حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"المرأة الحديدية" ..

تراجيديا الأفكار فى مواجهة المشاعر!

محمود عبد الشكور

أسوأ ما يفعله أى سيناريست يصنع فيلماً عن حياة شخصية مشهورة أن يكدّس عنها المعلومات وكأننا فى حصة تاريخ، وأن يتعامل مع الدراما كما تتعامل معها كتب وملخّصات المناهج الدراسية الملائمة للإمتحان وليس للمتعة الفنية.

أمّا التناول الناضج لهذه الأعمال فيبدأ أولا بالبحث عن مفتاح الشخصية، عن السبب الذى جعلها تستحق أن تكون موضوعاً للدراما بكل مكوناتها ، ثم نأخذ من حياة هذه الشخصية ما يتسق مع هذا المفتاح وتلك الزاوية.

لم تكتشف السينما هذا المدخل ولكنها تعلّمته من مسرحيات الكبار، خصوصاً شيكسبير، الذين أعادوا قراءة شخصيات تاريخية وفقاً لرؤيتهم الخاصة، فجعلوها أكثر خلوداً وإنسانية مما هى فى الواقع.

الأمثلة كثيرة فى السينما العالمية على هذا المنهج الناضج فى التناول، والنموذج الأحدث ستجده فى الفيلم البريطانى الفرنسى المشترك (the iron lady ) الذى استقبلته بعض الصالات المصرية فى نسخ محدودة تترجم الاسم بمعناه المباشر:"المرأة الحديدية".

نجاحات ميريل

سبقت الفيلم الى القاهرة نجاحات بطلته القديرة ميريل ستريب التى حصدت بعضاً من جوائز أفضل ممثلة فى بعض من أهم المسابقات السينمائية، من الجولدن جلوب الى الأوسكار الى البافتا، عن أدائها المتفوّق لدور مارجريت تاتشر، أول امرأة تتقلد منصب رئيس الوزراء فى بريطانيا لمدة تناهز أحد عشر عاما ونصف العام تاركةً بعدها جيشاً من المؤيدين والأعداء على حد سواء.

مازالت مارجريت تاتشر على قيد الحياة، تعيش بعيداً عن الأضواء، وحيدة ، منعزلة بعد وفاة زوجها دينيس منذ سنوات بالسرطان، هى أيضاً تعانى من أمراض الشيخوخة حيث تحتاج الى رعاية طبية متواصلة ما بين المنزل والمستشفى.

ذكاء السيناريو الذى كتبته آبى مورجان ليس فى أن تقول للمتفرج ما يجب أن يعرفه عن سيرة حياة امرأة قوية مثيرة للجدل، ولكن فى أن تقدم ذلك وفقاً لفهمك أنت لهذه الشخصية.

موضع الإبداع هنا ليس فقط فى أن تحكى عما حدث بالفعل، وإنما فى أن تحكى عما يستحق أن يكون جزءاً من دراما متماسكة، فى اللحظة التى ننتقل فيها من شخصية سياسية محددة الى نموذج درامى إنسانى يولد الفن ويولد الفيلم.

المفتاح الذى قدمه الفيلم لشخصية مارجريت تاتشر هو أنه اعتبرها أقرب ما تكون الى مواصفات الشخصيات التراجيدية المعروفة، فى الأصل لا تُعتبر هذه الشخصيات شريرة، بل تحكمها أحلام ودوافع نبيلة، هى أيضاً شخصيات جسورة وجريئة وقادرة تماما على الفعل. أين تكمن المشكلة إذن؟

تكمن ببساطة فى ذلك الخطأ الذى ترتكبه تلك الشخصيات أثناء انهماكها فى الفعل، ولكنه خطأ قاتل قد يهدم كل شئ، ولأن هذه الشخصيات ليست شريرة بطبعها وإنما أخطأت وأساءت التقدير، فإن شعورنا نحوها لايكون الكراهية وإنما الرثاء.

تاتشر ابنة البقال فى مدينة جرانثام الصغيرة، والتى استطاعت بجهدها وعملها أن تحصل على منحة من جامعة أكسفورد، والتى سارت وراء ما تؤمن به حتى وصولها الى كرسى رئاسة الوزارة، كانت تدافع عما تظنه أنه الصواب.

فيلمنا الهام والمؤثر سيقدم معاركها وقوّتها وانتصاراتها بمنتهى القوة، بل سيجعلها تشرح أفكارها فى عبارات تقترب من الأقوال المأثورة، ولكن الفيلم لن يتنازل أيضاً عن تعرية خطأ الشخصية التراجيدى.

كان خطأ هذه السيدة أنها نظرت الى الأمور من زاوية واحدة فقط، اعتبرت الحياة مجموعة من الأفكار والمعادلات فيما تبدو حياتنا أكثر تعقيداً من ذلك، كانت ترفع دائماً شعار "إما كذا أو كذا " ، فيما تحتمل الحياة الكثير من الثنائيات بأن تكون الأمور "كذا وكذا" فى نفس الوقت.

ستلاحظ إذا شاهدت الفيلم أن تاتشر وضعت الأفكار فى مواجهة مصطنعة مع المشاعر، وانتصرت بلا تردد للأفكار تأثراً بآراء والدها الحادة والقاطعة.

فى مقابل هذه النظرة "الأحادية" سينبنى السيناريو الماكر بأكمله على "ثنائية" ساخرة طوال الوقت: أفكار الماضى الجافة فى مقابل مشاعر الحاضر الدافئة، حقائق الأمس الصارمة فى مواجهة أشباح وهلاوس اليوم، قوة السلطة قى مقابل ضعف الشيخوخة، أضواء المنصب فى مقابل ظلام النسيان، وقد منح هذا البناء الذكى لمسة خاصة للدراما جمعت على نحو معقد بين الأسى والسخرية.

رؤية نقدية

لا يقلّل الفيلم من أهمية ولا جهد تاتشر ولكنه يقدم رؤية نقدية لأفكارها الأحادية الصارمة تطبيقاً على حياتها هى وليس على حياة أى أحد آخر.

وهذه الرؤية تبدأ كما ذكرنا من بناء السيناريو الذى يتعامل مع الثنائيات ثم يختار التركيز على محطات بعينها صنعت رحلة الصعود وانتهت الى أيام الأفول.

بينما نسمع موسيقى عسكرية قوية وحماسية على شريط الصوت، تظهر تاتشر كعجوز ذاهلة تشترى علبة من اللبن فى سوبر ماركت لا يتعرف عليها بداخله أحد. نعود معها الى المنزل، يستقبلها زوجها دينيس، تتكلم معه، تشرف على ملابسه، وتنصحه بارتداء كوفية اتقاء للبرد، يداعبها فى الشارع، نسمع أصواتاً خارج الغرفة تتحدث عن خروج مارجريت بلا رفيق من المنزل الى السوبر ماركت.

فى هذا المشهد الإفتتاحى ستتبلور لعبة السيناريو، فالموسيقى العسكرية ستبدو عنوانا على شخصية لا تتنازل مثل أى مقاتل، وسنجد تاتشر فيما بعد وهى تديربنفسها حرب فولكلاند، وتصدر أوامرها للجنرالات.

ولكن هذه الصرامة القوية سرعان ما يظهر نقيضها فى هيئة تلك العجوز الذاهلة، وفى مقابل حديث تاتشر عن ارتفاع أسعار اللبن بالرقم والسعر ستنهار هذه الثقة فيها بعد دقائق عندما نعرف أن زوجها الذى رأيناه من برهة وهو يداعبها ويسخر منها لا وجود له لأنه مات منذ سنوات.

امرأة الأبيض و الأسود يقدمها الفيلم فى صورة ملتبسة هى مزيج بين الأبيض والأسود،صورة رمادية غامضة ،  ما زالت تتحدث بصرامة وثقة، ولكننا سنكتشف بعد قليل أنها مريضة بالشيخوخة ولا يجب أبداً أن تخرج بدون مرافق حتى لشراء علبة من اللبن.

ستكون تلك الأيام الصعبة فى حياة سيدة عجوز مات زوجها وسافر ابنها مارك مع أسرته الى جنوب أفريقيا وبقيت ابنتها كارول تزورها بين وقت وآخر، ستكون تلك اللحظات وسيلة العودة الى الماضى لاسترجاع حياة مارجريت تاتشر، وفى كل مرة نعود فيها من الرحلة ستعمل الثنائيات بلا هوادة عقاباً لسيدة الرؤية الواحدة.

فى الماضى: فتاة من صنع والدها القوى البقال وعمدة المدينة، الرجل الذى يؤمن بالإرادة الفردية، وبالمبادرة الخاصة، والذى يوصى ابنته بألا تسير وراء الجموع بل أن تكون متفردة، الابنة تعمل فى محل البقالة ولا تحفل بسخرية زميلاتها، يقودها طموحها أن تحصل على منحة أسكفورد.

فى الماضى أيضاً: لحظة تحول أخرى عندما تلتقى مارجريت إدواردز (هكذا كان اسمها القديم) مع رجل الأعمال الثرى الشاب دينيس الذى يعجب بقوتها، يعرض عليها الزواج، تبكى من الفرحة، ولكنها تقول إنها لا تريد أن تبقى فى المنزل، تريد أن تحقق نفسها ، ترفض أن تنتهى حياتها وهى تغسل الأكواب والصحون فى بيتها ، يعدها بأن يساندها، يرقصان على أنغام أغنية "هل سنرقص؟" .

تنطلق رحلة ماجى الصاروخية: تُنتخب عضوة فى البرلمان ، تصبح وزيرة صارمة للتعليم فى حكومة ادوارد هيث، تصفه بأنه رجل ضعيف، تقرر بتشجيع من صديقها السياسى أيرى نيف أن ترشح نفسها لرئاسة الحزب، بعد النجاح تكون الخطوة التالية أن تكون رئيسة وزراء بريطانيا وهو الحلم الذى لم تصدق هى أبدا أن يتحقق.

فى منصبها الأرفع تؤكد شهرتها كأمرأة حديدية ولا تتراجع أبداً مهما كان الثمن: تقلل النفقات وتغلق مناجم الفحم بحجة عدم جدواها اقتصادياً، يتصاعد عدد المتبطلين عن العمل ، تندلع المظاهرات الدامية، يتم تفجير فندق جراند اوتيل الذى كانت تقيم فيه مع زوجها استعداداً لمؤتمر حزب المحافظين، تخوض حرباً لاهوادة فيها ضد منظمة الجيش الجمهورى الأيرلندية، يفجّرون السيارة التى تقل صديقها أيرى نيف، تعلن الحرب على الأرجنتين لغزوها جزر فولكلاند، نراها وهى تصدر أوامرها مباشرة للجنرالات بإغراق بارجة أرجنتينية مما يودى بحياة 300 جندى، ترد الأرجنتين بإغراق البارجة البريطانية جنرال بلجرانو.

ترفض عروض السلام من ألكسندر هيج وزير الخارجية الأمريكى، تكسب الحرب وتجنى ثمار بعض الرواج الإقتصادى، نراها وهى ترقص مع زعماء العالم، نسمع أغنية تهتف باسمها، تواصل سياستها التى جعلت الفقراء أكثر فقراً، ينقلب عليها حزبها بعد أن أهانت بمنتهى القسوة الوزير جيفرى هاو، يتحداها مايكل هيزلتاين على زعامة الحزب فيما يشبه الإنقلاب، تخسر أول جولات الإقتراع فتنسحب الى الأبد.

لحظات صعبة

يتخلل هذه المعارك لحظات صعبة فى حياة امرأة عجوز تعانى من هلاوس تجسد لها شبح زوجها الساخر، نراه مرة يقلد شارلى شابلن، ويشاركها مشاهدة شريط قديم لتوأمهما كارول ومارك ،  تحضر ابنتها كارول التى لا تسلم من انتقادات أمها المريرة، يبدو التناقض صارخا بين دعوة تاتشر لتكريمها بإزاحة الستار عن لوحة تضعها جنبا الى جنب تشرشل وجورج لويد، وبين أولئك العامة الذين لم يعرفونها وهى تشترى اللبن فى السوبر ماركت.

تبدو اللوحة متناقضة الألوان مابين أفكار جافة تسوقها تاتشر كالحكمة من طراز: " المشكلة الآن أن الناس تشعر أكثر مما تفكر .." ، ومثل : " أنت ما تفكر فيه، الأفكار تتحول الى كلمات، والكلمات تتحول الى أفعال، والأفعال تتحول الى عادات، والعادات تتحول الى طبائع"، وصولا الى مشاعر عنيفة حاولت المرأة الحديدية أن تسيطر عليها مثل لحظة بكاء طفيلها وهى تغادرهما بالسيارة الى البرلمان، ولحظة مقتل نيف بعد التفجير الإرهابى، ولحظة كتابتها لعبارات العزاء لأمهات القتلى فى حرب فولكلاند، ولحظة صراخها لطرد شبح دينيس الذى اتهمها فى الماضى بأنها فعلت ما فعلته من أجل طموحها الشخصى.

حصاد رحلة

حصاد رحلة ماجى سنجده فى مشهد أخير بديع: تجمع أحذية دينيس فى كيس كبير ولكنه يغادرها حافياً الى الأبد، تبقى وحيدة، ترفض الذهاب الى حفل التكريم، تقوم بغسل الصحون والأكواب فى نهاية تطابق تلك النهاية التى كانت ترفضها، نراها وحيدة فى عمق الكادر مثل أى عجوز تنتظر الموت.

انتهت حياة تاتشر السياسية مع نهاية الحرب الباردة بسقوط جداربرلين وكأن المناسبة كانت إعلانا بنهاية "أفكار" عصر بأكمله، لم يعد باقيا لسيدة "الأفكار" إلا بعض "المشاعر" مع ابنة مواسية ، ومع صوت ابن بعيد عبر التليفون، ومع شبح زوج يسخر منها ، تريده لأنها وحيدة، وتتمنى ألا يعود لأنه يشعرها بذنب البحث عن السلطة على حساب الأسرة، ولأن ظهور دينيس لم يعد يعنى فى سن الشيخوخة سوى أنها تعانى من خرف الشيخوخة.

الثنائية على مستوى السيناريو ترجمها الصورة أيضاً، فمن ألوان رصاصية كابية وضبابية فى حاضر العجوز المريضة الى ألوان دافئة قوية مفعمة بقوة الشباب والسلطة فى الماضى البعيد، ومن ضعف الحركة التى جسدتها ميريل ستريب فى الشيخوخة الى قوة الصوت والمشية التى جسدتها ستريب أيضاً فى فترة السبعينات والثمانينات، ومن تكوينات تظهر فيها تاتشر وسط حشد من الأنصار والمساعدين الذى يهرولون على  إيقاع خطواتها، الى تكوينات خاوية لا يوجد فيها سوى دينيس الذى نعلم جميعا أنه لا يوجد إلا فى مخيلة المرأة الحديدية.

ربما يؤخذ على المخرجة " فليدا ليويد" إسرافها فى اللجوء الى الحركة البطيئة وفى استخدام الكادر المائل، وفى استخدام المونولوج الداخلى المسموع، وكلها استخدامات مراهقة وبدائية أعادتنا الى سينما الأربعينات والخمسينات من القرن العشرين ، ولم يكن الفيلم فى حاجة إليها على الإطلاق، ولكن البناء ظل متماسكاً حتى النهاية خاصة مع الأداء الإستثنائى الذى أصبح معتاداً من ميريل ستريب.

جهد هذه الممثلة المدهشة لم ينصرف فقط الى اتقان اللكنة والصوت المعروف لتاتشر، ولكن فى الإنتقال بسلاسة بين مشاعر القوة والضعف، الثقة وغياب اليقين، فى السيطرة على انفعالات وحركة سيدة قوية وامرأة مريضة، حصل الفيلم على أوسكار أفضل ماكياج ولكن ميريل ستريب هى التى جعلتنا نصدق أن تاتشر نفسها قد لا تنجح فى التعبير عن تلك المواقف بنفس الدرجة من القوة لو أتيح لها أن تؤدى شخصيتها الحقيقيّة على الشاشة!

فى أحد المشاهد الساخرة، نشاهد مارجريت تاتشر وهو تعلّم ابنتها كارول قيادة السيارة، وتنصحها دائما بالسير "الى اليمين" دائماً فى دلالة سياسية واضحة. هنا مأساة تاتشر، وهنا الخطأ التراجيدى القاتل، إنك لا تستطيع أن تسير الى اليمين طوال الوقت وأنت تقود سيارتك أو وطنك، لابد أن تميل الى هذا الإتجاه أوذاك.

لا يمكن أن يكون اليمين مناقضاً لليسار إلا فى علم الجغرافيا، أما فى حياة البشر فالأمور تحتمل تلك الثنائية، وهل هناك من دليل على ذلك أوضح من أن تبدأ سيدة حياتها وهى لاتؤمن إلا بالأفكار، وأن تقترب حياتها من النهاية وهى لا تبحث إلا عن المشاعر؟

وبين الرحليتين فيلم مؤثر وذكى اسمه "المرأة الحديدية"، يتحدث عن الإنسان، بنفس القوة التى يتحدث بها عن السياسة، وأهل السياسة .

عين على السينما في

22/03/2012

 

قراءة في جوائز الدورة الرابعة عشرة لمهرجان سالونيك الدولي

رامي عبد الرازق 

اختتمت هذا الأسبوع فعاليات الدورة الرابعة عشرة لمهرجان سالونيك الدولي للافلام التسجيلية بعد أن استمرت في الفترة من 9 وحتى 18 مارس 2012.

شهدت الدورة عرض اكثر من 185 فيلما تسجيليا من مختلف دول العالم ضمتها عشرة برامج اساسية هي: رؤى من العالم، قصص تروى، استعادة الذاكرة، بورتريهات من الرحلات الانسانية، موطن، افلام حقوق الانسان، الأفلام التسجيلية الموسيقية، بانوراما الفيلم اليوناني، بالاضافة إلى برنامج الاحتفال بأفلام من الدنمارك وبرنامج افلام تسجيلية للأطفال.

وعلى هامش المهرجان أقيم كعادته منذ عام 1999 سوق "الاجورا" الدولي لتسويق وتوزيع الفيلم التسجيلي والذي ضم هذا العام 466 فيلما من أنحاء العالم وقصده اكثر من 55 من اشهر واهم مندوبي القنوات الفضائية وموزعي الأفلام التسجيلية من اسيا وامريكا والهند وأوروبا.

كان المهرجان قد عرض في الافتتاح الفيلم الفرنسي"الساخطون" من إخراج توني جاتليف والذي يقدم من خلال شخصية خيالية لمهاجرة سمراء غير شرعية الكثير من ملامح الأزمة الأقتصادية والسياسية التي تعاني من اوروبا.

ولكن كان من أهم الأفلام التي حققت اقبالا كبيرا على مشاهدتها خاصة في السوق الدولي بعد ان نفذت تذاكر العروض السينمائية الخاصة بها افلام: "نصف ثورة" من إخراج كريم الحكيم وعمر الشرقاوي وهو إنتاج مصري دنماركي مشترك ويحكي قصة مجموعة من الأصدقاء المصريين مزدوجي الجنسية ورؤيتهم لأحداث يناير 2011 في القاهرة من داخل ميدان التحرير ومنطقة وسط البلد التي يسكنون فيها وقد عرض الفيلم ضمن برنامج رؤى من العالم.

كذلك حقق الفيلم الفلسطيني الأسرائيلي المشترك خمس كاميرات محطمة للمخرجين عماد برنات وديفيد جايت نسبة اقبال ومشاهدة عالية حيث عرض ضمن برنامج استعادة الذاكرة ويدور الفيلم حول مصور فلسطيني يحكي جزء من رحلته المهنية في تصوير المواجاهت بين الفلسطينين في قريته التي تقع برام الله وبين قوات الاحتلال على خلفية الجدار العازل من خلال الكاميرات الخمس الخاصة به التي تحطمت اثناء تلك المواجهات طوال السنوات الأخيرة.

وقد كرم المهرجان هذا العام المخرج الأسرائيلي المعادي للصهيونية ايال سيفان، احد اهم مخرجي السينما التسجيلية في العالم و الملقب بعدو دولة اسرائيل وصانع المتاعب حيث عرض له ستة من أهم افلامه على رأسها بالطبع "الطريق 181" الذي اشترك فيه مع المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي وفيلمه الشهير عن محاكمة اودلف ايخمان"المتخصص..جريمة العصر" وفيلمه الرائع "اذكر..عبيد الذاكرة" واحدث افلامه "يافا.. البرتقالة الآلية" الذي يتحدث عن تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي من خلال تاريخ البرتقال اليافاوي.

كذلك شهد المهرجان العرض العالمي الاول لفيلمه الجديد "حوار متخيل- الجزء الأول" وهو عبارة عن حوار مقسم ما بين 12 شخصية اسرائيلية وفلسطينية تتحدث عن تفنيد فكرة حل الدولتين وعن ضرورة التعايش السلمي في دولة واحدة يكون للجميع فيها عرب واسرائيلين حق المواطنة دون أن يكون للعنصر اليهودي او الأسرائيلي اي ميزات او تفوق عرقي او ديني.

جائزة الجمهور

من اهم الجوائز التي يمنحها المهرجان سنويا جائزة الجمهور، وهي عبارة عن جائزة تمنح من خلال التصويت المباشر للجمهور عقب مشاهدة الأفلام وعادة ما تدعمها احد الشركات التي تقوم بتمويل المهرجان. واهمية جائزة الجمهور أنها تعطي انطباعا عن مدى استيعاب الجمهور للاتجاهات الفكرية والسينمائية في الأفلام المعروضة كذلك طبيعة المزاج العام الذي يحكم الجمهور في تلقيه لافلام المهرجان عاما بعد عام.

وقد ذهبت جائزة الجمهور للأفلام أكثر من 45 دقيقة وهو التصنيف الذي يعتمده المهرجان للتفرقة الزمنية بين الافلام إلى الفيلم الإيطالي الألماني "ايطاليا..أحبها أم أغادرها" من إخراج جوستاف هوفر لوكا رجازي وهو فيلم خفيف الظل يحكي عن واقع المجتمع الأيطالي الحالي من خلال تجربة شخصية للمخرجين حيث يفكران مثلهم مثل عشرات الشباب في نفس شريحتهم العمرية في قرار مصيري هام.. هل يستمران في العيش في ايطاليا أم يرحلان عنها؟ وفي لحظة جنونية يقرران القفز داخل سيارتهم الفيات 500 ومعهم الكاميرا للتجول في ربوع ايطاليا في محاولة للبحث عن هذا السؤال الوجودي (هل نبقى ام نغادر؟).

ربما كان احد اسباب حصول الفيلم على جائزة الجمهور هو خفة الظل التي اتسم بها في الكثير من مواقفه خاصة التي يتعامل فيها المخرجين الشابين مع طبقات وشرائح اجتماعية مختلفة من المجتمع الأيطالي والتي تحلل دون تقر او مزايدة فلسفية او سياسية طبيعة الشخصية الأيطالية والحياة في أوروبا كلها بشكل عام فيما بعد الأزمة الأقتصادية التي غيرت الكثير من ملامح المجتمعات الاوربية والتي كان اليونانيون اكثر من لمسوها خلال السنوات الأخيرة.

 اما جائزة الجمهور للأفلام اقل من 45 دقيقة فذهبت إلى الفيلم الكندي"اورا ORA" من إخراج فيليب بايلوك وهو تجربة شديدة التميز قدمت من خلال تقنية ال 3D   وهي نتاج احتكاك فكري مباشر ما بين مصمم الرقصات الشهير جوسي نافاس والمخرج فيليب بايلوك مستلهمين فيها افكار عالم التطور الأشهر داروين صاحب نظرية النشوء والارتقاء.

انه عندما يلتقي الرقص في تعبيريته الكاشفة عن حالة الانسان وتطوره وتاريخه معه السينما بكل قدرتها اللونية والتشكيلية والبصرية على تأطير الحركة ومنحها الكثير من العمق والتركيز على الأفاق المفتوحة لما وراء الحركة الراقصة والتكوينات التي تبنى بأستخدام اجساد الراقصين.

استخدام تقنية ال 3Dمنح الصورة الفيلمية حالة خيالية كمن يشاهد حلما مجسدا على الشاشة وليس مجرد فيلما او مادة مصورة, انها القدرة على توظيف التقنيات الحديثة في الأقتراب بالسينما من مصدرها الرباني الأول" الاحلام".

كيف يقرأ السينمائي قمامة المجتمع

استطاع المخرج الإيراني جعفر بناهي، المحكوم عليه بالإقامة الجبرية والذي يواجه حكما بالسجن والمنع من الأخراج لمدة عشرين عاما، أن ينتزع بتجربته الساحرة"هذا ليس فيلما" التي قدمها مع المخرج محمد مجتبي جائزة أحسن فيلم في برنامج افلام حقوق الانسان.

استطاع جعفر من خلال تلك التجربة التي تدور كلها داخل شقته والبناية التي يسكن فيها وقام بتصويرها بمساعدة صديقه مجتبي وباستخدام كاميرا فيديوا وكاميرا الموبيل الخاصة به أن يفضح الكثير من عورات ومشاكل المجتمع الأيراني في عهد حكومة نجاد من خلال العمق الفكري والبصري العفوي جدا والغير مرتب او مسبوق بتصورات مبدئية.

من اعمق اجزاء الفيلم الجزء الاخير الذي يخرج فيه جعفر بالكاميرا ليتجول مع الشاب الطريف عامل جمع القمامة من البناية عبر الاسانسير حيث يتوقف أمام كل شقة لدقائق يتحدث فيها عن سكان الشقة و طبيعتهم من خلال طقس اخراج القمامة اليومي التافهة والذي يتخذ دلالات شديدة القوة من خلال تعليقات الشاب العفوية وتركيز جعفر على فكرة ان السينمائي لا يقرأ الامة فقط من خلال افكارها بل ربما من خلال قمامتها ايضا.

الفيبريسي والهوية

ضمن جوائز المهرجان السنوية ثمة جائزة هامة يمنحها اتحاد النقاد الدوليين"الفيبريسي" والذي يضم بعض خيرة النقاد من انحاء العالم وتأتي اهمية الجائزة بالنسبة لمخرجي الأفلام من أنها تمنح من النقاد والنقاد تحديدا حيث يعتبر المخرجين أن القيمة المعنوية والفكرية للجائزة تتجاوز الكثير من القيم المادية التي يمكن أن تمنح في جوائز اخرى.

هذا العام ضمت لجنة الفيبريسي الدولية خمسة اعضاء (رئيس واربعة اعضاء) من لوكسمبورج وايران وتركيا وكندا وبالطبع اليونان – لاحظوا معي التنوعية الجغرافية والفكرية للأعضاء- ومنحت اللجنة جائزتين الأولى لاحسن فيلم يوناني والثانية لاحسن فيلم في الاختيار الرسمي داخل برامج المهرجان.

ذهبت جائزة الفيبريسي للفيلم اليوناني"سيومي"للمخرج الشاب نيكوس داينديس وهو تجربة متطورة تستخدم الانيمشين في التعامل بروح تسجيلية شديدة الحساسية حول فتاة شابة تدعي سيومي جاءت من اليابان وهي صغيرة واستقرت في اليونان وفي سن الخامسة والثلاثين تقرر أن تبحث عن جذورها طارحة سؤال الهوية برقة عذوبة سردية بالغة الروعة وقد اعتبرت اللجنة في الكلمة التي القتها عن الفيلم ان يعالج بحساسية وذكاء شديد واحدة من أهم القضايا التي تخص المجتمع اليوناني الحديث وهي قضية المهاجرين والهوية الوطنية والانسانية على حد سواء.

اما جائزة الفيبريسي لاحسن فيلم في البرنامج الرسمي فذهبت للفيلم المكسيكي "كانكولا"للمخرج جوسي الفارز وهو فيلم أخر عن الهوية ولكنه دلالاته تتسع لتتجاوز هوية شعب التانوك المكسيكي لفكرة البحث عن حقيقة الذات والهوية البشرية حتى في مجتمعات المهمشين واصحاب الثقافات البعيدة حيث استخدم المخرج الصوت الطبيعي للهواء والرياح والجبال والأرض الواسعة التي تضم خلاصة الثقافة الفلكلورية لهذا الشعب بالاضافة إلى استخدام تيمة الأب والابن من خلال عملية تلقين واكتشاف يمارسها الأب وهو احد افراد القبائل التانوكية مع ابنه حيث يلقنه العادات اليومية والتفاصيل البسيطة لحياة الشعب وتاريخه ويعيد معه اكتشافها من خلال البيئة الفطرية البكر التي لا يزالوا يعيشون فيها.     

عين على السينما في

22/03/2012

 

ضباب حول "شوشانك" وفكرة الإيمان والمصير

أحمد مجدي رجب 

إهداءٌ إلى ... إيناس فهمي

وماذا يفعل الإرهاب أكثرَ من أنّ ينجحَ في جعل كلٍِ منَّا يتولى إرهاب نفسِه بنفسه، فيقوم هو بإسكاتها، وإخضاعها للأمر الواقع الرهيب؟  

ـــــــ العسكري الأسود

– يوسف إدريس

ثمّة عادة قديمة لديّ؛ أحاول دائمًا ترجمة عناوين الأفلام إلى كلمات عربيّة: الختم السابع .. جرائم وجنح .. أحدهم طار فوقَ عشِّ الوقواق اصطدمت ها هنا بكلمة: Redemption

ومن عندها يبدأ تعاملنا مع الفيلم الذي أخرجه "فرانك دارابونت" في العام 1994، عن رواية قصيرة لـ "ستيفن كينج" تحمل العنوان:Rita Hayworth and Shawshank Redemption

حسب معجم "لونج-مان"، فالكلمة تعني: التحرر من طاقة الشيطان، وهي قدرة لدى السيد المسيح. وتعني كذلك: شيءٌ شديد السوء، فلا ينبغي الاحتفاظ به.

ومن ثمّ، فإن ترجمة العنوان –كما هو متعارف عليه- بـ: "الخلاص من شوشانك"، يُعَدُّ قتلاً لمعنى الاسم.

تبدأ أحداث الفيلم بقطع متوازي بين مشاهد محاكمة "آندي دفرين" المتهم بقتل زوجته وعشيقها، في منزل الأخير، وبين مشهد الخيانة، ومشهد المتهم ثمِلاً، يحشو مسدسه خارج المنزل في سيارته. تتم إدانة الزوج، والحكم عليه بالسجن في "شوشانك".

منذُ اللحظة الأولى داخل السجن، ندرك أنّه مكانٌ لقتل الإنسان الكائن بداخل أجساد النزلاء، وتحطيم إرادته ... مشاهد رشهم بالمياه ومسحوق قتل القمل. ومأمور السجن يعلن أن السجن ومن فيه، هم مِلكٌ له.

منذ البداية ندرك أن الصراع داخل بناء الفيلم، هو ليس بصراع أشخاص، بل هو بين إرادة التحرر الإنسانيّة، وروح السجن الثقيلة التي تقتل تلك الإرادة. ويتم التعبير عن ذلك الصراع الجوانيّ داخل النفوس بآخر خارجيّ بين النزلاء، وبين العوامل المحيطة بهم من حراس ومجرمين خَطِرين، وقضبان السجن وكل عوامل الإهانة الممكنة.

عن هؤلاء الذين ماتوا:

ونقسم النزلاء هناك إلى نماذجٍ ثلاثة:

نموذج أعلن عجزه منذ البداية عن تحمل كل ذلك، فما كان منه إلا أن مات.

والنموذج الثاني –وهو يتجلى في الجميع عدا "آندي"- هو هؤلاء الذين انتصر "شوشانك" عليهم، فقتلهم من الداخل.

يقدِّمُ لنا الفيلم، هذا النوذج في مثالين، أحدها ناضج نراه في بداية الأحداث متمثِّلاً في العجوز "بروكس"، الذي كان يعمل في مكتبة السجن. والذي يقدم على قتل أحد زملائه كي يُسجن من جديد، ولا يتم الإفراج عنه ... ذلك بعد أن صدر قرار العفو عنه. وعند خروجه من السجن، يهلعُ من مرآي السيارات والناس. يعمل في محل للبقالة، ويقيم بأحد الأماكن التابعة للسجن. ولكنه يفشل في أن يحيا كإنسانٍ حر، فينتهي به الأمر إلى الإقدام على الانتحار في حجرته!!

أمّا المثال الثاني، فهو "ريد" الذي لعب دوره "مورجان فريمان". ونحن مع هذا المثال منذ البداية، وبالتدريج حتى لحظة نضجه في النهاية. "ريد" هو الرجل الذي يجلب الأشياء إلى داخل السجن. عبر مشهد يتم تكراره خلال الفيلم، نتابع نضج ذلك النموذج.  في المشهد يتم عرض المذنب على لجنة لتقييم سلوكه، وهل تم تأهيلُه بحيث أصبح جاهزًا للاندماج في المجتمع أم لا؟ في كل مرة يؤكد لهم أن تأهيله قد تم، وأنه أصبح فردًا صالحًا. وفي كل مرة يتم رفض العفو.حتى تأتي المرة الأخيرة التي يُعرَض فيها على اللجنة، وفيها يدرك "ريد" أن الصبيَّ المراهق الأحمق الذي ارتكب جريمة قتل قبل أربعة عقود، صار  شيخًا في عقده السادس. وأن مسألة انضمامه إلى المجتمع ثانية، هي محض عبث. ففكرة التأهيل هي كذبٌ كبير. ويطلب من وكيل النيابة أن ينهي الجلسة، وألاَّ يضيع وقته. وهنا يصدر العفو عن "ريد". وكأن اللجنة تنتظر لحظة موت الإنسان في السجين، وتحوله إلى كائن قد تم تدجينه تمامًا، قبل أن تلقي بهم إلى المجتمع ثانية، ذلك المجتمع خارج جدران السجن، الذي لم يعد السجين مؤهلاً للانضمام إليه.

يخرج "ريد" من "شوشانك"، ويعمل في ذات محل البقالة الذي عمل فيه "بروكس" من قبل، ويسكن في ذات الحجرة، ونرى ذات العجوز قد تم إنتاجه أمامنا مرة أخرى. نرى شيخًا غادر جسدُه السجن، ولكن روحه ظلت هناك، وظلَّ هو يطلب الإذن كلما أراد قضاء حاجته.

ولا يمنعه من الانتحار، إلا الأمل الذي زرعه "آندي" داخله، عندما وعده أنهما سيعيشان معًا خارج شوشانك، ورسم له الطريق الذي يمكنه من خلالها أن يلحق به.

قبل أن نعرج إلى النموذج الثالث المتمثِّل في شخصية "آندي دفرين" التي لعبها "تيم روبنس"، دعونا نتوقف قليلاً.

الضباب:

تكلمنا عن الصراع داخل الفيلم، ويمكننا ألاَّ نحمِّله بأكثر مما قلنا، ولكننا نصطدم بمجموعة من الإشارات تكتسب دلالاتها من معرفتنا بالخلفية الفكريّة لـ "فرانك دارابونت"، والظاهرة في أعمالٍ أُخرى له. وأعني منها فيلمه "الضباب" المُنتَج في العام 2007 عن رواية قصيرة لـ "ستيفن كينج" أيضًا. يحكي الفيلم عن مجموعة من الأشخاص المحاصرين داخل "سوبر ماركت"، بعد أن اجتاح الضبابُ المدينة، حاملاً في ظلامه أعدادًا هائلة من المسوخ التي عبرت إلينا عبر ثغرة زمكانيّة، جرَّاء بعض تجارب الجيش الأمريكيّ. تدور الأحداث، ويتحول المحاصرون إلى مجموعتين؛ الأولى -وفيها أغلبهم- تقودهم سيدة مخبولة، تتحدث بلسان الكتاب المقدَّس، وتخبرهم بأن ما هم فيه من بلاء، إنما هو حصيلة الخطايا التي اقترفوها، والتي دنست الدنيا من حولهم، وها هم يتطهرون بعذاب الربِّ لهم. وتقنع أتباعَها بألاَّ يغادروا المكان. والمجموعة الثانية، هم قلة قررت الخروج، والمقاومة من أجل النجاة، ولكن تمنعهم عن ذلك السيدة ومن حولها. إلى أن يتمَّ قتلها على يد أحدهم. وتخرج الفرقة التي قررت ألاَّ تترك مصيرها لعبث الأقدار، وأن تملك زمام أمرها. وفي النهاية يأتي الخلاص لهذه الفرقة متأخرًا بعد أن أقدموا جميعًا على الانتحار، إلا واحد منهم. يأتي الخلاص في صورة فرق من الجيش جاءت لإنقاذ الناس.

الصراع هنا واضح تمامًا، بين من يخضع لإرادة خارجة عن إدراكه (إرادة الرب)، وبين من يريد أن يدير الكون من داخله، وأن تكون الأحداث فيه ناتجة عن إرادة البشر، الذن هم "مسئولون عن قراراتهم حتى النهاية" كما يقول الوجوديون. هذا صراع بين فكرة الإيمان بالله وقدره، وبين النزعة الإلحاديّة الماديّة. والمخرج يميل إلى التصور الثاني الذي وإن أودى بحياة أبطاله، لكنهم ملكوا أمر نفسهم، وقرروا مصيرهم بأيديهم، ونحن على كل حال لم نعرف مصير الجماعة الخانعة التي قبلت بقرار الربّ!!

"آندي دفرين"

نعود إلى النموذج الثالث .. "آندي" الذي تمت محاكمته متهمًا بقتل زوجته، ونحن -المشاهدين- لم نرَ وقائع القتل ولكننا نرجِّح أنه هو الفاعل، على الرغم من إنكاره. يدرك "آندي" في أيامه الأولى طبيعة الصراع في السجن، ويبدأ مواجهته بالإبقاء على دفء الحريّة الإنسانيّة بداخله. ويتم التعبير عن هذا الصراع –وكما أشرنا من قبل- في صورة مجموعة من شواذ السجن الذين يجعلون من "آندي" هدفًا لاغتصابهم ... لقد اغتصبوا جسده (كالسجن الذي يحبسه بين قضبانه) لكنهم قط، لم ينالوا من روح التحدي والقتال من أجل الحريّة بداخلهيتعرض لهجومهم مرارًا، ولكنه يقاوم، ويقاتل في كل مرة. هذا هو حرفيًّا الصراع الذي يمثله السجن في داخل كل سجين.

تشتدُ وطأة السجن، و"آندي" يقاوم، ويحاول الفرار بروحه إلى خارج الأسوار، مرة بملصقات الأفلام التي يزين بها غرفته، ورقعة الشطرنج التي صنعها من الأحجار المتناثرة في فناء السجن، والمكتبة التي أقامها. وكأنه عندما أدرك أن جسده أسيرًا، بعيدًا عن دنيا الناس، قرر أن يحضر الدنيا إلى داخل زنزانته. ونرى المشهد الذي يطلب فيه زجاجات البيرة من أحد الحراس كأجر على معاونته في مسألة لها علاقة بالحسابات، ويتم تقديم البيرة الباردة لزملائه وكأنه يبعث روح التحرر بداخلهم. ويَذيع صيتُه في مجال الحسابات. الأمرُ الذي يغري مأمور السجن بالاستعانة به من أجل بعض الفساد الماليّ، الذي يدرُّ ربحًا وفيرًا على ذلك الأخير.

وهنا تتدخل السماء لتبرئة "آندي" بعد كل ما مر من سنين، في صورة شاهد يثبت عدم إقدامه على جريمة القتل. وأمام إرادة السماء تقف إرادة مأمور السجن، الذي يرفض خروج المتهم البريء، ويودعه الحبسَ الانفراديّ. ويقتل شاهد النفي. وتبدو إرادة المأمور وقد انتصرت، ولكن تأتي النهاية بهروب "آندي دفرين" من "شوشانك"، عبر نفقٍ حفره بمطرقة صغيرة خلال عشرين عام، وقد انتصرت إرادته على (عجز إرادة السماء)، وظلم إرادة الأرض.

يمكننا التوقف قليلاً عند فكرة (عدم تدخل إرادة السماء منذ البداية، وعجزها لاحقًا، وعلو يد البشر في التحكم بمصير "آندي" في النهاية) ... وبتذكر خلفية المخرج التي رأيناها منذ لحظات عبر فيلمه "الضباب" ... وببعض إشارات الفيلم، ومن ذلك ربما تكون للرؤية التالية وجاهتها.

"من قال: لا. فلمْ يمُتْ":

يمكننا أن نُسقطَ رمزَ الدين (أو قل الفكرة الإيمانيّة) على سجن "شوشانك"، الذي يضع مأموره دبوسًا على هيئة صليب، ويقول للمساجين من اللحظة الأولى أنه لا يؤمن إلا بالكتاب المقدَّس الذي يكمن الخلاص بداخله ويخبرهم أنه لا يقبل إهانة اسم الرب داخل سجنه. والنزلاء الذين يدخلون إلى زنازنهم عرايا كما لحظة الميلاد، هم بشرُ هذه الدنيا، الذين إما هم عاجزون عن تحمل أقدارها، أو يخدعون أنفسهم بوهم الرب الذي يسيطر عليهم، فيفسرون أحداث الكون بقوة خارجة عنه، ومن ثمَّ يقبلون بها.  وهناك أولئك الذين أعلنوا رفضهم، يهربون عن طريق الفنون (نرى النفق الذي حفره "آنديللهرب وقد تمت تغطيته طيلة أعوام بملصق لأحد الأفلام)، وعن طريق القراءة )المكتبة التي أقامها البطل وهدده مأمور السجن بحرقها إن لم يعاونه)، وموسيقا "موتسارت" التي رددها "آندي" في جنبات السجن ذات مرة، باعثًا بها نسمات الحرية، تداعب أرواح الإنسان في المساجين ... موسيقا "موتسارت" التي رافقته في حبسه الانفراديّ، يتردد صداها في روحه، كالأمل للخروج من السجن.

وتتبلور هذه الرؤية في مشهد ساخر بنهاية الفيلم، إذ ندرك أن "آندي" استخدم الكتاب المقدَّس كـ(شيء) يخفي بداخله المطرقة التي حفر بها نفق الهروبوقد كتب في سخرية في أولى صفحات الكتاب "الخلاص يكمن بداخله" ... الخلاص في شكله الماديّ الذي يدير الكون، لا في القوة الروحيّة التي يمثلها الكتاب المقدس.

إن "آندي" هو (مسيح) "فرانك دارابونت" .. أو قل مسيح "نيتشه" الذي تكلم عنه في تفسيره لخاتمة أوبرا"دون جيوفاني"، التي يقف فيها الشرير أمام تمثال ضحيته، يسخر منه، فيتحرك التمثال قابضًا على يد قاتله، ويطالبه بالتوبة، فيرفض "دون جيوفاني"، ويكرر التمثال الاستتابة، ويتكرر الرفض، إلى أن يحترق الخاطئ بنيران خطيئته. وهو ما اعتبره نيتشه انتصارًا للانسان الذي يحلم به، الإنسان الذي تحرر من كل إطار فُرِضَ، وفَرَضَ هو إرادته. حتى وإن تعرض للحرق كعقاب نهائيّ، فهو مسئول عن قراراته حتى النهاية.

والله أعلم

عين على السينما في

21/03/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)