حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

شبح انغمار برغمان يُستحضَر الى "متروبوليس":

ذاتٌ ممتلئة بالذكريات يغمرها التمرد والتسوية والقلق

هوفيك حبشيان

عاش انغمار برغمان مثلما صوّر: بعيداً من الأنظار. ومات كما ينبغي للشخصية البرغمانية أن تموت: في عزلة جزيرة نائية في بحر البلطيق، على شاكلة قلوب الشخصيات التي تابع نزولها الى العتمة. وهي شخصيات تختزن هاجس "بقدر ما أقاوم أحيا". سينماه ذات قوة استعلائية معزّية ومحرّرة من المأساة الأخلاقية، يتساكن فيها التمرّد والتسوية. شبح العملاق الأسوجي يُستحضر الى "متروبوليس" بدءاً من هذا المساء (20:00) مع "ساراباند" (2003)، ولمناسة استعادة بعض من أبرز أفلامه، التي يحلّ فيها الغموض كلما نقرنا فيها عمودياً.

على امتداد نصف قرن من الزمن، ترجّح المخرج الأسوجي (1918 ــ 2007) الأبرع والأشهر عالمياً، في حضن فنّين عظيمين: المسرح الذي بات حجّة عيشه الوحيدة مذ وقع في غرامه؛ والسينما التي وهبها 38 فيلماً طويلاً (وايضاً ثلاثة قصيرة و22 للتلفزيون) ينتمي معظمها الى الارث السينمائي وليس فقط ملكاً لأسوج حيث ولد مع انتهاء الحرب العالمية الاولى. هذا الرجل جسّد وحده ثقافة بلاد وتقاليدها وسلوكياتها، وعرف كيف يروي الخوف ولعنة العزلة مع شخوص مضطربة النفس.

في لقاء مع "بوزيتيف"، قال مرة: "مهنتي هي المسرح. أستطيع أن أحيا من دون صنع أفلام، إنما لا يسعني أن أحيا من غير المسرح. أن يكون لديّ في المسرح شيء أقوله أو لا شيء، لا يهمّني ذلك. إني أترجم بالجسد، بالدم، بالأدوات المنظورة، رؤية الآخر. الفيلم كتابة ذاتية، اتصال ذاتيّ بالجمهور. لا يمكنني أن أخلق فيلماً إن لم يكن لديّ ما أقوله".

الوضع الانساني يجسّد العنوان العريض لسينما كان لها تأثير بالغ الاهمية في وجدان معظم السينمائيين، منهم وودي آلن الذي انجز شريطه "دواخل" (1978) تحيّة له ومستوحياً من مناخات المعلّم التي لا يمكن مَن ينسخها الا ان يقع في فخّ مقارنة لا تكون لمصلحته. من النادر لقاء مخرج، سواء في الغرب أو الشرق، لا يضع برغمان في لائحة المبدعين العزيزين على قلبه. كذلك الامر بالنسبة الى النقّاد الذين كرّسوه مراراً، واحداً من أكثر السينمائيين قيمة في القرن العشرين.

دارت سينما برغمان، الذي كان يقول ان حياته عبارة عن "جحيم قابل للتحمّل"، على مواضيع شائكة. حيناً طارد الحبّ والموت، وحيناً آخر تطرّق الى العزلة والقلق والايمان، ودائماً كان همّ اعادة الانسانية الى الانسان يضغط على نصوصه الرصينة. واذا شُبّعت أفلامه بالحزن والألم والبحث المزمن والمرضي عن أجوبة، فذلك لأنه تعامل مع الحياة باعتبارها التراجيديا الكبرى، وليس هناك ما هو أكثر مأسوية من أن نأتي اليها من دون أن يكون لنا حقّ القبول أو الرفض.

 لم تخلُ أفلامه من الثقل العاطفي. وعرف كيف يسلك لغة الصورة طريقاً للدخول الى العقل والاحساس. عرف ايضاً كيف يؤطر شخصيات في عزلتها السقيمة. لا يوجد مَن هو أبرع منه في التقاط الوجوه، مرآة للروح. التعقيد الذي ينم عن التضارب بين الذاتي والموضوعي، استطاع أن يرفعه الى بساطة تدعو أحياناً الى الحيرة. فالمشاهد هنا شاهدٌ على ما يجري أمامه. ينتشله برغمان من وضعية المراقب والمتلصص التي يحشره فيها الكثير من الأفلام. عندما تنظر مونيكا (هارييت أندرسون)، في الفيلم الذي يحمل اسمها، صوبنا، فهناك شيء ما يحدث. هذه الثواني العشرون من التواطؤ، مهما بدت غريبة، اعادت صوغ علاقة كثر من المخرجين بالسينما، لا سيما أولئك الذين انكبّوا في الاخراج في نهاية الخمسينات.  

بعد تجارب عدة في المسرح، لم يقلع عنها حتى تاريخ وفاته، افتتح برغمان حياته السينمائية في منتصف الاربعينات من القرن الفائت. حياة سينمائية صاخبة ومثمرة في الخمسينات والستينات، وصولاً الى الاعتراف وقمّة المجد في السبعينات، وشبه الاعتزال الارادي في الثمانينات، والعودة الاستثنائية الى حلم السينما البهيّ في الالفية الثالثة مع "ساراباند"، عاكساً نظرة سوداوية لواقع الشيخوخة.

فيلم "ابتسامات ليلة صيف" هو الذي جعل صيته يطير الى قارات الدنيا الخمس، غداة عرضه في مهرجان كانّ أواسط الخمسينات. بلغ الانبهار بفنه حدّاً أن "الموجة الجديدة الفرنسية" اعتبرت الشريط نموذجاً ينبغي التمثل به. للجانب التشكيلي والتقني والبصري أهمية كبرى في سينماه، وهو ثمرة تعاون تاريخي ووثيق بينه وبين مدير التصوير سفين نيكفيست. فالكادرات القريبة والضخمة والقوية على وجوه الممثلات الأثيرات لديه، من بيبي اندرسون الى ليف أولمان فأولا جاكوبسون، جعلت منه فناناً متكاملاً يستخدم كاميراه كريشة، أو تشكيلياً يرسم الاجواء الانسانية بألوان غالباً ما تكون دافئة ومتحولة. لا نبالغ اذا قلنا إن أقل لقطة لديه هي هندسة وخطة وموسيقى.

لغته التقطيعية القائمة على الوصلات التوليفية ذات الاظلام التدريجي والفلاشباكات، باتت من الكلاسيكيات. قُلِّدت تكراراً ولم تضاه يوماً الأصل. كذا بالنسبة الى الميل نحو التراجيديا والمعالجة النفسية والطرح الميتافيزيقي. من "الفراولة البريّة" الى "مَشاهد من الحياة الزوجية"، مروراً بـ"بيرسونا" فـ"صيحات وهمسات"، شيّد برغمان كاتدرائية سينمائية لم يهزها إعصار المؤثرات البصرية والصوتية التي انهالت على السينما من خلف الاطلسي، في عصر تغيّر فيه ايقاع الصورة. ظلّ الانسان وأشياؤه الصغيرة اهتمامه الدائم، ولا سيما المرأة التي حمل أوجهها المشعة وصوتها وحضورها المحبب من فيلم الى آخر، حدّ انه صار يُعرَف بـ"مخرج النساء"، من دون ان يكون ذكورياً في طرحه.

أوديبيّ النزعة وسيد حرفة وصنعة وكمال رهيب يبلغ حد تقديس ساعات العمل. صاغ برغمان سينماه في طيف طفولته المعذبة والمعقدة التي رافقته طوال حياته، وانعكست على مجمل أفلامه، لناحية الازمة الوجودية التي تتصاعد وتيرتها وتتخبّط فيها شخصيّاته من دون أن تعثر على مَخرج. بيد ان الكلمة دوماً ذات أولوية وغالباً ما تومئ إلى الغياب. عمله السينمائي بأكمله هو محاولة للتحرر من سطوة تربية صارمة، امضى عمره وهو يحاول التحرّر منها، وهذا ما تبدّى جلياً في فيلمه "فاني والكسندر" (1982). الحادثة عند برغمان تفضي الى سجال ميتافيزيقي. الهزيمة ليست هزيمة عادية، بل فَقدٌ للحق في الحياة، والاذلال يساوي العدم.  

على مدار نصف قرن اختزل برغمان تطوّر العالم، فرصده اجتماعياً وبسيكولوجياً، وخصوصاً سينمائياً، منذ سكوت مدافع الحرب العالمية الثانية، ومرافقة تطور التقنيات المتلازم مع الحركات الفكرية. كل شيء تحرّك مع سينماه، وحولها، وبها أحيانا، من ضغوط الاستوديوات الى السيطرة الفنية الكاملة، ومن الأسود والأبيض إلى الألوان، ومن الحداثة المعلنة إلى الاختمار الجريء، ومن السينما إلى الفيديو، ومن التمرّد إلى الحنين، ومن الموقف إلى أزمة الوعي.

مات في التاسعة والثمانين وعادل في السينما ما يعادله كانط في الفلسفة، واينشتاين في العلوم، وايبسن في المسرح، وبيكاسو في الفن التشكيلي، وفرويد في علم النفس. برغم "سعفة السعفات" التي منحها أياه كانّ عام 1995 من دون ان يسافر لتسلّمها، هيمن برغمان على سينما هامشية، قليلة الانتشار. في بلاده، حورب بمسوّغ انه يظهرها مأوى للمختلّين عقلياً والمرضى النفسيين، ما يفسّر عدم الاستجابة التي تعرضت لها أفلامه هناك، وما يفسّر ايضاً عدم التواصل القائم بينه وبين محيطه. لكن غداة موته، نُكست الاعلام تحيّة أخيرة له.

انعدام التواصل بين البشر عاشه من قرب، فظهر ذلك على جسده آلاماً وندوباً. عبّر عن الألم الروحي من خلال الجسد. لم يرَ إلى الإنسان قلباً معذباً، بل قالباً يحمله مثل ركام على ظهره، وشكّل هذا ذروة هواجسه وانشغالاته. يحيا الإنسان، الذي لا يكتفي أن يبقى في الظرف المعطى له، في وجودٍ لم يُعدّ له بيولوجياً. هكذا رأى برغمان مأساتنا. ثم أن الطهرانية التي تربّى وفقها، عنصرٌ من العناصر التي شحنت سينماه اخلاقياً (ليس بالمعنى الكلاسيكي للكلمة) ومنحتها منظومة قيم. تأهيله المتشدد أخذه إلى وسواس الزواج والإنجاب ولم يفضِ، خلافاً للمتوقع، إلى الرفض والتخلّي. تناول الحقائق ذات الشأن الكبير، انطلاقاً من تجاربه الشخصية وذاته الممتلئة بالذكريات، ومن رؤيته وخيباته التي تذلّه، تصيبه باليأس، تغمره بالقلق وتردّه إلى تشاؤمه.

للاطلاع على جدول العروض، ندعوكم الى زيارة الموقع الآتي: www.metropoliscinema.net

(*) "نور الشتاء: استعادة أفلام انغمار برغمان" من 2 الى 12 شباط 2012 في سينما "متروبوليس" (أمبير ـــ صوفيل).

"كليرمون فيران" يتحدى الأزمة رافعاً شعار "لنعمل أكثر ونربح أقل"

"النهار" ـــ كليرمون فيران

دورة جديدة من مهرجان كليرمون فيران بدأت الجمعة الفائت في وسط فرنسا. منذ 30 عاماً يُعقد هذا الموعد السنوي مع الفيلم القصير. الجمهور لا يزال يحضر بكثافة. اختيارات المنظمين الفذة، تشكل حافزاً للناس كي يتنقلوا من مدن بعيدة، الى هذه البقعة الجغرافية التي تُعتبر أرضاً عمالية.

هذه مدينة احتضنت كباراً عبر التاريخ: ولد فيها بليز باسكال، لوي باستور تبناها مسكناً، ميشال فوكو درّس في إحدى جامعاتها. في كليرمون، المقر الرئيسي لعملاق الاطارات "ميشلان". 31 ألف عامل داخل هذه الشركة الرائدة، في فرنسا وحدها. لعائلة ميشلان 19 فرعاً حول العالم. يرجح سكان المنطقة أن الصبغة اليسارية التي طبعت المدينة آتية من هذا الواقع العمالي، وهذه الصبغة انتقلت عبر السنوات الى تظاهرة ثقافية تستقطب بضعة الاف من مهنيي السينما. كثر يعتبرونها بأهمية مهرجان كانّ، لكن للفيلم القصير.

الجمهور ثاني أهم شيء في هذا الموعد بعد تشكيلة الأفلام المعروضة. مهما انخفضت درجات الحرارة، فهؤلاء مستعدون للخروج من منازلهم وملء الصالات. في اليومين الأخيرين، لم تحل العاصفة الثلجية دون ازدحام الصالات، وخصوصاً الصالة الكبرى التي تحمل اسم كوكتو. الفضول هو الذي يلهم غرائز المشاهدين. كباراً وصغاراً، المعرفة والاطلاع من سماتهم. شيء آخر يتميز به المهرجان: انه ساحة للمواقف السياسية الحادة، والنافرة أحياناً. ثمة كشك عند مدخل "بيت الثقافة"، (مقر المهرجان الأساسي) يوزع على الرواد يومية "لومانيتيه" الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي. في الدورات الماضية، أصوات كثيرة ضد اسرائيل ومجازرها في حقّ الفلسطييين تعالت على خشبة المسرح. دعوات الى مقاطعة بضائعها أيضاً، وتوزيع مناشير لهذا الهدف.

هذه السنة، كان عنوان النضال قضية خفض التصنيف الائتماني لفرنسا على يد وكالة "ستاندارد أند بوز". الانتخاب الرئاسي على الأبواب، وكل الوسائل مبررة لقطع الطريق على ساركوزي (المسؤول الأول عن هذا الخفض، هو وطبقته السياسية)، كي لا يعود نزيلاً لقصر الاليزيه. رجالاً ونساء حملوا لافتات ساخرة غداة الافتتاح، وشكّلوا صفاً متراصاً على مدخل "كوكتو"، للفت الضيوف الى المستوى الذي وصلت اليه فرنسا في عهد "ساركو" وأزلامه.  

مسألة أخرى برزت هذه السنة: الأزمة المالية التي بدأ المهرجان يعاني منها. نحو 100 ألف أورو اقتُطعت من الموازنة، والحبل سيبقى يلفّ عنق المهرجان، ليشتد مع اشتداد الأزمة، وربما، مبالغ أكبر تُقتطع في الدورات المقبلة. نتيجة هذا، نرى مثلاً ان النشرة اليومية، المتقنة الصنع وذات التكلفة البالغة 11 ألف أورو، لم تعد تصدر. حصة منتصف الليل المخصصة لأفلام علم الخيال سقطت ضحية التقشف. كومبيوترات الـ"ماكينتوش" في المكتب الصحافي استُبدلت بكومبيوترات ذات تكلفة أقل. أيضاً: تراجع عدد الضيوف، وتوقف عددهم على 3000، وألغيت السهرة التي تلي حفل الختام. رئيس المهرجان، جان كلود سوريل، لم يخفِ أياً من هذه الأشياء، وهو أعلن بالحرف الواحد خلال حفل الافتتاح: نحن في أزمة. وفي الكاتالوغ كتب ساخراً: لنعمل أكثر ونربح أقل، في غمزة واضحة الى عبارة ساركوزي في حملته الانتخابية الماضية "ينبغي أن نعمل أكثر لنربح أكثر".

مع هذا، يبدو ان الأزمة العالمية لم يكن لها أيّ تأثير ملموس على عدد الأفلام ومستواها. فالدورة الحالية التي تنتهي السبت تنطوي على 400 فيلم، بينها 75 من 59 بلداً تُعرض ضمن المسابقة الرسمية لنيل جائزة الـ"فيرسانغيتوريكس" (3500 أورو. لبنان غائبٌ هذه السنة عن المهرجان، على رغم ان 23 فيلماً ارسلت الى الادارة. شأنه شأن البلدان العربية الاخرى المشغولة بربيع لا ينتهي، لم يتجاوز الثلاثة عدد الأفلام التي استقرت في المسابقة. في المقابل، المشهد العام يبدو ايجابياً: سينمائيون أوروبيون كثر يقفزون فوق أسوار التقليد والاستهلاك. الواضح ان هذه الفورما (18 دقيقة هي معدل طول الأفلام) خزّان للأفكار والتحديات البصرية والنوعية. من التحريك الايروسي الى سلسلة أفلام عن الحشرات والذباب (نعم!)، هناك رغبة عند القائمين على هذه الغرائبيات اللذيذة في توجيه البوصلة الى مناطق غير مظنونة، مذكّرين ايانا بأن السينما ولدت قصيرة. 

فيلمان أوسكاريان في الصالات المحلية

منذ أيام يُعرض في بيروت فيلمان يستحقان المشاهدة: "الأحفاد" لألكسندر باين و"حصان حرب" لستيفن سبيلبرغ. ما يجمع هذين العملين هو أن اكاديمية فنون السينما والعلوم رشّحتهما الى مجموعة جوائز "أوسكار" في اقسام مختلفة: خمسة ترشيحات لفيلم باين وستة لسبيلبرغ، من بينها أفضل فيلم.

المخرج الكسندر باين يحاول النظر في حالات القلق التي تصيب كائناً في منتصف العمر (جورج كلوني). يرينا المقلب الآخر للحلم الأميركي. هناك اسلوب بديع دائماً، قدرة على التقاط اللحظة، ومقاربة "مختلفة" للمصائر، بعيداً من اللغة التلقينية. من هذا كله تولد طرافة موجعة، اذا ان باين معلّم في كيفية ابتكار شخصية البطل المضاد، تلك الشخصية التي تعرف كيف تستعيد المُشاهد الى معسكرها، من دون أن تثير العواطف.

من جانبه، يواصل سبيلبرغ في "حصان حرب" سينما ترفيهية مصنوعة بإمكانات كبيرة ورؤية سينمائية كانت شكلت دائماً مصدر الهام عند مخرج "لائحة شندلر". هذه قصة صداقة استثنائية بين شاب وحصانه يستقي منها عناصر الميلودراما الغارقة في نوتات جون وليامز التفخيمية. يحمل الشريط ملامح من زمن آخر، نشعر معها بأننا في صفاء اربعينات القرن الماضي. يحاول سبيلبرغ العبث بسينما الوسترن على طريقة جون فورد، لكنه لا يتمتع بكل المقومات السوسيولوجية والسياسية للعملاق الأميركي. يستلهم من النظرة الطفولية لينسج فيلماً على طريقة "أمبرطورية الشمس"، معيداً الاعتبار الى العائلة والأم (مدهشٌ مشهد حضن الأم الذي يتحول عبر المونتاج التدريجي تراباً قابلاً للزرع). نحن أمام فيلم عاقل، بعيد من سينيكية المخرج اليهودي، نصير حرية، يعلن تعبه من المحاربة على جبهات عدة، وقد يشرّع الطريق أمام سبيلبرغ لاحتمالات أخرى...

فضيحة موت تيو: تراجيديا اغريقية

هـ. ح.

أسوأ من الموت أحياناً: الظروف المرتبطة بالموت. أكبر من الخسارة: الفضيحة التي خلف الخسارة. هكذا، وفي غفلة من أحبائه السينيفيليين، رحل تيو أنغلوبولوس الثلثاء الماضي. هذا الخبر صار قديما بعض الشيء، في عالم يبحث عما يثيرنا في كلّ لحظة. الجديد اذاً ان الموت تحول قضية. كأن الغياب وحده لا يكفي لصناعة التراجيديات.

رحل تيو تاركاً خلفه قلقاً وتساؤلات. في الصحافة والمقاهي ايضاً. ينبغي الا ننسى أن "السيناريو" نموذجيّ لافتعال النظريات. أولاها المؤامرة: سينمائي ينجز فيلماً عن الأزمة الاقتصادية (بموازنة ضئيلة من وحي الأزمة) التي تأخذ بلاده الى الهاوية، تصطدم به دراجة نارية تابعة للشرطة قرب المكان الذي يصوّر فيه جديده "البحر الآخر". ثم: سيارة الطوارئ تماطل في المجيء. بالأحرى تتعرض للعطل، ما يستدعي ارسال سيارة ثانية لن تصل هي الاخرى الى موقع ("الجريمة") التصوير. في خاتمة المطاف، تلك التي تسعف تيو سيارة ثالثة، استغرق وصولها بين 35 و40 دقيقة، كان المخرج قد فارق الحياة أثناءها. هل كان يُمكن انقاذ تيو، لو لم يبلغ الاهمال هذا الحدّ؟ هنا السؤال الذي يجرح. الأفضل عدم طرحه ربما، واستبعاده من المخيلة المنكوبة.

هل اقترب تيو الى الحقيقة، كما اقترب سلفه ايكار من الشمس، فذابت أجنحته؟ أم أن لعبة الأقدار هي التي أمسكت بتلابيببه، فحذا حذو أحد أبطاله الذي يطعن فيه الزمن الغدّار؟ ما نعرف عنه، على امتداد الأفلام التي قدّمها لنا، ان أجنحته ليست من شمع، بل من فولاذ ورغبة وأحلام، وإنه لم يكن يوماً المخرج الاتهامي ذا الميل الى الفضيحة والتصعيد. سينماه ليست اخبارية ولا تتناقل معلومات. ولم تشكل يوماً خطراً على نظام حاكم في آنيته. انها مشروع غير نافذ الا على مدى طويل. فهل من الجائز ان يكون هناك رؤيويٌّ ما كان يريد له الشرّ؟ لمَ لا، والفساد يضرب أطنابه في اليونان، ولم تقصّر الشرطة اليونانية في فبركة اتهامات للزجّ ببعض المتظاهرين الغاضبين في السجون. دعونا نحلم قليلاً بموت تراجيدي يمنح تيو الرومنطيقية التي ضخها في قلوبنا. موت يليق بالعظماء.

هذا الرحيل المفاجئ أفصح عن أشياء أخرى. ما كان معروفاً وما كان يُسكت عنه: قلة احترام اليونانيين لإشارات السير. انعدام السلامة العامة على الطرق، الذي جعل اليونان تحطم الرقم القياسي في أوروبا بالنسبة الى عدد ضحايا حوادث السير. هذا كله كان يحتاج لضحية ليناقش من جديد. وليس أيّضحية. وما المانع، طالما أن المسألة لا تكلّف للسلطة الا جملة واحدة: "كان فنانأً لا يُمكن استبداله".

اذا كانت السينما متخلفة في بعض اجزاء هذا العالم، فهي سابقة لزمنها عند آخرين. تيو، الذي شكلّ ضمير الاغريق ووجدانهم الحيّ، هو من الذين تعدّوا على الزمن ورحلوا من دون أن يقولوا كلمتهم الأخيرة، تاركين هذه المهام لواقع اخرق لم يعد يحصنهم. سلّموه أنفسهم كي تزيد حجتهم تماسكاً وصدقية. كي تتأكد نبوءتهم ربما. المهانة التي سترتبط بموته، لا تقول الا شيئاً واحداً، سبق أن أعلنه في أكثر من فيلم: الحضارات العظيمة ليست أبدية.

النهار اللبنانية في

02/02/2012

 

إنغمار برغمان في استعادة من 13 فيلماً

رحلــة داخــل الــذات

نديم جرجورة 

إنها الاستعادة العاشرة. جمعية «متروبوليس» مثابرة على تقديم حيّز كبير لنتاجات سينمائية باتت «كلاسيكيات» العصر الذهبي لروائع الفن السابع، أو لبعض روائعه على الأقلّ. هذه المرّة اختارت السويدي إنغمار برغمان. اختارت ثلاثة عشر فيلماً من نتاجه الممتد على سنين طويلة. تعاونت، للمرّة الأولى، مع السفارة السويدية في سوريا و«المعهد السويدي»، لتوجيه تحية للسينمائي الذي صنع شيئاً من عظمة الصورة المتحرّكة. بين الثاني والثاني عشر من شباط 2012، تُعرض الأفلام هذه، بإضافة فيلم وثائقي بعنوان «فارو» أو «جزيرة برغمان» لماري نيريرود (السادسة مساء غد الجمعة).

شغف السينمائيّ

الافتتاح معقود على الفيلم التلفزيوني الأخير الذي حقّقه قبل أربعة أعوام على رحيله. افتتاح يليق بالتعبير الأخير للمخرج الكبير، الذي جعل الصورة السينمائية انعكاساً للوجع الذاتيّ الناتج من مأزق وجوديّ، أو خيبة حياتية. افتتاح أشبه بدعوة «مريحة» للبدء برحلة جديدة مع أحد كبار القرن العشرين السينمائي. أحد السينمائيين الشغوفين بالجرح الإنساني. بالتمزّق الروحي. ببؤس الحكايات. شغف سينمائي بالدرجة الأولى. بالدرجة الأساسية. الصورة عنده مفتاح عالم انفعاليّ بامتياز. أي ذاك العالم الخاصّ بالمشاعر الصانعة إنساناً، والمحطِّمة إياه في آن واحد. اختيار تعبير «مريحة» لوصف مفردة الدعوة، نابعٌ من كون البرنامج المختار للاحتفاء البيروتيّ بالسينمائيّ السويدي مليء بروائع مستلّة من نتاج زاخر بالصوَر الجميلة، وبالحكايات المأسوية. ذلك أن فيلم الافتتاح، الذي استعاد قصّة الحبّ والزواج بين رجل وامرأة، بعد مرور ثلاثين عاماً على «لقائهما» السينمائي الأول، يبقى أحد أبسط أفلامه. البساطة تعني أن القصّة، المرتكزة على صدام دائم بين أب وابنه/ أب وابنته، منسوجة بشفافية قادرة على جعل الاشتغال البصري مرتكز على سلاسة السرد والحبكة، وإن كانت الحبكة هذه ناشئة من تعمّق إنساني بالجرح الفرديّ. الصدام حاصلٌ بين أجيال متناقضة، ومتفجّر من قوّة اللقاء المؤجّل ثلاثين عاماً، والمفتوح على أبواب الماضي وشقاء الراهن.

الفيلم المقصود عنوانه «ساراباند» (التفسير العربي لكلمة Saraband يحمل معنيين: السّربندة، أي رقصة من رقصات القرنين السابع عشر والثامن عشر. أو موسيقى السّربندة)، الذي حقّقه إنغمار برغمان للتلفزيون في العام 2003. الاستعادة متمثّلة بلقاء الزوجين، بعد ثلاثين عاماً على انفصالهما عن بعضهما البعض: مريان (ليف أولمان) ويوهان (إيرلاند يوزفسن). هذان الزوجان (الممثلان مفضّلان لدى المخرج: الأولى عملت بإدارته في تسعة أفلام طويلة، وكانت رفيقة عمر له. الثاني مثّل في خمسة عشر فيلماً، آخرها «فاني وألكسندر» في العام 1982، الفيلم السينمائي الأخير لبرغمان) ظهرا للمرّة الأولى في «مشاهد من الحياة الزوجية» (1973). الفيلم هذا أُعيد توليفه بهدف العرض التلفزيوني في ست حلقات (مدّة الحلقة الواحدة 49 دقيقة): تفاصيل الحياة الزوجية للثنائي مريان ويوهان، في ستة فصول ممتدّة على مدى عشرين عاماً. هذا يعني توغّلاً وتشريحاً سينمائيين لتفاصيل وصدامات وحكايات. في «ساراباند»، قدّم اللقاء المقبل من ثلاثين عاماً من الانفصال صورة إضافية عن قسوة الحياة. عن قسوة الأب. عن سلطة الأب أيضاً. عن غياب الأم وحضورها الملتبس. عن غياب المرأة وحضورها الملتبس أيضاً. التمزّق مستمرّ. الأب منفضّ عن ابنه. الابن متمسّك بقوّة وعنف بابنته، خصوصاً بعد رحيل امرأته إثر إصابتها بمرض سرطانيّ. ذكرى المرأة المتوفاة طاغية على وجدان الزوج/ الأب. طاغية في سلوكه وانفعاله ورؤيته الأشياء وبنية علاقاته بأبيه وابنته. أرادت مريان زيارة يوهان. انفتحت أمامها أبواب الجحيم. الصُوَر الفوتوغرافية مفتاح العودة. مفتاح الذكريات. مفتاح الراهن أيضاً.

قسوة

القسوة المتحكّمة بالعلاقة الثنائية بين أب وابنه واضحة المعالم والتفاصيل في «الفراولة البرّية». موجودة أيضاً في «برسونا»، لكنها متحكّمة بأنماط عدّة من العلاقات، أبرزها تلك القائمة بين ممثّلة تُدعى إليزابيت فوغلر (ليف أولمان) رضخت لصمت مطبق، وممرّضة اسمها ألما (بيبي أندرسن) روت لها تفاصيل حياتية ذاتية خاصّة بها، في لعبة خطرة من تأجيج الانفعالات والتلاعب النفسي والتخبّط الروحي. في «الفراولة البرّية»، هناك نوع آخر من العودة: العودة إلى الذكريات القديمة. أو بالأحرى: استعادة الذكريات القديمة. الوقوف عند الخطّ الواهي بين الراهن والفائت شكّل منعطفاً في إعادة صوغ المشاهد الماضية أمام عينيّ عجوز بات على بُعد خطوات من الموت. الموت رفيق المقاتل الصليبيّ العائد إلى بلده السويد، في «الختم السابع». إنه أحد أبرز ملامح الخلفية الدرامية لـ«برسونا». الرباط القائم بين الممثلة والممرضة مفتوح على خيبة الحياة وانهيار ذكرياتها أمام عينيّ الآنيّ. لكن لعبة «برسونا» مفتوحة على التداخل الحادّ والمعقّد بين الشخصيتين النسائيتين: هل هما امرأة واحدة؟ هل التفاصيل الخاصّة بالممرضة، هي نفسها التي صنعت تاريخ الممثلة؟ هل هناك فاصل بينهما؟ أو تشابه؟ «الختم السابع» منذورٌ لمتاهة اللحظة والذات. لفوضى العودة من جحيم الحرب وقدسيتها، إلى واقع الشقاء وخرابه.

الاختيار المُقدَّم في «ضوء الشتاء»، العنوان الممنوح للاستعادة السينمائية الخاصّة بإنغمار برغمان، وفّق بين عناوين يُمكن اعتبارها أجزاء أساسية من الفضاء الدرامي والإنساني والفكري والوجودي، الذي كتبه برغمان بالصوَر. ثلاثة عشر فيلماً متنوّعاً، شكلاً ومعالجة واشتغالات شتّى، ومتشابهاً في كون العناوين الأساسية واحدة: القسوة. الخيبة. الخراب. الانفصام. الهوس... إلخ. «ضوء الشتاء»، عنوان لائق بشتاء بيروتيّ مزمن، محتاج إلى فسحة نور كتلك المُقدَّمة في «متروبوليس».

البرنــامج

تُعرض الأفلام كلّها باللغة السويدية المرُفقة بترجمة إلى الإنكليزية، الثامنة مساء، بإضافة حفلة واحدة السادسة مساء أيام الجمعة والسبت والأحد، وفقاً لما يلي:

اليوم الخميس: «سارباند» (2003، 107 دقائق) الثامنة مساء. غداً الجمعة: «جزيرة برغمان» (2006، 84 دقيقة) السادسة مساء، يليه «صيف مع مونيكا» (1953، 97 دقيقة) الثامنة مساء. بعد غد السبت: «النشارة والمُبَهرج» (1953، 97 دقيقة) السادسة مساء، يليه «أحلام» (1955، 87 دقيقة) الثامنة مساء. الأحد 5/ 2: «الفراولة البرّية» (1957، 90 دقيقة) السادسة مساء، يليه «الختم السابع» (1957، 96 دقيقة) الثامنة مساء. الاثنين 6/ 2: «الصمت» (1963، 95 دقيقة). الثلاثاء 7/ 2: «برسونا» (1966، 80 دقيقة). الأربعاء 8/ 2: «صرخات وهمسات» (1973، 91 دقيقة). الخميس 9/ 2: «الناي السحري» (1975، 135 دقيقة). الجمعة 10/ 2: «سوناتا الخريف». السبت 11/ 2: «فاني وألكسندر» (1982، 188 دقيقة). الأحد 12/ 2: «بعد التمرين» (1984، 72 دقيقة).

كلاكيت

كوارث الترجمة

نديم جرجورة

يُعاني النتاج البصريّ الغربيّ، التلفزيوني والسينمائي، معضلة الترجمة إلى اللغة العربية. يُعاني بؤس الترجمة هذه، للاستسهال الفظيع في التعاطي مع الترجمة بحدّ ذاتها، كما مع النتاج نفسه. الكتابة المتعلّقة بالمعضلة تكرّرت مراراً. لكن العاملين في الترجمة منفضّون عن قراءة التعليقات، الهادفة إلى إبداء ملاحظات تطال جوهر المسألة. منفضّون عن قراءة التعليقات، كانفضاضهم عن تحمّل أدنى مسؤولية، ثقافية وفنية وأخلاقية، إزاء المهنة. الترجمة مهنة. إنها فنّ أيضاً. فيها من الإبداع ما يوازي المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، لأنها أداة تواصل بين لغتين. أي بين ثقافتين وحضارتين وإبداعين. منفضّون عن الأخذ بالملاحظات المكتوبة هنا وهناك، لأنهم منفضّون عن ممارسة المهنة بمفردات الفن.

أميل إلى وصف الحالة هذه بـ«الفعل المُشين». الكلمة فادحة. لكنها تعبيرٌ واقعي عن الحالة. هناك مؤسّسات معنية بترجمة حوارات أفلام سينمائية ومسلسلات وبرامج تلفزيونية، تقع في المحظور مراراً. أي أنها تُخطئ ولا تُبالي. تعمل في الترجمة باستسهال وتسرّع. تخضع لرقابة ذاتية، كخضوعها للرقابات المتداولة في المجتمعات العربية. أي أنها «تُترجم» كلمات أجنبية بمفردات مغايرة تماماً للمعنى: إما جهلاً، وإما تفادياً لسطوة الرقابات السلطوية العربية. فإذا بالله يُصبح القدر، والكاهن رجل الدين، والبيرة كأساً من شراب الشعير، مثلاً. ناهيك بالأخطاء اللغوية وعدم اتقان اللغات الأجنبية. الترجمات المعتَمَدة محتاجة إلى صقل لغوي، لا يستعيد قواعد اللغة العربية الصارمة، لكنه لا يُشوِّه أبسط مفرداتها وأسهلها على الإطلاق. محتاجةٌ إلى خبراء متمكّنين من اللغة الأجنبية، وقادرين على صوغ النص العربي المترجم من دون أخطاء في الصرف والنحو، ومن دون تحايل على الكلمات والتعابير الأجنبية.

إزاء وضع كهذا، يُصبح الصمت دليل لامبالاة وتغاض عن كَمّ هائل من الأخطاء غير المقبولة، في بلد تُتقن الغالبية الساحقة من أبنائه لغة أجنبية واحدة على الأقلّ (وإن لم يكن الإتقان كاملاً، في حالات كثيرة). أما التعليق النقدي على المسألة فيذهب، غالباً، أدراج الرياح. المؤسّسات المعنية بالترجمة غير مبالية. العاملون فيها لا يأبهون بأية ملاحظة أو تنبيه. يظنّون أن اشتغالهم لا يُمَسّ. أن ما يُقدِّموه للمُشاهدين أفضل الممكن. المحطّات التلفزيونية وشركات التوزيع السينمائي غير مبالية أيضاً. اللامبالاة ناتجة من جهل بأصول الترجمة واللغات. من عدم انتباه إلى أهمية الترجمة. ناتجة من عدم متابعة. من استسهال الأمور. وإلاّ، ماذا يعني استمرار الأخطاء الجمّة في «تزيين» الشاشتين الكبيرة والصغيرة، في عدد لا بأس به من الأعمال الفنية؟

أخطاء الترجمة عديدة. لكن يُمكن اختزالها بواحد أساسيّ: ضرب اللغة العربية، قواعد وتعابير. يُفترض بالترجمة أن تكون أمينة، لغة ومضموناً. يُفترض بها أن تحترم النصّ، مهما كان مستواه الإبداعي. الأخطاء مُسيئة إلى النصّ الأصلي. إلى العمل الفني. إلى الترجمة. إلى اللغة العربية. إلى المُشاهدين. مُسيئة إلى العاملين في الترجمة أولاً وأساساً. لكن، هل يأبه هؤلاء؟

السفير اللبنانية في

02/02/2012

 

«السمكريّ، الخيّاط، الجندي، الجاسوس» لألفردسن

هنـاك خُلـد داخـل الجهـاز

نديم جرجورة 

شكّلت رواياته إلهاماً لا ينضب لسينمائيين شغوفين بالنوع التشويقيّ الذي وسم نتاجاته الأدبية. شكّلت وظيفته في جهاز الاستخبارات الخارجية «أم. إي. 6» في بلده الأم بريطانيا مادة خصبة لنتاج روائي، تميّز بتركيز (مفرط أحياناً) على الفعل الاستخباراتي البحت، بعيداً عن نتاج ابن بلده إيان فلمينغ (1908 ـ 1964)، مبتكر شخصية جيمس بوند، المائلة غالباً بمغامراتها إلى نَفَس هوليوودي واضح، مُطعَّم بثنائية الجنس والمطاردات الخارجة عن كل مألوف. بعيداً عن الفرنسي جيرار دو فيلييه (مواليد باريس، 1929) أيضاً، المهووس بالنساء والكحول، والمشهور بخفّة الكتابة في تناول مواضيع أمنية واستخباراتية وسياسية واجتماعية دولية متفرّقة.

اقتباسات متفرّقة

إنه البريطاني جون لو كاري، الاسم الأدبي المستعار لديفيد جون موور كرونويل، (مواليد 19 تشرين الأول 1931، في «بوول» في المملكة المتحدّة). الكاتب المستفيد من وظيفته الاستخباراتية في خمسينيات القرن العشرين وستينياته (إحدى المراحل الساخنة للحرب الباردة)، ذهب إلى حرفية المهنة المفتوحة على السياسة والاقتصاد والعلاقات الإنسانية. روايته الثالثة «الجاسوس القادم من البرد» (1963) وُضِعت إثر صدورها في لائحة «بست سيلرز» على المستوى الدولي، وباتت أكثر رواياته شهرة. منذ العام 1961 اختار اسماً مستعاراً من أجل «الأدب البوليسي»، أو «الأدب الاستخباراتي»، مُصدراً روايته الأولى «نداء الموت». عرفته السينما بعد ثمانية أعوام، عندما أنجز فرانك بيرسن «مرآة الحرب» (1969)، روايته الصادرة في العام 1965. بهذا المعنى، فتح بيرسن باب السينما على مصراعيه أمام رواياته، فتلاحقت الاقتباسات السينمائية، وصولاً إلى العام الفائت، الذي شهد اقتباساً ثامناً لرواية ثامنة كتبها في العام 1974 بعنوان «السمكريّ، الخيّاط، الجنديّ، الجاسوس»، قام به المخرج السويدي توماس ألفردسن (نال غاري أولدمان ترشيحاً لجائزة «أوسكار» في فئة أفضل ممثل، عن دوره فيه، التي تُعلن «أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية» النتائج النهائية لدورتها الرابعة والثمانين في السادس والعشرين من شباط المقبل). ثماني روايات منقولة إلى السينما بأساليب مختلفة، آخرها (قبل جديد ألفردسن) فيلما «خيّاط باناما» (2001) لجون بوورمان (تمثيل بيرس بروسنان وجيوفري راش وجيمي لي كورتيس) و«البستانيّ الوفيّ» (2005) لفرناندو ميريلّيس (تمثيل رالف فينيس وراشيل وايز).

ليس العمل الاستخباراتي متفرّداً لوحده في معظم الأفلام المقتبسة من روايات جون لو كاري. رواياته معجونة بالسياسة. الأمن والسياسة متلاحمان في الواقع. متلاحمان في رواياته أيضاً. أحياناً، تبرز السياسة بشكل أوضح. أحياناً أخرى، يطغى العمل الاستخباراتي البحت. «خيّاط باناما» و«البستانيّ الوفيّ» مثلاً، نموذجان للنوع الأول. فيلم ألفردسن مائلٌ أكثر إلى النمط الثاني: الاستخبارات البريطانية مختَرَقة. هناك «خُلد». أي جاسوس «على» الاستخبارات البريطانية من داخلها. أي أن هناك عميلاً خائناً. السياسة هنا داخلية، إذا صحّ الوصف: هناك صراعات سياسية داخل وزارة الداخلية وجهاز الاستخبارات. السياسة بمعناها الآخر: مشاريع ومصالح محدّدة متحكّمة بقياديين كبار في الوزارة والجهاز. هذا يستدعي صراعاً قوياً بين القياديين.

إضافة نوعية

بعيداً عن الترجمة المُعتَمدة في النسخ السينمائية المعروضة في لبنان والدول العربية، التي حافظت على كلمات العنوان كما هي أثناء ورودها في سياق الأحداث (كل مفردة تمثّل شخصية أساسية في إدارة جهاز الاستخبارات) يُمكن القول إن «السمكريّ، الخيّاط، الجندي، الجاسوس» (هذه ترجمة حرفية للعنوان) إضافة نوعية للائحة الاقتباسات السينمائية لروايات جون لو كاري: الأداء اللافت للانتباه لغاري أولدمان في شخصية جورج سمايلي (بنى أولدمان دوره هذا انطلاقاً من جملة واردة في الرواية: «جورج يُشبه قطاراً سريعاً. يُخفِض حرارته إلى الدرجة المماثلة لحرارة الغرفة المقيم فيها. فيما بعد، لا يفقد حرارة (حيوية) التكيّف») توازن والمناخ الرماديّ القاتم المسيطر على فضاء الحبكة، كما على المدن الشاهدة أحداث النصّ. المناخ الرماديّ هذا ناتجٌ من قدرة التصوير والإضاءة (هويتي فون هويتيما، مدير التصوير الذي عمل مع ألفردسن في فيلمه السابق «مورس» في العام 2008) على منح الصورة معانيها النفسية والروحية المسيطرة على العملاء ودسائسهم وتفاصيل عيشهم على الحدّ الخطر للموت والحياة. التداخل بين الماضي والحاضر نتاج مهارة التوليف (دينو يونساتر) في صوغ السياق المتكامل للحبكة وأحداثها المعقّدة والمتداخلة بعضها ببعض.

الشكّ نواة أساسية للحبكة الدرامية. إنه جوهر العلاقات القائمة بين العاملين في أجهزة أمنية واستخباراتية. بين السياسيين أيضاً. الشكّ بالجميع وبالأشياء كلّها. على الرغم من هذا، لا يكتفي «السمكريّ، الخيّاط، الجندي، الجاسوس» بالشكّ هذا كبنية درامية للحكاية، لأن الحكاية معقودة على عالم (العمل الاستخباراتي) جوهره الشكّ أصلاً. البداية منطلقة من فشل ذريع لعملية استخباراتية في بودابست، «قُتل» أثناءها العميل جيم بريدو (مارك سترونغ)، ما أدّى إلى إقالة المدير كونترول (جون هارت) ومساعده الأول سمايلي (أولدمان). غير أن تداعيات العملية لم تقف عند الحدّ هذا. معلومات أفادت أن «خُلداً» موجودٌ داخل الجهاز، وأن شبكة رديفة تعمل بمعرفة وزير الداخلية، وبإدارة مسؤولين في الجهاز نفسه. هذا دافعٌ لاستدعاء سمايلي مجدّداً إلى العمل: كونه بات خارج المؤسّسة الأمنية/ الاستخباراتية، أي خارج اللعبة، فإن أحداً لن ينتبه إلى التحقيق الداخلي المُكلَّف به سمايلي لكشف الخفايا، ولفضح الأسماء المتورّطة بأعمال مضادة للجهاز.

يعرض الفيلم، بدءاً من بعد ظهر اليوم، في صالات «غراند أ ب ث« (الأشرفية) و«غراند كونكورد» (فردان) و«غراند لاس ساليناس» (أنفة) و«غراند صيدا» و«أبراج» (فرن الشباك).

السفير اللبنانية في

02/02/2012

 

«ترانزيت»:

قصة لاجئين يصنعون الأمل من الألم

جنان جمعاوي 

ثمة 43 مليون شخص يهربون اليوم من مكان إلى مكان في هذه الأرض الواسعة. يهربون سواء من الحرب أو من التصفية السياسية أو القمع السياسي أو النزاعات العرقية. صغاراً كانوا أم كبارا، هم يشبهون بعضهم. جميعهم يذهبون في رحلة محفوفة بالرعب والقتل.. بحثاً عن ملاذ آمن.

بعضهم ينتهون في مخيمات كبيرة، البعض الآخر يجدون ملاذهم ولو في مدن الصفيح، أو في مبان قديمة مهجورة.

عراقيون في سوريا. صوماليون في اليمن. سودانيون في تشاد. غجر في صربيا.. الحكايات واحدة، السبب واحد وهو الحرب، والنتيجة واحدة وهي اللجوء.

لأجل هؤلاء كرّس المصور اسبن راسموسن، الذي يقيم في أوسلو، سبع سنوات من حياته، يسجّل ويصوّر تحركات اللاجئين حول العالم، ليصنع من حكاياتهم «مشروع ترانزيت» باعتبارهم «رحّلاً» عابرين فقط.. مهما طال «عبورهم».

ومشروع «ترانزيت» يشمل معرضاً للصور، وفيلما وثائقياً تفاعلياً، ينطوي على صور مؤثرة. وهو مشروع عرضه مركز نوبل للسلام في العاصمة النروجية، طوال ستة أشهر تنتهي في شباط.

بالإضافة إلى الصور التي التقطها بعدسته للاجئين صوماليين في اليمن، وعراقيين في سوريا، ولنازحين في كولومبيا، وسودانيين في تشاد، وأكراد في النروج، وغجر في صربيا، ونازحين في جمهورية الكونغو الديموقراطية، وجورجيا وأفغانستان، يتضّمن الفيلم مقابلات أجراها راسموسن وزميلته آنا ستيفنز، سردا من خلالها حكايات شخصية للاجئين يحاولون التأقلم مع واقعهم الجديد بعدما ألمّت بهم المصائب، ورويا قصة «الأمل التي يمنحها الأهالي لأطفالهم، رغم كل الألم»، كما جاء في الفيلم.

وفي حديث مع مجلة «ذا اتلانتيك» الأميركية، قال راسموسن ان فكرة المشروع بدأت بقصة صغيرة، حين سافر الى تشاد لإجراء تحقيق عن عشرات الآلاف من اللاجئين الذين يعبرون الحدود من السودان إلى مخيمات اللجوء في تشاد. وبعد عشرة أيام انتقل إلى صربيا حيث التقى نازحين جردوا من منازلهم منذ قصف كوسوفو في 1999. من هنا ولدت فكرة «مشروع ترانزيت»، وخاصة أن «الإعلام يركّز على الحرب فقط وينسى الأشخاص الذين خلّفتهم هذه الحرب وراءها بلا مأوى أو ماء أو طعام». هكذا تحطّ الحروب أوزارها.. ويغادر المصورون بعدساتهم، والصحافيون بأقلامهم.. ليبقى النازحون بلا أحد يحكي حكايتهم. لا حاجة للبحث عن اللاجئين، كان يكفي بالنسبة لراسموسن أن يسمع عن قنابل تدمّر بلداً، ليعرف أين ستكون وجهته.

السفير اللبنانية في

02/02/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)