حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ميريل ستريب ومارغريت تاتشر في «السيّدة الحديدية»

إمرأة من حرير وإمرأة من فولاذ

نديم جرجورة

إنه فيلم عن الشجاعة. مرّات عديدة، شدّدت السيّدة على هذا التعبير، لأنها رأته مفتاح الأشياء كلّها. الشجاعة ركيزة كل شيء في الحياة، بالنسبة إليها: في السياسة. في الدراسة. في تحدّي المجتمع الذكوريّ المنغلق على نفسه، والمتزمّت في علاقته بنفسه. الشجاعة في مواجهة التحدّيات كلّها، وإن كلّفت المواجهة نفسها أثماناً باهظة، في الأرواح والعلاقات الإنسانية والمصالح العائلية. الشجاعة في مقارعة الخَرَف، في المحطّة الأخيرة من الحياة. مقارعة شرسة تتلاءم وشراسة السيّدة في إمساكها بالسلطة، كما في حياتها الخاصّة، شابّة وامرأة وزوجة وأماً، وفي مهنتها السياسية، نائبة ووزيرة ورئيسة وزراء.

إنها، باختصار، «السيّدة الحديدية». الوصف الذي أطلقه السوفيات على مارغريت تاتشر، أول رئيسة للوزراء في تاريخ بريطانيا العظمى، بات الاسم الوحيد الذي عُرفت به المرأة طوال حياتها داخل معاقل السياسة، وخارج «10 داوننغ ستريت». ظلّ الفيلم أميناً للوصف السوفياتي في مقاربته (أي في مقاربة الفيلم) راهن امرأة في السادسة والثمانين من عمرها، وفي استعادته محطّات مفصلية في حياتها الشخصية والسياسية. ظلّ أميناً لمحتوى درامي مبنيّ على مغزى الصراع الآنيّ بين الوعي واللاوعي، أو بين واقع متقلّب في صُوَره ومتتالياته التاريخية، ومتخيّل مندغم بأوهام محت الخط الفاصل بين المحسوس وغير المحسوس. في ثلاثة أيام فقط، شكّل «السيّدة الحديدية» لفيلّيدا لويد مرآة قاسية انعكست عليها صورة امرأة لم تتردّد عن معاندة الجميع من أجل فرض حضورها كامرأة وسط رجال بدا بعضهم أضعف من أن يكونوا رجالاً. امرأة بدت وسط الرجال جميعهم كأنها «الرجل الوحيد في حكومتها».

بين الشجاعة والسطوة الحديدية وانكسار الحدّ الفاصل بين وعي الراهن واستذكار الماضي، روى الفيلم الجديد للبريطانية فيلّيدا لويد، في تعاونها الثاني مع الممثلة الأميركية ميريل ستريب بعد ثلاثة أعوام على إنجازهما معاً «ماما ميا» (2008)، حكاية الفصل الأخير من الشيخوخة. أو حكاية المغزى من السقوط في الخَرَف، والسعي للتحرّر منه. هذا محتاج إلى نبض قوي. إلى شخصية حديدية حطّمت المشاعر والتفاصيل الصغيرة التي تصنع حياة عائلية، من أجل إعادة مجد البطولة والعظمة لبلد سقط في هاوية الكارثة الإنسانية، إثر أزمة اقتصادية ألمّت بالبلد دافعة فقراءه إلى مزيد من الهاوية وأثرياءه إلى مزيد من الغنى، وفي ظلّ صدام سياسي/ عسكري مع «الجيش الجمهوري الإيرلندي» المُطالب باستقلال إيرلندا الشمالية. غير أن «السيّدة الحديدية» لم يتوغّل في هذا كلّه، لأنه جعل هذا كلّه لحظات مفصلية في المسار الدرامي للحكاية الأصلية، تماماً كما كانت في الواقع: لحظات مفصلية في أعوام الحكم التاتشري لبريطانيا العظمى. أي أن السياسة والاقتصاد والأمن و«حرب فوكلاند» شكّلت المرايا الخلفية للمرآة الأساسية: مرآة السيّدة التي باتت في خريف العمر، وهي تسترجع وحيدة مع شبح زوجها الراحل حكايات وذكريات خاصّة بفتاة تربّت في بيت سياسي التزم النهج المحافظ في قراءة الواقع والتخطيط للمستقبل، فباتت امرأة متسلّطة إلى درجة جعلتها لا تتوانى عن وضع مصالحها الشخصية فوق كل اعتبار آخر (شبح زوجها الراحل ذكّرها، في لقطة أساسية، بأنها لم تنتبه إلى غيابه عن البيت العائلي وسفره إلى أفريقيا بعد مشادة كلامية معها، إلاّ بعد مرور أيام عديدة، وبعدما سألت الخادمة عنه).

أشياء كثيرة يُمكن أن تُقال عن مارغريت تاتشر. أشياء كثيرة يُمكن أن تُقال أيضاً عن ميريل ستريب. لكن «السيّدة الحديدية» بدا اختزالاً لهاتين المرأتين: بالتقاطه النبض الجوهري الذي «صنع» تاتشر، وبإتاحته فرصة إضافية للممثلة كي تؤكّد، للمرّة الألف، أن براعتها في التمثيل لا تُقدَّر بثمن، أو بجائزة.

كلاكيت

أحكام

نديم جرجورة

هل يجوز التعليق نقداً على نتاج فنان، عندما يواجه الفنان نفسه أحكاماً قروسطية فاشية متزمّتة؟ هل يُمكن القول إن نتاج هذا الفنان لم يرتق إلى المستوى الإبداعي الصرف، وهو يُصارع تنانين العنف المعنوي، الأشدّ فتكاً من كل عنف آخر؟ هل يحقّ لناقد أن يستعيد النتاج كلّه لهذا الفنان، مفنّداً مكامن الاهتراء والخلل إن وُجدت، ومُظهراً ملامح الجدّية والسوية الإبداعيتين في طياته إن تضمّنها هذا النتاج في آن واحد، بينما الفنان يُصارع إرهاباً فكرياً أصولياً، يوازي بشراسته إرهاب أنظمة القمع والفساد والديكتاتورية؟ هل إن تعليقاً نقدياً كهذا يجعل الناقد شريكاً لمن أصدر أحكاماً قضائية مستلّة من شرائع الغاب، تطال الفن والإبداع، وتتغاضى عن القتلة والفاسدين المنتشرين في المجتمع، وبين ناسه؟ هل يعني تعليقاً كهذا أن الناقد رافضٌ حرية الإبداع، ومنضو في صفوف الظلاميين الجهلة، والأصوليين المتزمّتين؟ 

لا تزال «ثورة الخامس والعشرين من يناير» في مصر تواجه تحدّيات شتّى في السياسة والأمن والاقتصاد والاجتماع والإعلام، كما في الثقافة والفن والعيش المشترك. أحد هذه التحدّيات: الحكم الهمايوني الصادر بحقّ الفنان عادل إمام من قِبل مجانين الله على الأرض. ذلك أن الأصوليين، «إخوانيين» أو «سلفيين»، بارعون في جعل انتصارهم «الديموقراطي» إحكاماً لقبضتهم الجامدة على مزيد من بقاع الأرض والمجتمع والبيئة والفضاء الإنساني العام. لكن، في مقابل الرفض الذاتي المطلق لكل أشكال الحكم الأصولي المتعنّت، وإن نتج من انتخابات «حرّة» و«نزيهة» و«ديموقراطية»، في بلدان تنصاع سريعاً لمشيئة الله المفروضة على أبنائها من قِبَل مدّعي إيمان وحكمة، في مقابل هذا، لا يُمكن التغاضي عن رداءة النتاج الفني «الإماميّ» المُصاب بهذا الحكم. فالإشارة إلى رداءة هذا النتاج الفني دليلٌ على أنها (الرداءة) شبيهةٌ بسذاجة مُصدري الحكم الهمايوني، وسطحيتهم القاتلة، وجهلهم المطبق، وتعلّقهم بالظاهر الهشّ. هذا كلّه لا يعني أن عادل إمام «ازدرى» الدين الإسلامي في هذه الأعمال، أو في أعمال أخرى، بل ان الأصوليين المتحكّمين بالبلد وناسه معتادون على التعاطي مع الرديء والساذج والسطحي، لأنهم لا يُتقنون لغة أخرى، ولا يفقهون معنى الإبداع، ولا يرون المبطَّن الجميل والمخفيّ الأجمل في النتاجات الإبداعية السجالية. فهم منساقون أبداً إلى الساذج والسيئ والمُسطَّح، أي إلى ما يُتقنون معرفته وممارسته. هذا كلّه لا يلغي إبداع عادل إمام في بعض مقارباته أحوال بلده وناسه في أفلام ومسرحيات، امتلك (هذا البعض) شرطه الإبداعي، قبل أن يسقط الفنان نفسه في التسطيح والسذاجة.

انتهى النتاج الإبداعي السجاليّ والمحرِّض لعادل إمام منذ فترة طويلة. ربما لأنه انتشى بالبطولة، إثر انكشاف ورود اسمه في سجلات أصوليين قتلة. ربما لأنه أسرف في الارتماء في أحضان السلطة السابقة، وفي الابتذال البصريّ والتسفيه الدرامي

لكن هذا كلّه لا يعني إطلاقاً أن للأصوليين حقّ «محكامته»، أو «محاكمة» أي أحد آخر.

السفير اللبنانية في

08/03/2012

 

"مقاطعو العنف".. يسابقون الزمن لوقف موتهم العبثي!

قيس قاسم ـ السويد 

لم تكن إستشهادات القائد السياسي والمدافع عن حقوق السود في الولايات المتحدة الأمريكية مارتن لوثر كينغ المتكررة بسوء أحوال ولاية شيكاغو إعتباطاً، بقدر ما كان إختياراً واعياً، أراد من خلاله تقديم نموذج حي وصارخ لمدينة أمريكية تعاني من أشد درجات التمييز العرقي والبؤس الإجتماعي. بعد عقود على رحيله ومع تَغيّر أَشكال التعامل الحقوقي مع السود، مازال فقراء الولاية يعانون من مشاكل أخرى، ليست أقل خطراً عليهم من العنصرية نفسها، فاليوم ينتشر في داخل مدنهم الفقيرة وَباء يدعى "العنف"، يسري بينهم كالنار في الهشيم ويحصد أرواح الكثير منهم، ومن أجل وقف انتشاره ينشط متطوعون من أبنائها يعملون بإخلاص ويطلقون على أنفسهم إسم "مقاطعو العنف".

قبل الشروع في تسجيل حال المدينة، ثَبت المخرج ستيف جيمس كامرته أمام جهاز تلفاز، لتنقل لنا جزءاً من تقرير إخباري بثته احدى القنوات حول جريمة قتل وقعت في المدينة ويتضمن إضافة اليه أرقاماً عن حوادث مشابهة: فالشاب القتيل، جورج روبنسون، واحد من ثمانية وعشرين طالباً قتلوا في مدارس شيكاغو حتى الآن، فيما فاقت نسبة عدد ضحايا عنف عصابات الإجرام في المدينة خلال عام 2009 نسبة عدد قتلى الجنود الأمريكان في مناطق أخرى من العالم، كالعراق وأفغانستان. المشهد الثاني سيكون حياً، فيه تجري مراسيم دفن الشاب بحضور عدد من أعضاء منظمة "أوقفوا إطلاق النار" وقد حضروا للمساعدة في منع قيام شباب آخرين بأعمال إنتقامية بخاصة وأن عدد منهم قد شوهد وهو يحمل أسلحة نارية بالقرب من الكنيسة. عبر المَشهَديَّن يضع جيمس مُشاهدي وثائقيه "مقاطعو العنف" في الجو العام لمدينة أنجوود في ولاية شيكاغو، وبالتدريج وخلال معايشة امتدت عاماً كاملاً، سيتعرف، ونحن معه، بشكل جيد على "المقاطعين" وعملهم، لمنع القتل المجاني.

مقاطعون وسط الخطر

يعاين "مقاطعو العنف" الموضوع من خلال المقاطعين أنفسهم ويرتكن في قسم كبير منه على نقل تجاربهم التي سبقت إنضمامهم الى الحركة الناشئة وعلى نقل خبراتهم الميدانية في معالجة كل حالة طارئة تصل اليهم للتو، مسلاحاً في كثير من الأحيان بأرشيف يتضمن وثائق شخصية وعامة عن المنطقة نفسها وهو بهذا يجمع بين السرد الشفاهي المؤثر وبين الوثيقة القوية الحجة والإقناع. على مستوى التحليلي لا يُقحم  ستيف جيمس نفسه في إفتراضات نظرية حول العِرْق والمشاكل العنصرية في شيكاغو مبدلها بوقائع نقلتها كامرته بحيادية، فحَصر أغلبية المشاكل بالسود وبفقراء مهاجري أمريكا اللاتينية يدعمه عدد المقاطعين أنفسهم، وأيضا الحوادث الحية التي جرت بوجودهم وكان أغلب المتورطين فيها هم من هاتين الفئتين الإجتماعيتين ولهذا لم يتطرق وثائقيه الى هذا الجانب، مفضلا عليه ما أراده موضوعا له ونعني به العنف ومقاطعوه، فأخذ بعض عينات منهم أو بالأحرى فرض الناشطون منهم أنفسهم على كاميرته فما كان منها إلا أن أعطت للناشطة أمينة ماثيوس التي تبنت الإسلام دينا لها بعد خروجها من السجن، مساحة واسعة من تسجيلاتها على مدى عام كامل. قصة أمينة تُلخص الكثير. فهي إبنة جيف فورد رئيس أكبر العصابات المنظمة بعد "آل كابوني" في شيكاغو، والذي حكم عليه بالسجن المؤبد بتهمة إشتراكه مع ليبيين في التخطيط لعمليات إرهابية. إنضمت الى عصاباته آمنة دون علمه وهي في السادسة عشر من العمر ومارست كل ما يمارسه أعضاءها من سرقة ودعارة وقتل. لم يكن الأب المِثال ولم تعرفه جيدا، لقد أرادت بإنضمامها الى المنظمة، وكونها  المرأة الأولى التي تدخلها، إشعاره بوجودها فحسب. حكايات آمنة وصورتها الكاملة التفاصيل كانت واحدة من العَينات المسجلة بعناية لعمق تجربتها وإيمانها الشديد بالدور الذي تلعبه. قوة كل نموذج من المقاطعين ومعايشته الزمنية الطويلة قادت الى تفرعات خدمت الوثائقي كثيرا، فالموقف من الشرطة أو المؤسسات الرسمية لم يكرس له حيزا في السيناريو غير أن غيابه شبه الكامل والسؤال الدائم عن دوره  فرض وجوده على أحاديث المشاركين في اللقاءات التي كانت تنظمها المنظمة، ناهيك عن موقفها غير المعلن من حركة "وقف إطلاق النار" والمُعبر عنه بسؤال خبيث لا يتوانون عن  طرحه متى  جاء ذكر المقاطعين أمامهم: "هل يُعقل أن يُصلح مجرم مجرما ثانيا؟" ربما كان هذا السؤال يسري، أيضا، في دواخل المتطوعين أنفسهم. فحيرة بعضهم كانت تصرخ في أعماقهم وتكاد تعلن عن نفسها دون رغبة منهم. فلا يقين في عمل خطر تتجاذب إرتداداته العنيفة ذواتهم في صراع، وأن لم يكونوا طرفا فيه اليوم، فقد  كانوا مشاركين في فعل مشابه له في السابق، ولعل ملاحقة أحد أعضاء المنظمة أثناء غيابه المتكرر ومشاهدته وهو يضع، كل يوم تقريباً، أكاليل من الورود على قبر شاب قتله قبل سنوات عَبَر بقوة عن حالة الكثير منهم. فمرتكب الجريمة لا يمكنه نسيانها بخاصة حين تكون دوافعها تافهة

البحث عن اللَين

واحدة من الإستنتاجات المثيرة في تسجيلي ستيف جيمس أن الكلمة وفي ظل فقر وبؤس إجتماعي تلعب دور السلاح القاتل فأكثر الجرائم كانت ترتكب كرد فعل على شتيمة أو كلام سيء. فرد الفعل العنيف على الكلمة  تعبير مبطن عن وجود مرضي "إجتماعي" تساعد هي على سرعة إنتشاره وسريان مفعوله الى مساحات أكبر. فالعنف في النهاية نتاج إجتماعي طبقي، يجد تعبيراته في أشكال مختلفة وينتشر مثل مرض وبائي  وصفه صاحب فكرة المشروع الإجتماعي والطبيب الإختصاص بعلم الأوبئة، غري سلوكتين: "العنف مثل بقية الأمراض الخطرة في التاريخ البشري، تنقل عدواه، ميكروبات غير مرئية، وقبل أن يتحول الى وباء، يصعب السيطرة عليه، لا بد من إيجاد دواء فعال له، وهذا ما نحاول عمله في مشروعنا "وقف إطلاق النار!"". الى جانبه وبخبرة مكتسبة تضيف آمنة أستنتاجا غاية في الأهمية كما بَيَن لنا الوثائقي الأمريكي والذي يعرض في الصالات الأوربية الآن، يتعلق بطرائق الوصول الى معالجات ناجعة لمرضى العنف وتتمثل في إكتشاف النقاط اللينة داخل الإنسان العنيف الهائج لا الضعيفة فيه. فاللينة هي التي يمكن خرقها دون هدم كيانهأو إستفزازه. ستُكسب كلمات آمنة وتجبرتها الغنية غِناً الى وثائقي لامس مشكلة خطرة وتعرض بسببها فريق عمله الى مخاطر كثيرة، سجلت كامرته مرة إصابة أحد المتطوعين برصاصة أطلقها شاب غاضب من مسدسه بعد فقدان سيطرته على نفسه، ومع هذا لم يتأثر لا العاملين في الفيلم  ولا المقاطعين للعنف بها بعد أن تعلموا وخلال سنة كاملة ان التحكم بالغضب واحد من عناصر تجنب المشاكل، أما إزالتها فهي بحاجة الى عملية تغيير هيكلي (سياسي اقتصادي اجتماعي) يبدو أن لا الولايات المتحدة ولا حتى أوباما مستعدين له ولهذا جاء المقاطعون ليلعبوا دورا هو في الأساس دور المؤسسات الرسمية والقضائية. في المقابل وكوظيفة إبداعية جمع "مقاطعو العنف" طوعاً أقطاب التفاعل  الإجتماعي الحاد، في فيلم وثائقي جسد العلاقة الملتبسة بين ضحايا جدد وأخرين سبقوهم ولا يريدون تكرار تجاربهم الشخصية المريرة، مرة أخرى، مع شباب مثلهم قد تقودهم الظروف السيئة عنوة الى نهايات تراجيدية يعرفونها أفضل من غيرهم ألف مرة.

الجزيرة الوثائقية في

08/03/2012

 

من أبرز صانعي السينما الروسية المعاصرة

أندريه زفياغينتسيف.. عودة الأب الضال والوفاء السينمائي

زياد عبدالله 

يمكن العبور مع المخرج الروسي أندريه زفياغينتسيف (1964) من اللقطة الأولى، واعتبارها في الوقت نفسه اللقطة الأخيرة، كما لو أنه يؤسس لموقع التصوير بما يشبه نقطة البداية أو خط الانطلاق، ولتتوالى اللقطات والمشاهد التي تتنقل من موقع إلى آخر، لكن ضمن بيئة متسقة ومتصلة بالشخصيات، وحين نصل النهاية، والتي لم تكن إلا نقطة البداية، فإن الفيلم سيكون قد دار دورته الدرامية وعاد من حيث بدأ.

لا تتسبب تلك الدورة سابقة الذكر بلهاث متأتٍ من تتابع اللقطات السريع، الأمر الذي لن تقع عليه في أفلام زفياغينتسيف، وما يتسبب في عدم التمكن أحيانا من التقاط الأنفاس يأتي من التصعيد الدرامي البطيء، والتنويع في اللقطات بين الثابتة والبانورامية، والتي غالباً ما تكون متوسطة الطول، إضافة الى الاستثمار في المكان والمفردات البصرية، وتوزيع الشخوص التي لا تتحول إلى جموع أبداً.

زفياغينتسيف وريث شرعي للسينما الروسية، ومن أبرز أسمائها المعاصرين، وقد عُرف على نطاق عالمي واسع مع أولى تجاربه الإخراجية الروائية الطويلة The Return (العودة)، الذي فاز بأسد فينسيا «لاموسترا» الذهبي عام ،2003 بما يشبه ما حصل مع مواطنه اندريه تاركوفسكي حين نال عام 1962 أسد «لاموسترا» الذهبي عن أولى تجاربه الروائية الطويلة «طفولة إيفان»، لكن إيفان في «العودة» لن تكون طفولته مسروقة من الحرب، بل ستكون تحت رحمة أب عائد، سيبقى لغز الفيلم، ولغز ايفان وأخيه أندريه أيضاً.

يشبّه زفياغينتسيف بتاركوفسكي، وهناك ملامح كثيرة في أفلامه يمكن ضبطها متلبسة وهي تتقاطع مع عوالم المعلم الروسي الكبير، لكن لا يمكن إلحاق صفتي «سيد الزمن» أو «نحات الزمن» بـزفياغينتسيف، الصفتان اللصيقتان بتاركوفسكي هو الذي شكلت علاقة الزمن بالسينما هوسه، والذي هو هوس كل سينمائي حقيقي، مع أن تاركوفكسي «سيد المكان» أيضاً، وإن لم يتناول المكان يوماً كما فعل مع الزمن، الصفة التي أجدها أقرب إلى زفياغينتسيف، هو الموزع بين تاركوفسكي وبرغمان وانطونيويني.

فإن كان برغمان قد قال: «إن صناعة فيلم مسألة شخصية بالنسبة إلي..»، فإن حقيقة أن زفياغينتسيف هجره والده وهو لم يتجاوز السادسة من عمره ستحضر بقوة في فيلمه «العودة» ،2003 و The Banishment (النفي) ،2007 حيث يتمركز الفيلمان حول الأب، ولتكون الأم في «العودة» على شيء من جولينا (مونيكا فيتي) في فيلم أنطونيوني «صحراء حمراء» ،1964 ومعها تلك المصانع والمدن الصناعية القبيحة التي لا تغيب عن أفلامه، وهي تخرج علينا من طبيعة ساحرة.

يبدأ فيلم «العودة» من تحت الماء، من قارب غارق في القاع، وفتية يقفزون في الماء من أعلى برج، ومن بينهم الأخوان أندريه وإيفان، اللذان سيكونان شخصيتا الفيلم الرئيستين، الأول في سنة مراهقته الأولى، بينما لم يتجاوز إيفان الثانية عشرة من عمره، هو الذي نقع عليه عاجزاً عن القفز في الماء، وخائفاً في الوقت نفسه من وصفه بالجبان من قبل المحيطين به.

في اليوم التالي سينال إيفان لقب الجبان، وعلى لسان أندريه أيضاً، ولدى عودتهما إلى البيت، سيقع الحدث الرئيس في الفيلم حين تخبرهما أمهما بالتكلم بصوت منخفض لأن والدهما نائم، وليصعد إيفان بعد أن يتفقد والده نائماً إلى علية البيت، ليخرج صورة عائلية يتأكد من خلالها بأنه هو وليس أحداً آخر، هو الذي لم يقع على والده من قبل.

سيكون مجيء الأب المعبر إلى كل ما سنشاهده طيلة الفيلم، خصوصا مع قراره أن يأخذ ابنيه في رحلة صيد، ما يحوّل الفيلم إلى «فيلم طريق»، لكن دون أن تطرأ تغيرات درامية على الشخصيات، فالأب يبقى غامضاً بالنسبة لابنيه ولمن يشاهد الفيلم، وهو يلعب دور الأب الذي يرغب بتعليم أولاده مواجهة الحياة بصلابة وقسوة، وعلى شيء من الرفض من إيفان والقبول من أندريه، وفي كلتا الحالتين سيكون حضوره طاغياً، يريد له إيفان أن يكونو طارئاً، كونه شديد الوطأة، ولا معنى له بعد كل تلك السنين التي عاشها من دونه.

سينفتح الفيلم على مساحات مناخية متعددة، وستكون مجاورة المياه والتخييم والصيد واشعال النار والتعايش مع الطبيعة المسعى الرئيس للأب، كما لو أنه يروض ابنيه، إيفان متمرد، أندريه مستسلم وسعيد بوالده، وما بينهما هناك عوالم رمزية تمارسها الطبيعة على العلاقة المستعادة بين الأب وابنائه، وصولاً إلى عقدة «قتل الأب» الفرويدية التي ستظهر جلية لدى إيفان.

لن يعرفا أين كان الأب خلال الاثني عشرة سنة التي أمضاها بعيداً عنهما، ولن نعرف ذلك أيضاً، المهم الحاضر وما نشاهده يمضي في خط أفقي، ووصولهما إلى جزيرة نائية، وليبدو الأب يعاني عدم فهم ابنيه له، والعكس صحيح، وإن كان للرحلة أن تكون «أوديسة»، فهي أوديسة فشل لم الشمل، إنها عن هذا الرجل الذي يغدو مظلماً في القارب، وهو يشجع إيفان وأندريه على التجذيف، إنها أوديسة تقول إن العودة مستحيلة، وفعل العودة هنا ليس في الطريق والمسار بل من الأعماق، إلى أن نلتقي مجدداً بالقارب الذي بدأ به الفيلم، ووصول الفيلم المأساة محوّلاً قتل الأب إلى فعل يتخطى المجاز. بالانتقال إلى ثاني أفلام زفياغينتسيف «النفي» المقتبس عن رواية للروائي الأميركي وليم سارويان، فإن العائلة ستكون أيضاً الكلمة المفتاح في مقاربته، وهذا النفي سيكون بالمعنى الديني للكلمة فعل طرد من جنة العائلة، لا بل إن أي شيء خارج ذلك سيكون ملتبساً، والفيلم يبدأ من لقطة ثابتة لشجرة وحيدة في حقل مترامٍ، وسيارة بالكاد ترى قادمة من بعيد، ومن ثم تمر مسرعة من جانب الشجرة، ولنتلقفها في لقطة ثابتة أخرى وهي تعبر الطريق، ولتتوقف فجأة بعد أن تمر بالقرب من معامل وأبنية صناعية ليمر قطار من أمامها، وهنا سنشاهد السائق، إنه ينزف!

بداية تأخذنا إلى «الأكشن»، لكن كل شيء سيمضي بالاتجاه المعاكس ، فالمصاب هو مارك الذي يلجأ إلى أخيه الكسندر، وليقوم الأخير بمعالجته، وليترك بيته مع عائلته (زوجته فيرا وابن وابنة)، ويمضوا جميعاً إلى بيت في قرية نائية، وهناك ستنفتح الكاميرا على لقطات بانورامية مدهشة لمساحات مترامية من الطبيعة في تنويعات مختلفة، وهنا سيكون الأب والأم هما محوري الدراما في الفيلم، مع حضور الولدين في النصف الأول من الفيلم.

عبارة واحدة ستكون مفصلية في كل ما سينبني عليه الفيلم، إذ ستقول فيرا لإلكسندر: «أنا حامل والجنين ليس منك»، وأمام الخيارات التي يقف أمامها ألكسندر يقرر أن يجهض الجنين ويواصل حياته على أمل الشفاء من هذا الجرح العميق الذي تسبب فيه اعتراف زوجته له، وعليه سيلجأ إلى مارك الذي يأتي بطبيب ليقوم بعملية الإجهاض والذي سيؤدي إلى وفاة فيرا.

لكن مهلاً كل ذلك يخبئ الكثير مما نجهله، والاكتشافات التي ستتوالى في النهاية ستكون كفيلة بإعادتنا إلى مشهد أولاد ألكسندر وفيرا، وهم يلعبون مع أبناء جيرانهم بتركيب لوحة أيقونة لمريم العذراء، وهي تتلقى من ملاك نبأ حملها بيسوع المسيح هي التي لم يمسسها رجل. وفي تتبع لاستخدام زفياغينتسيف للرموز الدينية فإنها أي فيرا ستكون امرأة مجهولة تماماً بالنسبة للمشاهد، فالجنين ليس إلا من زوجها ألكسندر، وهي تمتلك شخصية مأزومة انتحارية تعاني انعدام التواصل مع الكسندر، ولتجد ملجأها في صديق زوجها روبرت المتهم من قبل الكسندر بأنه الأب الذي تحمله في أحشائها، والذي لن يكون إلا منقذها من محاولة انتحارها الأولى ومشاركها أزمتها النفسية الحادة صديقاً. في «النفي» سيكون عليّ أن أقول إنه الأهم، والسينمائية الشعرية فيه ستكون حاضرة بقوة تفوق ما ظهرت عليه في «العودة»، وإن درامية قصة الفيلم لن تكون بشيء بالنسبة للكيفية التي تم سردها، كما يمكن اعتبار هذا الفيلم صكاً سينمائيا لـزفياغينتسيف على أنه الوريث الشرعي لتاركوفسكي، وهو يستثمر في الطبيعة الخلابة والمتنوعة، وتتبع مجاري المياه، والاتكاء على لقطات لها أن تكون خارجة من «مرآة» تاركوفسكي.

«إلينا»

في فيلمه Elena «إلينا» الفائز بجائزة «نطرة ما» في مهرجان كان السينمائي ،2011 لن يخرج زفياغينتسيف من المدينة، سيبدأ بلقطة ثابتة لأغصان شجرة إلى أن يقف على غصن منها طائر، وخلف تلك الأغصان ستكون هناك نافذة واسعة لبيت.

سندخل البيت ونتعرف الى إلينا، وهي تمارس نشاطها الروتيني بفتح الستائر والنوافذ وإيقاظ زوجها سيرغي الذي لا يقاسمها الفراش، بل ينام وحيداً في غرفته. الرهان في هذا الفيلم درامي بحت، والتغيير الدرامي الذي ستخضع له إلينا لن يكون إلا مفاجئاً.

فإلينا الطيبة، التي كانت ممرضة وتعرفت الى زوجها الثري سيرجي أثناء مرض الأخير، ستوقد شمعة للقديس نيكولا المختض بشفاء المرضى حين يصاب بنوبة قلبية، ولن تتردد في الوقت نفسه بالانتقال إلى كل ما يعارض الصورة التي بدت عليها، وكل ذلك لمصلحة ابنها من زواج سابق والتمكن من تدريس حفيدها في الجامعة، إنها الخيارات العائلية مجدداً، والانكسار الأخلاقي لأمرأة أمام وصية زوجها التي كان ينوي كتابتها واهباً كل شيء لابنته من زواج سابق كاترينا.

في «إلينا» يعاين زفياغينتسيف مساحة مغايرة عن فيلميه السابقين، الإيقاع أسرع، وله أن يكون مينياً أكثر إن صحت الكلمة، وإن كان مكسيم غوركي قد قال: «تزوج امرأة طيبة وسترى» بالمعنى الإيجابي للكلمة، فهي ومع إلينا ستنتقل إلى مستوى آخر، حيث ستتحول «سترى» إلى شيء من الوعيد. في جعبة الكسندر زفياغينتسيف إلى الآن ثلاثة أفلام، وهي ثلاث خطوات ترسخ لغته السينمائية، وجميعها تلتقي على مسار يفضي إلى الكثير مما يستحق الانتظار والتلقف بلهفة، وافترض أنه وفي جداً لهذا المقطع الذي اقتبسه من انطونيويني لأختم به ملخصاً في الوقت نفسه ما كانت عليه أفلامه الثلاثة «إن القصة أكثر ما يسحرني، والصور هي الوسيط الذي يمكن فهم القصة من خلاله. إن عشق الشكل يعني بالنسبة إلي عشق الجوهر. أنا حساس جداً للمناظر الطبيعية. أحاول دائماً أثناء التصوير أن أعقد رابطة بين الشخصيات والطبيعة المحيطة بها».

الإمارات اليوم في

08/03/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)