حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

رحيل المعلّم السينمائي الإغريقي ثيو أنغلوبولوس

اشتهر بمطولاته و"سينماه المترّوية" عن تحولات أوروبا المعاصرة

زياد الخزاعي 

اختتم المعلّم الإغريقي ثيو أنغلوبولوس حياته مساء الثلاثاء (24 كانون الثاني الجاري) وهو يعمل! لوثة الإنجاز لم تفارق صاحب "الممثلون الجوالون"(1975) الذي ظل يجتهد بندارة يُحسد عليها في الإخراج السينمائي منذ العام 1965، حينما أنجز شريطه القصير الاول "فورمنيكس" اثر أكماله دراساته في معهد الـ"أيديك" الباريسي ذائع الصيّت، رغم ان هذا العمل لم يُعرض أبداً ويُظن أنه فقد.

قُضى أنغلوبولوس في حادث سير، حينما ارتطمت به دراجة بخارية مُسرعة، وهو يوجه ممثليه في لقطة خارجية ليلية ضمن عمله الجديد "البحر الآخر في بيرايوس"، ويفقد سجل الكبار الأوروبيين واحداً من أكثر المخرجين تعاطياً مع إشكاليات السياسة والتاريخ في القارة العجوز. إن اشتغالات أنغلوبولوس تتماهى إلى حد مدهش مع روح التراجيديات الإغريقية العظيمة، وهو وريثها الأوحد الذي لم ينافسه فيها أحد من أقرانه. ولئن أصر مواطنه صاحب "زوربا" الراحل مايكل كاكويانيس ( 1912 ـ 2011) على الذهاب مباشرة في أفلمة نصوص يوربيديس في ثلاثيته الشهيرة "ألكترا"(1962) و "نساء طروادة"(1971) و"أفيجينيا"(1977) في محاولة جادة حصدت اهتماماً عالميا، نظراً إلى قيمتها الفنية التي طغت على فصولها أمانة ناصعة ومقاربة أجواء مدهشة لم يتمكن منهما سوى ابن ارض أسخيلوس، فضّل أنغلوبولوس ان يُحمّل أعماله روحاً عصرية شديدة التسيّس والأدلجة، فرضت عليه مجافاة النص الهيليني، والإنغمار بالنفس الملحمي الذي تتنفسه روح الإبداع في اليونان المعاصرة. من هنا جاءت فرادة نصه الأول "إعادة إحياء"(1970) الذي شُيد على بناء شديد الواقعية حول جريمة قتل حقيقية راح ضحيتها عامل إغريقي أياماً بعد عودته من إلمانيا، ارتكبتها زوجته الشابة وعشيقها.

يذهب أنغولوبولوس (ولد في أثينا عام 1935) نحو فلسفة الإثم والسلطة، حيث تتحول عملية "إعادة إحياء" وقائع الجريمة التي يقوم بها فريق تلفزيوني بقيادة المخرج الراحل وهو يافع،الى محاكمة سليطة للفقر والدوافع الشخصية والعوز العاطفي. تقع الزوجة الفلاحة أليني ضحية ظروف وحدتها وفاقتها، فيستغل الحارس ضعفها ويتخذها عشيقة، محرضاً إياها على تصفية الزوج المغدور. اللافت هنا ان صوغ الشريط تم بنفس تعريفي مسبّق، اي ان المشاهد يعرف مَنْ هو القتيل ومَنْ هو القاتل، وهو عُرّف في التراجيديات الاغريقية القديمة، إذ الأهم هو عرض عصب الوجع الطبقي والخذلان النفسي للبطلة التي تنوء تحت عواطف متضاربة وخائنة. يختتم الفيلم بإعادة إحياء المشهد الأول الأخاذ الذي يصور الزوج كوستاس وهو يدلف حديقة بيته منادياً زوجته التي تتخفى مع شابها خلف الباب مسلحة بالجاروف، ليتحقق المصير الدموي كإشارة إلى ان لا نهاية مرسومة ومحسومة لحكايته هذه.

من هنا، تشكلّ التسيّس السينمائي المقبل  لأنغلوبولوس الذي اتخذ صيغة فريدة مزدوجة بين "الترحال" والحكايات غير المعنية بالبحث عن نهايات، مشادة على بناء سينمائي ذي نفس شعري ملحمي لا مثيل لرونقه وتعقد درامياته. ولعل عمله اللاحق "أيام العام 36" (1972) شّكل الإكتمال الحاسم لـ"سينماه المترّوية" التي اعتمدت على اهتمامه البيّن بالتفاصيل والإنتصار للمشهد الطويل. إن حكاية الإغتيال السياسي لأحد أقطاب النقابات النافذة على يد مجهول، لا تُحكى كتحامل سهل على طغمة حاكمة وحسب، بل سعت الى تأريخية العسف السياسي وخياناته ودسائسه منذ تسلّم الجنرال ميتاكساس مقاليد حكم سرعان ما أعلن استبداده حتى وفاته العام 1941، وهي ثيمة لازمة لأنغلوبولوس، سيعود إليها ثانية بقوة في رائعته "رحلة الى كيثيرا"(1983) التي تُفصّل غربة المنفي السياسي الكهل. في الفيلم الأول، يصوغ الوقائع على أساس التهمة الجاهزة: تصفية الناشط، اتهام مخبر سابق يعاني من هوس جنسي ذكوري. في الما بين، تأتي شخصية حزبي محافظ يسعى إلى تورّيط تاجر مخدرات سابق لتصفية المخبر. يستغل هذا الرجل حالة الحزبي الذي سلمه مسدساً ويحوله إلى رهينة، الأمر الذي يعصف بالحكومة ومسؤوليها وقراراتها التي تتكشف عن سيل من الفساد والرشوات وضعف الإدارة والقرارات. فيما ذهب الشريط الثاني الى نوستالجيا سياسية حيث تتحول حكاية السينمائي الذي يتابع الحكاية القديمة لوالده المنفي إلى الإتحاد السوفياتي سابقاً، وتخيّل عودته إلى جزيرة الأحلام "كيثيرا" هي إعلان عن اضمحلال اليسار القديم كفكرة يوتوبيا غاربة. ان الكهل المنفي لا ينهي رحلته على أرضها بل يبدأ ثانية، تاريخية الملامح، قائمة على الذاكرة وتداعياتها، تترصد حجم المصاب السياسي الذي خيّم على يونانه إبان حكم الطغمة العسكرية. صور أنغلوبولوس ماضياً برسم الحاضر، لكنه خادع مشاهده ليوصله إلى حقيقة ان بلداً يقع فيه السياسي تحت جزمة العسكري لن تنتهي رحلة تقويمه إلا بـ"ثورة قوانين" تنهي الحكم الزاجر إلى الأبد. إن المشهد الخالد للعجوز وهو على فُلك عائم وسط البحر الخامد يعد من التجليات  السينمائية الخالدة لذلك اليوناني الخائب الباحث عن نهاية لا تقترب ولا تريد من أحد أن يقترب من حدودها والإمساك بإردانها، وهذا (اي الخيبة) ما يتجلى أيضا بحنكة سردية في نصه "الصيادون"(1977) الذي تابع فيه مجموعة من البرجوازيين تتصارع ذواتهم وقيمهم امام جثة متجمدة لمقاتل وطني استشهد خلال الحرب الأهلية ولاتزال جروحة تنزف دماً اتهامياً ليمينيتهم وتخاذلهم.

في ملحمته التي لا تجود بها السينما دائماً، "الممثلون الجوالون"(1974 ـ 1975)، حسم المخرج الراحل أمره مع تاريخية التحول اليوناني. سار به منذ العام 1939 حيث الشرارة الأولى للحرب العالمية الثانية ودخول البلاد في أتونها مرغمة، حتى العام 1952 حينما لاحت بشائر استقرار هشّ في عهد الرئيس كارمانليس المدعوم أميركياً. هذا التاريخ الذي لا يقف عند عتبة واحدة بل يتجلى في نص أنغلوبولوس كأوبرا سينمائية يتداخل فيها الشعر وشعاراته، التمثيل وتقمصاته، التاريخ وانعطافاته، الحكي ومونولوغاته، الاغاني وغمزاتها السياسية. انها رحلة فرقة تمثيل جوالة تسعى إلى تقديم نص فولوكلوري رعوي، بيد انها تعجز عن إكماله عرضه. انه جملة من العرقلات التاريخية التي استنبطتها الفرقة من التاريخ القديم وشخصياته الأثيرة، مجبرة على تلّبس شخصيات معاصرة توضح سيرورة الفاشيات والتحزبات والإصطراعات الإيديولوجية الكبرى وفشل السياسي وخرابه. عليه، تُمثل التقابلات الشخصية على النحو التالي: أثيسيوس = النازية، خرثيموس = الإنتهازي، أغاممنون = الوطني، كليمنسترا = السياسي، وأخيرا إلكترا = الإيديولوجي اليساري. وحول هذا كله، تدور المفاصل الحيّة للبشر العاديين: زوجة خؤون، جنرال منحرف، وابن حقود وغيرهم، ليتم لمّ شمل قطاعات متعددة من المجتمع اليوناني على خشبة مسرح أسخيلوسي مؤفلم تستمر مشاهده المعقدة والمفعمة التأثير والفطنة على مدى 230 دقيقة من بهاء السينما.

هذا البهاء يتفجر سخياً في العمل الباهر "ألكسندر الكبير"(1980) الذي تتحول فيه الأسطورة إلى سخط عارم على التاريخ ورموزه، على البطل الفاسد الذي لا يرحم والمعمم لخطاياه على الجميع، على الظروف والمناورات التي تحوّل رمزاً وطنياً الى مستبد لا يرحم. "ألكسندر" أنغلوبولس وليد من تاريخين ووجهين: ذلك الموغل بالقدم الذي قاد الأمة الايونية إلى أمجاد الإحتلالات والفتوحات، ونقل الدولة إلى عمق مركزيتها العسكرية الضاربة، والآخر الحداثي المتحوّل إلى محرر يوناني يعتصم في الجبال محارباً الأتراك الأجلاف، بيد ان قدره يتحول حينما يرهن مجموعة من الأرستقراطيين الإنكليز ويوطنّهم  في قرية لتأسيس كومونة أشتراكية مكتفية بذاتها سياسياً واقتصادياً، وكلما تعززت بنيتها يتحول ألكسندر شيئاً فشيئاً إلى ديكتاتور على النمط الستاليني. كتب المخرج الراحل على مدونته الرسمية يقول إن الشريط الملحمي (210 دقائق): "يحيط بتحول شخص ما الى طاغية. وهو ليس معنياً فقط بمقاربة ظاهرتي الفاشية او الستالينية، ولكن أيضا أي نوع من التسلط. إن المشهد في "ألكسندر الكبير" يحذر من تحول اي سلطة او قوة، بغض النظر عن نياتها الحسنة في بداياتها، إلى حكم مطلق".

لا ريب في أن اصرار المخرج على يساريته الإيديولوجية مكّنه من الوقوف على التحولات العارمة والمتسارعة التي تشهدها بلاده ومثلها القارة بأكملها بكثير من الرويّة والإستفزاز معاً. إن سعي دولها إلى الوحدة، نقلت سينما أنغلوبولس الى ما يُشبه منتوج لـ"جماعية أوروبية" الأمر الذي يوضّح كثرة الضمانات الإنتاجية للمخرج الراحل التي وفرت له سخاء سيولة نقدية، مكّنته من الإستمرار في إنجاز بصائره السينمائية التي تكللت بخمسة نصوص تصاهرت في مقاربات سيا ـ اجتماعية حول هموم الأوروبي الجديد، فـي "مربي النحل"(1986)، وهو درس سينمائي غني حول التغريب الذاتي. يتخلى العجوز سبيروس (مارتشللو ماستروياني) عن كل شيء غدّاة زفاف ابنته الوحيدة، ويجول اليونان متجهاً إلى مسقط رأسه كي يربي الحشرة النافعة مثلما كان يفعل أجداده. تنقلب حياته، حينما يتعرف على شابة عصرية جوالة تفتنه وتعلمه دروباً جديدة للحياة. بيد ان العلاقة الشاذة لن تُحقق مراده في فهمها وجيلها، فهو محكوم إلى الأبد بماضيه وجيله الآفل وعزلته النهائية وعقصات نحله. وهي شخصية تستكمل كينونتها في "عثرات اللقالق"(1991) عبر ذلك الغريب (ماستروياني) الذي تحصّن في قرية حدودية نائية، لنكتشف عبر صحافية تغطي الهجرة السرية لأهل الشرق الأوروبي أنه سياسي بارز اختفى. والجلّي ان حجة وجود هذه الشخصية هي اهتمام أنغلوبولس بإحدى القضايا الجوهرية وقتذاك وهي قضية الحدود التي قال عنها في مدونته: "في التعاطي مع الحدود والحواجز واللغات المتمازجة ومثلها الثقافات، عزمت البحث عن إنسانية جديدة، عن سبيل جديد". فيما يتحول بحث الصبية فولا وشقيقها الصغير ألكسندروس في شريط "منفسح في الضباب"(1988) عن والدهما الى احتكام أسود لعالم الكبار المتعفن. إن غياب الأب القسري عنهما يجعل من حكاية جيلانهما بلا نهاية. انها مثل ضباب يعمي البصر من دون ان يفلح المرء في إمساك تلابيبه، هذه هي أوروبا الوليدة التي لا تريد أستغفال حقها في أبوة مقبلة.

تستمر ثيمة الضياع  في "تحديقة عوليس"(1996) و، حيث يبحث الممثل الأميركي هارفي كايتل في الشريط الاول، الذي يؤدي فيه دور سينمائي طليعي، عن ثلاث بكرات سينمائية قديمة من أفلام مخرجين مقدونيين رائدين يغلق بهما دائرة الغموض في تاريخ المنطقة، فيما يخوض زميله برونوغانز في الثاني، حيث يؤدي دور شاعر، في صراع مرير مع مرضه وأقتراب أجله ومثلهما هوسه في استكمال كتابة قصيدة تعود الى القرن التاسع عشر ولم تُنجز ابياتها رغم السنين. ليكمل الاثنان دوراناً تاريخياً يربط بين عزوم فريد يسعى الى معاني حقيقية لحيواتها.

خطف الموت أنغولوبولس على حين غرّة، فانتقصت ثلاثيته السينمائية الجديدة التي قدم منها مقطعها الأول في مهرجان برلين عام 2003  تحت عنوان "المرج الباكي" وغطت حكايته ثلاثين عاماً من تاريخ اليونان، منذ احتلال الجيش الأحمر إلى أوديسا وحروب المقاومة الإغريقية وانتهاء بالحرب الأهلية. وكما كان مخططاً، فإن الجزء الثاني الذي عمل عليه المخرج الراحل  حتى يوم الثلاثاء الماضي، يستكمل تفاصيل الحوار السياسي خلال خمسينات القرن الماضي وما تلاها. السؤال: ترى كم أنجز من القسم الثاني، وهل يتحقق اكتمال فصوله على يد تلاميذه مسترشدين بملاحظاته التي لا بد انه خلف منها الكثير؟

رحل المعلّم الكبيرالذي رأى في أوروبيته مفتاحاً للوصول إلى تطامن سينمائي ديناميكي ومتنور وتحريضي مع مشاهد عالمي لم يخش ملحمياته وبطء مشهدياته وتأني لقطاته. انه مخرج ـ أيقونة سيحفظ ممسوسو السينما فضائله أسوة بالقامات الكبيرة على شاكلة برغمان وبونويل وكوروساوا وفيلليني وغيرهم.

مهرجان أبوظبي السينمائي في

26/01/2012

 

كتاب «الحذف» وفيلم «دوتش، سيد زور من الجحيم» لريثي بان

إنســانية الجــلاد الزائفــة

نديم جرجورة 

منذ أعوام مديدة، بدا المخرج الكمبودي الفرنسي ريثي بان (مواليد بنوم بنه، 18 نيسان 1964) متفرِّغاً، أو شبه متفرّغ، لمسار واحد: التنقيب في الذاكرة الفردية عمّا جرى للجماعة. أو بالأحرى، كشف اللثام عن جرائم مرتكَبة بحقّ ناسه القريبين جداً منه (والديه، إخوته، أقاربه من جهتي الأم والأب)، والآخرين المنتمين مثله إلى بلد عانى أهوال الجريمة الجماعية المنظَّمة، وها إن بعض مرتكبيها ينفي عن نفسه أي مسؤولية: بين العامين 1975 و1979، أباد النظام الدموي الحاكم في كمبوديا، المتمثّل بالخمير الحمر وسيّدهم بول بوت، نحو مليون وثمانمئة ألف مواطن كمبودي، في واحدة من أبشع جرائم الإبادة الجماعية، في مرحلة خصبة بالنزاعات الدولية، والانقلابات العنيفة، والصدامات الملطّخة بالدم والجثث. ريثي بان نفسه اعتُقل كأفراد عديدين من عائلته وأبناء بيئته وبلده. غير أنه تمكّن من الفرار، على نقيض آخرين، حاملاً معه ذكرى مليئة بالوحشية التي أفضت إلى تصفية عائلة كاملة، بل إلى تصفية العدد الأكبر من عائلته. تمكّن من الفرار، ووصل الى باريس بعدها بأعوام قليلة جداً، أي عند بلوغه الثامنة عشرة من عمره.

عودة

الذاكرة هذه خصبة بالمعطيات التاريخية والإنسانية. خصبة بأحداث دموية جعلته يتوغّل فيها، كتوغّله في أرض بلده والأمكنة التي شهدت بناء معسكرات الاعتقال والإبادة. عودته إلى كمبوديا لم تكن مجرّد عودة منفيّ إلى بلده الأم، أو عودة ابن البلد إلى مراتع الطفولة والمراهقة، كسائح غريب. عاد ريثي بان كي يرمّم الذاكرة. كي يتطهّر، بترميمه الذاكرة، من آلام وجراح. عاد حاملاً معه كاميرا سينمائية، كي يلتقط الآنيّ المفتوح على الماضي. كي يُصوّر الحيّز المكانيّ المقيم في بشاعة زمن لم يمض، كي يذهب إلى الأماكن القصيّة للروح المعذَّبة. ذهب إلى الأمكنة الشاهدة على القتل الجماعي، والتعذيب الجماعي، كي يغتسل في الراهن من ألم الحكاية. عودته معقودة على الخلاص. لكن النتيجة متكاملة والسعي الدؤوب لخلاص كهذا: ثلاثة أفلام، آخرها «دوتش، سيّد زور من الجحيم»، وثائقي جديد بدأت عروضه التجارية في فرنسا في الثامن عشر من كانون الثاني 2012، وكتاب بعنوان «الحذف» (للكلمة الفرنسية أكثر من مرادف عربي. فـ«L’Elimination» تعني، بالإضافة إلى «الحذف»، الإسقاط أو الاستبعاد. وهذه كلّها منصبّة في المناخ العام للكتاب، المستمدّة مادته من عمليات الإبادة الجماعية التي مارسها الخمير الحمر ضد الكمبوديين)، صدر بالتزامن مع إطلاق العرض التجاري للفيلم الثالث هذا لبان في المجال نفسه، بعد «بوفانا، مأساة كمبودية» (1996) و«أس 21: آلة القتل الخاصّة بالخمير الحمر» (2002)، الفائزين بجوائز متفرّقة، منها «جائزة بلانيت كابل» للأول، و«جائزة فرانسوا شالي» للثاني، التي نالها أثناء انعقاد الدورة السادسة والخمسين (2003) لمهرجان «كانّ» السينمائي، و«جائزة لجنة التحكيم الخاصّة» بمهرجان كوبنهاغن (2003) أيضاً.

في واحد من أقسى المشاهد المُصوّرة في «أس 21»، التقى أحد آخر الناجين من الموت من المعتقل الأشهر (أس 21) بجلاّده، في «تواطؤ» سينمائي بين المخرج والجلاّد. بدت اللحظة واقفة عند منعطف غامض. فالمواجهة متأخّرة سنين عديدة. الرجل الناجي من موت الاعتقال والتعذيب بفضل براعته في الرسم (طُلب منه أن يرسم الجلاّد مراراً)، بات في مواجهة تاريخه وذاكرته. الجلاّد أيضاً. لكن موقف الأخير متعال دائماً لنفيه المستمرّ مسؤوليته المطلقة عن الجحيم المفتوح بأمر منه أمام آلاف الأبرياء. لم تقع المواجهة، لأن شيئاً ما أشار إلى قدرة الجانب الإنساني على تجاوز المحنة. هذا لا يعني إطلاقاً منح الجلاّد مغفرة الضحية. لا يعني إطلاقاً تحرّر الضحية من الحقد أو الغضب. الجانب الإنساني هنا أداة بارعة في تجاوز الماضي من دون نسيانه. في الاغتسال من ألم الماضي من دون إقفال الكتاب. المسامحة قد تكون مؤجّلة. لكن الإنساني في الضحية بدا أقوى، بعد مرور السنين هذه كلّها.

«برأيي، هذا المجرم الكبير رجلٌ، يجب منحه (إمكانية إظهار) الجانب الإنسانيّ فيه. يبقى القليل من هذا الجانب دائماً»، قال ريثي بان في تقديمه «دوتش: سيّد زور من الجحيم». أما الـ«دوتش»، فهو الجلاّد المسؤول عن معسكر الاعتقال والإبادة «أس 21». ريثي بان التقاه، منطلقاً من إيمان ذاتيّ بأن «هناك دائماً خياراً لدى المرء بأن يبقى إنسانياً» كما قال المخرج في حوار مع المجلة الأسبوعية الفرنسية «لو بوان»، في الثاني عشر من كانون الثاني 2012. من قناعة مكمِّلة لهذا، مفادها أن هناك جانباً من الإنسانية عند الجلاّد، طارده (الجانب الإنسانيّ) السينمائيّ «من دون حقد، لكن ليس من دون غضب»، كما جاء في مقالة منشورة في الموقع الإلكترونيّ للمجلة الأسبوعية الفرنسية «إكسبرس» في الخامس عشر من كانون الثاني 2012: في فيلمه الأخير هذا، والكتاب الجديد الذي وضعه بالتعاون مع الكاتب والناشر الفرنسي كريستوف باتاي (41 عاماً)، أكمل بان رحلته في أدغال الذاكرة التي صنع الخمير الحمر جانبها المأسوي الدموي العنيف.

الإنسانيّ

بعد «أس 21»، ظنّ أنه انتهى من المسألة. ظنّ أنه بلغ مرتبة ما من المصالحة الشخصية مع الذات. لأنه غاص في حقول القتل، متوغّلاً في المدرسة تلك في بنوم بنه التي حوّلها رجال الخمير الحمر إلى أحد أبشع مراكز التعذيب والقتل (بحسب إحصاء رسمي، قُتل في معسكر «أس 21» 12380 شخصاً: «لكن، كم هو عدد الذين لم نعثر على أثر لهم هناك؟»، كما تساءل بان). غير أن زمن المحاكمة الخاصّة بقياديي الخمير الحمر أطلّ على كمبوديا بعد أعوام طويلة: «صَوَّر الـ«دوتش» في زنزانته. سَجَّل أقواله. استبسل لإخراج الحقيقة من الجلاّد المُعذِّب، متأكدّاً من أن كل رجل، مهما ابتعد عن الإنسانية، قادرٌ على العودة إليها ذات يوم. متأكّداً أيضاً من أنه في اليوم هذا (عودة الجلاّد إلى الإنسانية)، كل واحد يربح: الـ«دوتش» الجلاّد كما ريثي الضحية» («لو بوان»، العدد نفسه). روى الناقد السينمائي الفرنسي باسكال ميريجو في مقالته هذه تفاصيل عدّة خاصّة بكيفية اشتغال ريثي بان فيلمه هذا: أشهر مضت لم يستطع ريثي بان خلالها بناء فيلمه في غرفة المونتاج. كوابيس وآلام متنوّعة ألمّت به عندما استعاد السينمائيّ قولاً للجلاّد، ذكر فيه أن ضحايا «أس 21» سُحبت دماؤهم لغرض «تجارب جرمية»، كما فعل النازيون سابقاً. لهذا، قرّر وضع الكتاب متعاوناً مع باتاي: «من بين آلاف الأمور الأخرى، قال الكتاب كيف ولماذا يُمكن للكلمات أن تقتل. كيف ولماذا يُمكن للكلمات أن تُهدّئ (البال أيضاً)». الكتاب «مسار شخصي حميم جداً ومعقّد جداً ليكون فيلماً». لكن الكتاب «مضيء». إنه عبارة عن «إضاءة الليل» الذي شهد «ترحيل» أناس كثيرين (إلى معسكرات التعذيب والقتل. أي إلى معسكرات الموت).

بالعودة إلى الفيلم، نقل الموقع الإلكتروني لـ«إكسبرس» (العدد المذكور أعلاه) عن ريثي بان قوله إنه لم يشأ إنجاز الفيلم هذا في البداية، لاعتباره الفيلم السابق «أس 21: آلة القتل الخاصّة بالخمير الحمر» كاف: «كنتُ مهتمّاً بالمحاكمة. لكنّي اصطدمت ببيروقراطية الأمم المتحدّة»، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن المحكمة باتت أشبه بـ«منبر» حرّ للمتّهمين: «هؤلاء سيكتبون التاريخ. لهذا، فكّرت، أنا أيضاً، بكتابة تاريخنا». أما نقطة انطلاقه، فمتمثّلة بالسؤال الإنساني نفسه: «لا يولد المرء مجرماً. إذاً، في أية لحظة حدث الاختيار؟». أضاف مارتن بورو (المقالة المنشورة في الموقع الإلكتروني لـ«إكسبرس» نفسه، بالتعاون مع «وكالة الصحافة الفرنسية») أن الـ«دوتش»، «الباحث عن خلاص لروحه»، وافق على اللعبة المقترحة من قِبل السينمائي، مُضيفاً الى بحثه هذا «رياءه ونفاقه وخبثه». شاهد الجلاّد الأفلام السابقة لبان، وقال له: «سنبحث معاً على الحقيقة». لكن، عليها هي بالتحديد، أي الحقيقة، تواجه الرجلان و«تشاتما كثيراً»، كما قال بان، الذي فهم مباشرة أن الـ«دوتش»، بموافقته على اللعبة، أراد أن يتلاعب بالمخرج: أي أراده أن «يُنقِّح» له سيرته. أن يصنع «نسخة مخفَّفة من سيرته». المخرج مُدركٌ تماماً قذارة الجلاّد، الذي أنكر معرفته بما كان يجري داخل جدران المعتقل: «ادّعى أنه لم يسمع أبداً صراخ المُنكَّل بهم. أنه لم ير ضحاياه. أنه لم يُشارك إطلاقاً بعمليات القتل. أنه بالكاد عرف بما يجري». قال بان، المقتنع كلّياً بأن للـ«دوتش» دوراً أكبر بكثير مما أراد الاعتراف به: «توقّف عند أنصاف الحقائق. اعترف بأنه كان موجوداً هناك، لكنّه ادّعى أنه لم ير شيئاً». أضاف ريثي بان: «أعلن الـ«دوتش» أن أحداً لن يخرج حيّاً (من المعتقل هذا). أن المعتقلين جميعهم يموتون عندما يُقرّر هو ذلك. أن الانتحار ممنوع».

كلاكيت

على مسؤوليتها

نديم جرجورة

نشرت الشابّة المصرية علياء المهدي صُوَراً فوتوغرافية أظهرتها عارية تماماً. هذا دفع كثيرين إلى الإدلاء بتحليلات تنظيرية جمّة، مالت غالبيتها إلى الدفاع عن الصبيّة وتعرّيها، بحجّة «الحرية الفردية». رأى هؤلاء صواباً في تصرّفها هذا، في ظلّ تنامي أصولية دينية واجتماعية وثقافية متزمّتة، في مصر والعالم العربي. تنافسوا على إصدار ما يُشبه الفتاوى (سلباً أو إيجاباً) بحقّ الشابّة، التي تصرّفت بوحي قناعة ذاتية بحتة، يستحيل على الآخرين إدراك كنهها. أي أن سبب الفعل بحدّ ذاته محصورٌ بالفاعلة نفسها. هذا حقّ مطلق لها. لكن: هل هذا نتاج قناعة حقيقية واعية بأن التعرّي سلوك مُضاد لسطوة التزمّت، أم أن التعرّي ونشر صُوَره «استعراض إعلاميّ» في زمن سطوة التقنيات الحديثة لوسائط الاتصال؟ الكتابة المُدافعة عنها منطلقة من ثقافة متكاملة نواتها الحرية والانفتاح والتفكير الليبرالي، أم أنها فعل «أستذة» وتشاوف وادّعاء؟

شاركت الممثلة الإيرانية كَل شفته فاراهاني في حملة ترويجية لجوائز «سيزار» الفرنسية، ارتكزت على العلاقة بين الجسد والأداء والشفافية والإبداع. على التعرّي ومحاولات التعرّي أيضاً. الممثلة الإيرانية مُقيمة في باريس، منذ قرّر حماة الأخلاق الحميدة في بلدها أنها «غير صالحة للإقامة» في جمهورية الإسلام، لأنها مثّلت في فيلم أميركي (الارتماء في أحضان الشيطان الأكبر) من دون حجاب (الخطيئة الأصلية). مارست فاراهاني حقّها الذاتي في سلوك رأته متجانساً وقناعة ذاتية «تُملي» عليها تصرّفاً أو سلوكاً ما. أميل إلى الاكتفاء بتحليل كهذا. السبب الجوهري الذي دفعها إلى التعرّي أمام عدسة الكاميرا يبقى سرّاً، هي الوحيدة المعنية به.

ليس كل سلوك مرتبطاً بموقف «ثوريّ» أو «انقلابيّ» أو «متمرِّد» لفرد وسط جماعته وضدها. أميل إلى أن المهدي وفاراهاني أقدمتا على الفعل المذكور بقناعتين ذاتيتين لا تحتاجان إلى أي تنظير. قناعتان خاصّتان بهما، وإن عبّرتا عنهما بخفر، أو مباشرة. هذا، برأيي، كاف. أي أنه لا يحتاج إلى هذا الكَمّ من التنظير والنقاش، وبعضهما مرتكز على أبوّة مرفوضة، مارسها كتبة ظنّوا أن أموراً كهذه تُضيف على رصيدهم خطوة جديدة من خطوات دفاعهم عن الحريات العامّة. هذا ما حصل مع الفعل الفردي للتونسي محمد البوعزيزي: هل تتذكّرون الكَمّ الهائل من آيات التبجيل والتحليل التي سيقت له وعنه، هو الذي صرخ، أثناء احتراق جسده، طالباً النجاة من الموت؟

القصد من هذا كلّه كامنٌ في مكان آخر: هناك من يمارس فعل الكتابة التنظيرية المملّة، بإمعانه في تحميل أفراد مسؤوليات هم، أي الأفراد، لا يقصدونها. قد تكون المهدي «مناضلة»، اعتبرت أن العري أداة تعبير. هذا حقّها الذاتيّ. قد تكون فاراهاني مقتنعة بضرورة المثابرة على استفزاز سلطات بلدها، فوجدت في التعرّي سبيلاً إلى المناكفة الشخصية البحتة. هذا خاصّ بها هي وحدها. المزعج في الأمر أن كتابات عدّة أرادت أخذ الشابتين إلى الأمكنة الخاصّة بكاتبيها. هذه سطوة أبوية لا تقلّ بشاعة عن سطوة التزمّت الأصولي.

السفير اللبنانية في

26/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)