حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

"وذرنغ هايتس":

الرواية الكلاسيكية بمعالجة واقع

محمد رضا

كثيرة هي الإقتباسات التي أقدمت عليها السينما منذ أيامها الصامتة وحتى اليوم لرواية إميلي برونتي القاسية «وذرينغ هايتس»، بما في ذلك الإقتباس المصري الممتاز سنة 1956 الذي قام به كمال الشيخ تحت عنوان «الغريب». معيار الإمتياز ليس نسبة للأمانة في نقل الوقائع كما وردت في الرواية، بل في منح الرواية على الشاشة شخصيّة سينمائية وهويّة منفصلة تجسّد الأصل الأدبي وتتحرر منه في وقت واحد. هذا أيضاً ما نراه في فيلم المخرجة أندريا أرنولد الجيّد في معظمه.

إنها الحكاية الكاشفة عن مجتمع قام على بنية أفراد قرأوا الحياة من زوايا عنصرية وطبقية. وعن حب لم يُتح له أن يتبلور في اتجاه صحّي فسقط كل من تعامل معه إلى حضيض من المشاعر المرّة. الرواية هي الوحيدة التي وضعتها إميلي برونتي (نشرت سنة 1847) وكتبتها قبل عدّة سنوات لكن، على ما يبدو، لم تجد قبولاً بين الناشرين حتى ذلك العام الذي نشرت فيه. وهي تقوم تحديداً على وضع ثلاثي. نعم هناك شخصيات أخرى، لكن الوضع المذكور هو الثابت والمتواصل: كاثي (كايا سكودلاريو) تحب هيذكليف (جيمس هاوسون) الذي يبادلها الحب لكن أخيها هيدلي (شو) يكن له البغضاء

المخرجة ليست بحاجة للإفصاح كثيراً عن خلفيات الوضع: هيثكليف غريب كان والد كاثي وهيدلي عاد به من رحلة عمل ومنحه الرعاية كأحد أفراد العائلة. كاثي أحبّته وهيدلي غار منه حين اعتبر أن وجوده أثّر على استئثاره بحب أبيه. لكن بالطبع اللون والعنصر يلعبان الدور الأول. في الرواية هيثكليف غجري. في الفيلم هو أسود (من جمايكا) وكان يمكن له أن يكون عربياً من الجزائر او أفريقياً من تشاد او لاتينياً من كولمبيا. أكثر من ذلك، كان يمكن له أن يكون إنكليزياً أبيض البشرة. المهم في الرواية والفيلم معاً هو أن الجزء الآخر من الحقد الناتج عن التفاوت الطبقي. عائلة إيرنشو تملك الأرض والبناء (المسمّى بوذرينغ هايتس) ولو أنها ليست عائلة ثرية. هيذكليف لا يملك شيئاً. المراد قوله في هذا الإطار هو أن القصور البشري سيجد دائماً تبريراً لكره الآخر حين يخفق هو في التصالح مع ذاته. إذا أضفنا إلى هذا قضيّة اللون، فإن حجم الرغبة في التفريق يعلو مستفيداً من حجّة أخرى.

تبتعد المخرجة أرنولد عن الناصية الأدبية، تلك التي تستلهم معطيات العمل الكلاسيكية، ومثل أبطالها تماماً، تغوص في الوحل من البداية. ترمي نظرتها إلى ذلك المجتمع من دون مسحات جمالية او تبريرية او تعاطفية. الأمور كما هي على الشاشة لأن الحقيقة لابد أنها كانت كذلك: المساحة الطبيعية موحشة.

الجمال محدود جدّاً (تصرّف حيال الطبيعة يذكّرنا بفيلم «اختصار ميك» Meek's Cutoff الذي حققته أيضاً إمرأة كيلي رايكهارت) والكاميرا محمولة ومعايشة للبيئة والفيلم لا يحاول أن يرسم حول المشهد أي إمارات غير واقعية. ذلك يمنح الرواية، لمن قرأها، إضافة محسوبة. الرواية تمسّكت بأهداب الأسلوب الأدبي الذي كان شائعاً آنذاك، وكانت من أسمائه شارلوت برونتي، الأخت الأشهر لإميلي، ولو أن المضمون كان جريئاً ومختلفاً لدرجة أن الحكاية وجدت منتقدين كثيرين في الوسط الأدبي

الفيلم يتجاوز الرواية من هذه الناحية، يضفي عليها الصورة التي تناسب مضمونها وتناسب الواقع المحيط بها أكثر مما فعله أي فيلم تم اقتباسه من قبل. أكثر من ذلك، يُلغي سُـلطتها الأدبية ويستبدلها بسُلطة الصورة.

المشكلة تكمن في النصف الثاني، مع عودة هيثكليف الى المكان بعد سنوات من غيابه إثر وصوله وهيدلي وكاثي إلى طريق مسدود. الآن هو قادر على شراء البيت والمزرعة لكنه يؤم وضعاً متشتتاً. الأخ صار مدمن شرب ومفلس وكاثي تزوّجت.  من هذه النقطة يفتر الاهتمام بقدر ملحوظ كما لو كان ما سيسرده الفيلم في ثلث ساعته الأخيرة لن يكن سوى تحصيل حاصل لما سبق. طبعاً يبقى كل ما رصفته المخرجة من أسلوب سرد ومعالجة بصرية موجود، لكن شيئاً اختفى في ذلك الجزء ربما هو الصراع الذي كان قائماً من قبل وتعويضه بمنحى تراجيدي

الجزيرة الوثائقية في

20/03/2012

 

"ريتو بارغنو غوش" يتحدث عن أجيال السينما البنغالية

صلاح سرميني ـ باريس 

تتكوّن شبه القارة الهندية من إتحاد ولاياتٍ لا يحكمها سلطةً مركزيةً واحدة، وتنتشر فيها أديان مختلفة، وعدد كبير من اللغات، وتساهم هذه العناصر بإفقادها تجانسها، وربما تكون "السينما" هي الوسيلة الوحيدة التي تمنحها هويةً وطنية، وعلى الرغم من تنوّعها، يحبّ الهنود سينماهم، ويفضّلون مشاهدة الأفلام الهندية أولاً، ويمنحون نجومهم قداسةً حقيقية، ويضعونهم أحياناً في مرتبة الآلهة.

و"السينما الهندية من الشمال إلى الجنوب"، فيلمٌ تسجيليّ طويلٌ فريدٌ من نوعه (بطول 168 دقيقة زمنياً) من إنتاج عام 2008، وإخراج الناقد السينمائي الفرنسي "أوبير نيوغريه" المُهتمّ بالسينمات الآسيوية، وبشكلٍ خاصّ، الهندية.

ينقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء يطغى عليها أسلوب التحقيقات التلفزيونية (المُقابلات الحوارية)، ولكن، تتجسّد أهميتها في الجانب المعلوماتيّ الذي تزخر به.

من الشمال إلى الجنوب، ومن خلال لغاتٍ كثيرة تنتشر على طول المساحة الجغرافية الشاسعة للهند، يحاول الفيلم أن يُعرّف الجمهور بسينماتٍ تمتلك كلّ واحدةٍ منها تاريخاً، ورسوخاً مختلفين تعكس ثقافاتٍ ثرية، وبنى اجتماعية متباينة.

يُجري الفيلم مسحاً شاملاً لمراكز الإنتاج الكبرى في الهند، ويقدم لمحةً عامّة عن سينما اليوم، ولكنه، يُثير أحاديث عن عظماء الماضي، أولئك الذين منحوا السينما الهندية اعترافاً دولياً، واحتراماً، وذلك من خلال مقابلاتٍ عديدة، ومفيدة مع مُبدعي الحاضر.

ويحمل الجزء الأول من الفيلم عنوان " أجيال السينما البنغالية"، ويتضمّن حواراتٍ أجراها "نيوغريه" مع  شخصياتٍ فاعلة في السينما البنغالية، المهدّ التاريخي للسينما الهندية.

ولأنني أعرف مُسبقاً، بأنّ الشغوف بالسينما، الهاويّ، والمُحترف على السواء، لن يتسنّى له مشاهدته، فقد تخيّرت تفريغ الحوارات المُوزعة مونتاجياً على طول مدته الزمنية (55 دقيقة)، وجمعتُ تلك الخاصة بكلّ شخصيةٍ على حدّة بهدف تعريف القارئ بسينما مجهولة لم تأخذ حقها من الانتشار عربياً، وعالمياً، ماعدا بعض الأسماء المعروفة في تاريخ السينما البنغالية، ومنها المخرجيّن "ساتياجيت راي"، و"مرينال سين"، وربما عددٌ قليل جداً من المُهتمين قد شاهدوا أفلام : ريتابان غاتاك، آدور غوبالاكريشنان، غوتام غوس، ريتوبارغنو غوش، بوداديف داس غوبتا، أو ريتويك غاتاك.

وتعتبر هذه الحوارات المُتمركزة أساساً حول السينما البنغالية محاولة أولية لتوجيه الأنظار نحو السينمات الهندية (ومنها البنغالية) تلك التي ارتبطت دائماً في أذهان الناس بأفكارٍ مُسبقة، وتعالي، واستخفاف، مرتكزين في أحكامهم على بعض أفلام شاهدوها ماضياً، أو حاضراً، لا تعكس بالضرورة واقع، وتنوّع، وثراء السينمات الهندية .

ريتو بارغنو غوش (مخرج)

عندما كنتُ صغيراً، لم يكن مسموحاً لنا الذهاب إلى السينما، فقد تربيّنا في وسط عائلاتٍ محافظة جداً، وكنا نشاهد الأفلام في مناسباتٍ خاصة، الناطقة باللغة الإنكليزية بالتحديد مثل:

The Guns of Navarone (فيلمٌ إنكليزيّ/أمريكيّ من إخراج J. Lee Thompson، وإنتاج عام 1961)

King Solomon's Mines (هناك فيلمان بنفس العنوان، الأول بريطانيّ من إخراج Robert Stevenson، وإنتاج عام1937، والثاني أمريكي من إخراج Compton Bennett، و Andrew Marton، ومن إنتاج عام 1950، وعلى الأرجح، الفيلم الثاني هو المقصود).

وكانت الأفلام الهندية بعيدة عن اهتماماتنا، لا اعرف السبب ؟

وكان يحقّ لنا مشاهدة بعض الأفلام البنغالية، لم تكن عائلاتنا المُحافظة تُعرّض أطفالها لمثل هذه الأمور الحياتية، كانت تعتقد بأنها سابقة لأوانها، لقد كان تفكيراً عاماً، وعندما بلغتُ الثالثة عشرة من عمري، ظهر التلفزيون في "كالكوتا"، وبدأ يقدم فيلميّن في اليوم، وهكذا اكتشفت السينما، وسرعان ما غرقتُ في عالمها، كنت أشاهد كلّ أنواع الأفلام، سيئة، أو جيدة، بدون تفريق، وسبحت في عالم الصور المتحركة.

بدأ والدي بإخراج الأفلام التسجيلية، وكان عمري وقتذاك 13 عاماً، وامتلكت الأفلام التسجيلية المُنجزة في تلك الفترة جانباً "منزلياً"، وكان والدي يمتلك "جهاز رؤية"، وكنت أجلس بجانبه أقطع اللقطات، أرقمها، وأضعها جانباً، وكنا نأكل في مكانٍ آخر، لأنّ والدي كان يستخدم طاولة الطعام لإنجاز عملية المونتاج، وهكذا، كنت أشاهد أفلاماً تُصنع في المنزل، وعندما كان والدي يعمل على سيناريو ما، ويحتاج إلى مساعدتي، نسخه على سبيل المثال، كنت أعود إليه، وأقترح عليه أفكاراً أخرى.

وفي كلّ مرة يفكر والدي بموضوع فيلم تسجيليّ، كنت أحوّله بدوري، وبطريقةٍ غير مُتوقعة، إلى فيلم روائي.

تعلمتُ كلّ التفاصيل التقنية، وكيفية السيطرة عليها، وذلك بفضل إنجازي لأفلام إعلانية تحتاج إلى الدقة، وتعلمت إتقان الجانب التقني من أجل صفاء، وتغليف، وتشطيب الفيلم، تعلمت ذلك من الإعلانات، لقد جاء عشقي للسينما من عائلتي، من أبي بالتحديد، وكانت تتملكني دائماً رغبة عنيفة بأن أحكي قصصاً، وحكايات.

تأثرتُ كثيراً بـ"ساتياجيت راي"، كان بالنسبة لي دليلاً، ومنبعاً كبيراً للتحفيز، ومشاهدة أفلامه حرضت بي الرغبة بأن أصبح سينمائياً، حواراته، تكويناته، بنائه، موسيقاه، طريقة مونتاجه، إخراجه، كانت بالنسبة لي بمثابة دفتر تمارين، عندما أخرجت فيلمي الأول في عام 1992، فيلم للأطفال The Diamond Ring (Hirer Angti)، وجد الكثير من المتفرجين في داخلي نسخةً من "ساتياجيت راي"، وتدريجياً، بدأت مشواري في مجال السينما، سلكت طرقاً متعرجة نحو أفلام أخرى، لم نتجه نحو الواقعية كما هي، ومن وجهة نظرنا اخترنا الواقعية الفاخرة التي حصلنا عليها عن طريق الجانب التقني.

يجب تحديد قرب الكاميرا، أو بعدها لسرد القصة بالضبط كما تريد أن ترويها، وضبط إيقاع سرعة شاريوه الترافليغ، ارتفاع الكاميرا، اختيار العدسة، إنها كلماتنا، وجُملنا من أجل سرد القصة، إنها العناصر الجوهرية التي تسمح ببناء آلية الحكاية، والتعبير في السينما.

ينتمي ساتياجيت راي، ميرنال سين، وريتويك غاتاك إلى نفس الجيل، وبعد حوالي 20 عاماً، وصل بوداديب داس غوبتا، غوتام غوس، آبارنا سين، وامتلك هذا الجيل الآخر تأثيراً فورياً علينا، وظهرت حركة جديدة في الهند، في تلك الفترة وصل اليسار إلى السلطة في البنغال، وأصبح الناطق باسم البروليتاريا، لقد تطورنا في حقبة كانت الأفلام تنجز خلالها عن طريق سينمائيين من المدينة حول الناس الذين يعيشون في الريف، الفلاحون الذين لا يمتلكون الأرض، ولم يكن يعني هذا شيئاً بالنسبة لنا ، كنا بعيدين تماماً عن ذاك الواقع، وأصبح هذا الموضوع موضة في السينما، في اللحظة التي صور "بوداديب داس غوبتا"فيلمه Grihajuddha في عام 1982، فيلمٌ في المدينة، وأخرجت "آبارنا سين" فيلم 36 Chowringhee Lane، فرضت سينما المدينة مكانتها، حساسية الناس المُقيمين في المدينة، كانت الأفلام تنجز دائماً عن طريق مخرجين يعيشون في المدن، وكان من الواجب التفكير بأسلوبٍ غير واقعيّ بشكلٍ كاملٍ بدون الوقوع في دهاليز الفيلم الموسيقيّ المُسيطر دائماً في الهند، ولكن، مزيجاً من الاثنين معاً، يمكن لنا الحديث عن واقعية هندية بدون نسيان التقاليد، ومبالغات السينما الهندية، وبالنسبة لي، فكرت بأن يكون الطريق الذي يتحتم عليّ بأن أسلكه .

لقد تغيرت مراحل الاقتصاد، وحتى قبل فيلم Chokher Bali في عام 2003، والذي قيل عنه بأنه فيلمٌ بميزانيةٍ كبيرة، ولكنني أعتقد بأن الكثير من الأفلام الحالية تمتلك تلك الميزانية، والفارق عن تاريخ إنتاج فيلمي ست سنواتٍ فقط، ومنذ العشر سنواتٍ الأخيرة، يبدو بأنني تجاوزت الميزانية المُقترحة ست مرات، لقد تغير الاقتصاد جذرياً بسبب نظام التوزيع، وحقوق التلفزيونات، وظهرت أسواق تمنح إمكانياتٍ جديدة، ومع ذلك، المُحصلة هي الآتي، لم يُسّهل ذلك توزيع الأفلام الأكثر استقلالية، اليوم، يتمّ توزيع فيلمٌ تجاري في السينما من التيار السائد ـ كما نرى في كلّ مكان ـ بنفس الطريقة، ويُعرض في نفس الصالات، وفي منافسةٍ مع غيره، ويشاهده نفس الجمهور، لا يوجد أيّ طريقة لتوزيع فيلم بشكلٍ مختلف، كلّ الأفلام التي تتشارك في نفس الدعاية معروضة في نفس الوقت، الواحد ضدّ الآخر، وهو صراعٌ غير متعادل، لقد صورتُ مع Aishwarya Rai باللغة الهندية فيلم  Chokher Bali في عام 2003 وRaincoat  في عام 2004،  ومنحاني إمكانية توسيع جمهوري، والتوّجه إلى أكبر عددٍ من المتفرجين، ببساطة، لأنها لغة محكية أكثر من البنغالية، ولكن، المشكلة في الهند بأنّ اللغات المحلية، واللغة الوطنية تنتميان إلى مناطق محددة ماعدا بعض المدن المُتعددة الجنسيات، حيث تختلط في "دلهي" اللغة البنجابية، والهندية، وفي "بومباي" تتعايش اللغة الماراتية، مع الهندية، والمجموعتان السكانيتان تتحدثان اللغتين بشكلٍ جيد.

الوضع مختلفٌ في البنغال، كانت العاصمة الإنكليزية الأولى، في البداية حصلنا على تعليم إنكليزي، البنغاليون فخورون بثقافتهم، لم يُسهلوا أبداً إدماج ثقافاتٍ أخرى، وبطريقةٍ ما، لم يتعوّدوا أبداً على التعبير بلغةٍ أخرى، ولهذا، فقد وجدوا صعوبةً في التواصل مع الآخرين، هناك مجموعات سكانية ثقافية مختلفة، ومتداخلة في البلاد، وتتوافق مع مجموعاتٍ عرقية متنوعة.

هامش :

أحيلُ القارئ إلى الجزء الأول، والثاني من هذا الموضوع، وأنوّه إلى إعادة نشر المُقدمة في الأجزاء الثلاثة بهدف توضيح مصدر هذه الحوارات، والعلاقة التي تربط بينها.

http://doc.aljazeera.net/followup/2010/10/2010101191835767399.html
الثلاثاء 12 اكتوبر 2010 

http://doc.aljazeera.net/followup/2010/12/2010122865212711298.html
الثلاثاء 28 ديسمبر 2010

الجزيرة الوثائقية في

20/03/2012

 

(في أحضان أمي):

العراق الدولة والأم

رامي عبد الرازق 

ضمن عروض برنامج "قصص تروي" أحد فعاليات الدورة الرابعة عشرة من مهرجان سالونيكي الدولي للأفلام التسجيلية(9- 18مارس2012)عرض الفيلم الوثائقي"في احضان أمي" للمخرجين العراقيين عطية ومحمد الدراجي, وهو إنتاج عراقي انجليزي هولندي سبق له الحصول على منحة سند من مهرجان ابو ظبي الدولي قبل عام كامل.

الفيلم هو التجربة الثانية في مجال الأفلام التسجيلية لمخرجه الشاب محمد دراجي الذي قدم من قبل فيلمه الوثائقي"العراق حب وحب رب وجنون" عام 2008, كما قدم تجربتين روائيتين هما "احلام"2005 و"ابن بابل" 2010, اما اخيه الاكبر عطيه الدراجي فهي تجربته الفيلمية الاولى سواء على المستوى الروائي أو التسجيلي.

الواقعية الخشنة 

قد يبدو الفيلم من المشاهد الاولى محاولة لرصد واقع اطفال الشوارع في العراق خاصة أنه يبدأ بهشام وهو صاحب احد دور الأيتام المستقلة وهو يتحدث مع طفلين محاولا اقناعهم بالقدوم معه إلى دار الأيتام الخاصة به كي يضمن لهم مآوى وطعام بعيدا عن الشوارع.

ولكن بمجرد الوصول إلى دار الايتام تتغير النظرة الفيلمية تماما حيث يبدأ صناع الفيلم في تناول زاوية مختلفة عن زاوية اطفال الشوارع وهي واقع الأيتام الذين يعيشون في هذه الدور والمعروفين بأسم"ايتام الحرب"أي الاطفال الذين فقدوا ذويهم بسبب الحرب الأمريكية على العراق او بسبب التفجيرات الارهابية التي تشهدها المدن العراقية منذ سقوط نظام صدام وسيطرة الاحتلال.

نحن اذن لسنا امام قضية اطفال الشوارع التقليدية التي تنتجها المشاكل الاجتماعية كالهرب من الأسرة أو الانحراف ولكننا امام واقع شديد الخصوصية لكنه يتخذ ابعاد انسانية واضحة واكثر اتساعا من مجرد كونه يتحدث عن مجموعة من الأيتام.

خشونة الواقعية التي يتخذها الفيلم تأتي من خلال استخدام الأسلوب الدرامي في التعامل مع يوميات دار الأيتام فالمخرجين يقومان بصياغة فيلمهم بدون اللجوء لعناصر السينما التسجيلية المعتادة مثل استخدام التعليق الصوتي أو اللقاءات سابقة التجهيز التي تشبه المقابلات الصحفية والتي تجلس فيها الشخصيات امام الكاميرا لتتحدث بينما يتم التعريف بأسمائها ومناصبها كتابة على الشاشة.

اننا أمام حالة درامية مقتطعة من الواقع وغير منفصلة عنه, فالفيلم يبدأ بتعريف الشخصيات الأساسية التي سوف نتابعها خلال"الاحداث" بداية من هشام صاحب دار الأيتام الذي نتعرف على البعد النفسي له من خلال حديثه عن الأطفال الأيتام وضرورة رعايتهم ثم البعد الاجتماعي والشخصي له والمتمثل في اسرته الصغيرة التي تعاني من اهماله لها بسبب انشغاله بقضية دار الايتام والاطفال الذين يرعاهم, وفي اكثر من مشهد نراه داخل بيته مع اطفاله وزوجته تقوم بتوبيخه وتوجيه اللوم له على اهماله لاسرته.

ثم ننتقل للتعرف على الشخصيات الأساسية في الدار وهم مجموعة الأطفال الايتام وعلى رأسهم "سيف"ذو السبع سنوات الذي يستعرض المخرج سريعاتاريخ حياته الدموي من خلال لقطات للانفجار الذي اودى بحياة والديه, ثم لقطات له وهو رضيع في المستشفى يتم اسعافه إلى ان كبر واصبح عمره سبع سنوات, ولكنه يعاني من مشاكل سلوكيه كثيرة بسبب وضعه وخلفيته النفسيه, مما يجعله عنيفا في بعض الأحيان وصامتا معظم الوقت ولكنه يغني دائما تلك الاغنية الحزينة التي تعبر عن افكاره المؤلمة "صغير انا على الأحزان..صغير انا على الآلام".

وهناك ايضا محمد ذو العشر سنوات الذي كان بطلا في السباحة واضطر إلى ان يسكن دار الأيتام لأنه فقد ذويه كلهم, ولكنه لا يفتأ يتذكر بطولاته في العوم والغوص من خلال شريط فيديو يحتفظ به.

لا يلجأ المخرجين إلى فكرة استجواب الاطفال للحديث عن مشاعرهم وافكارهم وشجونهم ولكنهم يتابعون حياتهم اليومية في الدار والتي تستعرض الكثير من سلوكهم ومشاكلهم, وعند الحاجة إلى اللجوء إلى رأي خبير فإن هشام يذهب إلى طبيب نفسي يسأله عن سلوك اطفاله اليتامى فيجيبه الطبيب بأن مشكلة الدار ليست في الايواء فقط ولكن يجب أن يتوفر كادر طبي ونسائي كي يمكنه من مساعدة الأطفال في تجاوز ازماتهم السلوكية.

الأزمة الدرامية

بعد التعرف على الشخصيات الأساسية والبيئة التي يتحركون فيها تتصاعد بنا الاحداث إلى العقدة أو الازمة الدرامية وهي أن صاحب المنزل الذي تم تحويله إلى دار ايتام يريد استعادته من هشام وطرد الاطفال فيجد هشام نفسه في مأزق حقيقي لأن هذا معناه أما ان يلقى بالأطفال في الشارع أو يتنازل عنهم لدور الدولة التي تعاني من تكدس واهمال رهيبين.

هذه الازمة تلقي بظلالها على الجميع في الدار وتزيد من المشاحنات بين الأطفال الذين يشعرون بالخوف من العودة للشوارع مرة أخرى.

يستخدم المخرجين اسلوب الكاميرا الحرة المصاحبة لحركة الشخصيات وحديثها وانفعالاتها ودون أن يوجه أحدهم الحديث لها او كأنها ليست موجودة بينهم, أنه اسلوب شخصنة الكاميرا الذي يجعل منها عينا على الاحداث كأنما تزرع المتلقي بين الشخصيات وتتركه يتحرك ويستمع ويتفاعل مع ما يحدث دون أن يشكل وجوده ثقلا على الشخصيات وهو اسلوب يحتاج إلى وقت طويل من أجل اقناع الشخصيات التي يتم تصويرها التعامل مع الكاميرا دون الشعور بها او الأحساس بوجودها.

تتصاعد هذه الازمة لتصل إلى الذروة عندما يقترب موعد اخلاء الدار ويبدأ هشام في تنظيم مجموعة حفلات بسيطة يغني فيها الأطفال من اجل جمع المال الازم لمساعدتهم في البقاء, هنا تتبلور اغنية "في احضان أمي" وتمثل ذروة الفكرة الأساسية للفيلم.

الدولة / الام

تحت طبقات من المشاكل الأقتصادية والنفسية للاطفال اليتامي ومن خلال الأغنية التي تتكرر على لسان العديد منهم في الحفلات أو حتى في اللحظات الخاصة تظهر الفكرة الأساسية للتجربة الفيلمية وهي افتقاد مفهوم الدولة/الأم, لقد نجح الاخوين دراجي في الخروج بفكرة الأطفال اليتامي من افق المشاكلات النفسية والمالية الضيق إلى افق سياسي اكثر رحابة فهؤلاء الأيتام ليسوا سوى معادل لشعب العراق نفسه الذي يعاني كله في الفترة الحالية من حالة يتم واضحة وأكيدة بعد أن غابت الدولة /الام التي من المفترض أن ترعاهم وتحوطهم في احضانها, أن الطفولة التي تمثل المستقبل هي طفولة يتيمة, اي ان المستقبل يتيم, والمستقبل اليتيم يمكن ان يكون عرضه للضياع في اي لحظة.

أن الأم التي يبحث عنها الأطفال ليست هي الأم البيولوجية فقط التي فقدوها في الحرب أو الأنفجارات ولكنها الام/الدولة التي نجدها عاجزة محطمة غير قادرة على ذلك, فالحديث في الفيلم عن سوء دور الرعاية الخاصة بالدولة وعدم قدرة هشام على الحصول على اي مساعدات حقيقة سوى من خلال استجداء بعض التجار في شكل صدقات خيرية هو جزء من رسم صورة الدولة العاجزة, كذلك ودون مباشرة أو تدخل درامي نكتشف أن واقع الدولة كله في الحضيض مثل مشاهد انقطاع التيار الكهربي المستمر في اماكن عديدة وبشكل مفاجئ اثناء التصوير, ومثل تواتر اخبار الأنفجارات المستمرة في التليفزيون, بل أن الدار نفسها تقع ضمن دائرة انفجار قريب يكاد يودي بحياة الأطفال.

وقد لجأ الدراجي إلى استخدام نفس التيمة الشهيرة التي استخدمها من قبل في فيلمه "ابن بابل" وهي صوت الطائرة الهليكوبتر الحربية التي تحلق طوال الوقت فوق المدينة والتي ترمز إلى الاحتلال العسكري الذي دمر واقع البلاد.

ولم يلجأ المخرجين إلى استخدام أية موسيقى تصويرية يمكن أن تنحو بالاحداث إلى درك سفلي من الميلودراما, بل تركوا شريط الصوت حرا من أجل التقاط اصوات الاطفال وغنائهم وحواراتهم العبثية والعفوية, وأن كان يعيب الفيلم ذلك التدخل الدرامي القسري من خلال استخدام بعض المونولوجات الداخلية للتعبير عن افكار الشخصيات مثل محمد الفتى السباح الذي نسمعه في مونولوج مباشر يشكو من شعوره بالوحدة وافتقاد الاهل, بينما كانت تعبيراته الملامحية اقوى بكثير عندما كان يتابع نفسه على شاشة الفيديو وهو يحصد بطولة السباحة.

تعدد الذرى

من علامات الدراما القوية هو أن تتعد الذرى خلال الحبكة الواحدة وقد اجاد المخرجين في التقاط مسألة تعدد الذرى الدرامية في الحياة الواقعية لهؤلاء الأطفال فهشام يتلقى مكاملة من صديق يبلغه أنهم سوف يحصلون على تمويل من الامم المتحدة لشراء دار خاصة جديدة للاطفال ونرى لحظات الفرح والرقص بين هشام والأطفال احتفالا بالخبر ونتصور أنه الحل الدرامي المنتظر!

ولكن يعود الواقع الخشن ليفرز خيبته مرة أخرى, فالتمويل يتعرض للتأخير ثم يتم الغائه ويعود الأنطفاء لعيون الأطفال ووجوههم بعد أن كان الأمل قد لاح في افق حياتهم البائسة

وكعادة الأفلام الجيدة فأن مهمة التجربة الفنية ليست تقديم الأجوبة ولكن طرح السؤال وتركه يغلي في ذهن المشاهد!!

حيث ينتهى الفيلم قبل أن يجد هشام واطفاله اليتامى دارا جديدة وقبل أن يشعر الاطفال ان ثمة احضان أمومية يمكن أن تحتويهم فالدولة/الأم لا تزال في طور التشكل كما أن الأنفجارات المتتالية التي نسمعها طوال الفيلم تعني أن كل يوم ثمة طفل يتعرض للانتزاع من احضان أمه ويلقى في الشارع وحيدا كرمز للمستقبل الغامض لبلد تعرض لنكبة ساحقة.

يستعرض المخرجين في النهاية بعض المعلومات التي من شأنها ان تقلق راحة المتفرج وتتركه مبلبل الذهن عبر كتابتها على شاشة سوداء في نهاية الفيلم, فعدد الاطفال الذين فقدوا ذويهم في العراق جراء الأنفجارات يصل إلى800 الف طفل وهو رقم يعني أن ثمة جيل بأكلمه سوف يكبر دون رعاية حقيقية مما يعني أن مستقبل الدولة كلها على المحك, وهذا الجيل تتلقفه التنظيمات الأرهابية من ناحية والانحرافات السلوكية من ناحية أخرى وفي مشهد هام بالفيلم ترد معلومة أن احد الانفجارات الأنتحارية الاخيرة نفذه طفل عمره 11 عاما فقط.

ان الأخوين دراجي استطاعا من خلال هذه التجربة أن يضعا كل الأطراف في مواجهة حادة مع واقعهم فها هو الطفل /المستقبل وها هي الأم/الدولة ولكن كيف يمكن أن نضع هذا الطفل في احضان امه كي يكبر ويحقق ذاته واحلامه التي يغني عنها(اسكن في دار الأيتام ومعاي احلام كبار) انه سؤال السينما الذي تطلقه الأفلام كي يجيب عنه الواقع !.

الجزيرة الوثائقية في

19/03/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)