حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

ديمتري إيبيديس يعلن من تسالونيك أنه يفضّل الفيلة على المشاهير

المهرجان ينبذ البرستيج ويختار الصمود أمام الأزمة والتصدي للبورنو الذكوري

هوفيك حبشيان – تسالونيك

يجلس ديمتري ايبيديس في مكتبه المطلّ على بحر ايجيه ويبدو مطمئناً للنحو الذي تسير فيه الأمور في مهرجان تسالونيك (4 ــ 13 تشرين الثاني)، مذ تسلم ادارته الكاملة قبل نحو سنة. الرجل معروف بتواضعه: لا يمانع من ان يتشارك مكتبه مع ثلاثة من الموظفين الأقل منه "رتبة"، ويردد في جمل استطرادية أن حياته المهنية باتت خلفه.

هذا الستيني، الذي تدرب في كواليس أكبر المهرجانات (مونريال، تورونتو، تسالونيك...) معروف ايضاً بتفاؤل لا تحرقه نيران الأزمة الاقتصادية التي تلتهم البلاد منذ أكثر من سنة، وأحد اسبابها الفساد المستشري في اقدم ديموقراطية في التاريخ. اسلوب ايبيديس الهادئ في التعامل مع الملفات المتراكمة على مكتبه، يكاد يشكل حرجاً لمن يأتي اليه حاملاً معه أسئلة استفزازية حول وضع المهرجان.

طوال اللقاء، يحاول ايبيديس تذكير ضيفه بأنه في بلاد لا تركع أمام الصعوبات. "لا تخف، سنستمر، نحن شعب اعتاد المثابرة. تغلبنا على مئات الأزمات التي وقعت في تاريخنا، وانتصرنا على احتلال دام 400 عام، ولا نزال على قيد الحياة". ثم يمعن في تعداد مزايا مدينة تسالونيك "المتفائلة دائماً" على حدّ قوله، التي يفضّلها على مسقطه أثينا ("قبيحة وقذرة")، هذا المكان الذي ينام على تاريخ يعود الى 2326 عاماً.

¶¶¶

الحياة مستمرة بإرادة قوية داخل أروقة المهرجان والصالات تستقطب الألوف. تعلّق الجمهور بواقع افتراضي ومتخيل على الشاشة يذكّر بعبارة فرنسوا تروفو الشهيرة: عندما نحبّ الحياة، نذهب الى السينما. بيد أنه يتبدى جلياً ان الأزمة تلقي بظلالها الأشد قسوة، عندما يبتعد المرء قليلاً عن وسط مدينة تسالونيك، فيرى محالاً علّقت على أبوابها لافتات برسم البيع أو الإيجار. برغم هذا العرس الذي تعيش المدينة على ايقاعه لعشرة أيام، ليس من الغريب أن تصعد مع سائق تاكسي يجهل تماماً وجود مهرجان في مدينته. في بعض المدن، قاطنو الليل لا يلتقون قاطني النهار، أما هنا فسكان الصالات المظلمة يبدو انهم يعلقون تواصلهم مع من يقرر البقاء خارجها...

لعل أول ما يلفت في مكتب ايبيديس، ملصق الدورة الثانية والخمسين المعلّق وراءه. على خلفية بيضاء رُسمت متاهة، وفي طرفيها الرقمان 5 و2، كأن ثمة ما يحول دون لقاء الأول بالآخر.

مع ايبيديس يحتاح الكلام الى بعض التزييت، قبل أن تجد لسانه وقد بات يغامر في أماكن أكثر حساسية: "نعيش قمعاً نفسياً كسائر الناس في هذا البلد. أثناء التحضير لهذه الدورة، واجهنا مشكلات في كل ما كنا نحاول اتمامه بسبب شحّ الامكانات المادية. الناس غاضبون ولا يشعرون بالأمان ولا يعرفون ما سيحلّ بهم: الحكومة تصرّف الأعمال، والبلد شبه مفلس".

قد يخال للبعض أن من الترف أن يُعقد مهرجان والشارع اليوناني على فوهة بركان، لكن ايبيديس لا يشاركهم الرأي. فأولاً، السينما متنفس. ألم تتكاثر الايرادات في بلدان أوروبية كثيرة غداة الأزمة الاقتصادية، وإن كان الطلب على أفلام ترفيهية؟ ثانياً، المهرجان لا يكلف الاقتصاد اليوناني أورو واحداً. المساعدات المادية، في معظمها، جاءت من الاتحاد الاوروبي. الدولة هنا، لا يُمكن التعويل عليها، اذ، حتى الآن لم تدفع مستحقات مهرجان الفيلم الوثائقي الذي عُقد في الشهر الثالث من السنة الجارية. "انا مهتم بضخّ الحياة في هذا المكان، كي يبقى أهل المدينة أوفياء لمهرجانهم. أفعل هذا لأجلهم، وليس لأجلي. عملنا بما تيسر، ولم نرد ان نضحّي بمهرجان صامد في وجه كل التحديات منذ 52 عاماً. صمدنا سابقاً وسنصمد مستقبلاً"، يقول ايبيديس.

¶¶¶

لم تنعكس الأزمة في تشكيلة الأفلام التي يقدمها المهرجان. المعايير التي يعمل وفقها المبرمجون لا تزال هي هي. هناك في مقدمها النوعية، تلك التي تجرّنا الى حضن المواهب الفتية التي تفرض نفسها عالمياً. لكن الأهم في نظر الوافدين الى تسالونيك من انحاء العالم (نحو 250 ضيفاً في هذه الطبعة)، هو تحويل المهرجان منصة للسينما المستقلة. "ما دمت على رأس هذا المهرجان"، يؤكد ايبيديس بثقة عالية بالذات، "سأحرص على الا تكون هنا الا الاعمال ذات الانتاج المستقل، وهذا متأتٍّ من ايماني بأن على السينما أن تعالج الهموم الانسانية".

لا يحاول المهرجان اقتناص العروض العالمية الاولى (برغم نجاحه في عرض "الأمر والأخلاق" لماتيو كاسوفيتس!) نتيجة اقتناع راسخ لدى صانعيه أن هذه مساحة للمشاهد اليوناني. البرستيج ليس من الهواجس التي تؤرقهم. لا ادعاء فارغاً والكلّ يعرف ان تسالونيك ليس كانّ أو برلين. برغم نصف قرن من التاريخ الذي يجرجره المهرجان خلفه، هناك الكثير من الأفلام يصعب عليه الاتيان بها الى هنا. الأسباب محض مادية: بعض الشركات صارت تطلب مبالغ كبيرة لارسال النسخ، وفيها نسخ باهظة الثمن. وهناك شركات تنازلت عن حقوقها تفهماً للوضع المتأزم وتضامناً مع المهرجان.

يحمد ايبيديس الله انه ليس عليه التعامل مع النجوم. في الماضي كانت الادارات السابقة تجلب بعض المشاهير الى ساحة أرسطو طاليس الصاخبة والمحاذية للواجهة البحرية الجميلة، وكان هذا يكلفهم "جلدهم". الآن، منذ تسلمه، لم تعد توجه دعوات الى النجوم. بالنسبة الى أيبيديس النجم الوحيد والأوحد عليه أن يطلّ من خلال الشاشة: انه الفيلم. لا احد هنا يرى الجدوى في أن يُدفع على اسم هوليوودي بارز مبلغ 50 ألف دولار (أو أكثر بكثير) كي تُلتقط له الصور أمام جمع من المتطفلين. "أفضّل أن آتي بدبّ أو فيل من حديقة الحيوانات، وجعلهما مادة اثارة على السجادة الحمراء"، يعلق ممازحاً.

¶¶¶

يمنح المهرجان أهمية كبيرة للمطبوعات التي تصدر عنه. هناك أولاً الكاتالوغ المتقن الصنع الذي يأتي في 305 صفحات. يضاف اليه كتابان، واحد عن الأميركية سارا درايفر والآخر عن النمسوي أولريش سايدل، والاثنان يحظيان بتحية مع استعادة لأعمالهما. اللافت ان بعض الذين يكتبون في هذه المطبوعات الرصينة نقادٌ وصحافيون، ويعملون كذلك في المهرجان اموراً أخرى.

لا ينبغي أن ننسى سوق الأفلام "أغورا" التي تديرها ماري بيار مارسيا مع امكان مشاهدة أفلام جديدة معروضة في هذه السوق طوال النهار. في المكان نفسه، تتواصل مناقشة مشاريع لسينمائيين شباب وتتعاقب لقاءات تجمعهم بمنتجين ولجان تحكيم. هناك مثلاً صندوق دعم "كروسرودز" المعني بمخرجين من أوروبا الوسطى ومنطقة البلقان وحوض المتوسط. نحو 20 مشروعاً عُرضت في هذا القسم، منها اثنان للبنانيين، هما وسام شرف وميشال كمون. الأول اقترح "عودة الى الأدغال" (انتاج فرنسي ــ لبناني) والثاني Beirut Hold’em (انتاج جورج شقير)، سيسجل عودته خمس سنوات بعد فيلمه "فلافل". ويأمل كمون أن يبدأ التقاط المشاهد في الصيف المقبل، علماً ان الفيلم سيكون جزءاً من ثلاثية ينوي اتمامها.

وفق المخرج البالغ من العمر 42 عاماً، سيقتفي الفيلم اثر الواقعية السحرية، مع سعي الى التقاط الانفعالات التي تنطوي عليها مدينة بيروت ومناخها الفريد، مع مقاربة انتروبولوجية، اذ ستجري المشاهد وسط أجواء من الحياة اليومية. كمون يذكر أيضاً الفيلم "النوار" والتراجيديا الاغريقية كمراجع أساسية لعمله مع تعطيل بنود هذا النوع لجعله يتناسب والظروف اللبنانية. بطل فيلمه الذي يخرج من السجن وهو في الاربعين ساعياً الى بدء حياة جديدة، يقامر، وهذا شيء يعكس، بالنسبة الى كمون، فكرة أن المجتمع اللبناني برمته يقامر بمصيره ولا يعرف الى أين ذاهب.

¶¶¶

افتُتح المهرجان بخامس افلام الأميركي ألكسندر باين: "الأحفاد". مخرج "عن شميدت" يستعين هذه المرة بجورج كلوني ليروي قصة أب يعيد النظر في علاقته مع عائلته ومحيطه بعد تعرضه لحادث... أما الختام فكان مع وافد آخر الى السينما الأميركية المستقلة هو شون دركين. شريطه "مارتا مارسي ماي ماريلين" عُرض في الدورة الأخيرة من مهرجان كانّ. في المسابقة الرسمية عُرضت 15 فيلماً، لم تكن افضل ما شوهد، لأن المهرجان ملزم أن يعرض فقط الافلام الاولى والثانية لمخرجيها في هذه الخانة، وهذا ما يحصر خياراته في عدد أقل من الأعمال.

برغم ذلك، تميز "ألويز نيبل" للتشيكي توماس لوناك (البندقية 2011). شريط تحريك ينطوي على صور بديعة بالأسود والأبيض، نتعرف فيه الى موظف في السكك الحديد يغوص في ذكرياته الأليمة. هناك ايضاً "من دون" لمارك جاكسون (جائزة أفضل مخرج). فتاة في التاسعة عشرة (تمثيل ممتاز لجوسلين جنسن) تُسند مهمة الاعتناء برجل مسنّ ومقعد وغير قادر على الكلام. تجري الحوادث على جزيرة نائية، وأجواء الفراغ التي تحوط بالفتاة (لا انترنت ولا ارسال هاتف)، تزيد من حدتها ويفقدها اعصابها لتتحول تدريجاً شخصية تدمر ذاتها.

من الضفة الأخرى لأميركا الشمالية، جاءنا الفيلم الكندي "البائع" لسيباستيان بيلوت الذي يعالج الأزمة الوجودية والنفسية لرجل في السابعة والستين يعيش ويعمل كألوف الكنديين في طبيعة قاسية. خرج الفيلم من المهرجان من دون أن يقنع لجنة التحكيم برئاسة لورنس كارديش. في المقابل ذهبت جائزة "الكسندر الذهبية" الى الفيلم الروسي "بورتريه في ضوء المغيب". ثريللر تستعرض فيه المخرجة أنجلينا نيكونوفا مأساة فتاة تتعرض للاغتصاب، متطرقة الى النظام البوليسي الهشّ والفساد في صفوف الشرطة. النفاق الذي يدينه خطابها يطاول المجتمع الروسي برمته.

أما "ثمانون رسالة"، الفيلم التشيكي الذي أخرجه فاتسلاف كادرنكا، فخطف "فضية" المهرجان (نال ايضاً جائزة "فيبريسي") وهو غوص على نسق أفلام رومانية حديثة، في البيروقراطية الشيوعية البغيضة، اذ تدور الحوادث في تشيكوسلوفاكيا السابقة، عامان قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. من خلال عيون امّ وابنها المراهق اللذين يحاولان الحصول على اذن للذهاب عند الأب في بريطانيا، نكتشف ماذا يعني أن يعيش المرء معزولاً في تلك البقعة من الأرض ولا تبقى له صلة مع العالم سوى حفنة رسائل.

في خانة "آفاق مفتوحة" أحصينا 64 فيلماً من تلك التي لفّت أكبر المهرجانات. من "وداع" محمد رسول أف، المخرج الايراني المطلوب، مع زميله جعفر بناهي، للعدالة في ايران، الى "فاوست" سوكوروف الحائز "الأسد الذهبي" في البندقية الأخير، اغرقنا مهرجان تسالونيك في مجموعة عناوين تبعث على الفضول، كانت تتحول مشاهدتها في بعض الأحيان متعة، لا سيما حين يقترب الموضوع من ذوق الجمهور اليوناني، كما حصل مع "أرض يابسة" للايطالي ايمانويلي كرياليزي (جائزة لجنة التحكيم في البندقية).

في أحايين أخرى، كان الجمهور (الذي لا يحسن السلوك دائماً في الصالات) يعترض على ما يراه أمامه من مشاهد جنسية ساخنة. في عرض "استيراد ــ تصدير" (2007) لأولريش سايدل، الذي عُرض ضمن الاستعادة المخصصة لهذا المخرج النمسوي الكبير، احتجت مجموعة من المشاهدين على استقطاب تسالونيك هذا القدر من الاباحية.

لكن المهرجان لم يكتف بهذا الحدّ من الاثارة، بل خصص ثلاث حصص ليلية لعرض دزينة من أفلام البورنو، الدنماركية الصنع، تحمل تواقيع نسويين، وأنجزت بهدف التصدي للبورنو الذكوري.

(hauvick.habechian@annahar.com.lb)

نقد

كاسوفيتس يضع فرنسا أمام شبح الماضي ويواجه الرقابة

قنبلة سينمائية "وقعت" منذ أمس في الصالات الفرنسية. ليس صاحبها الا ماتيو كاسوفيتس الملقب بـ"كاسو"، مخرج "الكراهية" الذي عرف كيف يخاطب جيلاً كاملاً من المشاهدين في منتصف التسعينات بفيلم تحول لسان حالهم، قبل أن يسقط في مستنقعات الحلم الأميركي مع الفشل الجماهيري والنقدي المدوي الذي كان في انتظار افلمته لرواية "أطفال بابل" لموريس دانتيك التي تحولت "بابيلون أد".

اليوم، بعد ثلاث سنوات على تجربته الكابوسية في أميركا، ينهض مجدداً  مع "الأمر والأخلاق"، سابع أفلامه، نافضاً الغبار عن واحدة من آخر الصفحات غير المشرّفة من التاريخ الفرنسي الاستعماري. ثمة بعض من فصوله المتكررة يذكّر بقتل الجنود رمياً بالرصاص الذي كانت تقدم عليه القيادة العسكرية، فقط لكي يشكل هذا القصاص درساً للآخرين. وقد انجز ستانلي كوبريك فيلمه الكلاسيكي "دروب المجد" عن ثلاثة جنود يعدمهم الجيش الفرنسي بلا رحمة، ليكونوا نموذجاً للآخرين، وظلّ عرضه فرنسياً ممنوعاً من 1957 الى 1975.

"كاسو" في زمن "ساركو" يختلف عن ذلك الذي كانه في عهد ميتران. لعب النضج في عقله، وعرف الصعود والهبوط، فقرر انجاز "الأمر والأخلاق" في ظروف انتاج غير تقليدية، مستثمراً فيه نحو عشر سنين من حياته. هذا الفيلم حقل الغام حقيقي لمخرج بات منذ الآن عرضة لضغوط سياسية نتج منها منع الفيلم في كاليدونيا بحجة "اعادة نكء الجراح". الغريب ان الشريط ظل بعيداً من شاشات المهرجانات الكبرى مثل كانّ أو البندقية، وهو مرشح ليُحدث جدلاً كبيراً في فرنسا غداة بدء عرضه، نظراً للقضية الفضائحية المستندة الى وقائع حقيقية، التي يكشف عنها "كاسو" النقاب، بالتفاصيل الصغيرة، طوال 136 دقيقة، وهي مدة عرض الشريط الذي شاهدناه ضمن عرض خاص في مهرجان تسالونيك.

آذار 1988. في حين تستعد فرنسا لإنتخاب رئيس جديد لجمهوريتها، تقدم جماعة الكاناك في منطقة أوفيا الكاليدونية على خطف رجال شرطة فرنسيين، مطالبين باستقلال بلادهم عن الاستعمار الفرنسي المعشش فيها منذ سنوات. ترسل الحكومة الفرنسية دعماً من 300 جندي وعناصر من فوج التدخل على رأسه النقيب لوغورجو (كاسوفيتس)، الذي يتفاوض مع الثوار ليجد حلاً للأزمة. بالفعل، ينجح النقيب من خلال احتكامه الى العقل والضمير، في أن يتواصل مع الكاناك ويستمع الى مطالبهم المحقة وينال ثقتهم. لكن، باختصار: بدلاً من ان تجند في خدمة لوغورجو كل الامكانات لانجاح المفاوضات، بعد أخذ ورد يدوم عشرة أيام، تدخل السياسة ومصالحها على الخطّ، ليخفت آخر ضوء آمل، فيتخذ المسؤولون في الاليزيه قرار استخدام القبضة الحديد بدلاً من الحوار والحل السلمي. هذا التهميش لدوره، يضع النقيب أمام معضلة أخلاقية، لكونه يصبح رهينة أوامر تأتي من الاعالي، ولا يستطيع اي شيء حيالها، ولا سيما انه يغدو العوبة في يد مصالح متناقضة يحركها اطراف ثلاثة: العسكر، السياسيون، الثوار.

الفيلم واضحٌ في اطروحته، انه سياسي بامتياز، لكنه يطرح كاسوفيتس كمراقب فذّ لتركيبة النظام السياسي والعسكري الفرنسي وكناقد لاذع للحال التي يؤول اليها تداخل السياسة بالعسكر. يتعثر في وصف العلاقات التي تربط الكاناك بالسكان الاصليين والكالدوش والبيض، لكنه يعرف كيف يكشف هوية المسؤولين عن حمّام الدم الذي أودى بحياة 19 شخصاً من الكاناك وثلاثة عسكر فرنسيين.

اسلوب الفيلم صارم جداً. التقطيع يحبس الأنفاس، برغم اننا مطلعون على خاتمة الحوادث. التقنيات تنتمي الى سينما استعراضية مصدرها هوليوود. الغضب يخرج من عيني الشاشة، كون الفيلم يراقبنا أكثر مما نراقبه. صوت النقيب الذي يسرد بصيغة الفلاشباك معضلته الأخلاقية، يتماهى تدريجاً مع ضمير المشاهد. تعامل كاسوفيتس غير النمطي مع صورة الجنود والخاطفين سيزعج لا شكّ المصابين بمرض الوطنية البلهاء. انهم شخصيات حقيقية من لحم ودم، شخصيات معقدة، تائهة وعالقة، والنقيب أبلغ مثال على هذا. واذا كان المخرج مراقباً لهذه الجحيم، فهذا لا يجعله يخسر ورقة الـ"ميز ان سين" التي تتجسد هنا بحلتها الأبهر. ما كان من المفترض ان يبقى فيلماً سياسياً يتحول ملحمة حربية يقودها سينمائي ملهم

بعيداً من همّ الواقعية المتطرفة الخاصة بالأفلام الحربية التي تحرص على جعل المتلقي يشعر كما لو كان داخل النار، ينبذ كاسوفيتس هذا الاسلوب مفضلاً أن يحلق بكاميراه الى المرتفعات ليرينا كم أن الطبيعة تتناقض مع هواجس الانسان المفتعلة. ويظلّ الفيلم محافظاً على هذا التوتر العالي، حتى اللقطة الأخيرة. محملاً النضج والعقيدة السلمية، ينزل بنا "كاسو" الى القعر كي نتعرف الى السمو.

هـ. ح.

سنّ الرشد!

33 فيلماً ستُعرض في صالة "متروبوليس" (أمبير ــ صوفيل) ضمن مهرجان السينما الأوروبية الذي ينطلق الخميس المقبل ليستمر الى الرابع من كانون الاول. هذا الحدث الذي تنظمه بعثة الاتحاد الاوروبي في بيروت، يبلغ هذه السنة سن الرشد. فهذه الدورة 18 من مغامرة بدأت في زمن آخر وأصبحت مع مرّ الدورات الموعد السينمائي المنتظر لدى الجمهور اللبناني.

يفتتح المهرجان بالفيلم البولوني "الفائز" لويسلاف سانيفسكي، ويتابع مع مجموعة من احدث الأفلام الأوروبية، على أمل الا يكون عرضها بنسخ "دي في دي"، كما جرت العادة في السنوات الأخيرة. هناك في اللائحة عناوين باتت معروفة، منها: "عامٌ آخر" للبريطاني مايك لي (كانّ)، و"ثلاثة" للالماني توم تيكفر (البندقية) و"اذا اردت أن أصفر، سأصفر" للروماني فلوران سربان (برلين). تضاف الى هذه، حفنة أخرى من الأعمال التي تُعتبر اكتشافات بالنسبة الينا. سيخص المهرجان الراحل محمود مبسوط بتحية خاصة، ليلة الختام، حيث ستتاح ايضاً مشاهدة باكورة رانية عطية ودانيال غارسيا، "طيب، خلص، يللا" الذي اثار اهتمام المهرجانات (تسالونيك، كارلوفي فاري، الخ) بعدما عُرضت للمرة الاولى في أبو ظبي، حيث نال جائزة.

من الأفلام المهمة التي تُعرض في المهرجان جديد الأخوين البلجيكيين جان بيار ولوك داردين، "الصبي ذو الدراجة" (جائزة لجنة التحكيم الكبرى في كانّ الأخير).

تيمة الطفولة تعالَج ايضاً، ولو مواربة، في واحد من ابرز افلام هذه التشكيلة وأعقلها: "بوليس" لمايوان (جائزة لجنة تحكيم كانّ 2011).

النهار اللبنانية في

17/11/2011

 

هوليوود والبحث عن الزمن الضائع

يوسف يلدا – سيدني: 

أكثر ما كان يخشاه مارسيل بروست، أن يكون بعيداً عن أمه. هكذا أجاب الروائي الفرنسي، البالغ حينها 14 عاماً، على إستبيان خلال حفل عيد ميلاد صديقته أنطوانيت فور، إبنة الرئيس الفرنسي فيليكس فور. ومع الأخذ بنظر الإعتبار أن مؤلف رواية "البحث عن الزمن الضائع" لم يترك منزل أمه أبداً، فقد كان هاجس الخوف من أن يبتعد عن عنها أكثر ما يعذب وجوده لسنوات طويلة. لكنه كان أيضاً ممن يعشقون حفلات المجتمع الراقي. ولم يكن يخفي إعجابه بطبقة النبلاء، التي أحاطت به، مستغلاً بذلك صداقته لآنا دي نواليس، وروبرت دي مونتسكيو، وإليزابيث دي غرامونت، وغيرهم من الكتاب ذوي الدم الأزرق.

وفعلاً، إن الإعجاب بالسلوكيات الجيدة أدت، في نهاية الأمر، الى القضاء على "الرجل الذي مات نتيجة إصابته بالبرد"، لمجرد رغبته في أن لا تفوته مأدبة عشاء في ليلة جليدية بباريس. إلاّ أنها خلّدت إسمه ايضاً. وعلى أبواب القرن العشرين، بعث بروست، المتعب، الروح في "كتب الإعترافات"، عبر لعبة قديمة تقام في صالونات النبلاء الإنكليز والفرنسيين، فحواها أن يتم تسجيل الأفكار الحميمية لعلاقات الصداقة في دفتر ملاحظات، من خلال طرح أسئلة بسيطة وجريئة في ذات الوقت. مثل "ماهي الصفة المفضلة لديك؟"، و"كيف تتمنى أن تموت؟"، أو "ما رأيك بالبؤس؟"، و"ما هو شعارك؟"، و"ما هو أغرب شئ فيك؟". وقد نشر بروست ردوده في مقال بعنوان "أسرار صالون بقلم بروست"، الذي ظهر في "لا ريفيو إيلوستر" عام 1892. ومنذ ذلك الوقت وحتى الآن، لا يزال إسمه مرتبطاً بالإستبيان الذي ترتعد منه فرائص نجوم "الشو بيزنس" اليوم.

وفي العام 1993 عملت المجلة الأمريكية "فانيتي فير" على إخراج صفحات التسلية بحلّة جديدة متأثرة ببروست، وعلى شكل لقاءات مع شخصيات ثرية وشهيرة ومتنوعة. واليوم، يعد قسم التسلية في المجلة، من أبرز ما يميّزها. وفي ردّها على سؤال "إذا كان بمستطاعك أن تغيّرين شيئاً واحداً فيك، ماذا كنت ستختارين؟" قالت جين فوندا: "عدم قدرتي على إقامة علاقات دائمة". وعندما تم طرح السؤال التالي على هيدي لامار "كيف تفضلين الموت؟"، أجابت: "يفضل أن يتم ذلك بعد الجنس". في ذلك الوقت، كانت المرأة الأكثر جمالاً في تأريخ السينما تبلغ من العمر 85 عاماً.

وبعد مرور 20 عاماً على إجراء العديد من اللقاءات، تقوم دار النشر "نورديكا ليبروس" بإصدار "فانيتي فير" في إسبانيا. الإستبيان بروست: 101 شخصية على حقيقتها، تدلي بآرائها حول الحب، والموت، والسعادة، وماهية الحياة. إبتداءاً من مارغريت أتوود وحتى غور فيدال، مروراً بلورين باكال، وكاثرين دينوف، وجوآن ديديون، ونورمان ميلر، وآرثر ميلر، وبول نيومان، إستطاع ناشر المجلة غريدون كارتر أن يعيد جمع أؤلئك المشاهير من عالم "الشوبيزنس" الأمريكي، مع رسوم روبرت ريسكو التوضيحية، وعرضها بإسلوب متنوع، وبلا شك، في غاية الروعة.

عندما سُئل آرنولد شوارزنجر، محافظ ولاية كاليفورنيا، عام 2003، عن أغرب ما يميّزه؟ أجاب: "أنا مجنون أحذية". وأهم شئ يخيفك؟، "تخيفني جداً إزالة الشعر على الطريقة البرازيلية. لقد خضت تجربة قاسية معها في عام 1978". وأما يوكو أونو، أرملة جون لينون، فقد حاولت أن لا تكشف إلاّ القليل من ما يتعلق بحياتها. وعندما طرح السؤال التالي عليها "من هم أبطالك في الحياة الواقعية؟"، أجابت "أنا". ومن هو بطلك الخيالي؟، "أنا"، "وأعظم حب في حياتك؟"، "أنا". و"من هم أفضل الكتّاب لديك؟"، "أنا، أنا، أنا وجون". فيما تميّز رد الكاتب البريطاني سلمان رشدي بصراحة شديدة، عندما سُئل "متى تلجأ الى الكذب؟"، قال "في مثل هذه المناسبات". 

في أحد لقاءاته الأخيرة، في مايس من عام 1922، جلس مارسيل بروست على طاولة واحدة الى جانب إغور سترافينسكي، وجيمس جويس، وسيرج دياغيليف، وبابلو بيكاسو. كانت المناسبة مأدبة عشاء خاصة في فندق ماجستيك الراقي بباريس. حاول بروست، الذي لم يكن قد خلع القفازات من يديه، ولا معطفه الجلدي طوال الأمسية، أن ينتزع بعض الإعترافات من سترافينسكي، بينما كان جويس نائماً على الطاولة. " من هم أفضل الموسيقيين لديك؟، أنا أعبد بيتهوفن"، سأل وأجاب الكاتب على سؤاله في الحال. كان جواب قائد الأوركسترا بكل برود "أنا أبغض بيتهوفن". ربما هناك أسئلة غير رصينة ، حتى بالنسبة لعبقري مثل بروست.  

إيلاف في

17/11/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)