حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

مرزاق علواش.. من نفي داخل الوطن الى نفي داخل العالم!

هوفيك حبشيان

سواء صور معاناة مواطنيه في ايجاد مكان لهم تحت الشمس الجزائرية ("الحراقة" ــ 2010)، أو صوب كاميراه في اتجاه متاعب صاحب مكتبة ("الرجل الذي كان ينظر الى النوافذ" ــ 1986)، من الصعب أن يعبر فيلم للمخرج الجزائري مرزاق علواش الحياة الثقافية في بلاده من دون أن يترك خلفه ردود الفعل المؤيدة أو المستهجنة. في مهرجان وهران الأخير (15-22 كانون الأول/ديسمبر 2011)، على سبيل المثال، أحدثت مشاركته جدلاً واسعاً من قبل صحافة، اعتادت أن تحاكم الفنانين وفق مبادىء أخلاقية، ما أغضب المخرج كثيراً. وبات معلوماً ان هذه المبادىء لم تعد تتماشى مع قيم العصر الحديث ومتطلباته وتتناقض مع زمن انفتاح الثقافات على بعضها، لا بل تداخلها في ما بينها حدّ الانصهار والتماهي.

تغذت افلام علواش من الخطاب الذي استطاع ان يبتكره من تجواله بين قارتين، أفريقيا وأوروبا. أي من الذهاب والإياب بين فرنسا والجزائر؛ دولتان تشاركا نحو قرن ونصف من التاريخ، ينطوي على استعمار وحروب وتسلط وابتزاز. "كل حريتي في العمل والابتكار ناتجة من قدرتي على الحركة والتنقل"، يقول علواش مدركاً عمق الينبوع الذي ينهل منه.

المرة الاولى التي جاء فيها علواش الى باريس كانت في العام 1967، قبل عام واحد من اندلاع أحداث أيار 68. جاء من أجل المشاركة في دورة تدريبية، بعدما نال منحة دراسية لثلاثة أشهر، لكن شاء القدر أن يبقى فيها خمس سنوات متتالية. عند عودته الى الوطن، لم يكن في باله الا رغبة واحدة: تصوير فيلم عن الشباب الجزائري، بعيداً من كل ما كان يُنجز آنذاك في السينما الجزائرية من أفلام ذات نفحة قومية. ترافق وصوله الى الجزائر مع حقبة تاريخية مهمة: إطلاق الثورة الزراعية وإعلان الرئيس بومدين عن تأميم الأراضي وإجراء إصلاحات زراعية عميقة. فانتسب علواش فوراً إلى هذه الحملة وبدأ العمل في وزارة الثقافة وراح يشارك في تنظيم "جولات سينمائية" على القرى لشرح مضامين الثورة الزراعية.

في حلقة تلفزيونية، بثّتها قناة "الجزيرة"، قال علواش عن هذه الفترة من حياته: "كنتُ مناضلاً بقوة وكنتُ سعيداً جداً. هكذا رجعت وكلني أمل بأن شيء مهم يحدث في البلاد. أخرجتُ فيلم "عمر قتلاتو" وفيلم "مغامرات بطل" الذي تحدثت فيه عن "الرومنطيقية الثورية" والفلاحية. فيما بعد توفي الرئيس بومدين، وتم انتخاب رئيس جديد، وساد مناخ مختلف في الجزائر، فأخرجتُ فيلمي الثالث "الرجل الذي كان ينظر إلى النوافذ" بإمكانات متواضعة جداً، وهو فيلم لم يجلب أكثر من ثلاثمائة مشاهد ووصفته أقلام تلك الحقبة بأنه غير مجدِ وبأنه بذّر أموال الدولة. بعد هذا الفيلم شعرتُ فجأة بالرغبة في الرحيل".

لا يمكن الحديث عن مسيرة علواش، صاحب الـ13 فيلماً طويلاً، من دون ذكر باكورته التي مازالت أحد أهم الأفلام الجزائرية والعربية على الاطلاق: "عمر قتلاتو" (أو "عمر قتلته الرجولة"). أنجز الفيلم عام 1976، وهز السينما الجزائرية التي وقعت، منذ الاستقلال عام 1962، اسيرة بروباغندا الدولة، وهي الممولة الأبرز لهذه الأفلام. كان علواش من السينمائيين الجزائريين الذين برزوا في منتصف السبعينات بعدما ضاقوا ذرعاً بـ "سينما الأب". هؤلاء، كانت السينما الايطالية والـ"موجة الجديدة الفرنسية" مصدر الهامهم. في هذه الأجواء المتمردة، ألّف علواش نصّ فيلمه وصوره. وفيه نتابع موظفاً اسمه عمر وحكاياته الصغيرة، "مشكلجيّ" ومغرم بالحياة. يقحمنا الفيلم، باسلوب ريبورتاجي، في يومياته ويعرفنا الى المعنى الذي يحمله اسمه (عمر قتلته الرجولة)، قبل أن ندخل في الأشياء التي صنعت طفولته وطموحه الكبير في امتلاك أكبر كمية من اسطوانات موسيقى "الشعبي". من هذا التماهي بين علواش وعمر تولد شخصية اسطورية ستبقى اناه الأخرى للمخرج، حتى بعد مرور ثلاثة عقود ونصف على ولادتها.

علواش شاهد على مرحلة مهمة من تاريخ بلاده. انه صلة وصل بين جيلين، جيل ينظر الى الماضي وآخر ينظر الى الحاضر، لعله يرى فيه المستقبل ويستشفه. لذلك، افلامه، في معظمها، صمدت أمام امتحان الزمن، أولها "عمر قتلاتو"، الذي ظلّ محافظاً على شبابه وألقه حتى بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على انجازه. هذا الفيلم الذي عُرض في "اسبوع النقاد" (مهرجان كانّ 1977)، قال عنه فرونسوا دو لا بريتيك لدى استعادته أخيراً في الجزائر: "انه اعجوبة صغيرة. أن يتمسك مثل هذا الفيلم برونقه بعد كل هذا الوقت، فهذا ليس بالشيء المألوف". والسرّ، مرة أخرى نقول، يكمن في ان علواش أراد من خلاله الالتفات الى ما يمكن فعله من أجل الجزائر، بدلاً من البكاء على تاريخها القائم على الكولونيالية. كان علواش يجيد دائماً التقاط التحولات الإجتماعية وتجسيدها في نتاجات بصرية رفعت من شأن السينما الجزائرية الغارقة، حتى وصوله وأبناء جيله، في الانشائيات القومية الفارغة.

في بعض من أعماله التالية، لم يحقق علواش ما حققه مع أفلامه الأولى، جمالياً ودرامياً وانسانياً، لكن بقيت النظرة فذة والهمّ قائم والعلاقة بالواقع حاضرة بقوة من خلال مزج متماسك بين ما ينتمي الى عالم الخيال وما يخرج من جبّ الأرض الخصبة بالحكايات. في "مغامرات بطل"، عام 1977، وهو، كما يفصح العنوان، مغامرات مهدي، البطل الشعبي الذي يأخذنا معه في جوله تختلط فيها المخيلة بالوقائع الحياتية المنطوية على الكثير من السخرية. قبائل وقناعات وبطل مزيف يتربى منذ نعومة اظفاره على فكرة انه المخلص لسكان منطقة صحراوية. هذا كله يتحول مناسبة كي يتأمل علواش في واقع المجتمع الجزائري. مع فيلمه التالي "الرجل الذي كان ينظر الى النوافذ"، سيتكرس علواش كأحد أعلام السينما في جنوب أفريقيا، وهو لما يزل في منتصف الثلاثينات من العمر.

عودته الى فرنسا، للاقامة والعمل، ستثمر فيلماً سماه "حبّ في باريس"، أبصر النور عام 1983، وهو من تمثيل كريم علاوي وكاترين ويلكنينغ ودانيال كون بنديت. ماري، فتاة جزائرية، تصل الى باريس وطموحها مزاولة مهنة عارضة الأزياء. فيستقبلها برنار، الرجل الذي كان من ثوار "أيار 68". لكن الصدفة ستضع ماري على طريق علي، الخارج من السجن لتوه، لتبدأ بينهما قصة حب مجنونة ويائسة.

في أواخر الثمانينات ستقود الأحوال الجديدة للجزائر مخرجنا الى التقاط نبض المجتمع الجزائري، مجدداً، ولا سيما الشباب، في أفلام وثائقية ميدانية. فيرحل في أسفار مستمرة ومتواصلة الى مختلف انحاء البلاد، من شرقها الى غربها ومن جنوبها الى شمالها، مع رغبة دائمة في فهم ما يحصل. مرة أخرى سيشق طريقه الى مهرجان عالمي مثل كانّ، الذي سيستقبله هذه المرة في تشكيلته الرسمية. والمناسبة فيلم جديد، "باب الواد الحوم" (1994)، معه يسجل علواش عودته الى السينما الروائية بعد فترة انقطاع عنها اتاحت له الغوص في الوثائقي. هذا واحد من افلامه الرئيسة، تدور حوادثه في الحيّ الشعبي لجزائر العاصمة. بو علام موظف في مخبز الحيّ. يعمل ليلاً وينام نهاراً. ذات يوم، وهو يرتاح في نومه بعد ليل طويل من العمل، يوقظه انزعاجه من صوت امام المسجد الذي تبعثه المكبرات. مسكونٌ بغضب شديد، يقتحم بو علام باحة المسجد ويستولي على مكبر الصوت ويرميه في البحر، لتبدأ مع هذه الحادثة متاعبه مع الحي بأكمله. طبعاً، هذا كله مستقى من سنوات الارهاب التي عصفت بالجزائر، التي يلقي علواش عليها نظرته غير الرحومة.

باب مهرجان كانّ لم يُقفل أمامه، كونه سيعود اليه مع "سلاماً يا ابن العم"، بعد عامين (في "اسبوعي المخرجين")، وهو عن الصعوبات التي سيواجهها شاب جزائري وابن عمه في باريس، بعد مجيئهما اليها، وعملهما في مهن متواضعة. عليلو وموك، كل واحد مختلف عن الآخر، ومن هذا التناقض الذي بينهما يولد شريط تدور احداثه في نطاق أيام معدودة.

مع "شوشو" (2003) سيخرج علواش عن الخط الملتزم المطروح أمامه، والذي لم يبق له الا أن يقتفي اثاره. لكن روحه المغامرة ستجعله يختبر أطعمة جديدة، ونمط جريء الى حد ما، يُدرج تحت راية الكوميديا الممزوجة بالدراما الاجتماعية. هنا البطل شوشو، شاب مخنثّ يحلم بحياة أخرى في أوروبا. ضمّ الفيلم مجموعة من نجوم الشاشة الفرنسية، مثل كلود براسور وآلان شابا، وفي مقدمهم جاد المليح، الفرنسي من اصل مغربي، الذي ساهم هذا الفيلم في ان يطير صيته، وتدوّل سمعته.

لم يعرف علواش الاستقرار كما غيره من السينمائيين الذين وجدوا في ملاذهم الجديد ما يشفي غليلهم. صلته بالمكان ظلت على حالها على مر العقود. وكانت رغبته في الرحيل من الجزائر تتبعها دائماً حاجة ملحة إلى العودة، كما هي حال شخصيات كثيرة تجد الأمان في مكان والعاطفة في مكان آخر، من دون أن تستطيع تقريب المسافة بين الاثنين. هناك النفي الى الخارج وهناك ايضاً من يشعرون بالنفي داخل بلادهم. تجربته نابعة من هذا الاحتكاك بين المنفيين. وسينماه تستمد شرعيتها من الشرارة الناتجة من الاحتكاك بينهما. كثيراً ما عمل في أفلامه على ظروف الشباب في كل من الجزائر وفرنسا. "أن تكون منفياً في بلادك يعني أن تشعر بالظلم"، يقول علواش من دون ان ينسى تذكيرنا بأن الجزائر تمثل الجنة على الأرض بالنسبة الى أولاد العائلات الميسورة الذين يتنقلون بسيارات الدفع الرباعي ويتشمسون في المسابح الخاصة حيث لا يحق لأي جزائري الدخول.

عندما التقيته للمرة الاولى في البندقية، أخبرني انه عندما كان شاباً، كان يقال له: السفر ينحت الانسان. وجزء من رغبته في الرحيل كان أن يرى آفاق أخرى. كان السفر أكثر حرية في تلك الحقبة: "البعض كان يذهب ولا يعود. انه النفي. الذهاب الى مكان آخر لتحقيق الذات والنجاح أمر شرعي تماماً. فعل الرحيل هذا قائم منذ زمن بعيد".

في الفترة التي عاد فيها علواش الى الجزائر بعد مكوثه في باريس، كان هناك اعتقاد سائد في وسط المثقفين والسينمائيين بأن الجزائر بلاد فتية وأن تجربة الاشتراكية التي اعتمدتها تجعل منها قائد العالم الثالث. لكن هذه التجربة لم تقلص البتة من نسبة الصعوبات الحياتية التي كان يرزح تحتها المجتمع الجزائري الخارح لتوه من استعمار لم يتحرر منه الا بدم الشهداء. وكونه ينحدر من بيئة شعبية، كان من الطبيعي، عندما أتيح له الوقوف خلف الكاميرا، أن  يستلهم من تلك الأوساط المتواضعة مادياً، ولا سيما الشباب، ناقلاً تفاصيل عيشهم اليومي الى الشاشة. وبهذا احدث قطيعة غير مسبوقة في السينما الجزائرية مع الماضي الذي كان لا يزال في تلك المرحلة يلقي بظلاله على جزء كبير من النتاج البصري.

لا يصنف علواش نفسه مخرجاً سياسياً، فهو يرى انه من السينمائيين الذين يقاربون السياسة من دون نية مسبقة. لكن، ما ان ينتهي من وضع ملامح الشخصية حتى يشعر تلقائياً، ومن دون تخطيط، بأنها انطوت على بُعد سياسي واضح. ورغم اعترافه بأن السينما الملتزمة في زمن سقوط الأفكار الكبيرة لم تعد محبذة و"على الموضة"، إلا أنه يراها ضرورية في بلدان مثل الجزائر قائمة على الاضطرابات المستمرة. وليس الالتزام في نظره سوى "عدم غض الطرف عن بعض المظاهر في واقعنا". وطبعاً، لا يريد للفيلم الملتزم أن يتحول بوقاً لفريق أو أن ينطوي على منشور نضالي، كما كانت الحال في السبعينات. في هذا السياق، يرى مثلاً انه من غير المقبول تصوير فيلم في الجزائر من دون الاتيان بذكر العنف الذي كان سائداً في مرحلة ما. فهذا العنف يسكن التاريخ الجزائري، وهو بالتالي يجب أن يسكن السينما.

في الحقبة السوداء من الواقع الجزائري، أي تلك التي انطلقت في نهاية عام 1988، وُضع السينمائيون أمام خيارين: الرحيل أو البقاء. وبدأت الانقسامات تسير دربها المعتاد. فمن اختار البقاء في الوطن، اعتُبر مقاوماً من قبل المنظومة الفكرية السائدة، أما من ضبّ أمتعته وهاجر فصنف في عداد الجبناء.

هذه الحقبة، واجهها علواش بحلوها ومرها، عندما صور فيلمه "باب الواد سيتي"، وفيه كان يريد تناول أولى أعراض العنف والتزمت الديني التي بدأت بالظهور في أحياء الجزائر العاصمة. في تلك الآونة التمهيدية، كان علواش يلمس المأساة التي تلوح في الأفق، لكن من دون أن يعرف كيف يشخصها. يقول: "كنا نشاهد أشياء خطيرة تحدث في الأحياء، حيث كان يجري التهجم على الفتيات الشابات والجامعيات اللواتي لا يضعن الحجاب مثلاً، أو منع بعض العروض، كان هناك العديد من الأمور التي بدأت تثير فينا القلق".

ضمن هذه الأجواء، كتب علواش سيناريو "باب الواد سيتي"، لكن فيما كان يلتقط المشاهد راحت تتغير الظروف والأحداث، الى أن اغتيل الطاهر جاعود وهو لم يكمل التصوير بعد، فأصيب بالاحباط وصار يشعر بعدم جدوى العمل السينمائي. يقول: "كنتُ أقول أنه إذا تمكنتُ من حماية نفسي ومن الاستمرار في العمل فإني قد صنعتُ مقاومتي الداخلية، هذا كل ما أستطيعه: أن أتابع عملي، أن أقرر أن لا أكون شهيداً، وأن لا أقتل من دون أن أتمكن من الدفاع عن نفسي".

بعد خمس سنوات من الصمت، عاد علواش عام 2009 الى البندقية وتحت ابطه "حراقة"، الذي عُرض في قسم "أيام البندقية". من ظاهرة الهجرة غير القانونية التي ضربت بلاده الجزائر بسبب الاهمال الرسمي للناس وهمومهم، في نظام فاسد يأخذ من الفقير ليعطي الغنيّ، اقتبس علواش فيلماً شاعرياً مرهفاً تدور حوادثه في مدينة مستغانم البعيدة نحو مئتي كلم من العاصمة. لا أبطال في نصّ علواش. فقط ضحايا لا يحلمون الا بالرحيل الى بلدان تفتح أمامهم الآفاق المسدودة. حتى لو دفعوا من اللحم الحيّ ثمن الرحيل هذا. الفيلم يقدم رؤية قاتمة جداً، لا متنفس فيه ولا أمل، عن المغرب العربي وظاهرة قوارب الموت التي تأخذ الجزائري اللامنتمي من منفى داخل الوطن الى منفى داخل العالم. صور الفيلم في مستغانم التي تبتعد 150 كلم من نقطة المريّة الاسبانية. ما كان يهمه في هذا الفيلم هو أن يظهر يأس هؤلاء الشباب وصعوبة أن يكونوا. هذا اليأس الذي يجعلهم يقولون إنهم يفضلون الموت في مياه البحر على الموت في بلادهم على نار خفيفة.

"ظاهرة قوارب الموت تأسست مع الوقت، مع اقفال الحدود بعضها على البعض. اليوم، من يعيش في بلدان الجنوب يصعب عليه الخروج من بلاده والسفر الى حيث يريد. الحصول على تأشيرة ليس سهلاً. هناك نوع من حاجز بين العالم والمغرب العربي". هكذا يعرف علواش عن هذه الظاهرة. وضع الشباب في الجزائر خصوصاً والعالم العربي عموماً يؤلمه الى ابعد حدّ. والسبب الاساسي لهذا الغضب الذي يسكنه، هو أن الجزائر ليست بلداً فقيراً. هناك ثروات طبيعية. الغاز والبترول ألخ. وهو بلد نسبة الشباب فيه تبلغ الـ70 في المئة. يشفق المخرج الستيني على هؤلاء الشباب الذين نراهم واقفين في أزقة الأحياء الشعبية وتطلق عليهم تسمية "الحيطيست". في لقائي معه قال لي انه لم ير مثل هذا الشيء في بيروت، لأن الناس منشغلون بأعمالهم. "اذا ذهبت الى الشوارع الداخلية، ترى هؤلاء الشبان وترى في عيونهم اليأس"، يخبرك علواش وفي كلماته اسى. قبل أن يحيطك علماً بسبب هذا الحزن الدفين: "أنا متحدر من هذا المكان. اتيح لي الرحيل، لكنني عشت هذا الوضع في مقتبل عمري. كنا نعتقد دائماً أن الامور ستتحسن وستتدبر وأن المسألة مسألة وقت. الأجيال الجديدة تقول لنا الآن إن زمننا كان جيداً. وأنا أقول إن زمننا لم يكن جيداً، لكن زمنكم أسوأ. على الاقل كان يمكن من لم يطب له العيش أن يصعد إلى الباخرة ويرحل. وقد ينجح في وطنه الجديد او لا ينجح، هذا موضوع آخر. اليوم، هؤلاء لا يستطيعون الرحيل، أو هم يسافرون في قوارب مهترئة، يبيعون مجوهرات الأهل كي يدفعوا ثمن هذا الرحيل. يشترون، بشكل ما، موتهم. نعم أنا متشائم في ما يخص الاحوال في بلادي. ما حاولت تفسيره لك ان على هذه المشكلات أن تُحلّ في الجزائر وليس في أوروبا أو فرنسا. يجب أن نترك للشباب الجزائري فرصة الانفتاح. هذا هو ما أتمناه".

ليس فيلم علواش الأخير الا خلاصة كل هذه الهموم. "نورمال" الذي نال الجائزة الكبرى مصحوبة بمئة ألف دولار في مهرجان الدوحة ترايبيكا السينمائي 2011، منطلقه الشباب. يأتي الشريط في جزءين، الأول عن المرحلة الراهنة التي نعيشها والثاني عن  مخلفات المرحلة السابقة. انها مغامرة خاضها علواش بحرية مطلقة واستعان فيها بممثلين شباب ساعدوه كثيرا لتبيان ما يحدث في بلاده. من خلال صيغة "فيلم داخل فيلم"، يروي لنا ازمة المخرج فوزي (نجيب أولبصير) وزوجته عديلة (عديلة بن ديمراد) وهما يحاولان انجاز فيلم يتناول اوضاعهم، بيد ان قدوم الثورة يضطرهما الى اعادة تصوير بعض المشاهد انطلاقاً مما يحدث. ففي البداية، كانت عندهما رغبة في انجاز فيلم عن المسرحي رشيد (نبيل عسلي)، وهو الفنان الذي تفرض وزارة الثقافة الرقابة على مسرحيته "نورمال" بعدما تعتبر انها تنطوي على محظورات لا "يتقبلها" المجتمع الجزائري. لذلك، لا يبقى أمام الثنائي الا أن التخلي عن طرح قضية الرقابة والذهاب نحو أسئلة أخرى، محورها نظرة الشباب إلى الربيع العربي وإمكانية أن ينتقل الى الجزائر.

يتطرق علواش في الفيلم الى الازدواجية التي يعيشها المجتمع الجزائري مديناً سلوك الفرد الذي يبدو انه تأهل على نحو يمنعه من ان يواجه نفسه بحقائق الحياة. في مقابل ذلك، يضعنا أمام الخيبة التي يعيشها جيل كامل يسعى الى التعبير عن نفسه، لكن يصطدم دائماً بالنظام القائم على الفساد والبيروقراطية وسوء ادارة شؤون البلاد. علماً ان الفكرة الاولى كانت طرح قضية الفساد في الثقافة، لكن، لم يلق علواش أي دعم مادي ومعنوي من وزارة الثقافة الجزائرية، وهذا ما منعه من انجاز ذلك الفيلم الذي كان يتمناه. وعندما عاد الى الجزائر بعد حين، في ظلّ الأجواء العربية الملبدة بالغيوم، واصل التصوير مع الممثلين نفسهم، مركزاً، كما يقول في لقاء صحافي، "على حقيقة اتساع حالات الرقابة والمنع".

فيلموغرافيا مرزاق علواش

•    "عمر قتلاتو" (1976).

•    "مغامرات بطل" (1978).

•    "الرجل الذي كان ينظر الى النوافذ" (1982).

•    "حبّ في باريس" (1986).

•    "ما بعد أكتوبر" (1989).

•    "باب الواد الحوم" (1994).

•    "سلاماً يا ابن العمّ" (1996).

•    "الجزائر ـــ بيروت" (1998).

•    "العالم الآخر" (2001).

•    "شوشو" (2003).

•    "باب الوب" (2005).

•    "حراقة" (2009).

•    "نورمال" (2011).

مهرجان أبوظبي السينمائي في

07/01/2012

 

سينما الثورة السورية

أفلام تُصنع بكاميرا الجوال ومهرجان افتراضي على فايسبوك

راشد عيسى 

لا شيء يلخص حال السينما في سوريا أكثر من تلك اللافتة التي قرأناها مراراً حولنا "ممنوع الاقتراب والتصوير". ذلك كان يعني دائماً أن إنجاز فيلم سينمائي، تسجيلي أو روائي، طويل أم قصير، أشبه بمعجزة لن تتحقق إلا بالتحايل، سواء على الرقابة، أو على الإمكانيات الإنتاجية. أما وقد كسر حاجز الخوف اليوم إلى هذا الحدّ، جراء اندلاع الثورة السورية في الخامس عشر من آذار/مارس المنصرم، فلعلها أول ما تعد بانقلاب سينمائي كبير، بدأت في الحقيقة تباشيره في الظهور.

من الواضح أن الصورة لعبت دوراً حاسماً في ثورة السوريين، كما من الواضح أن السينما ليست هي الشاغل، أي أن الصور والأفلام التي أنجزت لم تكن لأغراض سينمائية، فهمُّ الناشطين أن تصل ثورتهم إلى الناس، عبر كاميرا الهاتف الجوال التي أصبحت متاحة للجميع، وهنا تحققت لمرات عديدة أفلام دعائية مذهلة، كان ثمنها باهظاً إذ كان الفيلم ينتهي إلى موت المصور. كم مرة وجهت البندقية تماماً إلى رأس المشاهد، لتقول له "والآن جاء دورك"، فهل من سينما دعائية أقسى وأكثر واقعية؟

مع استمرار الثورة وطول أمدها، قياساً على الثورات المجاورة، انتقل السوريون، ناشطون أو سينمائيون هواة، إلى مرحلة أخرى من استخدام الكاميرا، حيث لم يعد الهم نقل صورة ما يجري على الأرض وإظهاره للعالم، بل بات الفيلم يصنع، ليواكب، ويعبر، ويسهم في التغيير. هكذا ظهرت أفلام عديدة كان ميدانها شبكة الانترنت، موقع اليوتيوب، طالما أن الثورة أساساً اندلعت عبر الفايسبوك، موقع التواصل الاجتماعي الشهير. ولقد شجعت سهولة النشر وتحميل الأفلام على المغامرة بإنتاج المزيد.

قد يكون من المبكر الحديث عن إحصائية دقيقة لما أنتج من أفلام، لكن ليس مبالغاً القول إن عشرات الأعمال قد حُمّلت وجرى تداولها على الشبكة العنكبوتية، بل إن بعضها شارك في مهرجانات سينمائية مرموقة، كأفلام مجموعة سينمائية تحمل اسم "أبو نضارة" وتنشر أعمالها على الانترنت. وسبق للمجموعة أن قدمت مجموعة من الأفلام التسجيلية القصيرة التي ترصد حياة السوريين في الظل، ومن الواضح أن في شغلها جميعاً هم سينما تسجيلية تبحث في حياة المهمشين، وأن تلك الأفلام، كما هو واضح لدى مشاهدتها، إنتاجها ممكن من دون الاضطرار إلى موافقات إنتاجية أو رقابية، إذ غالباً ما تكون الكاميرا في أماكن محصورة. وتشي عناوين أفلام "أبو نضارة" بذلك البحث الدؤوب عن المهمشين كفيلم يحمل عنوان "نجمة الكواليس"، وآخر بعنوان "معماري من تحت لتحت"، و"مؤمنون بلا منابر". لكن إنجاز "أبو نضارة" في ظل الثورة، وعنها كان فيلمين، الأول هو "النهاية" الذي يتحدث عن الشباب السوري الذي يخاطر بحياته ويضع تضحياته أساساً للديمقراطية القادمة. والثاني فيلم "طلائع" الذي يتحدث عن "منظمة طلائع البعث" التي تأسست في المدارس الابتدائية السورية على طريقة كوريا الشمالية. الفيلم يعرض للتحول الذي شهدته سورية عبر استعادة ترداد أطفال "طلائع البعث" لشعارات "حزب البعث" لتخترق أصواتهم من ثم هتافات المتظاهرين التي تهدر باسم الحرية.

الفيلمان عرضا في مهرجان البندقية السينمائي الدولي الأخير، إلى جانب فيلم "حاضنة الشمس" (11 د) للمخرج عمار البيك، وهو يصف في فيلمه تفاعله الشخصي إلى جانب عائلته مع ما يجري حوله من مظاهرات. فالعائلة تتابع تفاصيل حياتها اليومية على إيقاع نشرة الأخبار التي تتحدث عن المظاهرات في مصر. يحضر البيك مع عائلته لافتة كتب عليها باللون الأحمر، تقول "ارحل، الحرية لمصر"، لكننا بعد مضي وقت نجد العائلة الصغيرة تتابع، بصمت أكبر وحزن، خبر مقتل الطفل السوري حمزة الخطيب على شاشة التلفزيون، وقد بدت على جسمه آثار التعذيب والرصاص.

يركز فيلم "حاضنة الشمس" على صوت الطفلة، طفلة عمار، التي سنرى ولادتها الفعلية في غرفة عمليات في مستشفى. نتابع عملية الولادة، وصولاً إلى وضع الطفلة في الحاضنة، إلى مشاركتها وهي في حضن أمها في مظاهرات الثورة المصرية.

لكن ما يبقى راسخاً إثر مشاهدة الفيلم، هو هذه الطفولة المهدورة، التي يستشعرها المرء، إثر المقارنة بين الأصوات المحببة لطفل في المنزل، وطفل مطعون مخترق بعدة رصاصات، وممثل بجسده.

ومن بين الأفلام التي نالت الحظوة والمشاهدة الواسعة كان الفيلم الوثائقي "أزادي"، وهو لمخرج سوري مجهول، وقد فاز بجائزة الصقر الفضي ضمن جوائز الدورة الأخيرة لمهرجان الفيلم العربى بروتردام، وهو عن مظاهرات المناطق الكردية في الشمال السوري. وهناك فيلم "وعر" الذي يتطرق إلى مظاهرات الحي الحمصي البارز الذي لم تنقطع عنه المظاهرات، كما يظهر حارس المرمى الحمصي الذي بات أحد أبرز قادة المظاهرات متحدثاً في الفيلم.

مهرجان بديل

ومن بين ابتكارات الناشطين السوريين على الفايسبوك جاء "مهرجان سورية الحرة السينمائي الأول" معبراً عن هذا التطلع الرائع والمبكر (بالنسبة لثورة لم تفرغ من أبرز همومها وأهدافها) لسينما حرة، تكون بديلاً عن مهرجان دمشق السينمائي، بما يعنيه هذا من احتكار للمشهد السينمائي، ومن فلترة للسينما والسينمائيين السوريين، وقد قال المهرجان "المعارض" صراحة إنه يرفض توقف المهرجان، الذي جرى تعليق دورته التي كانت مقررة في تشرين ثاني المنصرم.

المهم أن المهرجان الافتراضي (إذ إن كل فعالياته تجري على شبكة الانترنت) قدّم للجمهور، الافتراضي كذلك، جزءاً مختاراً من هذه الأفلام القصيرة التي تمحورت في معظمها حول الثورة السورية، وبلغت في مجموعها اثني عشر فيلماً.

المهرجان بدا احترافياً بالفعل، ولا ينقصه سوى أن يُترك ليتحرك على الأرض. ابتدع لنفسه شعار "السينما في ساحة الحرية"، وأجرى تصويتاً على الأقلام الفائزة وصل منها أربعة إلى المقدمة، ثم اختير واحد منها ليكون الفائز الأول. وقد كان هذا الأخير فيلم "جحيم الأرض" (8 د) للمخرج محمد خير دياب. وفي المرتبة الثانية فيلم للمخرج نفسه هو "الجنس البشري" (7د إنتاج العام 2009)، ثم "انبعاث الأمل" (8 د، 2011) لزينة ارحيم، وفيلم "أطفال الحرية" (8د، 2011) للمخرج روش عبدالفتاح.

كما حاز فيلم "حرية" للمخرج فيليب حوراني، وفيلم " قصة سورية قصيرة" للمخرجين محمد عمران وداني أبو لوح على جائزة المهرجان الخاصة مناصفة.

اللافت أن فيلميْ المخرج الشاب محمد خير دياب الفائزين كانا دراميين، الأول، "جحيم الأرض" يجمع خمس شخصيات، هي أقرب إلى الأنماط المسرحية، ما يجمعها أنها شخصيات تعيش شيئاً في الواقع، فيما تحلم بأن تكون شيئاً آخر.

أما فيلم "الجنس البشري" فيدور حول مشهد اغتصاب لفتاة مختطفة، من قبل شخص سرعان ما سنكتشف أنه هو الآخر مختطف مثلها.

الفيلم الذي احتل المرتبة الثالثة كان "انبعاث الأمل"، وفيه تسلط زينة ارحيم التي تتابع دراستها في العاصمة البريطانية، الضوء على أحوال السوريين في لندن بعد الثورة، وكيف بعث فيهم الأمل، كيف أثرت فيهم تجربة الثورة في بلادهم، مع العودة إلى الظروف القاسية التي دفعت هؤلاء للهجرة عن بلدهم.

فيلم الجائزة الرابعة هو "أطفال الحرية"، ويعرض لمشاركة أطفال في المظاهرات السورية المناوئة للنظام. كما يتتبع أحوالهم في معسكرات اللجوء، وخصوصاً تلقيهم لورشة رسم، تكون فرصة للعب، كما يقول الفيلم، ويحكون في الوقت نفسه من خلالها ما الذي جرى في قراهم. الفيلم يتابع ورشتهم، وصولاً إلى معرض خاص باللوحات التي رسمها الأطفال، وصولاً إلى مزاد لبيع اللوحات في روتردام، ومن ثم شراء هدايا وألعاب وملابس لهم.

ولم ينس المهرجان أن يمنح جائزته الخاصة، وأعطاها مناصفة إلى فيلم "حرية" (2 د- إنتاج2011) للمخرج فيليب حوراني، وفيلم "قصة سورية قصيرة" (5 د) للمخرجين محمد عمران وداني أبو لوح. 

في الأول تتابع الكاميرا يداً ترسم مظاهرة، وكيف تتشكل، يرسم البشر، ثم يرفع لافتات، يكتب على إحداها "حرية"، وما أن تتشكل الكلمة حتى يبدأ إطلاق النار، لنسمع أثناء ذلك أصوات مظاهرة حقيقية. بعدها يملأ الأحمر المكان، ويروح بهدوء يشكل العلم السوري.

ويبدأ فيلم "قصة سورية قصيرة" من أشكال بشرية ورقية، تداس بالأقدام، وتختلط تلك الأشكال المرسومة، مع صور تلفزيونية مكرورة ومعروفة من مظاهرات سورية ومصرية.

صحيح أن الأفلام المواكية للثورة السورية هاوية في معظمها، ومرهونة بموضوعها في الغالب، لكنها تؤشر إلى رغبات سينمائية عارمة مكبوتة، وإلى سينمائيين على قدر من المغامرة والتجريب.

ربما لا يعجب الكثيرين، من السينمائيين المكرسين خصوصاً، القول إنها انقلاب على تاريخ السينما السورية، ولعلهم محقون في ذلك، فلدى السينما السورية تاريخ من النزوع والتطلع إلى الحرية، والرغبة بالتفلت من حدود الرقابة، ما يدفع إلى القول بأن من المشرف أن يبني السينمائيون الجدد أعمالهم تأسيساً على ما أرساه المحاربون السينمائيون القدماء.

مهرجان أبوظبي السينمائي في

06/01/2012

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)