حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

هل الناقد مروج للأفلام وجزء من صناعة السينما؟

أمير العمري

يٌطرح في الكثير من الأحيان، ومنذ سنوات بعيدة، سؤال حول دور الناقد السينمائي، أي الشخص الذي يتصدى بقلمه لتحليل الأفلام والتوقف أمام نقاط القوة  والضعف فيها والتوصل إلى استنتاج جمالي وفكري عليها.

هذا السؤال يتلخص في التالي: هل للناقد دور أساسي في صناعة السينما، أي كضلع أخير من اضلاعها، يتمثل في لفت الأنظار إلى الفيلم السينمائي، يروج له بطريقة او باخرى، خصوصا وأنه يجب أن يدافع عن حق صناع الأفلام (من مخرجين ومنتجين وموزعين وفنانين وتقنيين) في التعبير وفي مواصلة العمل مهما كان رأي السيد الناقد في أفلامهم، وبالتالي يقع على عاتقه القيام بدور مباشر في حماية "الصناعة السينمائية الوطنية"، بغض النظر كما قلت، عن مستوى الأفلام؟

هذا السؤال يحمل في طياته الكثير من الأسئلة الأخرى بالطبع مثل: ما هو دور الناقد السينمائي ، وهل له دور أصلا؟ وهل دوره ينحصر في الكتابة والحديث عن الأفلام فقط؟ أم عن القضايا الأكبر التي تتعلق بالسينما عموما كصناعة وتجارة وفن وحرفة..إلخ، وهل النقد جزء مكمل من العمل السينمائي ككل، أم أن عمل "طفيلي" أي يمكن ببساطة الاستغناء عنه، بدعوى أن السينمائي لا يصنع فيلمه للنقاد، بل للجمهور، وان نجاح أي فيلم جماهيريا هو أبلغ رد على النقاد، خصوصا إذا كان الفيلم من النوع الذي يتهمه النقاد بالسوقية والابتذال وضعف المستوى!

وهناك أسئلة أخرى أيضا مثل: كيف نتحدث عن النقد في غياب ثقافة فنية، بل وفي غياب منظومة تعليمية في العالم العربي تعطي للفنون أهميتها، بل ومع شيوع الأمية بمعناها المباشر أو المجازي أي الأمية "الثقافية" التي نلمسها جميعا يوميا خاصة مع الانتشار المخيف للقنوات الفضائية، وظهور عشرات المبدعين والمذيعات اللاتي لا يفقهن شيئا في أوليات الفن السينمائي لكن "المهنة" تفرض عليهم الحديث عن الافلام واجراء المقابلات مع صناعها، ولكن بطريقة الترويج المباشر، والدعاية التي تصل إلى أدنى مستوياتها أحيانا لدرجة تدفع الى التشكك والشك!

بداية لاشك أن للناقد دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن وثقافة وفكر، وأرى أيضا أن له دورا في الدفاع عن وجود السينما كفن بغض النظر عن مستوى ما تنتجه من أفلام، لأن المستوى يتأرجح صعودا وهبوطا حسب موجات المد والجزر الاجتماعية، فالسينما حالها من حال المنتج الفني والثقافي في بلادنا، فإذا كانت دار الأوبرا التي هي كعبة الفن الرفيع، فن الموسيقى الذي يعد أكثر الفنون تجريدية، وسموا بالإنسان، قد هبطت الى أن وصل بها الحال اليوم لأن تغني فيها مغنيات الزمن الرديء، بأصوات لا قيمة لها، ومن خلال أغنيات شائعة مبتذلة تتردد كلماتها الفارغة على ايقاعات راقصة بدائية، وتخلو تماما مما يعرف في الموسيقى العربية بفن "الطرب" أو التطريب، وهو جوهر فن الغناء العربي، إذا كان هذا هو الحال اليوم، فكيف يمكن أن تكون السينما؟

لكن هناك في الوقت نفسه مهمة أساسية للناقد تتعلق بالدفاع عن الفن الرفيع، والانحياز فكريا للفن الانتقادي أو الذي يشتبك في جدل مع القيم السائدة المتخلفة في المجتمع، ويسعى للارتقاء بالذوق العام وبالسلوك الإنساني، وفتح أعين المشاهدين على وجود قيم بصرية أخرى، تستند إلى الموروث في الفن التشكيلي وفن التصوير. أي أننا عندما ندافع عن وجود السينما كفن وثقافة، لا ننسى أبدا التفرقة بين الفن الرفيع والفن الهابط المبتذل الذي يميل الى دغدغة الحواس واثارة الغرائز وابتزاز المتفرج باللعب على عواطفه ومشاعره البدائية المباشرة، بدلا من اشراكه في عملية التأمل التي يتيحها الفن الرفيع بالضرورة.

على الناقد القيام بمهمته دون أدنى مراعاة للظروف التي ينتج فيها فيلم ما يتعامل معه برؤية نقدية، فالسينما لم تولد أمس، بل منذ أكثر من مائة عام، وعندما يظهر فيلم جديد (أي مولود جديد) فهو يأتي حاملا تراث أكثر من قرن وخبرة طويلة متراكمة يبني السينمائي فوقها ليكمل على من سبقوه، ولا يصنع شيئا جديدا تماما من العدم.

بالتالي تنتفي هنا مهمة "الترويج" بدعوى "التشجيع" أي الأخذ بأيدي السينما المبتدئة، فلا توجد سينما مبتدئة تماما، خاصة عندما تتاح لها كل الإمكانيات التقنية والانتاجية، وطالما أن حجم المطلوب مناسب لمستوى الطموح الفني الذي يمكن الحكم عليه من مرحلة النص السينمائي أي السيناريو. فإذا قلنا مثلا إن مخرجا سينمائيا معينا أتيحت له كل الإمكانيات  لانتاج فيلمه ثم فشل في تحقيق الطموح الفني الذي كان يصبو إليه، فكيف يمكن أن نقول إنه يستحق التشجيع!

من ناحية أخرى حتى لو لم تتوفر كل الامكانيات المطلوبة لعمل فيلم يحتوي على الحد الأدنى من الصور التي تقنع المتفرج بأنه أمام عمل فني حقيقي، تكون النتيجة النهائية مسؤولية المخرج، وليست مهمة الناقد هنا أن يلتمس له الأعذار ويبحث له عن المبررات بدعوى تشجيعه والأخذ بيده.

صحيح أن الناقد يكتب أساسا للمتفرج- القاريء، أي المتفرج الذي يفترض أنه يقرأ النقد أو يبحث عنه ويتاثر بما يقرأه إذا قامت بينه وبين الناقد علاقة ثقة وهي علاقة تولد من مصداقية الناقد وقدرته على الإفادة والإقناع، ومن جدية المتفرج- الباحث عن المعرفة والتذوق، في فهم ما بين الصور وما يكمن تحت جلدها والتعرف في النقد على مفاتيح لفهم الفيلم، دون أن يقدم له الناقد بالضرورة "وصفة" سحرية كاملة شاملة تفسر ما خفي وما غمض، وتضع امامه كل ما يحتويه الفيلم من إشارات ومعان ومضامين وأفكار، فالنقد في نهاية المطاف ما هو سوى "رؤية" شخصية تتعلق بثقافة كل ناقد ومستوى علاقته بالسينما وفهمه لتاريخها واطلاعه على نظرياتها، ومشاهداته الواسعة لاهم ما ينتج من أفلام في العالم بما في ذلك كلاسيكيات السينما القديمة والأعمال الراسخة التي تعلمت منها اجيال السينمائيين واالهواة.

لكن من الصحيح أيضا ان الناقد يكتب لكي يستفيد السينمائي سواء صانع الفيلم او غيره، من افكار الناقد ورؤيته ومنهجه التحليلي (إذا كان لديه منهج بالطبع) أو حتى من انطباعاته التي قد تفيد في معرفة انطباعات شريحة معينة من الجمهور عن الفيلم محل النقاش والنقد.

لكن هل يجب أن يتداخل الناقد مع الجانب الاقتصادي في السينما؟ أي يلعب دورا مباشرا في الترويج؟

لاشك أن هناك فرقا كبيرا بين "النقد" وبين "الترويج"، ومهمة الناقد تختلف كلية عن مهمة المروج أو مندوب الدعاية او المسؤول الاعلامي لفيلم ما، مهمته الترويج له في المهرجانات الدولية، والخلط بين المهمتين لا يؤدي سوى الى تمييع النقد، وربما لا يفيد الترويج التجاري كما ثبت في عشرات الحالات التي تولى فيها من يكتبون النقد مسوؤلية الترويج.

نعم معرفة اقتصاديات السوق السينمائية ومتغيراتها وما قد تصادفه من أزمات، والأرقام الخاصة بالانتاج ودور العرض والتوزيع والايرادات، كلها من المهم أن يتابعها الناقد وان يستوعبها ويكون قادرا على استخلاص الدروس والفوائد منها، بما يصب في وظيفته ويرفع من قدرته على التحليل والتعمق، لكن دون أن تطغى هذه الجوانب على دوره في تحليل الفيلم وتقريبه من المشاهدين، وربما أيضا التأثير على مستوى الإنتاج وتطوير الصناعة بشكل غير مباشر وفي الحدود المعروفة لدور النقد حتى في أرقى المجتمعات اهتماما به.

لاشك أن هناك من يخلطون بين النقد والترويج، وبين التداخل في الصناعة وعملية الإنتاج من خلال العمل كمستشارين انتاجيين أو حتى فنيين لبعض الأفلام، وبين مهمتهم كنقاد يتعاملون مع الزاوية الثقافية التي ترتبط بالفكر وليس بالتجارة. وأمامنا الكثير من النماذج، سواء في العالم العربي أو في أوروبا والولايات المتحدة وآسيا. لكن هذا الخلط لا يحدث عادة لصالح الفن السينمائي والارتقاء به وترشيده، بل لصالح الناقد نفسه، كشخص، ينتفع من مهنة أخرى يعثر عليها، وليس تدعيما لدوره الثقافي والفكري، فالناقد مثقف، والمثقف  له موقف فكري وجمالي  من السينما، ومن العالم، فإذا سمح بأن تتضاءل المسافة وتتلاشى بين مهمته في توصيل الفيلم الى المتفرج وتقريبه منه وتحفيزه على مشاهدته والاستفادة مما يطرحه أو الاستمتاع البصري الجميل به في حد ذاته (وهو هدف مشروع في الفن ايضا طالما أن هناك قيمة إنسانية كبرى تكمن بين طيات العمل السينمائي)، وبين دوره كمروج ومدير دعاية للفيلم، هنا فإن الناقد يخون نفسه، ويتنكر لدوره الحقيقي بل ويصبح على نحو ما، ضالعا في الفيلم نفسه كمنتج تجاري وليس كناتج ثقافي، يحصل على نصيبه من المال مقابل الترويج للسلعة. ومن يروج لسلعة ما لا يمكنه أن يرى فيها عيوبا.

الناقد جزء من صناعة السينما ليس بالغاء المسافات بينه وبين الموزع والمنتج ومدير الدعاية، بل عن طريق القيام بدوره الثقافي والجمالي، بالبحث عن مناطق الجمال في الفيلم، وبمعرفة لماذا لم يحقق فيلم ما هدفه، ولماذا فشل في الوصول برؤيته إلى مستوى أن يكون "عملا فنيا" والفارق كبير بين عمل فني ينتمي لتاريخ الفنون في بلده والعالم، وبين نتاج اجتماعي أو "إفراز" طبيعي لحقبة من التردي الاقتصادي والاجتماعي، أي أنه في هذه الحالة ليس من الممكن فهمه إلا في ضوء تحليله ضمن الظاهرة الاجتماعية (في ترديها وانحدارها). هنا لا يصبح الفيلم عملا قائما في حد ذاته، بل نتاجا مباشرا لحالة اجتماعية متغيرة.

والموضوع بالطبع، ممتد ومتشعب، وله مزالقه ايضا ومنحنياته.

الجزيرة الوثائقية في

17/11/2011

 

ختام «مهرجان تسالونيكي السينمائي الإغريقي الـ52»

جـوائـز الاغتصـابـات

زياد الخزاعي (تسالونيكي) 

الإغريق مولعون بالكلام. لغتهم التي تبدو للغريب أنها من كلمة واحدة، تعكس طلقاً جماعياً ريفياً، يجعل من أي لقاء بينهم عبارة عن مباريات حامية في اللّغو. يكون للزائر دهشته عندما يلج أيّ مقصف أو مطعم في الحي القديم للمدينة العريقة، حيث يواجه ضجّة حديث لا مثيل لها. ليس صراخاً، بل ديناميكية في التخاطب. وما شهدته أثينا أخيراً من صدامات على خلفية أزمة الديون، لا يُشكّل سوى نفخة ريح سياسية، لم تؤدِّ إلى خلاص اقتصادي حقيقي. فالمفاتيح لا تزال بأيدي الألمان والفرنسيين و«صندوق النقد الدولي»، على الرغم من الإطاحة بـ«قيصر أثينا» جورج باباندريو.

في مواجهة الأزمة

في تسالونيكي، التي أنهت فعاليات مهرجانها السينمائي السبت الفائت، لا مظاهر فاقعة للأزمة. في شوارعها المتأنّقة زحمة سير وحياة. في مقاهيها ذات الطابع الحداثيّ، شباب يتبارزون بالموضات والـ«آي فون» وألواح «كندل» للكتب الضوئية. الشيء الوحيد الذي يشي بعسر الحياة، أكياس التبضّع الفقيرة والقليلة العدد، التي يحملها روّاد شارعيّ الأناقة في المدينة «ميتروبوليوس» و«تزيميسكي». فالكثرة تتحاشى الشراء، وارتياد محلاّت العلامات التجارية الشهيرة التي تصدح بين جدرانها موسيقى إنكليزية اللكنة، لا تُغري فتيات الـ«جينز» وفانيلات «زارا» المتهاودة الأسعار.

بين حزن هذه الشوارع وكآبة ناسها، يقع القلب السينمائي للمهرجان، حيث محيط ساحة «أرسطوطيلوس» (هكذا يكتبون اسمه) وتمثاله الشهير الذي تُحاصره عصابات الأفريقيين، الذين يطاردون الإغريق وزوّارهم بنسخ «دي. في. دي رديئة لأفلام تجارية، كجديد الأميركي ستيفن سبيلبيرغ «تان تان». عند حافة هذه الـ«آغورا» (الإسم الرسمي للساحة الكبرى عند الواجهة البحرية)، يقع مجمّع «أولمبيون» الذي شهد العروض الكبيرة وحفلة ليلة الختام، التي تحوّلت الى منابزات ماراثونية في الخطابات، لتتماشى بخفّة صارخة وولع الإغريق في الكلام.

كانت العروض تنتهي بتدافع وتصفيق خجول. بينما جاءت تلك الليلة الجليدية الطقس في الخارج طويلة، امتدّت ساعات ثلاث مضنية، ومفعمة بالكلام والتحيات والتمنيات والامتنانات، التي تبارى الجميع فيها، قبل إعلان نتائج الدورة الثانية والخمسين. وقفت المخرجة الروسية أنجلينا نيكونوفا وممثّلتها الحسناء الموهوبة أولغا ديوفيتشينيا، التي فازت باكورتها «صورة شفقية» بجائزة المهرجان الكبرى «ألكسندر الذهبي» (عشرون ألف يورو)، لتسعفا الليلة بطلّتيهما. بينما فاز اسم لبنان عبر فيلم إيفان غربوفيتش «روميو 11» («السفير»، 28 تموز الفائت) بـ«جائزة القِيَم الإنسانية»، المقدَّمة من «تلفزيون البرلمان الهيليني»، ليكون للعرب صيت سينمائي، وإن تمّ عبر الواسطة الكندية.

في المحصّلة العامة، لا اعتراضات، ولا فضائح، ولا نميمة. انتهت الليلة بعرض فيلم الختام «مارثا مرسي ماي مارين» للأميركي الموهوب سون ديركن، ليخطف الجميع بحكايته اللئيمة، حول طائفة دينية تُغوِي الفتيات المراهقات، وتحوّلهن إلى جيش من العمالة الجنسية، المتحصّنة في غابة نائية، يرأسها رجل موتور يظنّ أنه يسوع جديد. صَوّر ديركن قوة هذا الرجل الدميم كأنها مُلك طوطم بشري يتمتّع بقوّة سحرية، ينظّم بها اغتصاباته المتواصلة لحريمه، وبينهنّ مارثا (أداء باهر لإليزابيث أولسن)، التي تقرّر الهروب، وإعادة دورة حياتها إلى طبيعتها، لتكتشف أن الاختراق النفسيّ للفعل الوحشي دمّر أمانها الشخصي وتوازنها إلى الأبد، قبل أن يُصْعَق الجميع بخبر الجريمة التي ارتكبتها مجموعة من صديقاتها، وهنّ رهينات تهويمات النبيّ الدجّال.

يُمكن القول إن عنوان الاغتصابات ساد بعفوية على شاشات تسالونيكي هذا العام، وجَمَع اشتغال ديركن مع نصّ زميلته الروسية نيكونوفا «صورة شفقية»، عن محنة بطلتها مارينا، التي تتعرّض لاغتصاب من قِبَل شرطي عملاق الجثة، تحت أنظار زميليه. تُمهِّد نيكونوفا مشاهد حكايتها (105 دقائق) بمشهد اغتصاب أوليّ لشابة مرعوبة في غابة على أيدي أعوان رجال الشرطة أنفسهم، لنكون ضمن قناعة مسبقة ضد السلطوية والذكورية وفساد النفوس ووحشيتها. بيد أن التحريض القويّ الذي تفرضه البطلة مارينا لا يتوافق ودوافعها المقبلة. فالخبيرة الاجتماعية التي تابعت قضية ادّعاء إحدى الطالبات حول الاعتداءات الجنسية المتكرِّرة، التي يمارسها والدها عليها، غيّرت رأيها لحظة الانتقام من الشرطي أندريه (سيرغي بوريسوف)، وانغمرت بلعبة شهوة قوية مع ما يُفترض به أن يكون المجرم. قبل هذا، تمّ التعرّف على عالم مارينا، وتمّ اكتشاف الآتي: زواج فاشل، دفعها إلى جرم الزنا مع صديق العائلة. أي أن فساد محيطها لن يكتمل إلاّ بقرارها الاقتراب من الدعارة، التي لا تتماشى وطبقيّتها.

فيلم نيكونوفا، الحائز على جائزة «النقّاد السينمائيين الإغريق» أيضاً، صادم، لأنه لا يُحوِّل الحقّ إلى قناعة مطلقة. فالموظّفة الحكومية تكتشف بعد تسعين دقيقة أنها وقعت ضحيّة كذب الطالبة حول الأب الوحش، وتقول لعشيقها الذي أوسع الرجل العجوز ضرباً، عقاباً له: «من الممكن أنه لم يرتكب جريمته»، ليقع الالتباس المزدوج وغير المبرَّر في تحوّل أندري المغتصِب إلى مُعاقِب، قبل أن يظهر في المشهد الأخير وقد تحوّل إلى عاشق يتبع المرأة الحسناء، وهي تسعى عائدة إلى زوجها وبيتها، متسلِّحة بصورة فوتوغرافية له التقطتها بخدمة «الصورة الشفقية» على آلة تصوير، اشترتها من عجوز مدمن على الفودكا.

أخلاق وتحوّلات

صاغت نيكونوفا عملها بنَفَس تراكمي، لكن من دون عنايتها بتبرير رابطه النفسي. ذلك أن المضاجعات بين البطلين في المصعد أو في البيت، التي تنتهي بضربها، تكشف أن كلمة «أحبّك» سُبَّة عاطفية لأندري، الذي غيّب الموت زوجته، فتحوّل إلى مغتصب. الخلاص من الخطيئة في حالة مارثا ثمنه الظنّ الأبدي بتورّطها بجريمة القتل، على الرغم من عدم دنسها بدمائها، بينما ساهمت مارينا في تخليص أندري من وحشيته، من دون التأكيد على وجوب خضوعه للعقاب العادل.

في السياق نفسه، حثّت الألمانية برجيتا ماريا بيرتيل مشاهدها على شحذ همّته الأخلاقية لإنصاف بطلة فيلمها «النيران» (جائزة أفضل ممثل لووتن ويلكي موهرينغ)، التي تتعرّض لاغتصاب من قِبل شاب تعرّفت عليه في مقصف ليلي. جوديث خبيرة رياضة طبية، لكنها لن تتمكن من الدفاع عن نفسها. المعتدي لم يمنعه منصبه الرفيع ولا أبوّته من ارتكاب جريمته. تسعى البطلة للحقّ، بيد أن اختراق القانون مرن، يُسهّل للمعتدي أن يفلت، فتقرّر إحقاق حقّها بيدها. تذهب إلى منزله، وتصادق زوجته، وتقترب من أطفاله. تتحوّل إلى وحش عائلي لا يرتكن إلى أعراف اجتماعية واضحة تقوم على مبدأ وضعي، يستند بدوره إلى حقيقة أن الغلبة للقانون وليس للشرط الشخصي، فتكون خسارتها أعظم وحتمية. في «ثمانون رسالة» (75 دقيقة) للتشيكي فاكلاف كادرناك (الجائزة الخاصة بلجنة التحكيم «ألكسندر الفضي»، وجائزة «النقّاد السينمائيين الدوليين»)، هناك اغتصاب سياسي وحشي، لا يمسّ جَسَدي الأم (سوزانا لابيكوفا) وابنها اليافع (مارتن بافلوس)، بل ضميرهما ومستقبلهما. ذلك أن النظام التوتاليتاري (تدور الأحداث في تشيكوسلوفاكيا في العام 1987) يمنعهما من الوصول إلى ربّ العائلة الذي فرّ إلى لندن. مستقبل الصبي مرتهن بكَمّ من المستندات وأوراق التثبّت من الهوية، والإرادة والدوافع والولاء والخوف من سطوة الحزبيين، وأعوان الاستخبارات، وموظفي البيروقراطية المهترئة. بينما يراقب الابن مساعي والدته الكتومة وجَلَدَها الذي لا يلين، تُبقي هذه الأخيرة عزمها وتوازنها مرهوناً باستمرار كتابتها رسائلها التي تُفصِّل فيها للزوج البعيد يومياتها. في الدقيقة الأخيرة للفيلم، يُكتَشف أن هذه الرسائل لن تُبعَث، ولن تصل إلى مقصدها. فالسيدة الحكيمة تعرف جليّاً أن الأوراق محكومة بالإعدام كحياتيهما، وتقول عبر ديالوغ مرير مع الرجل المغيَّب أن رسالتها الأخيرة تحمل الرقم 44، وأنه لا تزال أمامهما أعوامٌ طويلة من القهر واغتصاب الحقّ الشخصي والحرية.

في برنامج «آفاق مشرّعة»، جاء فوز باكورة البريطاني بادي كونسيديني «التيرانوصور» بجائزة الجمهور مُكَمِّلاً للفوز بجائزة الإخراج والجائزة الخاصة بلجنة تحكيم «مهرجان ساندانس الأميركي» قبل أشهر عدّة. نصّ قاس ومفعم بالعنف العاطفي وخساراته: ثلاث شخصيات تُغتَصَب حيواتها من قوى وظروف خارجية. محن حياتية محاصَرة بمحيط فارغ وكئيب، يؤدّي إلى تنازلات كبيرة على صعيد الجسد، حيث يغتصب الزوج جيمس (إدي مارسان) زوجته الشابّة المقصيّة الكيان والعواطف، لتنتهي محميّة رغماً عنها من قِبَل رجل سكّير وعنيف يُدعى جوزف (بيتر مولن) ارتكب «جريمتي» قتل كلبين، صارخاً في وجه الجميع: «لستُ رجلاً صالحاً». انتهى خراب جوزف بحكمة الدم البشري، عند مشاهدة جثة الزوج غريب الأطوار في غرفة النوم، مُضرَّجة بدليل جريمة هانا (أداء قوي لأوليفيا كولمن)، التي انتقمت من عَسَفه وانتهاكاته. فشجاعتها لا تُقاس بالفشل الحياتي لجوزف، ولا نكوصه العاطفي وخلل إيمانه الديني.

السفير اللبنانية في

17/11/2011

 

«كشك تحصيل الضرائب» للتركي تولغا كاراتشيليك

مستقبـل آلـة

نديم جرجورة 

«كشك تحصيل الضرائب» أو «كشك ضريبة المرور» للتركيّ تولغا كاراتشيليك، أحد الأفلام التركية الحديثة الإنتاج. إحدى الصوَر السينمائية المتوغّلة في العنف الذاتيّ المبطّن، الذاهب إلى انفجاره في اللحظة المناسبة لإعلان الانقلاب المدوّي على الذات أولاً. أحد التعابير البصرية المتواضعة والجميلة عن العلاقات المشوّهة، والأحلام المبتورة، والكوابيس المرتبكة أيضاً. حبّ وصدام عائلي وتفكّك اجتماعي. ذاكرة مقبلة من جحيم خرابها العتيق، إلى راهن مثقل بالتباس اللحظة. إلى راهن عاجز عن المُصالحة مع الذات، عبر التطهّر من أدران الماضي.

جماليات

عُرض الفيلم التركي هذا في برنامج «الأفلام العالمية المعاصرة»، في الدورة الثالثة (25 ـ 29 تشرين الأول 2011) لـ«مهرجان الدوحة ترايبكا السينمائي». شارك في «المسابقة الرسمية» الخاصّة بالدورة الواحدة والخمسين (4 ـ 13 تشرين الثاني 2011) لـ«مهرجان تسالونيكي السينمائي» في اليونان. جماليته الدرامية والفنية كامنةٌ في بساطته البصرية واشتغالاته التقنية. في قدرة النصّ على جعل الحكاية المروية بالصوَر انعكاساً لحالة نفسية، أو لواقع إنساني. في تصوير التمزّق الداخلي للفرد من خلال حركة أو طريقة بوح. التمثيل، هنا، أساسيّ. أي الأداء القادر على جعل الجسد وحركاته لغة ناطقة بالانفعال والخراب. الحوارات جزءٌ من اللعبة. لكن الأداء جوهر النصّ وترجمته السينمائية. الأداء، بما هو عليه من حراك جسدي وروحي وانفعاليّ في لحظة واحدة.

تفاصيل الحبكة القصصية عادية: موظّف في مؤسّسة تحصيل الضرائب المفروضة على سير السيارات على الطرقات العامة، يُعاني مأزق وجود. ارتباطه بوالده العجوز والمريض منسحبٌ على ذاكرة محطَّمة. ارتباط معقود على صدام خفي أحياناً، وعلنيّ أحياناً أخرى. الارتباط هذا مؤثّر سلباً على يوميات عيشه الأقرب إلى آلة منزّهة عن كل «عيب» عاطفي أو جسدي أو مادي. آلة ناجحة جداً في وظيفتها، وفاشلة جداً في حماية الشقّ الإنسانيّ من الوقوع في الرتابة القاتلة: دوام رسمي يومي. تقليد صارم في ممارسة الطقوس اليومية هذه. انفضاض شبه مطلق عن زملاء المهنة. أنماط متناقضة من الوجوه والشخصيات التي يلتقيها على الطريق العامّة. لقاء مسائي بوالد مريض ومزعج بأنانيته وتعاليه وصرامته وعنفه المبطّن. لقاء مسائي أيضاً بالصبيّة الجميلة التي تعتني بالأب، وتلقي نظرة هادئة وساحرة على الإنسان في الآلة البشرية تلك. محاولة «الشاب الموظّف الآلة» هذا إصلاح أعطال السيارة القديمة، الشاهدة الوحيدة والأخيرة والصامتة على ذاكرة مليئة بالقهر والموت والتمزّق. مليئة بأشياء جميلة، لكنها موؤودة بالغياب القسري للأم أيضاً. الرتابة فعلٌ قاتل للانفعال. محاولة الأب تقريب الابن والصبيّة بعضهما إلى البعض الآخر دونها عقبة واحدة: انصياع الابن إلى الآلة فيه. محاولة أُضيفت إليها محاولة يتيمة للصبيّة باستدراج الابن إلى لقاء ثنائي في مقهى عام. محاولتان فاشلتان (كمحاولة إصلاح السيّارة، أو تبديل اللمبة المعطّلة مثلاً) جعلتا الانهيار العصبيّ يتفاعل في ذات الابن «الشاب الموظّف الآلة» إلى درجة الانفجار، ما حتّم على مديره نقله إلى مكان جغرافي ناء. مكان بعيد جداً، ورتيب أيضاً. رتابة إلى جانب رتابة. الهدوء العظيم سبيلٌ إلى مزيد من التمزّق الذاتيّ غير المُعلن.

انتقال

من الطريق العامّة ذات الكثافة البشرية الحادّة، إلى طريق فرعية ذات هدوء مكثّف وطاحن ورتيب، بدا انتقال كينان (أو كنعان) بينهما شبيهاً بانتقاله من مرحلة تراكم الغليان الذاتيّ في شرايينه وروحه ونبض قلبه، إلى مرحلة الانفجار التام. العنف المبطّن وجد متنفّساً له في «وهم» علاقة ربطت كينان بصبيّة جميلة اعتاد رؤيتها عابرة كشك تحصيل ضرائب المرور في الطريق الفرعية تلك. أهي حقيقة أم وهم ؟ هل العلاقة الناشئة بينهما ملموسة، أم أنها صنيعة عقل باطنيّ مدجّج بالارتباكات العصبيّة، والتوهان القاتل؟ لا شكّ في أن التباس الأجوبة، أو عدم وضوحها بالأحرى، جزء من اللعبة السينمائية هذه. جزء من متعة المُشاهدة أيضاً. شخصيات تمرّ على الطريق الفرعية، لا تقلّ التباساً وتوهاناً وغرائبية. في أحد التعريفات الإعلاميّة به، جاء أن الفيلم «كوميديا سوداء، قائمة على سوء الفهم والعزلة ونزاع الأب والإبن». كوميديا سوداء قاتمة وغامضة الملامح أحياناً، لالتباس مساراتها المعقودة على براعة الانمحاء شبه المطلق للحدّ الفاصل بين الوهم والواقع. كوميديا سوداء زادت الذاكرة من طغيان بؤسها المعتمل في النفس والروح، المؤدّي (طغيان البؤس) إلى تفكّك دراماتيكي للبناء الإنسانيّ الخاصّ بكينان، والخاصّ بعلاقاته المفتوحة والمُقلِقة بذاته وبأبيه، وبالمحيطين به أيضاً. فالذاكرة منسوجة على موت الأم. وموت الأم صدمة قوية لأب انزوى في غضبه وخرابه ونزقه وقسوته، ولإبن وجد الموت ماثلاً أمامه من دون أن يفقه سرّ الغياب الفجائيّ للأم. كأن الموت السريع للأم جعل كينان منفضّاً عن نساء الأرض جميعهنّ، خوفاً من رحيلهنّ السريع عنه.

فيلم انفعالات؟ ربما. لكنه فيلم معقود على معنى العنف في ترجمة انفعالاته انهياراً وبطشاً ذاتياً وتقوقعاً في المساحة الضيّقة للخراب. وهذا كلّه مرسومٌ بجمالية سينمائية حوّلت البساطة إلى لوحات بصرية شفّافة، وجعلت الاشتغال التقني مدخلاً إلى معاينة التفاصيل والحكايات.

كلاكيت

الممثل مُخرجاً

نديم جرجوره

يكشف الاطّلاع على السيرة المهنية لجورج كلوني حدوثَ تطوّر حقيقي نحو الأفضل. الإخراج ملائم له. جعله فاعلاً في تشريح البناء العام للولايات المتحدّة الأميركية، سياسياً واجتماعياً وإعلامياً. وضعه في مكانة أوضح وأعمق في مواجهة بعض العفن الحاصل داخل بلده. أتاح له تفكيك بنى متحكّمة بالحياة اليومية للأميركيين. الإخراج دفعه إلى قلب الحدث. منحه حرية البوح الانفعالي إزاء مشاغل تُقلقه. أقول الانفعالي، لكنّي لا أتغاضى عن القدرة الثقافية والوعي المعرفي والانفتاح الفكري، التي حصّنته من الانزلاق في متاهة التصّنع. التي ساعدته على تبيان الخلل والارتباك الأميركيين، من دون أن يقع أسيراً لهما. من دون الإسراف في جلد الذات. من دون جلد الذات أساساً. الانتقاد، بالنسبة إليه، منطلِقٌ من قناعة وطنية خاصّة به، تريد للولايات المتحدة الأميركية ما هو أفضل وأجمل. بل للمجتمع الأميركي. ليس بالمعنى المثالي الأفلاطوني، بل بالمعنى الواقعي.

للعمل الإخراجي نكهة وسمات وحضور. هذه كلّها مختلفة عن التمثيل. قد يكتفي الممثل المحترف بتقديم ترجمة عملية لاحترافه المهني. لاتقانه الأداء التمثيلي وفق السيناريو. وفق رؤية المخرج. التمثيل أداة تعبير. لكنها أداة خاضعة، غالباً، لمزاج المخرج. أو لرؤية العمل. الحرية عند الممثل أقلّ تأثيراً وفعالية، فكرياً وثقافياً. الممثل قائلٌ حكاية المخرج. حكاية السيناريو والحوار. الإخراج مختلف. إنه نصّ يكتبه السينمائي بالصورة. ربما لهذا كلّه انتقل كلوني (وغيره) من التمثيل إلى الإخراج. في المرحلة نفسها، انتقل كلوني من تمثيل أدوار تقليدية عابرة كشاب وسيم، أو كمحارب شبيه بالمحاربين الأبطال الشرفاء من أجل بلده وقيم البلد وتقاليده، إلى الإخراج. المخرج سيّد اللعبة. الزمن الآنيّ منح المخرج حرية أوسع. هامشاً أكبر. إمكانيات أفضل وأجمل وأهمّ لقول ذاته ورؤيته وأشيائه.

لا يعني هذا أن الممثل لا يُشارك ولا يُناضل ولا يبوح. باختياره هذا الدور أو ذاك، يمارس الممثل حريته في انتقاء ما يراه ملائماً لأهوائه وأمزجته وسلوكه. الممثل ملتزم توجّهات وإملاءات، إلى حدّ ما. توجّهات واملاءات واضحة في الاشتغال التمثيلي، مهنياً وتقنياً وجمالياً. ممثلون عديدون وسموا المشهد السينمائي بلمساتهم الخاصّة. أسّسوا مدارس في الأداء. باتوا مرجعاً. مع هذا، يحتاج الممثل إلى متنفّس أكبر. ليس الممثلين جميعهم. هناك من يكتفي بالتمثيل. يبرع فيه. يراه ميداناً خاصّاً به فقط. هناك من يطمح إلى ما هو أبعد من التمثيل. ينتقل إلى وراء الكاميرا. يُدير اللعبة. يبوح بما يشعر به. أو بما يرغب في قوله.

النموذج الذي قدّمه جورج كلوني غنيّ بمعطيات قادرة على التحليل والتفكير. المراحل الفنية الأولى له متعلّقة بالتمثيل. لاحقاً، اختار الإخراج. في الفترة نفسها، لم ينقطع عن التمثيل. باتت الأدوار أجمل. باتت أفضل. الإخراج جعله سينمائياً جميلاً يُنقِّب في التاريخ الحديث لبلده. لمجتمعه وناسه. جعله فاعلاً في الحياة، والبيئة السينمائية أيضاً.

السفير اللبنانية في

17/11/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)