حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

بين هاجس اللغة واستدعاء خبرات المشاهدة

تجربتي في لجنة تحكيم مهرجان طنجة الوطني الثالث عشر

رامي عبد الرازق

عندما شرعت في الاستعداد لاول لجنة تحكيم دولية في حياتي المهنية قبل شهور سألت الناقد والصديق أمير العمري عن نصائحه بخصوص تجربة التحكيم فقال لي" انه امر هين.. فقط كل ما عليك ان تستدعي خبرات المشاهدة السابقة وترتكز عليها في الاحساس بالأفلام وتقييمها".

اتصور ان تلك النصيحة المبنية على خبرات عديدة سابقة افادتني كثيرا في تجربة التحكيم الدولية الأولى وذلك خلال مشاركتي في مهرجان الجزيرة الدولي للافلام التسجيلية في دورته الماضية كما أنها كسرت الكثير من حاجز الرهبة الذي يحط على ذهن الناقد في تجربته الأولى كمحكم دولي في لجنة يمكن أن يكون- ىوغالبا ما أكون- اصغر اعضائها سنا وبالطبع خبرة.

ان تمتلك خبرة مشاهدة جيدة فهذا امر بلا شك يمكن ان يطمئنك ولكن القدرة على استرجاع واستعادة تلك الخبرة هو الميزة التي يجب على أي ناقد جاد أن ينميها ويعتني بها وهي الميزة التي تجدها بوفرة وسلاسة لدى النقاد والسينمائين الكبار المخضرمين.

هاجس اللغة

كان الشاغل الأساسي بالنسبة لي منذ تلقيت خبر اختياري كعضو لجنة تحكيم مسابقة الأفلام القصيرة بالدورة الثالثة عشر لمهرجان طنجة الوطني هو شاغل (اللغة!).

فرغم أنني اتحدث الانجليزية بشئ من الاستيعاب والطلاقة لكن كانت قراءة اسماء بقية اعضاء اللجنة وجنسياتهم كفيلة بأن تزرع في داخلي هاجسا قلقا بخصوص عملية التواصل اللغوية حيث أنهم سواء المغاربة منهم أو الاوربيين او الأفارقة من اصحاب اللسان الفرنسي والثقافة الفرانكفونية.

المخرج الايفواري فاديكا لانسيني الذي درس في باريس وعمل طويلا بين الكوت ديفوار وفرنسا، والفرنسية آنا ديفينديني مديرة قسم السينما بالصندوق المركزي للأنشطة الأجتماعية، والممثلة المغربية هدى ريحاني والمخرج المغربي الذي درس بفرنسا وصاحب تجارب عديدة في التلفزة المغربية عادل الفاضلي وهو أيضا صاحب الفيلم القصير المميز "حياة قصيرة" الذي فاز بالجائزة الكبرى في المهرجان الوطني العام الماضي.

كان هذا الهاجس اكثر قلقا عندي من هاجس متابعة الأفلام باللهجة المغربية، فبعد عدة زيارات لمهرجانات مغربية ومشاهدة عدد لا بأس به من التجارب السينمائية المغربية الهامة والتافهة استطعت اخيرا أن ألقن نفسي اسرار تلك اللهجة الصعبة، ومفاصلها الهامة التي تسمح بقدر مناسب من المتابعة والاستيعاب وفهم روحها الداخلية التي هي هجين من العربية والامازيغية والبربرية والفرنسية.

مراعاة العمق

ورغم محلية مهرجان طنجة الوطني إلا أن المركز السينمائي المغربي وهو الجهة المنظمة يتعامل معه باعتباره مهرجانا دوليا، فتشكيل لجنة تحكيم الافلام سواء القصيرة او الطويلة تشكيلا دوليا يراعي البعد المحلي(هدى الريحاني وعادل فاضيلي) والعمق الأفريقي(فديكا لانسيني) والبعد المتوسطي (كاتب هذه السطور من مصر) وبالطبع البعد الفرانكوفوني (آنا فينديني), كذلك فإنه يحرص على دعوة عدد من الصحفيين العرب والأجانب وبالتالي يضمن المشاهدة "الدولية" والتقييم "الدولي" لانتاجه"المحلي" دون خجل أو مباهاة، وهي تجربة هامة يجب أن نستفيد منها في مصر عند إعادة تنشيط مهرجاننا القومي، وهي تجربة تتخذ ابعادا مختلفة في اكثر من منطقة بالعالم ولكن الكل يتفق فيها على مبدأ تدويل المهرجان القومي (الوطني) من اجل انتاج اكبر مساحة تواصل وتبادل خبرات بين السينما المحلية والمتفرج الدولي سواء كان محكما أو ناقدا او صحفيا فنيا.

تدويل القومي

دعوني استطرد قليلا في تلك النقطة قبل الانتقال إلى تفاصيل عملية المشاهدة والتحكيم.

إلى جانب مهرجان طنجة الوطني لدينا في المنطقة العربية ذلك المهرجان الوليد "مهرجان الخليج" في دبي الذي توشك دورته الخامسة على الانطلاق خلال شهور قليلة وهو مهرجان قومي يهتم بعرض كافة انتاجات السينما الخليجية (وهناك سينما خليجية رغم انكار البعض وتجاهل البعض الأخر) هذا المهرجان يتعامل بنفس المنطق الدولي الذي يتعامل به مهرجان طنجة الوطني حيث يقوم بتشكيل لجان تحكيم دولية لمسابقات الأفلام المتنوعة القصيرة والطويلة والتسجيلية وافلام الطلبة ويتم الاهتمام في هذه اللجان بالأبعاد الثقافية العربية والخليجية والشرق أوسطية معا كذلك يستقدم المهرجان عددا لا بأس به من الصحفيين والنقاد العرب والاجانب لضمان المشاهدة الدولية لانتاجات تلك السينما الجديدة التي تخطو أولى خطواتها بتطور رصين وملحوظ.

ورغم أنني لم أحضره من قبل إلا انني أعلم أن مهرجان دمشق يقوم ضمن فعالياته بعمل ما يشبه بانوراما الفيلم السوري حيث تعرض خلال الفعاليات الدولية للمهرجان العتيق كافة انتاجات السينما السورية في عام كامل.

اما على المستوى الأوروبي فلدينا تجربة مهرجان سالونيك الدولي أحد اكبر 10 مهرجانات دولية في العالم الذي مضت منذ شهرين فقط فعاليات دورته الثانية والخمسين. ومهرجان سالونيك هو مهرجان دولي واقليمي ومحلي في نفس الوقت، فإلى جانب المسابقة الدولية لدينا فعالية يطلقون عليه "افلام من البلقان" وهي فعالية تهتم بعرض أهم انتاجات السينما البلقانية التي تمثلها دول اليونان ومقدونيا والبانيا وصربيا والبوسنة وغيرها من دول بحر البلقان، ثم هناك "بانوراما الفيلم اليوناني"  وهي مسابقة محلية ذات تحكيم دولي تهتم بعرض كافة انتاجات السينما اليونانية الروائية القصيرة والطويلة خلال عام كامل وتضمن مشاهدة دولية من كافة ضيوف المهرجان بالاضافة إلى عدد ضخم من الجمهور اليوناني الذي يقبل بحماس على مشاهدة انتاجه المحلي – وهو إنتاج متواضع كما وكيفا- رغم ارتفاع سعر التذكرة بالمقارنة للحالة الاقتصادية المتدهورة للبلاد.

درس السينما

إلى جانب عنصر التدويل للمهرجان القومي في النماذج السابقة لدينا عنصر هام اخر وهو "درس السينما" حيث تهتم معظم تلك المهرجانات التي ذكرتها ومن بينها طنجة الوطني بفكرة درس السينما المستوحاة من مهرجان "كان".

فاستقدام سينمائي مخضرم سواء كان مخرجا او كاتبا او ناقدا او مفكرا سينمائيا لحضور فعاليات المهرجان والقاء درس عن السينما لرواد المهرجان وعامة الجمهور من محبي ومتذوقي السينما هو أحد الدعائم الهامة في الارتقاء بمستوى الذائقة السينمائية والمشاركة في تبادل الخبرات والثقافات السينمائية سواء على المستوى العالمي او على مستوى الاجيال.

وقد القى درس السينما هذا العام في مهرجان طنجة المفكر الفرنسي الكبير إدجار موران الذي كان رئيس لجنة التحكيم الدولية لمسابقة الافلام الروائية الطويلة، وتعتبر احدى الاستفادات الهامة من وجود مثل هذا المفكر الكبير كرئيس او حتى عضو لجنة تحكيم، وكان حديث موران هذا العام "حول السينما" هذا الفن الشامل وعلاقته بالأنسان ووعيه وافكاره.

ولا أذكر على طول ما حضرت من مهرجانات مصرية محلية ودولية أن تجاوز الامر المؤتمر الصحفي التافة الذي يعقد لنجوم السجادة الحمراء والذي لا يمت للسينما أو للفن بصلة بل تتخذه بعض الصفحات الفنية المصرية "المريضة" فرصة للمقارنة بين فساتين النجمات أو الحديث عن عمليات التجميل او الاشاعات العاطفية أو المواقف المحرجة التي تعرض لها النجوم فوق السجادة او في مدخل الأوتيل، بينما لا يكترث أحد لفكرة أن كل هؤلاء، سواء النجوم أو غيرهم من السينمائيين الكبار الحاضرين، يمكن أن يمثلوا مادة خصبة وزخمة لدروس سينمائية عديدة يمكن ان تقدم لجمهور المهرجان على اختلاف شرائحه كنوع من المساهمة في الثقافة السينمائية بشكل حقيقي.

ازمة الهوية اللغوية

نعود إلى وقائع المشاهدة والتحكيم.

أزمة مشاهدة الأفلام المغربية من قبل محكمين دوليين غير فرانكفونيين او صحفيين اجانب من غير الناطقين باللسان العربي أو الفرنسي هي (اللغة)، حيث تعرض الافلام باللهجة المغربية مصحوبة بترجمة إلى الفرنسية فقط، وإذا كان الفيلم فرنسي اللغة- والتمويل- فإنه لا يترجم إلى العربية سواء الفصحى أو العامية المغربية، وإنما يعرض كأنما الفرنسية هي لهجة محلية لا حاجة لأن تترجم.

إنها أزمة هوية تبلورها اللغة اكثر من أي شي اخر، أزمة شعب لا يزال يجد في التعبير بلغة أخرى وسيلة سهلة وتلقائية تفصح عن افكاره ومشاعره.

كنت اتحدث مع صديقة مغربية عن أزمة اللغة فقالت لي "اننا نفضل حتى أن نعبر عن مشاعرنا ونتحدث عن الحب بالفرنسية، فالمغربية لهجة صعبة وقاسية من الصعب أن تتصور انها يمكن أن تعبر عن شئ رقيق كالحب".

استغرقني التفكير في "أزمة الهوية اللغوية" طوال ايام المهرجان، رغم انني افهم الكثير من اللهجة ولا ابالغ إذا قلت أنني وجدت في ممارستها سواء حديثا أو استماعا، بعض المتعة، ربما من قبل الشعور بممارسة شئ جديد واكتشاف عالم كان غامضا من الكلمات والدلالات والمعاني.

منذ اليوم الأول طلبت من"جيهان" مرافقتنا السمراء الجميلة ان تعطيني سماعات الترجمة الفورية ولكنني فوجئت بصمت لاسلكي تام فلا ترجمة تقال بالعربية أو الانجليزية وإنما فقط هسيس الإذاعة الداخلية المستفز.

اعتبرت المسألة تحديا، وبذلت جهدا في اول يومين في متابعة كافة الأفلام من خلال التركيز الكامل في اللغة واستقصاء العلاقات والدلالات ما بين الصور واللقطات والمشاهد لفهم المعاني وادراك الافكار.

بعد يومين بالتحديد كانت المتابعة صارت اسهل، بل وجدت نفسي اضحك في بعض الأحيان على بعض التعبيرات الدارجة والشعبية التي تُضحك الجمهور المغربي ولا يدركها اصحاب العيون التي تلتهم الترجمة الفرنسية من غير الناطقين بالمغربية او المتحدثين بالعربية.

كشف الدرجات

فاجئنا المسيو لانسيني رئيس لجنة التحكيم بعد اليوم الأول بكشف مكون من ورقة واحدة يحتوي على درجات متفاوتة تتراوح ما بين الخمس درجات والعشرين درجة تشكل في مجموعها النهائي مئة درجة يمنح عددا منها لكل فيلم، بمعنى خمس درجات للفكرة وخمسة للحبكة وعشرة للتقنيات وعشرين للدراما وعشرين للسيناريو وهكذا كنوع من التقييم.

وعندما قرأت السيرة الذاتية الخاصة به ادركت لماذا يفكر بهذه الطريقة المدرسية, فهو استاذ محاضر في السينما والاتصال السمعي البصري في الجامعة الوطنية بالكوت دفوار ويبدو أنه اراد أن يتعامل مع الافلام على انها اوراق بحثية للطلبة او مشاريع جامعية طور الإنجاز.

قلت له أن تلك الوسيلة لن تجدي في التعامل مع كل الأفلام خاصة ان العديد من التجارب وعددها ثلاثة وعشرين فيلما في المسابقة دون المستوى الجيد ولا تستحق أن نبذل جهدا في تقييمها بالأرقام والدرجات بل على العكس سوف تستنفذ طاقتنا الذهنية في محاولة بلورة المستوى الفني في شكل "ديجيتال"، واقترحت في لباقة أن نؤجل العمل بهذه الطريقة إلى التصفيات الأخيرة حين يبقى لدينا خسمة أو ستة افلام جيدة نرى أنها سوف تتنافس على جوائز المسابقة الثلاث، وهي جائزة احسن فيلم وجائزة لجنة التحكيم الخاصة وجائزة السيناريو، وقد وافقني كل من عادل وهدى وآنا فورا على اعتبار أن تقييم الافلام كلها بهذه الوسيلة امر غير مجدي واقتنع فاديكا-كما كنا نناديه- باقتراحي ووافق على تأجيل العمل بالورقة، وفي الحقيقة استمر هذا التأجيل حتى انتهاء اعمال اللجنة واخراج الجوائز حيث اثبت كشف الدرجات اننا لم نكن في حاجة إليه على الاطلاق.

مشاهدة يومية

كانت المشاهدة تتم بواقع ثلاثة افلام يوميا حيث ان جدول المهرجان يحتوي على ثلاثة عروض يومية، كل عرض يحتوي على فيلم واحد قصير وآخر طويل وكان من حق لجنة الطويل ان تأتي بعد نهاية الفيلم القصير ومن حق لجنة القصير ان تغادر قبل بداية الفيلم الطويل.

كنت افضل بالطبع ان ابقى واشاهد الأفلام الطويلة وقد شاهدت تقريبا كل افلام المسابقة الطويلة التي هي مجموع ما انتجته السينما المغربية طوال عام كامل، وبلغ عددها ثلاثة وعشرين فيلما وهو رقم يمثل قفزة كمية رغم التواضع النوعي والكيفي في العديد من التجارب.

هذه المشاهدة هي ميزة يكفلها حضور المهرجانات الوطنية أو بانوراما الافلام المحلية في المهرجانات الدولية، حيث يتمكن الناقد والمهتم من متابعة وتقييم حجم التطور الفني والتقني والفكري في سينما منطقة او بلد معين، خاصة إذ ما حالفه الحظ في حضور نفس المهرجان لدورات متتالية.

وقد أفادني كثيرا حضور بانوراما الفيلم المغربي القصير خلال فعاليات الدورتين السابقتين لمهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي والذي يعقد في شهر اكتوبر من كل عام وهو احد مهرجانات الفيلم القصير الدولية الهامة ذات البعد الاقليمي في المنطقة العربية، حيث يقيم سنويا مسابقة للافلام القصيرة من دول البحر المتوسط كافة (الافريقية والأسيوية والأوربية) ولكنه يستغل أيضا الحضور الدولي في إقامة بانوراما للفيلم المغربي القصير تعرض كافة إنتاجات السينما المغربية القصيرة خلال عام كامل والتي تصل إلى أكثر من أربعين فيلما قصيرا كل عام.

وقد وفقت هذا العام في ترشيح عدد لا بأس به من الأفلام المصرية القصيرة الجيدة من إنتاج عام 2011 كي يتم مشاهدتها واختيار عدد منها للاشتراك في الدورة القادمة حيث كان مستوى الأفلام المصرية المشاركة خلال السنوات الماضية دون المستوى مقارنة بالأفلام التي تأتي من لبنان والجزائر والمغرب ناهينا عن أفلام تركيا واليونان وفرنسا وصربيا والبوسنة وأسبانيا.

أما الاستفادة كمحكم من مشاهدة بانوراما الأفلام المغربية فهي أنني اكتشفت أن الكثير من أفلام المسابقة قد سبق لي مشاهدته من قبل، وبالتالي كانت مشاهدة التحكيم هي المشاهدة الثانية مما ولد نظرة أعمق وتلقي مختلف. 

كشف الأفلام

كانت كشوفات "فاديكا" لا تنتهي حيث طلع علينا بعد يومين آخرين بكشف للأفلام مكتوب فيه اسم الفيلم واسم المخرج مرتبين بشكل عشوائي لا يعكس سوى الرغبة في ان يكون ثمة كشف فقط وليس قائمة تضم تصنيفا نوعيا بشكل محدد يمكن ان يسهل من عملية الاستبعاد أو التحليل.

كنت قد اقترحت في البداية أن يكون لنا لقاء كل يومين خلال الدورة، بمعنى أن نجتمع بشكل دوري عقب يومين من المشاهدة كي نقوم بتقييم واستبعاد الأفلام التي نراها خارج نطاق المستوى المطلوب والبدء في عملية انتقاء مبدئية للتجارب الجيدة والمختلفة.

في اول اجتماع طلع علينا "فاديكا" بكشفه اللوذعي حيث وزع علينا نسخا منه قمت عن نفسي بطيها حيث كنت اقوم بشكل يومي بعملية تقييم وانتقاء خاصة عبر كتابة ملحوظات قصيرة في نهاية جدول العروض اليومية اليدوي الصغير والمصمم بشكل جيد يمنح المشاهد بعض صفحات بيضاء في المنتصف لتدوين الملاحظات او كتابة اي خاطرة تعن له اثناء أو بعد المشاهدة.

اثبتت المناقشة أنها كانت ولا تزال اهم وسائل التحليل والاستغراق في تفاصيل الافلام، وتضاءل الخوف تدريجيا من هاجس اللغة حيث وجدت نفسي استوعب الحديث بالفرنسية خلال الاجتماعات بنسبة كبيرة كانت تصل إلى90 % في بعض الأحيان وهي احدى ميزات المشاهدة السينمائية لافلام من كل دول العالم حيث تمنحك السينما تلك الثقافة اللغوية النابعة من لغة الحوار في الأفلام التي تدور بلغتها وليست مدبلجة في بلاهة حمقاء.

وكنت اتدخل في النقاش بالانجليزية مع آنا وفاديكا، وبالعربية المصرية المطعمة بالمغربية مع هدى وعادل، ولا شك أن وجود لغة مشتركة هي لغة السينما بكل مصطلحاتها التقنية والفنية كانت عاملا مساعدا على سهولة الحوار وسلاسة التواصل بيننا حتى أنني في ثاني اجتماعاتنا كان هاجس اللغة قد اختفى تماما بل صارت لدى رغبة محمومة في الاشتباك مع اي جدل مثار حول فيلم أو زاوية تناول أي تجربة مختلفة، ومنحني هذا الكثير من الثقة واليقين في ان السينما بحق فن لا يزال قادرا على ادهاشنا، ليس فقط على مستوى صناعته، ولكن حتى على مستوى مناقشته والحديث عنه والخوض في جينات افلامه والتمحيص فيها.

الاحتكاك

اعترف بالطبع انني استفدت كثيرا من تجربة الاحتكاك بعقول اخرى داخل عملية الفرز والتحليل والاستبعاد خاصة مع المخرج عادل فاضيلي الذي كان منطقيا لدرجة كبيرة في اغلب ارائه دون النزوع لمبدأ الثبات الذي يفرضه المنطق، اي انه يملك تلك المنطقية الذهنية التي تستجيب في نفس الوقت لطبيعة حرية الفضاء الفني ونسبية التعبير وخصوصية التناول وذاتيته في بعض الأحيان, كذلك ادهشتني قدرة هدى ريحاني وهي (الممثلة) على التحليل الواعي والشعوري الجيد للكثير من الأفلام وهي بحق نموذج الممثلة المثقفة صاحبة الخبرة والتجربة التي تتجاوز حدود "التشخيص" إلى الإلمام بالكثير من معطيات الفن السينمائي سواء البصرية أو الدرامية.

ولكنني اعترف أن ذائقة "فاديكا "وطريقته في التعامل مع الافلام لم ترق لي كثيرا ربما لاختلاف الأجيال او الثقافات او الجذور الفكرية والسينمائية، رغم أنني اعترف ايضا انه كان يوافقني على الكثير من ارائي بل ويعجب بها في بعض الاحيان، إلى جانب "آنا" التي كانت تصادق بحماس على الكثير مما ابديه من رأي او وجهة نظر تحليلية.

كان عادل يرى في بعض الأفلام الجيدة نظرة فلكلورية معيبة تنظر إلى المغرب بما يتفق مع الصورة الذهنية للغرب عن هذه البلاد الغامضة التي لا يزال اهلها يعيشون في الجبال أو يركبون البغال في السهول الخضراء المنبسطة، خاصة تلك الأفلام التي صنعها مخرجين لا يعيشون في المغرب وإنما في المهجر الفرانكفوني.

اما هدى فكانت تنحاز ضد الأفلام التي تراها تقدم نموذجا رديئا لصناعة السينما في المغرب حيث ترى أن العديد من التجارب لم تكن تستحق أن تنتج من الأساس وان تكلفتها خسارة مادية ومعنوية لصناعها ومشاهديها على حد سواء وهو رأي يحمل الكثير من التطرف لكنه ايضا يحمل قدرا من الحب والخوف على مستقبل السينما المغربية التي تؤمن بها وتعمل فيها.

وقد ادركت من خلال الاحتكاك بمختلف اعضاء اللجنة أن تلك احد ميزات لجان التحكيم الدولية للمهرجانات الوطنية فهناك وجهة النظر المحايدة المتجردة إلا من النظرة السينمائية الخالصة التي يمثلها المحكم الدولي وهناك البعد الخاص بالتطور التاريخي والفني للسينما المحلية الذي تمثله وجهة نظر المحكمين المحليين الذي يدركون خلفيات كثيرة عن الأفلام وصناعها لا يدركها المحكم الدولي القادم من دولة أخرى, صحيح أن الفيلم في النهاية لا يجوز تقييمه سوى بناء على مادتة البصرية والدرامية المعروضة على الشاشة ولكن لا شك أن الوقوف على الكثير من التفاصيل الاخرى في تاريخ صانعه أو موقفه الفكري والفني كفيل بالقاء الضوء على زاويا غامضة او مختلفة اثناء عملية التلقي والتقييم, وهو ما دأبت السينما في العالم كله على محاولة بلورته من خلال الـ  press book  أو المعلومات الصحفية المختصرة التي كانت توزع قبل عروض الأفلام وتحتوي على معلومات حول صانعه أو فكرة الفيلم وحبكته او شخصياته وزمن احداثه. 

الجائزة الكبرى

وفرت لنا إدارة المهرجان كل السبل المتاحة لمشاهدة الأفلام في اجواء جيدة ومريحة رغم العيوب التقنية التي صاحبت العروض سواء على مستوى درجة نقاء الصوت او نصاعة الصورة وقوتها.

وكنا نشاهد الافلام مع الجمهور بشكل يومي باستثناء اليوم الأخير الذي قمنا فيه بمشاهدة أفلام اليوم بأكمله في عرض خاص واحد داخل سينما روكسي وهي السينما المخصصة لعروض المهرجان وذلك حتى نتمكن من الاجتماع واختيار الأفلام الفائزة قبل وقت كاف من حفل الختام.

طرحت أنا في البداية فكرة التكامل الفني كعنصر أساسي في اختيار الفيلم الفائز بالجائزة الكبرى حيث قررنا اختيار اكثر الافلام تكاملا ونضجا بغض النظر عن كونه تمويل فرنسي او مغربي ففي النهاية يتم اختيار الافلام في المسابقة بناء على جنسية مخرجيها وكل مخرجي الأفلام يحملون الجنسية المغربية سواء المقيمين منهم في المغرب او في فرنسا او أي دولة أخرى.

أما بخصوص جائزة لجنة التحكيم الخاصة فقد وقع اختيارنا على فيلم وجدنا في الجائزة تشجيعا جيدا لمشروع مخرج واعد يملك ادواته ولديه القدرة على السرد السينمائي مهما كانت الفكرة التي يتناولها غامضة أو فلسفية ومن هنا تم اختيار فيلم "إرث" للمخرج الشاب رضا مصطفى.

اما جائزة السيناريو فقد استقر في داخلي ان تذهب لفيلم "الليلة الاخيرة" سيناريو وإخراج المخرجة الشابة مريم التوزاني وهو بالمناسبة أخر فيلم قمنا بمشاهدته ويحكي عن الليلة الأخيرة التي تقضيها طفلة صغيرة مع جثة جدها الميت رغم تحذير الجميع لها من ذلك حيث يقولون لها ان الدين يحرم دخول المرأة طفلة كانت او كبيرة على الميت كي لا تخرج الملائكة من عنده وبالتالي يتم حرمان الام والحفيدة من القاء النظرة الأخيرة على الجد الراحل، ولكن الطفلة بكل ما تحمله داخلها من براءة وعفوية تكسر هذا الحاجز الخرافي الذي لا يمت للدين بصلة وتقضي ليلتها بالكامل بجانب جدها تتحدث معه وتضع وسادة اسفل رأسه وتلبسه غطاء النوم كأنه لا يزال على قيد الحياة.

كان السيناريو يناقش فكرة المرأة/ العورة التي هي جزء من أزمة ثقافية واجتماعية عربية كبيرة نعاني منها في مجتمعاتنا العربية والإسلامية وذلك من خلال موقف طفلة صغيرة لا تدرك من كل هذه التعقيدات الغير صحيحة اي شئ.

وقد خضنا جدلا مع عادل فاضيلي حول هذا الفيلم فيما يخص تعريف السيناريو وهل هو التفاصيل المادية والحوارية في المشهد ام النص العام الذي يمنح المخرج فضاءا ابداعيا يجسد من خلاله رؤيته للتفاصيل التي يبدعها هو بناء على إشارات النص وليس تحديداته.

اما الجائزة الكبرى فذهبت للفيلم المتكامل العناصر"الطريق إلى الجنة" للمخرجة هدى بنيامينه والذي سبق له أن فاز بجائزة مهرجان طنجة المتوسطي وجائزة المهر الذهبي في مسابقة الأفلام القصيرة بمهرجان دبي ويحكي عن واقع طفلة صغيرة- أيضا- تعيش مع امها الراقصة وخالها المتحول جنسيا في فرنسا بانتظار ان يرسل لهم الأب فيزا المغادرة نحو لندن كي يلحقوا به. وهو فيلم متكامل العناصر سواء على مستوى السيناريو أو الإخراج أو زاوية التناول او التصوير أو التمثيل، رغم طوله النسبي حيث تبلغ مدته 40 دقيقة.

والطريف والجيد ايضا ان"اديكا كلفني بكتابة كلمة لجنة التحكيم التي نبلور من خلالها أسباب اختيارنا هذا الفيلم للحصول على الجائزة الكبرى، رغم أنني الوحيد الذي لا يتحدث الفرنسية ولا يكتبها، ولكن ربما لأنه اعتبرني كناقد أكثرهم قدرة على الصياغة اللغوية وبلورة الأفكار الفنية التي يحتويها الفيلم وتجسد اسباب اختياره.

وقد استغرقت ساعة في كتابة هذه الكلمة اثناء رحلة بالسيارة صعودا نحو مغارة هرقل ذلك المزار السياحي الرائع الذي يطل على مصب البحر المتوسط في المحيط الاطلسي، حيث اجتمعت لجان التحكيم في غداء حميمي أخير قبل حفل الختام.

وقد تفضل الناقد اللبناني ابراهيم العريس الذي كان عضوا في لجنة تحكيم الفيلم الطويل بترجمة الكلمة إلى الفرنسية من أجل أن يتمكن "مسيو فاديكا" من قرائتها على الجمهور قبل الاعلان عن اسم الفيلم الفائز.

وكان من دواعي فرحي أن ابدى العريس- بالرغم من انه لم يشاهد الفيلم-اعجابه بالكلمة وصياغتها لكنه قال لي ان الترجمة افقدتها الكثير من روحها خاصة أنها ترجمة حرفية لانه لم يكن قد شاهد العمل.

وإليكم نص الكلمة:

"عبر عيني طفلة صغيرة تراقب هذا العالم الموحش ومن خلال تفاصيل سينمائية تشتبك مع واقع خشن وقاس اجتازت المخرجة الطريق إلى الجنة كي تكشف لنا وهم فردوس الهجرة الكامن في نفوس المغاربة مدركة أن ما للعين لا يحاكي ما للأذن كما قال بريسون شاعر السينما الفرنسية.

فإذا بعين الكاميرا لا تراقب شخصيات الفيلم ولا تجعلنا نطمئن عليهم بل تثير لدينا هذا الخوف الكامل على مصائرهم الباهتة ومستقبلهم الغامض. انه حين يتمكن صانع الفيلم من التقاط حوار بين عينين وكاميرا فإنه حتما يستحق التقدير".

كانت الكلمة بعد ترجمتها للفرنسية قد طالت قليلا مما استدعى أن يختصرها  فادكيا كما أن العريس اقترح علي أن نغير جملة (اجتازت المخرجة الطريق إلى الجنة) إلى (اجتازت طريقا روحيا) حتي لا نقوم بالكشف عن اسم الفيلم من البداية لضمان الإثارة الكاملة للجمهور والمخرجين المنتظرين وقد وافقته على الفور.

وأخيرا.. جيهان

 من أهم عناصر نجاح أي لجنة تحكيم في اداء دورها كاملا هو عنصرالمرافقة، أي العنصر البشري المتمثل في الشخص الموكل إليه من قبل إدارة المهرجان مرافقة لجنة التحكيم والمسؤول عن كل شئ يخصها بما في ذلك التفاصيل الشخصية، حيث يتحول إلى كتلة من الاحساس بالمسؤولية تجاه جميع أفراد اللجنة على حد سواء، وحيث تصبح على عاتقه كافة ما يخص تنقلاتهم ووجباتهم وفترات الراحة اللازمة لهم بين العروض وتوقيتات وأماكن اجتماعاتهم للمناقشة والمواعيد الخاصة التي يمكن تنسيقها مع الصحافة المحلية والدولية لاجراء الحوار معهم، بل وايضا  تسوقهم وتلبية رغباتهم في الذهاب إلى مناطق سياحية معينة داخل المدينة وخارجها، باختصار هو"الراعي الكبير" و"الملاك الحارس" لللجنة طوال ايام المهرجان وهو عضو اساسي فيها حتى ولو لم يشترك في التقييم والاختيار.

فمن الواجب إذن والذي تحتمه الامانة المهنية من ناحية والعاطفة الشخصية من ناحية آخرى ان اتوجه باسم لجنة التحكيم بكل الشكر والتقدير للآنسة جيهان بن مبارك التي كانت نعم الرفقة طوال عشرة أيام كاملة والتي بذلت كامل جهدها في محاولة تذليل كل العقبات والأستجابة لكل الطلبات والرغبات لكل اعضاء اللجنة بلا استثناء مهما كانت الطلبات خارج نطاق اختصاصها او بعيدا عن مسؤلياتها المحددة ودون أن تفقد حماسها للتلبية أو يظهر عليها اعياء الاستجابة لمئة رغبة يومية يطلقها فقط خمسة محكمين مدللين.

عين على السينما في

29/01/2012

 

كيف يمكن أن تجتاز السينما المغربية الطريق إلى الحداثة؟

ما معنى أن تكون سينمائيا في المغرب؟

محمد اشويكة 

تختلف الممارسة السينمائية من بلد إلى آخر وفقا للسياقات التاريخية والرهانات السياسية والاجتماعية.. فالسينما رافد اقتصادي وثقافي وترفيهي لا يخلو من حمولات إيديولوجية، لذلك تتشبث كل الدول بالتحكم في دواليب إنتاجه من خلال خلق جهات وصية ولجان تشرف على الدعم والرقابة والتتبع والتكوين، من شأنها أن تلجأ، عبر طرق متعددة، ظاهرة وخفية، لتضمينها لبعض الرؤى والقيم والأطروحات ذات الأولوية داخل المخططات السياسية والاجتماعية والتنموية لكل بلد.. وذلك من خلال إسنادها إلى مخرجين وكتاب سيناريو ونقاد وباحثين وممثلين ومهنيين يدركون جيدا الوسط الذي يتحركون فيه، ويفهمون المهام الموكولة إليهم، والرهانات التي يمكن أن يضطلعوا بها.. لذلك، فممارسة السينما في المغرب لها خصوصيات لا بد أن يعيها المُمَارِسُون والمهتمون، وإلا فقد تكون النتيجة مفارقة: لا تأثير ولا تأثر!

لمناقشة ما سبق، نود أن نتناول في هذا المقال بعض الإشكالات التي تتمحور حول تساؤل مركزي مفاده: ما معنى أن تكون سينمائيا في المغرب؟ مقترحين مقاربته من خلال طرح النقط التالية:

1- السينما والحداثة:

من المعروف أن مفهوم الحداثة السينمائية قد اجتاز أربع محطات أساسية عبر تاريخ السينما (1)، وهي:

- مرحلة الحداثة البدائية: ارتبطت باكتشاف السينما ذاتها، وبظهور الأعمال السينمائية الصامتة، وخاصة بتطور العرض السينمائي داخل السيرك والمسرح من خلال البحث عما يعوض غياب الصوت كالاشتغال على الديكور والماكياج والتشخيص. ومن بين أعلام تلك المرحلة: جريفيث Griffith، ومورناوMurnau ، ولانج Lang.

- مرحلة الحداثة الكلاسيكية: ارتبطت بالمرحلة الذهبية لازدهار الاستوديوهات، وبتحول السينما إلى فن شعبي استطاع أن يطور لغة فنية خاصة، وابتكار تكنولوجيات جديدة كالتحول من الأبيض والأسود إلى اللون، وظهور تقنية "سينماسكوب"، وتطور الكتابة السيناريستية التي أتاحت للسينما أن تتحول إلى صناعة تحاول ملامسة الرَّاجح والمحتمل فنيا دون استنساخ الواقع، كما بدأ الرهان على الجمهور باعتباره المتفاعل الأول مع الحمولات الإستيطيقية والمرجعية والقيمية والدلالية للأفلام.

مرحلة الحداثة المتحررة: وتميزت بالتحرر من ثقل الاشتغال بميزانيات      كبيرة داخل الأستوديوهات؛ إذ صَوَّرَ جان رُونْوَار وغيره في الأماكن الخارجية، وحطم أورسون ويلز "Orson Welles" الطرائق السردية الخطية، وتَمَّ التخلص من إكراهات السيناريو، كما قام المخرجون والمنتجون بالتخلي عن خدمات النجوم مانحين الفرصة لوجوه جديدة، فضلا عن تصوير الحياة الحميمية للإنسان، والبحث عن البلاغات الجسدية (الإيروتيكية والجنسية).

نشير إلى أن هذه الفترة قد عرفت ظهور السينيفيليا بشكل منتظم وملتزم.

مرحلة ما بعد الحداثة: لقد تجاوزت السينما فترة ما بعد الحداثة عبر تجاوزها أيضا لما يسمى بالحداثة المفرطة "Hypermoderne" التي مهدت لظهور الحداثة وما بعدها. ويرتكز جوهر ما بعد الحداثة الفلسفي على التفكيك وتجاوز العقل ككلية متعالية، أما في السينما فقد بدأ التوجه ظاهرا نحو ضمور السينما الكلاسيكية والإعلان عن فكرة "موت السينما"، وزعزعة كل العوالم والمنظومات السينمائية الكبرى، والرهان على الشاشة الكلية "L’écranglobal" كدعامة كبرى للتواصل. وتلك عوامل مهدت الطريق أمام ازدياد الهوس بالسينما.

كان لزاما أن نقدم هذه اللمحة التاريخية المقتضبة كي يتيسر فهم ما سنطرحه من أسئلة مقلقة تمس جوهر الممارسة السينمائية في المغرب: كيف يمكن الحديث عن السينما كرافد للحداثة ونحن لم ننتج بعد الشروط الموضوعية للحداثة؟ هل يمكن أن تعيش "النخبة" الحداثة كفكرة وكأسلوب عيش في ظل مجتمع مشدود إلى العَتَاقَة؟ كيف يمكن للسينمائي في المغرب أن يتجاوز هذه الحالة وأن يقدم أفلاما تعي المخاض الذي يعيشه المجتمع المغربي؟

من البديهي أن السينما في المغرب لم تقطع كل تلك المراحل المتدرجة والتاريخية للحداثة الغربية لأن الظروف الثقافية تختلف، والوعي الاجتماعي متباين، وظروف "الصناعة السينمائية" غير مكتملة.

لقد وجدت السينما المغربية نفسها في الشارع لأن إمكانياتها الإنتاجية لم ولن تسعفها في بلوغ ذلك.. فما الذي بقي لها إذن؟ أن تبني مسارها الحداثي الذي يتوافق والقيم الاجتماعية للمغاربة دونما السقوط في المجانية والخطابات المباشرة والاستفزاز الذي يمكن أن يقوي من أعداء السينما وذلك عبر توظيف لغة سينمائية تعتمد الإحالات والاستعارات والمجازات، وشتى أنواع الخطاب الرمزي مع مراعاة المتلقي الذي يحتاج إلى التدرج في التصالح مع ذاته الجريحة والمكبوثة،فإذا لم يتمكن المخرج من معرفة السياقات التي يشتغل فيها فسوف يعيش وعيا شقيا يجعله غريبا داخل مجتمعه!

أعتقد أننا لم نعش "الحداثة السينمائية" في المغرب كحالة منبثقة من ظروفنا الثقافية، وإنما كحالة وعي لدى الفنانين والمثقفين، وكامتداد للمسار التحديثي البطيء الذي سار فيه المجتمع المغربي،ولذلك فهي تعاني من صدمات مفارقة تجاه من يعيها كحالة، ومن يتلقاها كوعي؛ بين المتحمسين لها، والمتربصين بها.. وعليه، فالنور لن يسطع كذلك من أي شكل من أشكال التوفيق بين كلفة ومكاسب الفردانية، والتكنولوجيا والبيروقراطية. فالثقافة الحديثة هي أدق وأعقد من كل ما قيل(2).

2- السينما والالتزام:

من المعروف أن الفنان الحقيقي ملتزم بقضايا معينة يدافع عنها، ويجتهد في ابتكار أساليب فنية جديدة ومناسبة يستطيع أن يوصل عبرها أفكاره أو وجهات نظر من يدافع عنهم.. فالالتزام مزدوج الحمولة: عام وخاص. يهم الشق الأول ملامسة السينما لبعض المسائل الجوهرية للإنسان من خلال الحفر في الذات؛ ويهم الشق الثاني الالتزام الفني للمخرج، أي الاختيارات الجمالية والفنية المناسبة لطرح تلك المسائل المتعلقة بالشق الأول، وهنا تنجلي قضايا الأصالة والعمق، وتنكشف المرجعية، وترتسم معالم الرؤية.. فالسينما مرتبطة بالشجاعة على قول الحقيقة، وبالقدرة على إبداء الرأي.

يلتصق فعل الالتزام بالنضال، وذلك بعيدا عن السقوط في مطبات كل ما من شأنه أن يحيل على الجانب الأخلاقوي أو التخندق الحركي المنغلق على ذاته.

تبدأ أولى خطوات الالتزام ضد تحدي الإنسان لوضعيات العجز التي تحاصره، ومن هناك يطور وسائله، ويوجه قواه، صوب محيطه الطبيعي والإنساني، وتجاه ذاته. فإلى أي حد تستطيع السينما أن تمنح الإنسان فرصا جمالية لتجاوز العجز؟ هل تساعده على نسيان قلقه الوجودي أثناء اندماجه، ولو لحظيا، مع ما يراه؟ ألا تبدأ فكرة الالتزام من هنا؟ ألا يحس المخرج السينمائي بأنه يعتقل الناس ويعمق قلقهم حين يكون فيلمه فاشلا؟

لا يبتعد ما نقصده بفكرة الالتزام، كثيرا، عن فلك تلك التساؤلات ما دام فعل ممارسة السينما في المغرب يحاول ملامسة قضايا المغاربة المتمثلة في:

الجانب البيولوجي: الشرب، الأكل، النوم، الجنس.

الجانب النفسي والفكري: الهوية والسلامة الشخصية، قبول الذات، تحقيق السعادة الذاتية، جودة الحياة.

الجانب السياسي والاجتماعي: علاقة الأفراد داخل المجتمع، أنماط الاعتراف الاجتماعي بالآخر، الاندماج، المواطنة، المساواة، رفع الإحساس بـ"الحُگْرَة".

الجانب الأخلاقي والروحي: احترام كرامة الذات والآخر، الاعتراف بقيمة وأهمية الرموز في حياة الأفراد والجماعات.

صار لزاما على السينمائي المغربي أن يعي حاجة المجتمع إلى تحقيق نوع من الالتزام النضالي (سياسي، اجتماعي، نقابي، ثقافي، فني...) لأنه يصعب الحديث عن السينما كصناعة، كما يستعصي الرهان على تحقيقها للحداثة في ظل عطالة الشروط الموضوعية، وابتعادها عن المخاضات الكبرى للتحول في المغرب. إن من يعي ذلك يسهل عليه المساهمة في رقي السينما بعيدا عما يمكن أن يشبه الكِيتَشْ "kitsch" (الفن الهابط) غير المدعوم بأية رؤية خاصة للعَالَم.

استطاعت السينما في المغرب، أسوة بالصحافة، أن تحقق مكاسب مهمة على مستوى حرية التعبير، وذلك بفضل مجهودات بعض المخرجين الذين يتحكمون في لغتهم السينمائية، ويحسنون توظيف الرموز دون الدخول في المواجهة المباشرة مع الشارع الذي من المفروض أن تساعده السينما على الرقي بوعيه وذوقه. إذا كان الصحافي مقيدا بإكراهات الإخبار والواقع فإن السينمائي أكثر تحررا وذاتية من أجل إبداء الرأي.

من الممكن ألا نصل إلى إنجاز سينما ملتزمة انطلاقا من الثيمة، والدليل يكمن فيما أنتجته هوليود حول حرب ڨيتنام من أفلام؛ إذ أدخلتها في إطار صناعة المتعة المُؤَسَّسَة على المؤثرات البصرية والميكانيكية والخدع، الأمر الذي حجب الإشارات الدالة حول قضايا البؤس الإنساني والظلم والقسوة والتحقير والاستغلال.

3- اذا ما تأملنا تاريخ السينما فقد نلاحظ أن المؤثرين فيه أصحاب رؤى عميقة تحكمها خلفيات فلسفية صلبة تنطلق من معرفة واسعة بتاريخ الفكر والفن الإنسانيين، لذلك أثروا بشكل عميق في التحولات السينمائية الكبرى ممارسة وتنظيرا، بل إننا حين نشاهد أفلامهم، ونقرأ كتاباتهم أو حواراتهم، نكتشف انسجام الرؤية، وندرك حجم الإضافة.

قليلون هم المخرجون المغاربة الذين يمتلكون فلسفة فنية تحس جرعاتها من فيلم إلى آخر. فالصادم أن أفلام المخرج الواحد متباعدة في المقاربات والاختيارات والتوظيفات الجمالية، وكأنها لا تصدر عن ذات واحدة!

ليست السينما مجرد صناعة، وإن كان ذلك جوهرها، بل هي فن إبداعي تخييلي يتيح إمكانيات هائلة للتعبير عن تأمل الإنسان للعَالَم. ولذلك، يتقاسم معنا الآخر (المتفرج) الشغف، وحب الاطلاع، ويناقش رؤيتنا التي عرضناها عليه عبر مسارات ينظمها القانون (الإنتاج، العرض، التعاقد...). إن كل مخرج لا يضع في حسبانه المتلقي، بدعوى أن دخول قاعة السينما فعل حر، خاطئ وواهم، فالجمهور يقع في صميم العملية الإبداعية، وهو رهانها المركزي.

تنبني الرؤية الفنية للمخرج على عدة مؤشرات نلخص أهمها فيما يلي:

التصور البصري للعَالَم.

امتلاك فلسفة ذاتية في الحياة.

القدرة على الإضافة.

ظهور مؤشرات الحدس.

تجاوز الدوغمائية.

4- السينما والذاتية:

يرتبط فعل الممارسة السينمائية بالحرية عامة، وبحريتي التفكير والتعبير خاصة، إلا أن ذلك يتطلب المسؤولية والوعي، فالحرية المطلقة غير موجودة، وإنما يتسع حجمها ويضيق بحسب درجة الوعي التي بلغها مجتمع من المجتمعات لأنها قد تتحول إلى فوضى إذا ما أسيء استعمالها.

يظهر من خلال الوقائع والأحداث المرتبطة بالممارسة السينمائية في المغرب أن بعض السينمائيين يفهمون الحرية بشكل يجعلهم لا يقبلون الرأي المختلف، الموضوعي والصريح، ولا يتعاملون مع السينما كوسيلة تساهم في إنضاج شروط الحوار، ودعم قيم التعدد والمغايرة التي تدفع الذات إلى التحرر من إكراهات الواقع، وذلك ما يضع هؤلاء وجها لوجه في مواجهة الجمهور بكل خلفياته، وفي ذلك خطر على السينما ذاتها باعتبارها تمارس نوعا من "النقد" الذي يكون المجتمع غير مؤهل له موضوعيا، وبالتالي فمن الأفيد أن تحمل على عاتقها رسالة التأهيل أولا، ثم التغيير ثانيا.

لا داعي إلى الخوض في بعض التفاصيل كالوقوف عند بعض النماذج التمثيلية أو المَشْهَدِيَّة المنتقاة من الفيلموغرافيا المغربية المُنْتَجَة خلال السنوات الأخيرة، والتي لا يظهر النبوغ الذاتي للمخرج فيها، ولا تُطَوِّر الملكات والمهارات الفنية للمتلقي بقدر ما تؤجج السِّجال (Polémique)، وتنقله إلى قضايا ثانوية لا تدخل في سياق الأولويات الملحة للمواطن المغربي، والتي غالبا ما يَعِيهَا بعض المخرجين، ويجهلها الكثير من الباحثين عن حرق المراحل لبلوغ الشهرة السريعة!

يقتضي تَمَثُّل الذاتية في هذا السياق الإشارة إلى بعض اللحظات البارزة في تاريخ السينما والفن عامة؛ إذ من المعروف أن السينما الروسية قد حققت مبدأ الذاتية من خلال تطويرها للمونتاج الدياليكتيكي عبر مجهودات إيزنشتاين الذي أوضح للمتفرج بأن الفرد لا يشكل ذاتا مستقلة وإنما هو مجرد ممثل لطبقة اجتماعية معينة؛ أما في السينما الطليعية الفرنسية فقد تحررت السينما نسبيا من الانشغال بالموضوع والسرد، فاسحة المجال لتنظيم الحركة، وذلك ما منح الفرد بعدا كونيا شاملا أَدْخَلَهُ ضمن حركة مجردة للأشكال؛ أما التعبيرية الألمانية فقد أِكْمَلَت ما بَدَأَتْهُ المدرسة الرومانسية خلال القرن التاسع عشر حين أذابت الفرد ضمن عالم فوضوي، متحرر من إكراهات الشكل، الأمر الذي أتاح له التطلع إلى حياة مفتوحة على المغامرة الفردية والتوحد.

حاولت أفلام الستينات مع أنطونيوني "Michelangelo Antonioni" والموجة الفرنسية الجديدة والواقعية الإيطالية الجديدة التخلص، بالتدريج، من الذاتية، وذلك عبر تقديمها لشخوص محبطة، لا نعرف شيئا عن ماضيها، لا يبشرها المستقبل بالأمل، ولا تتسم بأي اتساق...

يظهر أن التيارات الفنية تتبلور وفق رؤى ذاتية رصينة تدعمها اختيارات إبداعية واعية كما يؤشر على ذلك تاريخ التيارات والنظريات السينمائية والفنية.. لذلك، تحتاج الذات المبدعة إلى مرجعية فلسفية تعزز منجزها، وإلا ستصبح ممارسة السينما مجرد إجراءات تقنية، ويتحول الحديث عنها إلى لغو وسفسطة.

يشكل طرح القضايا المومأ إليها أعلاه محاولة لمقاربة بعض إشكالات الممارسة السينمائية في المغرب، وذلك ما دفعنا إلى فحصها ومقارنتها بمدى قدرة المخرج المغربي على خلق المعنى، وتحقيق الوعي الكافي الذي يدعم وضوح الرؤية انطلاقا من الاتكاء على مرجعيات فلسفية وفنية يمكن أن تصونها من الزلل، وتساعدها على الإفلات من شبهة خدمة الأجندة الخارجية.. ولإظهار أهمية ما نشير إليه، نختم بما قاله المخرج مارتن سكورسيزي عن أفلام المبدع إليا كازان: "وَضَّحَت لي أفلام إليا كازان العَالَم الذي أتيت منه. الوجوه، والأشياء، والطريقة التي نكون بها معا. بينت لي كل هذه الأشياء التي لم نعتد رؤيتها في السينما".

[1]- Gilles Lipovetsky et Jean Serroy; L'écran global: Culture-médias et cinéma à l'âge hypermoderne; Seuil; Paris; 2007.

- شارل تايلورCharles Taylor2-مظاهر القلق في الحضارة الحديثة؛ ترجمة: حسن العمراني؛ مجلة الأزمنة الحديثة؛ عدد مزدوج: 3-4؛ أكتوبر 2011؛ ص: 154.

عين على السينما في

29/01/2012

 

المسار الفني للممثلة المغربية أمينة رشيد في كتاب توثيقي

أحمد سيجلماسي- الرباط 

أصدر عبد الله شقرون، الشخصية الفنية والاعلامية المعروفة داخل المغرب وخارجه، كتابا جديدا بعنوان "أمينة رشيد: ممثلة في الاذاعة والمسرح والتلفزيون والسينما" يوثق من خلاله للتجربة الفنية لزوجته في مجال التمثيلالاذاعي والمسرحي والتلفزيوني والسينمائي على امتداد ستة عقود.

ومعروف أن شقرون هو مكتشف هده الممثلة القديرة التي انطلقت مسيرتها الفنية رسميا في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، ومند دلك الحين شاركت أمينة رشيد، التي ولدتفي الرباط يوم 11 أبريل 1936، في أكثر من 3000 عمل اذاعي بين مسرحيات وتمثيليات ومسلسلات وغيرها وأكثر من 600 عمل تلفزيوني.

وانطلقت مسيرتها السينمائية عام1955 بفيلم "طبيب بالعافية" من اخراج الفرنسي هنري جاك، عن نص مسرحي لموليير، وهو انتاج فرنسي مصري مغربي مشترك صور بحدائق الوداية ودار السلام بالرباط وشارك فيه عددمن الممثلين المصريين منهم كمال الشناوي وأميرة أمير ومحمد التابعي والمغاربة حمادي عمور والبشير لعلج وعبد الرزاق حكم والعربي الدغمي والطيب الصديقي ومحمد سعيد عفيفي وحمادي التونسي وغيرهم.

 وتلته الأفلام التالية "غدا لن تتبدل الأرض" لعبد الله المصباحي سنة 1975 و"ابراهيم ياش" لنبيل لحلو 1982 و"البحث عن زوج امراتي" لمحمد عبد الرحمان التازي 1993،و"للا حبي" لنفس المخرج 1996 و"مصير امرأة" لحكيم نوري 1998 و" زنقة القاهرة" لمحمد عبد الكريم الدرقاوي 1998 و" فيها الملح والسكر وما بغاتش تموت" لحكيم نوري 2000 و"قصة وردة" لمجيد الرشيش سنة 2000 و"فيها الملح والسكر أو ما زال ما بغاتش تموت" لحكيم نوري 2005 و"ملائكة الشيطان" لأحمد بولان و"القلوب المحترقة" لأحمد المعنوني 2007 وغيرها.

ويمكن اعتبار دوري للا حبي في فيلمي التازي وللا فخيتة في فيلمي نوري أشهر أدوارها السينمائية نظرا للنجاح الكبير الدي حققته هده الأفلام الأربعة.

يتضمن الكتاب العديد من الصور التي تؤرخ لمحطات أساسية في المسيرة الطويلة لهده الممثلة الرائدة، كما يتضمن شهادات في حقها بأقلام شخصيات فنية وثقافية معروفة.

عين على السينما في

28/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)