حول الموقعخارطة الموقعجديد الموقعما كـتـبـتـهسينما الدنيااشتعال الحوارأرشيف الموقع 

أن تكون هناك حكاية !

قراءة في العناصر الوثائقية لأفلام مهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي

رامي عبد الرازق

في خلال اربعة ايام قصيرة وحافلة شهدت مدينة طنجة فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان طنجة للفيلم القصير المتوسطي وذلك بمشاركة 55 فيلما من 20 دولة متوسطية بعضها يشترك لاول مرة مثل جزيرة مالطا وبعضها يشارك منذ الدورة الاولى مثل فرنسا وايطاليا واليونان وتركيا ومصر وبالطبع المغرب.

وإلى جانب المسابقة الرسمية للمهرجان والتي تمنح اربعة جوائز عرضت كنشاط موازي ضمن فعاليات المهرجان بانوراما للفيلم القصير المغربي من إنتاج العام الماضي.

لاتنطلق اهمية المهرجان من حجم المشاركات ولكن من تنوعها وكثافة رؤيتها وتعدد اصواتها وافكارها واخيرا من مصداقيتها ومدى قربها من واقع البلاد التي افرزت مبدعيها ومن هنا يمكن ان نستشعر تلك الحالة الاقرب للوثائقية او الوثائقية التي صاحبت العديد من التجارب المعروضة ضمن المسابقة الرسمية او ضمن بانوراما وذلك انطلاقا من مقولة الان رينية الشهيرة "ان الفيلم الوثائقي هو الذي يستطيع أن يمنحنا تقريرا حول حضارتنا" ولا نقصد بالوثائقية هنا بعض الأفلام التي انطلقت من قصص حقيقية مثل التركي(المحطة الأخيرة)للمخرج"كوكلو يامان"او اللبناني(اتنين ونص)بطولة"كارمن لبس"وإخراج"إيلي كمال"وان كانت تلك الاعمال تقارب معرفتنا الراسخة من ان الفيلم الوثائقي هو العمل المنجز انطلاقا من مادة محددة تشمل لقطات مصورة قريبة من التجربة المعاشة أي ان كم الواقع في الفيلم الروائي المنجز عن قصة حقيقية ربما يتجاوز كم الواقع في بعض الافلام الوثائقية طالما منحنا المخرج ناس حقيقين امام الكاميرا وموقفا اجتماعيا او سياسيا مكتمل الابعاد.

وثائقية الحكاية المفتوحة

"ان تكون هناك حكاية يعني ان هناك حياة عاشها المرء"

ابراهيم نصر الله

يجمع الكثيرون ان الوثائقية في مفهومها الواسع هي محاولة تسجيل كيان يكابد الألم الحقيقي وذلك عبر مقاربة الواقع المعاش فنيا ودون الغرق في التقريرية الأخبارية ومن هنا يمكن أن ننظر لتجارب روائية قصيرة كالتي عرضت ضمن المهرجان على اعتبار أنها تجسد حالة وثائقية او تتمثل فيها بعض العناصر التي نجدها واضحة في الفيلم الوثائقي او التسجيلي دون مواربة وهي بالترتيب :

1- الاعتماد على قصة او واقعة حقيقية.

2- الأشتباك مع الواقع بصريا ودراميا حتى في الأفكار المؤلفة.

3- التصوير في الاماكن الحقيقية والطبيعية للاحداث.

4- اعادة تمثيل بعض الاحداث الحقيقية.

5- الاعتماد على اشخاص حقيقيين في اعادة تمثيل الواقع.

6- استخدام مواد ارشيفية واعادة توظيفها سواء بالتعليق الصوتي او باعادة مونتاجها.

7- عرض المعلومات الهامة المتعلقة بالأحداث الحقيقية لاستكمال رؤية المتفرج عقب المشاهدة.

هذه العناصر بالطبع هي عناصر نظرية فضفاضة يمكن ان تنطبق على العديد من التجارب دون ان تتسم بالوثائقية لكننا هنا امام عملية استخلاص لهذه العناصر من الأفلام ذاتها وليس اسقاط هذه العناصر على الأفلام لاجبارها على اتخاذ صفة الوثائقية.

ان الحكاية لا تنفي عن الفيلم صفة الوثائقية ولا الوثائقية تعلو في قيمتها عن الحكاية ودعونا ننظر مثلا إلى تجربة الفيلم التركي(المحطة الاخيرة مطار فرانكفورت)أن الاحداث مبنية على وقائع حقيقية حدثت عام 2005 لشاب سوداني يدعي جمال عجيب دخل ذات يوم إلى مخفر الشرطة ليبلغ عن سرقة سترته التي تحتوي على امواله وجواز سفره وإذ بالشرطة تعتقله لأنه اسمر ومسلم ولا يحمل هوية وبعد قليل يكتشف انه يواجه حكما بالترحيل من المانيا لانه متواجد فيها بشكل غير شرعي ويصاب الشاب بحالة هلع رهيبة لان ترحيله إلى السودان يعني الحكم عليه بالاعدام في مجازر الحرب الاهلية الدائرة هناك بين الشمال والجنوب ويحاول لك الطرق والتوسلات يقاوم الترحيل ولكنه الشرطة الفيدرالية تتخذ معاه اقسى درجات السيطرة مما يؤدي في النهاية إلى موته مختنقا داخل الطائرة التي كانت تقوم بترحيله من برلين إلى مطار فرانكفورت.

استخدم المخرج التركي اسلوب الكاميرا الاخبارية المتلصصة التي يبدو وكأنها تصور الشخصيات من طرف خفي او تتلصص عليهم او تتابعهم طوال الاحداث كاميرا محمولة غير ثابتة تسجل أكثر مما تسرد خصوصا مع اهتمام السيناريو بتفاصيل عملية الاعتقال وتوثيق الشاب السوداني والبروتوكولات المتبعة للسيطرة على هياجه مثل ربطه بسيور بيلاستيكيه في وضع اقرب للخراف المعدة للذبح وضعه على الأرض كي لا يلقي بنفسه من فوق فراش غرفة الحبس او وضع خوذة على رأسه كي لا يشجها عمدا في الأرض.

وقد اعتمد المخرج على التصوير في اماكن قريبة الشبه من السجن الفيدرالي و استغنى تماما عن اي مؤثرات صوتية او موسيقى مصاحبة واكتفى بشريط صوت يحمل الاصوات الطبيعية فقط وبدون الخوض في اي حوار درامي من اي نوع فقط الجمل الادارية بين ضباط البوليس او توسلات الشاب السوادني او الجمل القصيرة لركاب الطائرة التي لقى الشاب فيها مصرعه عندما حاول الضباط كتم انفاسه لمنعه من الصراخ واقلاق الركاب.

وينتهي الفيلم بشاشة سوداء يعقب عليها المخرج بمعلومات حول الحادثة والتحقيقات التي لم تسفر عن شئ لان الحكومة تعمدت تبرئه الضباط الذين تسببوا في وفاة الشاب بالأضافة إلى معلومات حول المظاهرات الاعتراضية التي تم تنظيمها من المجتمع المدني احتجاجا على وفاة الشاب السوداني ولم تسفر سوى عن مزيد من التعتيم الأعلامي حول المسألة.

اختيار المخرج للشكل التسجيلي لراوية الحكاية لم يكن نابعا فقط من كونها مبنية على احداث حقيقية ولكن لاحداث تلك المقاربة الفنية التي تحدثنا عنها فيما يخص تعرية الواقع والأقرار باستمراريته داخل الحاضر المعاش وهو مخرج تركي يعيش في المانيا إي انه معرض لمثل ما تعرض له الشاب السوادني في اي لحظة ولذلك كان اختياره للشكل التسجيلي هو الانسب تعبيريا عن هواجسه التي تعيش معه في حاضره وواقعه.

وثائقية الحالة

 في الفيلم اللبناني(اتنين ونص)يبدأ المخرج إيلي كمال فيلمه بلقطة علوية لفراشين تنام على أحدهم كارمن لبس في دور امرأة عاملة وبجانبها ابنتها وعلى السرير المقابل ينام ابنها الشاب حيث حيز الغرفة ضيق من اللقطة العلوية وخانق ويوحي بحجم الكبت والضيق والفقر الذي تعاني منه هذه الأسرة الصغيرة.

الاحداث تدور كلها في يوم واحد تقريبا هو يوم العمل العادي للأم العاملة التي لا نعرف حتى ما هو  اسمها ولا نكاد نسمع لها صوتا طوال الوقت حيث يقوم المخرج بتصميم شريط صوت يعتمد على الاصوات الطبيعية للحياة اليومية اللام التي تعمل في ثلاثة مهن مختلفة نراها في كل مهنة تقوم بعملها على اكمل وجه صامتة بلا اي انفعال على ملامحها وكأنها آلة صماء تعمل في صمت وآلية.

تبدو الحالة الوثائقية هنا واضحة في تتبع تفاصيل اليوم الشاق للام منذ ان تنهض في الصباح لتذهب إلى عملها الاول في احد الأفران لتصنع فطيرة الزعتر ثم تركب الاتوبيس وسط تكدس الأجساد وزحام الاصوات في الشارع الذي يبدو أنه كل ما يطغى على ذهنها أي كأنها اصبحت فارغة من الداخل حتى أن رأسها لا يفعل سوى تكرار الاستماع إلى صوت العالم الخارجي ثم نتتبعها في عملها الثاني والثالث إلى أن تعود في المساء إلى البيت لتتعرض إلى حادث مؤلم وهو اختطافها على يد اثنين من الشباب يقوم احدهم بالاعتداء عليها بشكل مهين ووحشي بينما يضع على رأسها كيس اسود يخفي وجهها وهي فاقدة للوعي وعندما يقدم الثاني على الأعتداء عليها تفيق نسبيا فيهرب الشاب.

ينتهي الفيلم على لقطة واحدة صادمة حيث نفس الغرفة والام تنام منهكة بعد يوم عمل وشقاء واغتصاب بينما نرى ابنها في السرير المقابل فجأة في لقطة قريبة يفتح عينيه فجأة مكتشفا انه كان على وشك أغتصاب أمه ونكتشف معه أنه نفس الشاب الذي ساعد في اختطافها دون أن يرى وجهها!وعقب الاظلام النهائي تكتب بحروف صغيرة على شاشة سوداء (مبني على قصة حقيقية)
هذه الجملة الصغيرة تعيدنا مرة أخرى لمشاهدة الفيلم في اذهاننا متتبعين الحالة التي صنعها المخرج لتسجيل واقع يومي لامرأة عاملة لكنها في النهاية تتعرض للاغتصاب على يد ابنها ووثائقية الحالة ليست في كون الحادثة حقيقية ولكن في طبيعة الشكل البصري الذي اختاره المخرج حيث التقشف الموسيقى والمتابعة الريبورتاجية لتفاصيل يوم العمل ولطبيعة الاماكن التي تم التصوير بها وكلها اماكن حقيقية ليوم عمل  حقيقي لامرأة لبنانية عاملة لديها اسرة تقتل نفسها في العمل يوميا من اجلها.

عبد الله المختار

في فيلمها مختار قدمت المخرجة المغربية الشابة حليمة ورديغي نموذج لشكل روائي يرتدي عباءة الوثائقي ليس فقط من حيث الشكل ولكن على مستوى المضمون ايضا فيما يخص رصد الظاهرة وتحليلها انطلاقا من مادة حكائية قصت عليها ذات يوم من شخص يدعى مختار.

لقد ذهبت المخرجة إلى الجبال حيث بحثت عن اسرة صغيرة مكونة من اب وأم طفل صغير يدعى عبد الله واقنعتهم بتمثيل السيناريو الذي كتبته عن القصة الحقيقية التي رويت لها.

الاسماء هنا مجردة والمكان حقيقي هو منزل الأسرة الجبلية فوق قمة احد الجبال الشمالية بالمغرب ولا يوجد حوار تقريبا وإنما مجرد جمل عابرة او صرخات ولا يوجد أي استخدام للموسيقى او المؤثرات الصوتية وإنما تفريغ شريط الصوت تماما لصالح الاصوات الطبيعية للجبل والسماء والطائر الصغير الذي احضره الطفل إلى المنزل وكان سببا في عقابه.

عبد الله هو اسم بطل الفيلم الحقيقي طفل صغير يرعى الغنم على الأعشاب النامية فوق قمة الجبل وحيث يعثر في الصباح على فرخ صغير لطائر البومة يطلق صيحات الجوع والخوف فيصطحبه للمنزل وهناك يعتبر اباه الرجل المتزن المتدين ان احضار الطائر الصغير هو فأل شؤم على المنزل ويقرر حبس الطفل وفرخ البومة حتى يتعلم الطفل خطأه وبعد يوم كامل من العقاب يعود الأب حاملا عنزة بقرون ويذبحها ليطهر بدمها البيت بعد احضار الطائر الشؤم  خاصة أن ام الفرخ الصغير تحضر للمنزل وتطير فوقه بحثا عن فرخها وساعتها تقرر ام عبد الله ان تصنع من رأس العنزة خيال مآتة حيث ترفع الرأس المذبوح على عصا كالصليب وتلبسها عباءة ملونة لتصبح اشبه بطوطم وثني قديم يلوح فوق منزلهم الجبلي العالي.

وفي النهاية لا يجد الطفل الصغير بدا من قتل فرخ الطائر لكي يتخلص من سجنه وفي لقطة مكثفة وذات دلالة موحية نجده عقب لقطة قتل الطائر يعود لممارسة حياته الطبيعية كراعي غنم فوق التلال العشبية الصفراء.

عندما سؤلت المخرجة عن اسم مختار اجابت أنه اسم الشخص الذي روى لها الحكاية حيث قررت أن تطلق اسمه على الفيلم بينما طن المشاهدون انه اسم الطفل ولكنها بالفعل عمدت لتجريد اسماء العائلة لانهم في الحقيقة ليسوا ممثلين ولكنهم عائلة جبلية بالفعل.

لقد تمكنت المخرجة باستخدام تقنيات تجمع ما بين الروائي المتخيل والتسجيلي الصادم أن توثق القصة الغريبة التي تكشف عن نزوع النفسيات الشرقية للأستسلام للغيبيات والهواجس التراثية رغم تدينها الواضح المتمثل في شخصية الاب المصلي الذي نراه لا يفوت فرضا فجرا كان أو عشاء.

واختارت ان توثق القصة عبر اشخاص حقيقين يؤمنون بتلك المعتقدات ويمنحونها مساحة من نفوسهم وافكارهم رغم أنهم ليسوا ابطال القصة الحقيقية ولكنهم هنا يتماهون معهم خاصة مع الاسلوب الخشن في التصوير والتعامل المتشقف مع شريط الصوت مما يوحد في ذهن المتلقي بينهم وبين ابطال القصة فيتولد لدينا شعور بأننا نشاهد فيلما وثائقيا عن عادات أهل الجبال المغربية في التعامل مع واقعهم اليومي وافكارهم المتوارثة جيلا بعد جيل سواء بالتراض كما الاب او بالقهر والأجبار كما حدث مع الأبن الصغير الذي يجبر على قتل الطائر كي يتخلص من العقاب.

إعادة إنتاج الزمن

 تجربتان جدليتان عرضا خلال المسابقة الرسمية للمهرجان الاولى فيلم"ديان ويلينكتون"للمخرجة الفرنسية "أرنو ديباليير"والثانية هي الفيلم الاسباني "السباق الكبير" للمخرج "كوطي كاماتشو".

كلا التجربتان تعتمدان على اعادة إنتاج زمن سابق عبر استخدام مواد ارشيفية مصورة بالأبيض واسود ومعلق عليها صوتيا او ممنتجة بسياق خاص.

فيلم ديان ويلينكتون مدته 15 دقيقة وهو عبارة عن مجموعة طويلة من المشاهد الأرشيفية المصورة في العشرينيات او الثلاثينيات كما يبدو من ملابس الشخصيات وموديلات السيارات وهي مشاهد وثائقية بحتة تم التقاطها في ولاية نورث داكوتا الأمريكية  في المدارس والشوارع والبيوت والمتاجر اعادت المخرجة مونتاجها على تعليق صوتي يحكي عن ديان الفتاة الصغيرة التي كانت صديقة للراوية العليمة التي نسمع صوتها ولا نراها طوال الوقت انها تحكي عن ديان الصغيرة التي كانت ترافقها في المدرسة وكيف كانت تحلم بأن تصبح ممثلة ذات يوم لكنها في النهاية تعرضت لحادث مآساوي حيث اختفت في ظروف غامضة وظن البعض انها قتلت وظن البعض الاخر انها هجرت المدينة باتجاه الولاية لكي تحقق حلمها,وتجلت قدرة المخرجة في اعادة إنتاج الزمن عبر المادة الأرشيفية من خلال التوافق العضوي بين التعليق الصوتي الذي يحكي قصة حياة ديان وتطورها وبين المشاهد التي تبدو مقتطعة من اجزاء وثائقية طويلة عن المدينة الامريكية فالفيلم محاولة جادة في استخلاص الدراما التي خلف البشر حتى في المادة الصامتة المتشظية التي لا يجمعها رابط محدد لو شاهدناها بلا تعليق وهو في زاوية منه اقرب ليربورتاج وثائقي عن قصة حياة فتاة في مدينة امريكية اختفت في ظروف غامضة خصوصا أن المخرجة ضمنت المشاهد لقطات من جرائد وصحف الفترة تتحدث عن العثور على رفاة فتاة يشتبه في انها ديان نفسها, يقول هتشكوك ان الدراما هي الحياة اذا اقتطعت منها اللحظات المملة ولكن المخرجة اثبتت انه حتى اللحظات التقليدية والادارية جدا في الحياة والمصورة بشكل عفوي مثل عبور مجموعة اشخاص الطريق او تصويرهم وهم يسيرون في الشارع او يدخلون أحد المحال او يحتفلون بعيد ميلاد تقليدي او يقبلون بعضهم دون أن ندري من هؤلاء يمكن ان يصنع عبر الحكي المنظم حبكة درامية شيقة او يلقي الضوء على حكايات ما خلف الحياة دون اللجوء إلى اي نوع من المحاكاة التمثيلية او التدخل الدرامي الواضح.

اما فيلم السباق الكبير فقد استخدم فيه المخرج اسلوب غير تقليدي في التعامل مع المادة الأرشيفية لاحد سباقات الخيول الكبرى في فترة الأربعينيات في اسبانيا حيث قام بتصوير مادة تمثيلية إلى جانب المادة الأرشيفية ووضع عليها المؤثرات البصرية التي تجعلها اقرب للمادة الارشيفية اي بتكنيك(old age)المعروف مونتاجيا ثم قام بتصميم عملية تسابق الخيول بالجرافيك وادخل عليها نفس المؤثر البصري وقام بدمج الخيوط البصرية الثلاث التسجيلي الأرشيفي-الممثل -المصمم تقنيا لصياغة فكرته حول فكرة السباق الكبير الذي يعيش البشر في فلكه وهو سباق مادي بالأساس لا يعني بالروح ولا يترك مجالا في النفوس للمشاعر الحية حيث تحولت حضارتنا إلى سباق لاهث للفوز بالمتع المادية.

في البداية نشاهد اللقطات ارشيفية حول استعداد الخيول للدخول إلى الحلبة ونرى شباك المراهنات ثم يقطع المخرج على لقطات قريبة لممثليه في ادوار شخصيات المراهنين على السباق ثم نعود للقطات الأرشيفية حيث تدخل الخيول خانات الأنطلاق وفجأة عندما تنطلق نكتشف ان راكبيها قد تم ربطهم بمشانق إلى اسقف الخانات الحديدية في عملية اعدام جماعية تتم بمجرد انطلاق الخيول من اسفلهم.

يلي ذلك لقطات صامتة شديدة التأثير من وقع صدمة مشاهدة عشرات الفرسان الشبان معلقين في مشانق يتأرجحون داخل خانات الحلبة ولكن شخص واحد فقط يظل مثبتا منظاره المكبر على الحلبة التي انطلق فيها الخيول متبارين دون فرسان يقودوهم.

وبعد نصف دقيقة من المتابعة المستلبة يبدأ الجميع في نسيان امر الفرسان المشنوقين ومتابعة الخيول التي تجري للحاق بنهاية السبق وتدريجيا ينشغل الجميع في هيستريا الرغبة الجماعية في الفوز وتحقيق المكاسب بالمراهنات ليست على البشر من الفرسان ولكن على الخيول نفسها.

نعود للتذكير بجملة رينية الخالدة"ان الفيلم الوثائقي هو الذي يستطع أن يمنحنا تقريرا عن حضارتنا" أليس هذا بالظبط ما فعله كاطو كامتشو في هذا الفيلم"الروائي" باستخدام عناصر عبر كمياء السينما تجمع ما الأرشيفي والممثل اي بين الحقيقية وظلها.

وثائقية النظرة

هل تختلف النظرة في الفيلم الوثائقي عنها في الفيلم الروائي إذ ما توحدت الكاميرا مع عين الشخصية الناظرة صوب المجتمع وتفاصيله !!

في الحقيقة من الصعب الاجابة على هذا السؤال خصوصا في الأفلام الروائية ذات الأتجاه الاجتماعي التي تتعامل مع المجتمع على اعتباره بيئة دراسة لواقع الذات والاخر.

في تجربة المخرج التركي "دونيس ميتين" يقدم لنا فيلم "مي هاتيجي" حالة توحد مطلق بين الكاميرا وشخصية الفيلم الرئيسية الشابة التركية المحجبة التي تقف كل يوم في محطة القطار لانتظار زوجها الملتحي العبوس كي تمر خلفه نحو ماكينات التذاكر لتركب بجانبه القطار باتجاه منزل الزوجية الذي لا نراه ابدا.

في البداية نرى محطة القطار من خلال الكاميرا في لقطات تحضيرية لطبيعة المكان الذي سوف تدور فيه اغلب "نظرات" الشخصية الرئيسية ثم تنتقل الكاميرا في منظورها من العام للخاص حيث تتوحد مع الشخصية وتصبح عين الشخصية هي الكاميرا التي تنظر فيما حولها تتأمل هذا المجتمع الغريب الذي يعيش فيه الانسان معزولا حيث كل من حوله يذهبون ويجيئون في انتقالات مستمرة دون ان يكترث احدهم بالأخر.

النظرة الوحيدة التي تتلقاها الكاميرا/ الشابة هي النظرة العبوس لزوجها الملتحي, النظرة التي تامرها بحكم السلطة الاجتماعية او الدينية ان تتبعه فتسير خلفه وليس إلى جانبه.

وفي القطار تعود الكاميرا للتوحد مع الشخصية مركزة على طبيعة الوجوه واشكال البشر من حولهم.

الكل مستغرق في عالمه وافكاره وهي الوحيدة التي نسمع صوت افكارها المنحصر في محاولة مطابقة درجات السلم الموسيقي مع اشكال الوجوه التي تحيط بها كنوع من النظر خارج اسوار السجن المتمثل في الحجاب ولحية الزوج.

لا شك أن ثمة اسقاط سياسي مهم في الفيلم من وجهة النظر العلمانية المستشيرة في المجتمع التركي وإلا لماذا تم اختيار الزوجة الشابة محجبة والزوج ملتحي عبوس!! ولكن وثائقية النظرة التي نتحدث عنها تتمثل في ذلك التفحص المستمر من قبل الكاميرا/عين الشابة للوجوه والتفاصيل التي تحيط بها سواء في محطة القطار او في القطار نفسه دون اي تعلق صوتي باستثناء عملية المطابقة الموسيقية الساذجة او البسيطة التي تحدثنا عنها.

وقد قام المخرج بالتصوير في محطة قطار حقيقية وفي قطار حقيقي وبين ركاب حقيقيين وذلك تأكيدا منه على أن احداث فيلمه تدور في الواقع المعاش أو ما يطلق عليه "الأن وهنا".

آثر

في الفيلم التركي"آثر"للمخرج سيمجي كوكبايراك نكتشف ذلك النزوع الوثائقي للتعامل مع حادثة حقيقية بشكل اقرب للريبورتاج المصور الحادثة هنا هي يوم إعدام صدام حسين والمكان هو تركيا وتحديدا عدة مدن تبدأ من استانبول وتنتهي بشمال العراق اي اقليم كردستان.

يستخدم المخرج لقطات ارشيفية لعملية اعدام صدام نراها من خلال شاشات التليفزيون التي تعرضها بلا توقف لكي يعطينا زمن الأحداث ويبدأ من خلال سوق المال حيث سمسار بالبورصة يتحدث في التليفون مع احد عملائه وينصحه بأن يتوقف عن البيع لان صدام حسين سيعدم اليوم وبالتالي قد تتأثر سوق المال, يستخدم المخرج الكاميرا المحمولة في التعامل مع شخوصه ويبتعد عنهم كانما يصورهم من طرف خفي دون ان يدروا ولا يلجأ لاي موسيقى من اي نوه فقط الصوت الطبيعي للشوارع او الاخبار التي تذيع العملية الأعدام.

يتحرك المخرج بالكاميرا في الشارع ليعيد تهيئة البيئة الشوارعية التي استقبلت نبا اعدام صدام بشكل ايحائي جيد ودون الخوض في تعليقات ميلودرامية او سياسية من اي نوع فقط تصوير الناس وهي تتلقى الخبر كأنما بشكل توثيقي بحت.

تدريجيا ينتقل المخرج من مكان لاخر تبعا لطبيعة الفكرة التي يسير خلفها ففي الوقت الذي تتأثر فيه اسواق المال نجد شاب في اواخر العشرينيات يجلس في مقهى للانترنت يشاهد فيديو اعدام صدام إلى جانب فيديو جنسي كلاهما إلى جانب الأخر.

الكاميرا تحدث فيه من بعيد لنرى هيئتة ونتامل شريحته العمرية وذقنه الطويلة, ثم نتابعه وهو يصعد إلى شقته حيث يبلغ امه بخبر اعدام صدام بشكل آلي وكأن الأمر لا يعنيه فهو اعزب عاطل يعيش مع امه ينام على كنبة صغيرة ويفرغ كبته واحباطه في مشاهدة الأفلام الجنسية فماذا سيصنع له إعدام صدام او بقائه على قيد الحياة!!

هكذا ينتقل الخبر من لسان إلى أذن وبشكل عفوي جدا عبر سلسلة من الاشخاص الذين يعملون في مهن مختلفة وتربطهم علاقات اجتماعية او مهنية فاترة أو عادية لكن تلقي كل منهم للخبر وتأثيره عليهم هو ما يشغل بال مخرجنا.

الأهتمام بالرابط الدرامي بسيط جدا لأن الفيلم ينحو نحو التوثيقية وكأنه استبيان صحفي مصور عن ردود افعال بعض الشخصيات حول إعدام صدام ومن هنا جاء الحوار متقشفا جدا أو لنقل عادي يتوحد مع اليومي والروتيني ولا ينحو تجاه التحليل وظلال الروائي هنا تكمن في اختيار طبيعة الرابط بين الشخصيات وليس في اختيار المهن حيث يقودنا المخرج من الداخل للخارج إلى حدود تركيا مع حدود كردستان والقصدية واضحة فهذا الاقليم كان ولا يزال يشهد ازمة سياسية بين العراق وتركيا من ناحية وبين الأقليم وكلا البلدين من ناحية اخرى بالأضأفة إلى الأشارة إلى هولوكوست الانفال الشهير الذي كان أحد عناصر محاكمة صدام.

يختتم المخرج فيلمه في النهاية بالرجوع لشخصياته في لقطات منفردة لكل منهم يفكر في مسألة الأعدام أو يسرح مع افكاره وهي نهاية تمثل ما بعد الذروة(انتي كلايمكس)حيث بدت نهاية ميلودرامية خافتة لأننا عايشنا بالفعل افكار الشخصيات وردود افعالها عن الأعدام ولم يكن هناك ضرورة درامية للعودة إلى كل شخصية على حده.

مراكمة الواقع

في فيلمها الطريق إلى الجنة الفائزة بجائزة لجنة التحكيم قدمت المخرجة هودا بنيامينة حالة مراكمة توثيقية لواقع أسرة مغربية مهاجرة بشكل غير شرعي تعيش في باريس من خلال علاقة هذا الأسرة بالمجتمع الباريسي الطارد من ناحية وعلاقتهم ببعضهم البعض من ناحية أخرى.

هناك احتكاك خشن بالواقع وأعتناء دقيق بالتفاصيل التي تمثل بيئة الأسرة وذلك من خلال عينا طفلة صغيرة تعيش مع أخيها الأصغر وامها التي تعمل راقصة في احد ملاهي باريس وخالها المخنث الذي يرتدي ملابس النساء ويتحدث مثلهم ويعتبر نفسه خالتهم!

يبدأ الفيلم في المدرسة حيث تجري عملية تهريب الأطفال من الشرطة التي تأتي للبحث عنهم لان تواجدهم غير شرعي وبالتالي يصبح من الصعب ان يعودوا للمدرسة مرة أخرى,وفي البيت تتابع المخرجة بكاميرا تسجيلية الوضع السكني للأسرة في أحد الباحات الخالية التي تملتئ بالكرافانات السكنية المتنقلة دلالة على الواقع الغير مستقر الذي تعيشه الأسرة ومن هم على شاكلتها.

وتحاول الام طوال الوقت الأتصال بالأب الذي يعيش في انجلترا ويبدو لاهيا وغير مكترث لأسرته التي تعاني الامرين في باريس.وتركز المخرجة على طريقة اتصال الأم بالأب عن طريق التليفونات العمومية بالعملة المعدنية,ثم على عملها كراقصة في أحد الملاهي الليلة هي واخيها المخنث الذي نراه يغني اغاني شهوانية منحرفة لأثارة الرجال الراغبين في امثاله.

مدة الفيلم39دقيقة وهو أطول افلام المسابقة,وزمن الفيلم الطويل نابع من الحالة التسجيلية التي تتبعها المخرجة في تقصيها للتفاصيل وعرض بيئات الشخصيات الحياتية والنفسية خصوصا الطفلة الصغيرة التي تشاهد العالم بعينين صامتتين لا تحكم على واقعها ولا تدينه ولكنها تمتص تفاصيله وتتشربها كأنما تراكمها في داخلها كي تكتبها ذات يوم.

لا يوجد ديكورات في الفيلم حيث قامت المخرجة بالتصوير في اماكن حقيقية لتواجد المهاجرين غير الشرعيين وفي ملهى ليلى حقيقي وتركت شريط الصوت للأصوات العادية والأغاني الشاذة التي يغنيها الخال المخنث والموسيقى الشرقية التي ترقص عليها الأم لأن القصة لا تحتمل اي تدخلات صوتية تنحو بالمشاعر تجاه الميلودرامية التي تلوح من بين التفاصيل خصوصا مع نمطية بعض العناصر الدرامية مثل عمل الأم كراقصة او خروج الأطفال من المدرسة لعدم وجود مصدر دخل ثابت وهي عناصر نراها كثيرا في الأفلام التي تتحدث عن الهجرة الغير شرعية.

الجائزة الكبرى

إلى جانب العنصر التوثيقي في اغلب التجارب التي شاركت في مسابقة المهرجان هناك عنصر اخر كان طاغيا بشكل ملحوظ وهو أن افلام كثيرة تمحورت احداثها أو برزت فيها شخصيات الأطفال بل أن كل الأفلام التي فازت بجوائز المهرجان الأربعة اشتركت في عنصر اساسي وهي انها من بطولة أطفال.

فجائزة لجنة التحكيم ذهبت كما ذكرنا للفيلم المغربي "الطريق إلى الجنة "أما الجائزة الكبرى ففاز بها الفيلم التركي"دراجة"من إخراج إ.سرحات كرسلات وتدور أحداثه حول طفل متشرد يعثر على دراجة قديمة اثناء تجواله مع ابيه على مقالب القمامة وعبر لقطات واصعة نتعرف على البيئة التي يتحرك فيها هذا الكيان الأنساني المهمش الذي لا يتصور احد أنه يحتوي على أية قصص مهمة او ذات قيمة لكن المخرج في النهاية يتمكن من استخلاص حكاية صغيرة تنفتح على الواقع الهامشي لتلك الشخصيات.

اعتمد المخرج على شكل دوجمائي في تعامله مع الحكاية التي تعتبر اضعف عناصر الفيلم فالطفل الصغير الذي يحلم بدراجة يقودها مثل بقية الأطفال يعثر على عجلة خلفية مع احد المشردين الأخرين الذي يمنحها له دون مقابل مما يدفع الطفل إلى الدخول إلى الكشك الخشبي الذي يسكن فيه ليحضر لذلك المشرد حذاء ابيه ولكنه يكتشف أن العجلة الخلفية غير مناسبة للدراجة بينما يجلس ابيه حزينا في المساء امام الكشك الخشبي ينعي فقدان حذائه مما يدفع الطفل في اليوم التالي إلى بيع الدراجة والتخلي عن حلمه لشراء حذاء إلى ابيه ونقطة الضعف الأساسية في القصة هي أن العجلة الخلفية لم تناسب الدراجة مما يجعل تخلي الطفل عنها منطقي وطبيعي لكن ما كان سيمثل ثقل حكائي هو ان تكون العجلة الذي اخدها من المشرد الأخر مناسبة ورغم ذلك يتخلى عن العجلة وحلمه ويذهب لبيع العجلة وشراء حذاء لأبيه بعد ان شعر بالأنانية لأنه وهب المشرد الحذاء في مقابل العجلة.

الجزيرة الوثائقية في

30/10/2011

جميع الحقوق محفوظة لموقع سينماتك
  (2004 - 2011)