمت بأدوار ثانوية في عدة أفلام، أسند إلي بطولة فيلم "ملاك الرحمة" لأودّع مرحلة الطفولة... بعد عرض الفيلم تلقيت أول رسالة من معجب. كان من سوريا، وأسهب كثيراً في وصف نفسه، وتحدث عن ثروته، ثم أنهي الخطاب بطلب الزواج، فأسرعت إلي والدي وأنا خائفة جداً وأعطيته الخطاب، فقرأه بهدوء ثم ابتسم وقال: توقعي أن يصلك الكثير مثل هذه الرسائل. ونصحني ألا أهتم بالمضمون، وأن أرد بأدب ولباقة، وقال لي هذا واجبك نحو المعجبين وحقهم عليك. ثم اصطحبني إلي مصور معروف، التقط لي عدة صور في أوضاع مختلفة، وفوجئت بوالدي يطلب منه أن يطبع 500 نسخة من كل لقطة! ولما سألته عن سبب هذا العدد الكبير قال: إن خطابات المعجبين ستزداد كل يوم، وسوف يطلبون صورك، ويجب ألا تتأخري عنهم. ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أتأخر في الرد علي أي رسالة تصلني، وأذكر أن توقعات والدي تحققت بالفعل، بعد مشاركتي في خمسة أفلام دفعة واحدة عام 1946 هي "ملاك الرحمة، ملائكة في جهنم، الملاك الأبيض، الهانم ودنيا" وثلاثة أفلام أخري عام 1947 هي "نور من السماء والقناع الأحمر وأبو زيد الهلالي". فأصبحت فنانة مشهورة، وراحت الصحف والمجلات تنشر صوري وأخباري، وأصبح لي جمهور عريض، وصرت أتلقي كل يوم عشرات الرسائل من المعجبين، كثير منها يحمل عروضاً للزواج، حتي وصل عدد من أبدوا رغبتهم في الارتباط بي، خلال 1947 حوالي ثلاثة آلاف شخص. أبو زيد الهلالي لكن فاتن سرعان ما تزوجت زواجا فنيا (1947). فخلال العمل في فيلم "أبو زيد الهلالي" التقت بشاعر السينما الكبير عزالدين ذو الفقار. كانت تتردد مع والدها علي "بيت الفن"، النادي الذي أنشأه الفنانون ليجتمعوا فيه، وكان عز الدين ذو الفقار من بين المترددين علي النادي، وقامت بينه وبين والد فاتن صداقة قوية، وكان يستعد لإخراج فيلم "أبو زيد الهلالي" لحساب المطرب محمد أمين، وكان من المتفق عليه بين منتج الفيلم وبين مخرجه أن تقوم إلهام حسين بدور البطولة، وفشلت الشركة في الاتفاق معها، فبدأت تبحث عمن تصلح للقيام بالدور. تقول فاتن: وفوجئت بإسناد الدور لي، وكان الفيلم نقلة كبيرة في حياتي الفنية، وبعد نجاحه رشحت لأدوار بطولة أخري، ولمع اسمي أكثر، وأصبحت نجمة من نجمات الصف الأول. في تلك الآونة تقدم عز الدين ذوالفقار طالباً يدي، فوافق والدي شرط التأجيل إلي ما بعد انتهائي من الدراسة الثانوية، وراح عز الدين يتردد علينا في البيت، خاصة بعد أن اتفق مع والدي علي تكوين شركة سينمائية كبيرة، وبالفعل قدمنا سوياً فيلم "خلود"، وخلال تصويره اقتربنا أكثر، واتفقت معه علي اختصار الطريق بالزواج فوراً، وضحيت بدراستي لكي أتفرغ للفن والحياة الزوجية، وأشرفت بنفسي علي تأثيث شقتنا الجديدة، ورزقت بابنتي نادية. وقد عشت مع عز الدين فترة مزدهرة من حياتي، نضجت فيها فنياً، ولم يعارض رغبتي في تأسيس شركة إنتاج، وتولي بنفسه إخراج "موعد مع الحياة" أول فيلم أنتجه لحسابي، حقق نجاحاً فنياً ومادياً، واعتبره النقاد من الأحداث الفنية الكبري". اليتيمتين اشتركت فاتن مرة أخري في التمثيل مع يوسف وهبي في فيلم "كرسي الاعتراف" (1949)، ولعل أبرز أعمال فاتن في تلك المرحلة فيلم حسن الإمام "اليتيمتين" (1948) الذي لعبت فيه دور نعمت الفتاة البائسة التي فقدت بصرها، نتيجة استعمال مادة كاوية بدلاً من القطرة عن طريق الخطأ، ثم سقطت في براثن عصابة استغلتها في التسول. فقد شكل هذا الفيلم نقطة تحول في حياة فاتن الفنية، إذ اكتشفت السينما المصرية في هذا العمل المليودرامي المؤثر، أخيراً، وبعد أدوار الملاك والابنة اللطيفة والأخت الصغري البريئة المرحة، اكتشفت إمكانات فاتن كممثلة وكنمط، جري استغلاله بنجاح عبر سلسلة من الأفلام المتشابهة الموضوع، تدور كلها حول قدرتها علي أن تلعب دوراً أو رمزاً للخير الخالص، بما تمثله شخصيتها كفتاة من رقة وبراءة ونقاء وطهر، يتم استغلالها من قبل الأشرار أو من قبل الأقدار الغاشمة. وهكذا مثلت فاتن وحتي عام 1951 أكثر من عشرة أفلام دارت كلها حول شخصية البنت البريئة الشريفة التي تظلمها أقدار أقوي منها، ولكنها تصر علي الاحتفاظ بشرفها وأمانتها، وتواجه الشر بعزيمة لا تلين.

جريدة القاهرة في

12/06/2012

 

حسني مبارك:

شاهد نهايته سينمائياً وهو علي كرسي الحكم

بقلم : محمود قاسم 

حسني مبارك، هو الرئيس الأوحد، في الدولة المصرية، الذي وقف أمام كاميرا سينمائية في فيلم تمثيلي، وبدأ يمثل دوره كضابط عسكري معلم، في الكلية الجوية، بعد أن ردد المخرج كلمة "أكشن"، فبدأ يقوم بالفعل "التمثيل"، مثل بقية الطاقم، خاصة الممثل كمال الشناوي. حدث ذلك في عام 1956، من خلال أحداث فيلم "وداع في الفجر"، اخراج حسن الإمام، المأخوذ عن فيلم أمريكي حربي عاطفي باسم "جسر ووترلو" اخراج ميرفن ليروي عام 1940، وهو نفس الموضوع الذي قدمته السينما الهندية عام 1966 باسم "سانجام". الذين شاهدوا الضابط الذي يقوم بشرح العمليات لطلبة الكلية الجوية، لم يكونوا يتصورون انه ضابط حقيقي، وانه سيكون رئيساً للجمهورية طوال ثلاثين عاما، وانه سيصدر عليه حكم في يونيو 2012 بالسجن المؤبد، وسيكون بذلك حدثا تاريخيا. مبارك تم رصد حالتين آخرتين لظهوره بشكل عابر، أيضا كضابط، في أعمال أخري، منها لقطة لمدة ثوان في فيلم "ليلة الحنة" بطولة كمال الشناوي أيضا عام 1953، أما المرة الثالثة فهي مقصودة، حيث ظهر كقائد طيران في مشهد قصير من الفيلم الحربي "العمر لحظة" لمحمد راضي، عام 1978 . الأفلام السياسية ورغم ذلك، فأنا لا أعرف شخصياً مدي شغف الرئيس السابق برؤية الأفلام، أسوة بجمال عبدالناصر، لكن لاشك أن الرجل عندما صار رئيساً بدا كأنه قد ورث سابقه أنور السادات فلم يسع إلي أن يقلل من قيمته، أو أن يهاجم عصره، لذا فإن الأمر قد تغير بشكل ملحوظ في سنوات حكمه فيما يخص بموضوع الدراسة أن السينما المصرية تنتقد حكامها. في السنوات الأولي من الثمانينات، عرفت الشاشة المصرية بشكل مكثف، ما يمكن تسميته بالأفلام السياسية الاجتماعية، ولم تكن قد حدثت أي خصومة بين السينمائيين والحاكم، رغم الاصطدامات الخفيفة بين بعض الافلام والرتابة، خاصة الافلام التي يكتبها وحيد حامد.. الذي بدأ حياته بفيلم يهاجم فيه مراكز القوي، علي طريقة "الكرنكة"، وهو فيلم "طائر الليل الحزين" ليحيي العلمي عام 1977، إلا أن فيلم "الغول" المعروف بأنه "قانون ساكسونيا" اذاعيا قد وقف ضد مراكز قوي جدد.. ظهروا في عصر السادات، وتم استفحالهم في الزمن الجديد، ومنهم توفيق عبدالحي، الذي بدا وحيد حامد، كأنه وضعه أمام عينيه، فقدم فيلما عن سطوته، وكان يمكن للفيلم أن يناسب فترة الكرنكة، إلا أن بداية الثمانينات، كانت مختلفة، فهمي الكاشف هذا رجل انفتاحي، لديه سطوة اقتصادية جعلته يعين في مكتبه وزراء سابقين، والمواجهة بين الانفتاحي، والصحفي عادل ليس سببها سياسياً.. بل جنائياً، فأين الكاشف قد قتل رجلاً عجوزا عن عمد وبكل غطرسة، والصحفي يريد اثبات الحقيقة، حتي إذا تمت تبرئة القاتل بالزور، صار علي الصحفي أن يقتل خصمه بالطريقة نفسها التي مات بها السادات، أن يهاجمه وجها لوجه.. ويلقي اتباعه المقاعد فوقه لحمايته، أسوة بما حدث في المنصة. وبدأت الشاشة المصرية تعرف أنواعا من النقد الاجتماعي المرتبط بسياسة عامة، أبرزها صعود رجال أعمال جدد، صاروا أساطين المجتمع في الاقتصاد، والسياسة، وطوال عشر سنوات تقريبا، تكررت مسألة رجل الأعمال الفاسد، الذي جاء من قاع المجتمع، ومن خلال طرق شرعية، صار فاسداً، كما أن السينما تصدرت في هذه الفترة بقوة لشركات توظيف الأموال التي تصاعدت اقتصادياً واجتماعياً، فصارت قصص الأفلام تتصدي لهذه الظاهرة. في هذه السنوات، بدأت صورة الرئيس تزحف إلي جدران، وحوائط ديكورات الافلام ولم تكن تتغير كثيراً.. ولكن الملاحظ أنها كانت صورة كبيرة بارزة في حجمها، أي أنها تظهر أمام المشاهد، وعليه أن يري صورة الرئيس، وإذا كانت هذه الظاهرة لم تكن ملحوظة ابان ظهور الأفلام، فإن الذين يشاهدون الأفلام نفسها الآن علي القنوات العديدة، يلاحظون أن الرئيس ظهر كثيرا جدا في هذه الافلام من خلال مثل هذه الصور. ومع تزايد هذه المشاكل.. والصعود الدائم والمضطرد للرأسماليين الفاسدين، كان هناك شبه اتفاق بانتقاد كل المسئولين، ما عدا الرئيس، وكأنه غير قابل للنقد، أو للمس، وكم ظهر في الافلام وزراء فاسدون، وايضا اعضاء مجلس الشعب ومن الافلام الاولي التي أشارت أن أعضاء البرلمان هم من رجال المال الفاسدين، هناك "حتي لا يطير الدخان" لأحمد يحيي، 1984، ثم بدأت الجرأة تستبد بالسينمائيين، فهاجموا أعضاء البرلمان في أفلام كثيرة لاحقة، منها "الغرفة 12"، لعبداللطيف زكي، عام 1991، و"الواد محروس بتاع الوزير". معالي الوزير الفاسد أما الوزراء الفاسدون، فقد رأيناهم في أفلام عديدة، منها "4 في مهمة رسمية" لعلي عبدالخالق 1987 و"الراقصة والسياسي"، لسمير سيف 1990، و"هدي ومعالي الوزير" لسعيد مرزوق 1996، و"الواد محروس بتاع الوزير" لنادر جلال 1999، و"معالي الوزير" لسمير سيف 2001، وغيرها. استحت السينما أن تؤول هذا الفساد إلي أعلي رجل في السلطة، فهو الذي اختار هؤلاء الوزراء، كما أن أعضاء مجلس الشعب الفاسدين ينتمون أيضاً إلي حزب الرئيس، وبدت حدود النقد مقيدة تجاه الرئس، وفي رواية "عمارة يعقوبيان" فإن كمال الفولي يشير إلي أن جهة عليا تأخذ نسبة من المبالغ التي يتم تحصيلها من التجار الذين أصابهم الثراء، وفي الفيلم، فإن الفولي لا يشير إلي الجهة العليا، ولكنه ردد أنه ليس وحده الذي ينال هذه المبالغ، بل إن هناك جهات أخري.. وكان علي المتفرج أن يفهم المقصود. في الثمانينات من القرن الماضي، وأمام النقد الاجتماعي، وبدأت السينما تتعامل مع رئيس الجمهورية، علي أنه الملجأ المضمون لحل مشاكل المجتمع، خاصة الاقتصادية، والاجتماعية، وأن الرئيس يجب أن يتابع كل شيء بنفسه، وأن يصدر أوامره لحل مشكلة كبيرة وصغيرة في المجتمع، وعلي رأسها مشكلة الإسكان، التي تم استفحالها في المجتمع دون أن تجد حلاً، خاصة لدي الفقراء، وأبناء الطبقة المحدودة الدخل "الموظفون"، وقد رأينا ذلك في أفلام عديدة، لعل من أبرزها "كراكون في الشارع" لأحمد يحيي عام 1986، ثم "موعد مع الرئيس" لمحمد راضي عام 1990 . وفيما بعد، خاصة في العقد الأول من هذا القرن، أخذت صورة الرئيس، في عهده، صوراً مختلفة تماماً، لكن لابد من الحديث عن تجربة الفيلمين المذكورين، ففي النصف الثاني من الثمانينات، سقطت بيوتاً مصرية قديمة في الواقع، ووجد سكانها أنفسهم ينامون في خيام، أو في الشوارع، أو في مساكن الايواء المؤقتة التي تبنيها الحكومة، وفي فيلم "كراكون في الشارع"، فإن المهندس شريف وزوجته المدرسة سعاد، وبقية الأسرة، يجدون أنفسهم في العراء بعد أن تهدم منزلهم، وصاروا إلي مساكن الايواء، ويكشف الفيلم الأحوال شديدة البؤس التي يعيشها المواطنون بعد أن تتهدم منازلهم القديمة والبيروقراطية العقيمة، وسلبية المسئولين، فالأسرة تنتقل من مساكن الايواء إلي المقابر، ويقوم المهندس بتصميم كرافان، يقيم فيه، يجره حصان، ويبدو كأنه يسكن في الشوارع، ويجد نفسه متهما بعدة تهم منها سرقة الكهرباء.. فيقرر أن يشارك مجموعة من الشباب في بناء مساكن بالصحراء.. يبدو رئيس الجمهورية هنا من خلال صورته البارزة في الادارات الحكومية، ثم أيضا عندما يشاهد برنامجا تليفزيونياً يتكلم فيه عن مشروع اسكان الصحراء، فيصدر أوامره بالابقاء علي هذه المساكن. موعد مع الرئيس الرئيس هنا، هو الذي يقوم بحل المشاكل الاجتماعية بنفسه، وهو الملجأ الأخير للمواطن الذي تعثرت أمامه كل سبل الحياة، وهكذا ولدت السينما جسور اتصال ومحبة بين المواطن وبين الرئيس الذي يكاد يعرف كل شيء ويحل المشاكل بأمر منه.. وقد تجددت هذه النظرة بشكل واضح في "موعد مع الرئيس"، حيث أنه أول فيلم مصري يذكر اسم الرئيس مباشرة، ثم تكرر ذلك كثيرا فيما بعد. ونحن هنا أمام فيلم سياسي في المقام الأول، تسعي فيه نائبة مجلس الشعب عن دائرة القلعة وما حولها وأظنها أقرب إلي فايدة كامل، إلي أن تسلم إلي الرئيس وثائق سياسية، واجتماعية مهمة للغاية عن حقوق المواطنين من أبناء دائرتها، تدين أعضاء مجلس الشعب، وربما مسئولين كبار باتهامهم بالفساد، ومحاولة استغلال النفوذ. مثل هذا الفيلم، ينظر إلي الرئيس علي أنه الأمل المنشود، يجب علي المرء أن يوصل إليه الرسالة المطلوبة، ولاشك أن الحاكم سوف يصدر أوامره بحل المشكلة، ولا شك أن مثل هذه الافلام قد حاولت التأكيد علي أن الريس هو "الفاعل" الوحيد في الدولة، وأن بقية المسئولين ليست لهم من الفعالية شيء، وأنهم مجرد أصحاب مناصب بدون أي ايجابية. تدور أحداث الفيلم أنه في ظل سياسة الانفتاح الاقتصادي، تتمكن إحدي شركات البناء من رشوة بعض المسئولين، ومنهم وزراء وأعضاء في مجلس الشعب، مقابل الحصول علي تصريح بازالة مساكن حي شعبي بأكمله لاقامة أبراج سكنية مكانه يحقق للشركة مكاسب مالية كبيرة. ويوجه الفيلم قبل العناوين رسالة مباشرة إلي الرئيس من خلال شعر فرعوني قديم كتبه ايبور الذي يحذر الحاكم من مغبة الفساد المنتشر بالبلاد، وينذره أن النار قد تشتعل في أي لحظة، إلا إذا سارع بنشر واقرار العدل.. إذن فالفيلم هو رسالة إلي الرئيس، سوف تحملها ماجدة، عضو مجلس الشعب عن الدائرة التي تقع فيها المشكلة، والدفاع عن أهالي الحي من الطرد لإزالة مساكنهم القديمة، لكن المسئولين يتصدون لعرقلة جهودها، ومثلما حدث في الفيلم السابق، يتصادف ان رئيس الجمهورية يشاهد ماجدة أثناء مناقشة المشكلة بالتليفزيون، فيحدد موعداً لمقابلتها في أسوان.. تسافر المرأة إلي أسوان ومعها المستندات التي تدين عددا كبيرا من كبار المسئولين، وفي القطار، تتعرض لمحاولات لسرقة تلك المستندات، إلا أن أخاها وخطيبها يقومان بحمايتها، ومساندتها، وبعد العديد من المغامرات، تصل العضو إلي مقر رئيس الجمهورية، وينفتح باب القصر، كأنه الأمل.. يعني هذا أن للرئيس مكانة خاصة لدي صناع قصص الأفلام، فالمخرج هو مؤلف القصة ووسط فساد مدقع، فإن الفيلم يري في الرئيس أنه "المنقذ".. وأنه باستدعائه للنائبة كي تأتي له في أسوان، يعني أنه، أيضاً، لا يثق بالمسئولين، وأنه يجب أن يري هذه الوثائق بنفسه، وأن تؤول إليه الأمور. وطوال سنوات، ظل الرئيس في برج مشيد، معزول، لا يصل إليه النقد، ولا يجرؤ أحد علي مس "هوية" الرئيس بأي انتقاد، إذا أردت أن تري الفساد، فانتقد الوزراء، ورئيسهم "ربما" مثلما حدث في "معالي الوزير"، إلا أنه في العقد الأول من القرن الحالي بدأنا نري هناك محاولات لمس ناعمة للرئيس، وقد بدا ذلك واضحا في فيلم "جواز بقرار جمهوري"، الفيلم الثاني في مسيرة خالد يوسف. بابا الفاتيكان في الفرح الشخصية الرئيسية في فيلم "بابا" الايطالي، المستوحي منه هذا الفيلم، أن شابين يدعوان بابا الفاتيكان لحضور حفل زفافهما، فيقوم الرجل بتلبية الدعوة، وفي الفيلم المصري صار هناك رئيس جمهورية عليه أن يلبي دعوة أرسلها له مواطن أن يحضر حفل زفافه، ويتم التأكيد أن الفرح سيقام بأحد الأحياء الشعبية، قريبا للغاية من الحي الشعبي الذي دارت فيه أحداث "موعد مع الرئيس"، انه قلعة الكبش، خلف مسجد أحمد بن طولون، اما الشارع الذي يسكنه العروسان فاسمه "ميمون القرد" وقد صور الفيلم الرئيس هنا علي أنه رئيس لكل المصريين، يلعب دوراً اجتماعياً كبيرا، في حياة شعبه، بل ان جهازه الاداري قد نجح بكفاءة في اذابة الخلافات التي كادت أن تفسد ما بين العروسين. والشاب هو ينتظر الحصول علي وظيفة منذ سبع سنوات، رغم أنه تخرج في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ويعمل سائقاً لتاكسي، وغير قادر أن يلم شمله علي حبيبته بعد خطبة وغرام استمر سنوات. الفتاة تفخر أنها قادرة علي دعوة زملاء والدها من وكلاء وزارة، أما الشاب فهو يرسل بشكل اعتباطي خطابا إلي رئيس الدولة ويوافق الرئيس، ويبدأ مصير الحي في التغيير، يكشف الفيلم مدي الاهتمام الشديد بالرئيس، فالإدارة المحلية تتفاني من أجل تحسين واصلاح أحوال الحي من كافة النواحي، ثم يتم اهمال وسحب كل هذه الخدمات عندما يقرر المسئولين اقامة الفرح في فندق خمس نجوم، ليكون لائقا بتشريف الرئيس.. ثم تتغير الأمور عندما نعرف أن الرئيس يود فرحا شعبيا. أما المصير الثاني، فهو يتمثل في كل تلك العرائض التي يكتبها أهل الحي إلي الرئيس الزائر وتتعاظم هذه العرائض لتصبح رزما كثيرة تتكدس في انتظار حضور الرئيس. الرئيس هنا، هو حسني مبارك.. الذي يجب أن يأتي بنفسه، وعلي طريقة الخدع الالكترونية التي ظهرت في فليم "فورست جامب" الأمريكي حين رأينا فورست يصافح كلا من الرئيسين الأمريكيين، كيندي وجونسون علي حدة، فإنه تم تركيب وجه الرئيس حسني مبارك كي نراه يصافح العروسين، وسط حراسة مشددة، وايضا وسط المدعويين الذين يقدمون له عرائضهم وسط انشغالهم بالفرح، وبوجوده. في هذا الفيلم، حاول المخرج والكاتب أن يبينا الجانب الاجتماعي من الرئيس، وقد حضر الرجل ومعه حاشيته، ولم يكن المهندس الاليكتروني الذي حاول تركيب صورة الرئيس علي وجه شخص آخر بموفق، مثلما حدث في فيلم "فورست جامب". الدخول إلي عرين الرئيس وقد تباينت صورة الرئيس فيما بعد ذلك، لكن الذي لا شك فيه أن مبارك كان يظهر بشكل غير مباشر في أفلام تلك المرحلة، فالرئيس الذي لم نر وجهه في فيلم "معالي الوزير" وهو يقوم باستقبال الوزراء الجدد، كي يؤدوا اليمين أمامه، كان مخدوعاً من قبل رئيس الوزراء، الذي اكتشف أن الوزير الجديد هو اسم مشابه للوزير الحقيقي الذي كان مطلوبا للتعيين، فأقسم الوزير الجديد، دون أن يكون هو الوزير المطلوب، أي أن رئيس الوزراء هنا خدع "الرئيس" ولم يكن الرئيس "يعلم" الحقيقة، مثلما تقوم الصحافة والسينما عادة، بتصوير أن الرئيس يعرف كل شيء، ويفعل عشرات الأشياء في الوقت نفسه. بدت السينما كأنها كسرت المحظور ودخلت عرين الرئيس، الذي تحول إلي شخصية سينمائية جذابة، وتم تصويره بصور عديدة، منها شخصية الرجل الفاضل جداً، الذي يتعامل بطوبوية خاصة مع وظيفته، والناس، ومنها الديكتاتور، ومنها العجوز الذي رسخ فوق مقعده سنوات طويلة ولا يريد أن يترك منصبه أبداً.. ويرشح أمامه شاب كل ما يحلم به الحصول علي شقة، وليس القصر الجمهوري، ومن المهم الاشارة إلي أن نجاح مسرحية "الزعيم" بطولة عادل إمام حول رئيس الجمهورية البديل كانت بمثابة فاتحة شهية ملحوظة، لعمل مثل هذه الأفلام. نعم، هناك أوجه تشابه ملحوظ بين الرئيس السينمائي، والرئيس الحقيقي في فيلم "ظاظا رئيس جمهورية" اخراج علي عبدالخالق عام 2006، وتأليف طارق عبدالجليل، الذي كتب أفلاما عديدة من النوعية نفسها، ومنها "عايز حقي" وهو فيلم ينتمي إلي التخيل السياسي. يهمنا في هذه الدراسة أن نتوقف عند صورة الرئيس، كما رآها الناس عام 2006 أي بعد أن تولي مبارك منصبه القديم الجديد لدورة خامسة، وفي الفيلم اشارة إلي أن قوي أجنبية هي التي تساعد في وأد طموح الرئيس العجوز، واستحضار رئيس شاب، كان كل حلمه الحصول علي شقة، رئيس الجمهورية المقيم طويلا في القصر الجمهوري، تجاوز السن، لنجعله في سن كمال الشناوي الذي أدي الدور وهو في الخامسة والثمانين، وقد كان آخر أدواره علي الاطلاق، هوي صبغ شعره إلا قليلا، عجوز، ثقيل الحركة، أقام في الحكم سنوات طويلة، ويطمع في البقاء لفترة أخري، وهو يصنع انتخابات شكلية أمام الشعب، ويستخدم الديمقراطية علي طريقته بأن يكون هناك منافس ضعيف للغاية، وذلك علي طريقة انتخابات الرئاسة الحقيقية في عام 2005، وذلك كي يضمن الفوز، متصورا أن الشعب سيفضله علي طريقة "اللي نعرفه..."، وهي العبارات التي كانت تتردد كلما رشح الرئيس السابق نفسه في الانتخابات، هو ثقيل الحركة، لديه بطانته التي تفعل كل شيء، وكلهم أهل للثقة، خاصة رئيس الديوان الذي جسده السيد راضي، الذي يتلاعب بالكلمات، وسيصبح هو أيضا رئيس الديوان للحاكم الجديد. هناك اختلاف شكلي واضح بين الرئيس العجوز متولي الحناوي والرئيس السابق، انه علي شكل كمال الشناوي العجوز، صلعة ملحوظة وشارب أسود مصبوغ، ينزعج الرئيس من التحولات التي تحدث حوله، فيكذب عليه رئيس الديوان ويصف له الحالة بعبارات كاذبة، حين يلاحظ أن الناس تردد هتافات حماسية الشاب ظاظا، ويبلغه أنهم موجودون في المنطقة الانتخابية، للمنافس، كما تبدو في الفيلم أول مناظرة سينمائية للانتخابات الرئاسية، حين يقف ظاظا أمام رئيس الجمهورية الحقيقي، يبدو الرئيس متماسكا واثقا من نفسه، والنتيجة أما المرشح الشاب فيبدو مهزوزاً ازاء ما حدث. هذا المرشح المهزوز، هو شخص مهمش وفاشل يعمل بائعا في محل أدوات كهربائية، لكنه يفصل من عمله بسبب عدم جديته، هذا البائع الفاشل سوف يصبح رئيس جمهورية غير تقليدي.. يتصرف بتلقائية في داخل القصر، وخارجه، ومع زوجته، وفي الاتفاقات الدبلوماسية الدولية، ويمثل ازعاجا للدولة التي ساندته، ودفعت بالمذيعة أن تقنعه بأن يترشح أمام رئيس الجمهورية، ظاظا لم يصدق قط أنه أمام لعبة حقيقية وأنه انتصر علي الرئيس الذي صار وضعه هشاً للغاية. الديكتاتور كشف الفيلم عن مكانة الرئيس القديم لدي الشعب، السينمائي، في عام 2006 حيث إن الرئيس العجوز ما لبث أن هوي، ودخل إلي دائرة النسيان، رغم مساندة السلطة له، فالناس تميل إلي التغيير، وهذا هو «ظاظا»، قد صار رئيساً جديداً للبلاد، وهو الذي سوف يتم اغتياله بعد أن تصرف بتلقائية كرئيس جمهورية حقيقي. وقد بدا الفيلم جريئاً بلغة سنة اصداره الأولي، وتم حذف عبارة "رئيس جمهورية" من عنوان الفيلم، وقد تعرض لحملة رقابية شديدة، أجري عنها طارق مرسي تحقيقا في روزاليوسف "29 يوليو 2006"، أشار فيه إلي أن الطريق لم يكن مفروشاً بالورد لظاظا، وقد واقف علي عرض الفيلم الدكتور جابر عصفور الرئيس الأعلي للرقابة، بعد العديد من التظلمات، ولم تكن الممنوعات خاصة بالمواصفات التي رأينا عليها رئيس الجمهورية الديكتاتور العجوز، وانما حذفت مشاهد تشير إلي أن مصر تعتمد في ايراداتها علي سياحة الدعارة. يعني هذا السيناريو أن السينما في هذه السنوات، بدأت تنتقد حاكمها بشكل مباشر، وأنها تتنبأ بسقوطه في الانتخابات القادمة، دون الاقتراب قط من مسألة التوريث، التي سنراها في الفيلم التالي "الديكتاتور" الذي أخرجه ايهاب لمعي عام 2009، واقترب بجرأة ملحوظة من موضوع التوريث. في هذا النوع من الأفلام، وفي ظل الديكتاتور والرقابة السياسية، والثقافية، فلابد من استخدام الرمز السياسي، أو تغيير الأسماء.. فلم تكن هناك أي اشارة في فيلم "ظاظا"، إلي أننا نعيش خارج مصر فالأسماء، والأماكن كلها مصرية، أما في فيلم "الديكتاتور" فإن المخرج والكاتب يلجآن إلي التمويه الشكلي، بأن هذه الأحداث تدور في دولة تسمي بمبوزيا، وأن الحاكم الديكتاتور الذي رزقه الله بولدين توأم، تولي تربيتهما من قبل أن يتولي الرئاسة، وحلم دوما أن يورثهما الحكم وهما صغيران. الحاكم هنا استولي علي الحكم، عن طريق الاغتيال الدموي للحاكم السابق، فهو جنرال عسكري دخل علي الحاكم يحمل السلاح، فأطلق عليه الرصاص فيما يشبه الانقلاب، ولا نريد أن نحدث اسقاطا من خلال بعض الشائعات ان مقتل السادات كان بايعاز ولمصلحة الرئيس الذي سيأتي من بعده، لكن في الفيلم اشارة واضحة أن الديكتاتور يحلم بتوريث الحكم لولديه، هذان الولدان عندما يكبران يتصرف كل منهما بما يناقض الآخر، فالأول سوف يرث الحكم عن أبيه، وسوف ينازعه في الوصول إلي السلطة، مثل المشهد الذي ينافس كل منهما الآخر، في قص الشريط لأحد المشاريع الجديدة، أما الابن الثاني، فهو يستمتع بكونه ابن الرئيس من أجل أن يعيش حياة عادية، فهو يقع في غرام مدرسة من بنات الشعب، وهو متناقض في تصرفاته، ويبدو ذلك واضحا في تصرفاته مع رئيس الديوان، اذن فالولدان هما حكيم الصابر وعزيز المستهتر. وفي الفيلم اشارة إلي مصر، حيث يلعب سفير بمبوزيا بمصر دوراً في توطيد العلاقة مع مصر، والديكتاتور القاتل هنا، يتعامل بمنتهي القسوة، مع معارضيه، وهناك اسقاطات ملحوظة في الفيلم علي ما كان يحدث في مصر، بطريقة يمكن للفيلم أن يمر من بين براثن الرقابة، فالرئيس شنن يردد لابنه السياسي: أنا علمتك تبقي وطني، بس بقيت وطني اكتر مني، وذلك في اشارة واضحة إلي الحزب الوطني الديمقراطي الذي صار الابن رئيساً للجنة السياسات، تمهيدا لتوريثه. اذن، فقد أسقطت احداث الفيلم علي ما كان يحدث في مصر، فالولدان يعملان لمساعدة الاب الأول يهمه جمع المال ويعمل أيضا بالسياسة، اما الثاني، فهو في عالم آخر، يحب النساء، والخمر، والحشيش، وقد صور الفيلم أن الديكتاتور واسرته قد تعرضا لقيام ثورات ضدهما وبالفعل تنجح احدي هذه الثورات، ويتم اعدام الديكتاتور وابنه رجل السياسة، لكن الاعدام لم يؤد إلي الموت، مما يؤدي إلي الوفاة، فيقوم رجل بأخذ الرجلين معه، ويصحبهما إلي كوخه، ويعذبهما كنوع من رد الاعتبار لما حدث للشعب، ويعاني الآخر اهانات شديدة، إلي أن يقوم الجيش بانقاذ الموقف، ويعود الديكتاتور وأسرته إلي قصر الرئاسة، ويصبح الديكتاتور أكثر قسوة، ويتم حرق كوخ الرجل الذي عذبهما في مشهد النهاية، بما يوحي ماذا يمكن أن يحدث لو عاد الديكتاتور المخلوع إلي الحكم. نحن أمام فيلم واضح في تصويره لما كان يحدث في مصر، بصرف النظر عن قيمته الفنية، فالقيمة هنا في الجرأة، الابن يقوم ببيع أرض الوطن القطع وراء الاخري، كلما نراه، نسمعه يردد "بيع.. بيع، بيع" اذن أطرف ما في الفيلم انه يصور أخلاق الديكتاتور، وايضا المنصب الذي يتمسك به، مثلما حدث للابن الذي هرب إلي دولة مجاورة، وعاش في قصر منيف، بأموال الشعب المنهوبة، حتي إذا نفذت الأموال، التقي حبيبته القديمة، وسعي إلي الزواج بها، لكنه ما إن يعلم بعودة أبيه إلي السلطة حتي ينسي كل أيام الضنك كي يعيش في عالم الفساد السياسي من جديد. التخيل السياسي في فيلم "طباخ الريس" اخراج سعيد حامد عام 2007، بدا الماكياج والهيئة العامة للممثل خالد زكي أقرب إلي رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، من خلال ملامحه، وطول القامة، ونبرة الصوت والسلوك.. ومن جديد نحن أقرب إلي التخيل السياسي.. في فيلم غريب الشكل، تدخل فيه الكاميرا إلي قصر جمهوري مفترض، هذا القصر الذي اقترب منه بطل فيلم "آسف علي الازعاج" من أجل ارسال رسالة إلي الرئيس دون أن يتمكن أحد من الدخول إليه، كما أن الرئيس نفسه يقرر الخروج إلي الشعب، فيجد اتباعه وقد أخلوا المدينة من سكانها، فيتناول الطعام الشعبي أمام عربة لبيع الأطعمة، كما أن الرئيس نفسه يجلس في مقهي، ويشرب مما يتناوله الناس، دون أن يتعرف عليه أحد، لا شكلا، ولا صوتا، ورغم أن الرئيس السينمائي هنا ليس له اسم ينادي به، مثلما حدث في فيلم "ظاظا" فإن خالد زكي بدا في أغلب الأحيان أقرب إلي مبارك.. وذلك باعتبار أن السينما هذه المرة تحاول أن ترد الاعتبار للرئيس، وأن تتعامل مع بمهابة، ووقار شديدين، والتعامل مع صاحب المنصب باعتبار أنه معصوم، وأن أي خطأ سياسي يحدث تجاه الشعب يرجع إلي تلك الحاشية الكاذبة من المسئولين الذين يحوطون الرئيس، ويقدمون له المعلومات الخاطئة، مثل الوزير الذي يذكر أن ثمن طبق الكشري هو خمسين قرشا، وهو أمر غير الحقيقة حسبما يعرف الرئيس من طباخه متولي، فالفيلم يعترف أن عصرنا مليء، بالسلبيات، منم فساد ورشوة، وغلاء، وبطالة، وان الفقراء يملأون البلد، والتعليم في أسوأ حالاته، لكن الرئيس لا يعرف، هو شخص "رايق" جدا، يجلس علي مكتبه يوقع الأوراق، ويتناول طعامه في حديقة كبيرة، كما أنه أعزب، أما هذه المشاكل الجسيمة، فقد صورها الفيلم، كأنها تحدث من وراء الرئيس، ومن الواقع الذي رآه الشعب المصري في وسائل الإعلام، من خلال زيارات مبارك لبعض الأسر الريفية في زياراته الميدانية المعدة سلفا، فإن الفيلم قد أكد أن الأسرة الريفية التي تناول معها الشاي، هي أسرة مزيفة، وأن الفلاحة هي ممثلة شاهدا الريس ذات يوم في التليفزيون، أي أن الرئيس عليه أن يكتشف كل شيء بنفسه. لذا، فإن الموضوع الرئيسي في الفيلم، هي أن الرئيس الدمث الأخلاق، قرر الخروج إلي الشارع بعد أن فقد الثقة في المحيطين به، الذين يمنعون الناس بدورهم من النزول إلي الشوارع، حتي يري الرئيس الجانب الايجابي من بلاده، دون أن يصطدم بالواقع علي طريقة ما حدث للأمير الشاب بودا في التاريخ البشري. والرئيس الذي لم يحاول قط أن يغير من حاشيته، فيلقي من الآخر أكثر ما يصدر الأوامر، وهو يتساءل عن ملايين المصريين الذين اختفوا بسبب الشمس الحارقة، لاحظ أن الرئيس قد نزل في هذا اليوم الحارق، وقد وضع نظارة سوداء للحماية، والتخفي، ويلتقي نماذج قليلة من الشعب مثل سائق التاكسي الذي يتذمر من المعيشة، ومثل الأعمي الذي التقاه عند الطباخ، ذلك الذي يتحدث عن معاناة الناس، دون أن ينتبه إلي أن الرجل الذي أمامه هو الرئيس نفسه. يتعامل الفيلم مع الرئيس مع أنه "غافل" لا يعرف الكثير، مم يجب أن يعرفه، منفصلا عن شعبه، ليس فقط سنة أولي حكم، بل كأنه يحكم يوتوبيا، وكل ما يفعله الرئيس أن يعاقب حاشيته بشكل رومانسي، كأن يرغم الوزراء علي التهام الخبز الشعبي، وأن يأكلوا مم يأكله الناس، دون عقاب حقيقي لأي منهم. كما أن الفيلم يؤكد حالة الانفصال بين الناس والرئيس، فرغم أن هذا الاخير حاول دوما أن يذهب إلي ميادين الناس، في الشوارع، والبيوت، عندما قام بزيارة لبيت طباخه الجديد رغم أن زوجة متولي هي امرأة معارضة للسياسة السائدة في البلد، وتشارك في المظاهرات المناهضة للحكم.. والغريب أن المشهد الختامي في الفيلم يدور في ميدان التحرير، حيث يذهب متولي إلي الصينية، وهناك يناجي صورة الرئيس المعلقة هناك وأن هناك المزيد من المطالب التي يريدها الناس. رومانسية الرئيس إذًا، فالانتقادات التي يقدمها الفيلم، هي من الرومانسية، فلم يذهب الفيم بالرئيس إلي العشوائيات البالغة القسوة بسكانها، بل قدم الفساد متمثلاً في اللبن الذي سبب تسمماً لابن متولي، فأسرع الطباخ إلي الرئيس كي يبلغه بالأمر.. وقد حاول الفيلم العزف علي نغمة رأيناها من قبل في فيلم "جواز بقرار جمهوري"، حيث إن الرئيس يحضر حفل زفاف شعبي، ويبدو سعيداً بأن الناس، رغم كل شيء، يشترون لحظات سعادتهم في مثل هذه المناسبات. ويحتاج الفيلم المزيد من التحليل، لكن هذه دراسة حول كيف تنقلب السينما علي من كانوا يحكمونها، ويحكمون الشعب بشكل عام، حيث توقع الناس أن سرعان ما يتم عمل أفلام عن الثورة، والحاكم المخلوع، وسرعان ما قدمت السينما لقطات مضافة إلي أفلام تم تصويرها وانتاجها قبل يناير 2011، مثلما حدث في "الفاجومي" لعصام الشماع، و"صرخة نملة" لسامح عبدالعزيز، وغيرهما، ثم "بعد الموقعة" ليسري نصر الله، ولاشك أننا أمام ظاهرة لن تتوقف عن أفلام تدين بشدة الثلاثين عاما التي شهدت جثوم الرئيس فوق مقادير الناس.. شاءوا أم أبوا..

جريدة القاهرة في

12/06/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2012)