ما يعجني في مسيرة أحمد السقا السينمائية هي قدرته العفوية علي اكتشاف
مواطن الضعف والقوة في هذه المسيرة.. والعمل جاهدا علي تجنب المآزق التي
وقع فيها في أفلام سابقة، ومحاولته المستمرة للخروج من دائرة النمطية التي
وقع في شركها زملاء موهوبون له .. وكادت أن تقضي علي شعبيتهم الكبيرة.
أحمد السقا.. فهم الدرس القاسي الذي لقنه إياه فيلماه الأخيران..
واللذان لم يحققا له ما كان يطمع فيه من نجاح.. رغم الدعاية الهائلة التي
سبقتهما.
في «الأبيض» غرق السقا حتي أذنيه بعالم الحركة العنيف.. واستعرض
بالفيلم كل الإمكانيات التي يمنحها له أفلام من هذا النوع.. من مطاردات
ومعارك وقفزات رياضية «وسوبرمانية» تصل أحيانا إلي حد المبالغة وتدعو إلي
عدم التصديق .. كل ذلك مكللاً بدوائر من العنف والدم لا تطاق.
ورغم موهبة المخرج الشاب
مروان حامد .. لم يستطع أن يمنحه طوق النجاة فكاد أن يغرق حقا
لولا أن أنقذه ذكاءه.. وشخصيته المحببة .. ومحاولته الصادقة في الخروج من
هذا المأزق الذي رمي نفسه به.. ولم يساعد «الديلر» السقا علي استعادة
شعبيته وجماهيريته التي ابتدأت تهتز بعنف .. بل علي العكس ساعد الأداء
الجيد لخالد النبوي .. في هذا الفيلم علي التركيز علي ضعف الأداء لدي
السقا.. الذي وصل «الماء» هذه المرة إلي ما فوق أذنيه.. مما دعاه إلي
التبرؤ علنا عن مسئوليته في هذا الفيلم فارتكب خطأ مميتا يضاف إلي خطأه
الكبير في اختيار هذا الدور.
وهنا تظهر قوة وإرادة أحمد السقا .. في اختيار دوره الجديد في فيلم
«ابن القنصل» الذي يطرح فيه عباءته السابقة التي عرفت عنه ويرتدي عباءة
جديدة زركشها علي هواه وجمع فيها كثيرا من المزايا والخصال التي يدرك تماما
كيف يمكنها أن توصله إلي «قلب» هذا الجمهور الذي بدأ ينصرف عنه.. وكيف
يمكنه أن يستعيد مكانته القوية في يسلم اعجابه.
أحمد السقا «ابن القنصل» ابتعد عن عادة ذميمة يتمسك بها النجوم الكبار
هذه الأيام في أن يكونوا المحور الوحيد للفيلم.. وأن تدور جميع الشخصيات
الأخري في فلكهم.. فاختار أن يوجه النور الأقوي إلي «القنصل» وهو مزيف
مشهور قضي فترة عقوبة في السجن تتجاوز الثلاثين عاما .. ثم خرج إلي الحرية
من جديد.. ليجد أو ليكتشف أن له «ابنا» من زواج عابر .. يحاول أن يحصل علي
وده ومباركته بل ومساعدته علي أن يطفو من جديد علي سطح هذه الحياة الجديدة
التي انفتحت ابوابها أمامه بعد انقطاع طويل .
خالد صالح .. هو إذن المحور الرئيسي للفيلم .. رغم أن الفيلم يحمل اسم
«ابنه».. وخالد صالح يقدم في هذا الفيلم دليلا جديدا علي موهبته وحضوره ..
خصوصا في ميدان صعب.
المشاهد الضاحكة في الفيلم ..المبني بعضها علي «الموقف» والبعض الآخر
علي «الافيه» تتناوب بذكاء .. دون أن تفسد الإيقاع أو تعطله .. ولقد فهمت
مجموعة الممثلين هذا الأسلوب الخاص الذي لجأ إليه عمرو عرفة في هذا الفيلم
.. فلعب كل منهم علي وتره .. دون أن يسيء إلي وتر الآخر، مما أعطي العمل
كله بعد ذلك نوعا من الانسجام «الهارموني» الموسيقي كان لها أكبر الأثر في
نجاح «وتسليك» الإيقاع العام للفيلم.
ابن القنصل.. كوميديا بوليسية ترتكز علي حبكة وعلي خدعة .. تضطر فيها
كل شخصية إلي أن تلعب وجهين مختلفين .. باستثناء القنصل نفسه الذي تبدو له
هذه الحياة كلها أشبه ما تكون بحلم غريب يعيشه ولا يدري كيف ابتدأ ولا كيف
سينتهي.
الشخصيات التي رسمها «أحمد بهجت قمر» بكثير من الحنان المختلط بذرات
من القسوة الواقعية تفعل فعلها لدي المتفرج حتي وإن كان علي عتبة عدم
التصديق أحياناً، ولكن طبيعة الأحداث نفسها التي نجح الفيلم في أن يجعلها
مؤرجحة بين الواقع والفانتازيا قربت الشخصيات إلينا.. وساعد الأداء المتميز
لمجموعة الممثلين في أن «نبلع الطعم» الذي قدمه لنا أصحاب الفيلم بمهارة
وذكاء وخفة دم مشهودين.
قد لا يكون «ابن القنصل» فيلما خارقا، أو فيلما مهما من أفلام السينما
المصرية .. ولكن دون شك فيلم ذكي ومشرق يتميز بإيقاع سريع ومتوازن «وإن شاب
النهاية أحيانا بعض البطء والتراخي» وباحترام حقيقي لقواعد اللعبة.
هذا التوازن نجده واضحا في أداء أحمد السقا .. الذي عرف كيف يمزج حبه
للحركة « من خلال عدة معارك أظهر فيها كعادته قدرته العضلية والحركية» بحبه
لأداء شخصية ذات وجهين مختلفين.. فظهر أيضا حس كوميدي كان قد اثبته بجدارة
في فيلمين سابقين.. وبذلك كسب نوعين مختلفين من الجمهور في ضربة واحدة.
كما أثبت أيضا وبشكل غير مباشر .. تحديه لنظام النجم المطلق.. وثقته
العالية بنفسه والتي جعلته يمنح القسم الأعظم في الفيلم لممثل «حوت» يجيد
تماما سحب الغطاء لصالحه.
وتبقي غادة عادل بين جمالها الخاص وحيويتها.. وحرارة نظرتها.. وقوة
أنوثتها.. سحابة من عطر .. تخيم بوداعة حول عالم «القنصل وابنه» وتقتنص
بذكاء لحظات لصالحها ربما كانت من أجمل لحظات الفيلم.
وإذا كنا قد اعتدنا علي المفاجأت التي يقدمها لنا السقا وصالح في كل
فيلم جديد تختلط فيه الكوميديا بالتشويق البوليسي .. ويمتلئ حواره بالقفشات
والإفيهات التي أجاد كاتب السيناريو الشاب «أيمن بهجت قمر» في وضعها في
امكنتها المناسبة لتخلق جوا من المرح والخفة يحتاج الفيلم إليها حقا.. كي
لا يسقط في فخ الميلودراما البوليسية التي تعتمد عليها أحيانا مثل هذه
المواضيع.
أحمد السقا .. يترك الميدان رحبا لخالد صالح .. كما تركه في «الديلر»
لخالد النبوي ولكنه هذه المرة قد تعلم الدرس جيدا.. فعرف كيف يرسم بمهارة
وخفة ظل مرادفا حقيقيا لشخصية البطل.. وأن يطل علي جمهوره بمظهر جديد غير
متوقع وهو شخصية شاب ملتح من شباب المسلمين المؤمنين المتعصبين.. والذي
امكنه بواسطته أن يحقق لنفسه نجاحا حقيقيا.. وأن يخرج بنفسه من كافة الأطر
التي اعتدنا علي رؤيته من خلالها.
لا أريد أن أفسد المتعة البوليسية القائمة علي التشويق والتي تنهض
عليها أحداث الفيلم ولكن اكتفي بالقول إن السيناريست قد عرف كيف ينسج خيوطه
.. وأن «عمرو عرفة» مخرج الفيلم قد عرف كيف يحول هذه الخيوط إلي فيلم
«ضاحك» رغم أن المأساة تكمن وراء الكثير من أحداثه.
أحمد السقا يرسل ظله علي الأحداث كلها يمسكنا من ذراعنا ويأخذ بنا إلي
الدروب والمسالك التي يريدنا أن نذهب إليها بمهارة وموهبة وطرافة حقيقية في
رسم الشخصية وأدائها.
قد يمكن للمتفرج السينمائي المجرب أن يكتشف منذ البداية «سر اللعبة»
لأن أفلاما أجنبية كثيرة قد طرحت مواضيعا مشابهة معتمدة علي قواعد هذه
اللعبة نفسها ولكن ذلك لا يمنع هذا المتفرج من التمتع بما يري ومتابعة ما
يجري رغم احساسه بأن «السر» في متناول يده.
غادة عادل في دور الغانبة مفاجأة حقيقية في الأداء وفي العفوية
المدروسة .. أنها أيضا وبجرأة كبيرة تبتعد عن صورتها التقليدية التي
عرفناها لتجعل من دورها «الذي كان يمكن أن يكون هامشيا لو مثلته ممثلة أخري
غير متمكنة» دورا رئيسيا بل يكاد يكون واحدا من أجمل وأقوي الأدوار في
الفيلم كله.
إنها تقف عملاقة حقيقية أمام خالد صالح وأحمد السقا.. لتشكل معهما
اطراف ثلاثي مدهش.. عرف عمرو عرفة كيف يستغله حتي النخاع.. كما عرف كيف
يستخلص منه «سحرا مميزا» أعطي الفيلم كله طابعا «فانتازيا» ليتسلل إلي
القلب بسهولة.
والحق يقال أن عمرو عرفة قد أجاد اختيار الأدوار جميعا.. مهما كانت
ضئيلة أو عابرة.. «كشخصية هناء عبدالفتاح» الصديق المشلول .. أو شخصية
«سوسن بدر» الراقصة القديمة.
فإننا لا يمكننا تجاهل النضج الذي ابتدأ يعلن عن نفسه في كتابة
أيمن بهجت قمر والثقة الهادئة .. والإحساس الزمني المعبر الذي ابتدأت أفلام
عمرو عرفة تفصح عنه.
«ابن القنصل» رغم أنه يقدم نفسه كفيلم بوليسي
كوميدي ضاحك ومسلي يصلح لأيام العيد، إلا أنه في الحقيقة أكثر من ذلك ..
فهو فيلم يسترعي الانتباه في أكثر من زاوية ويثير الإعجاب لأكثر من سبب
ويحقق أهدافاً قريبة وبعيدة .. تخدم جميع العاملين به.
جريدة القاهرة في
23/11/2010
«دعاء
الكروان» و«طقوس جنائزية»
علي جناح التجريب
بقلم : د.رفيق الصبان
أعرف كريمة بدير راقصة أولي في فرقة وليد عوني للرقص الحديث، أعرفها
بجمالها الفرعوني الوحشي، وقامتها المنتصبة ومشيتها الملكية.
كانت كريمة عنصرا جاذبا في هذه الفرقة الطموحة وترك غيابها عنها فراغا
ملحوظا.. ولكن يبدو أن أمورا أخري كانت تشغل بال كريمة، وأنها لم ترغب بأن
تظل مجرد راقصة تؤدي ما يطلبه منها الآخرون، مهما كانت طلباتهم مشروعة
ومستحقة بل أرادت أن تطير بجناحيها الواسعين.. وأن تثبت أنها قادرة علي
الخلق الفني كما كانت قادرة علي التنفيذ المشرف.
وها هي مسرحية دعاء الكروان المأخوذة عن قصة طه حسين الشهيرة والتي
أعدتها للمسرح رشا عبدالمنعم وانتجها مسرح الغد.. تأتي لتؤكد موهبة كريمة
في الإخراج والتي قد تنافس موهبتها في الرقص والأداء.
كريمة في هذه المسرحية.. اكتفت بأن تقود العمل كقائد أوركسترا ماهر
يعرف كيف يوزع عازفيه وأدواته.
مزيج متناغم
لقد حولت القصة الشهيرة إلي مزيج متناغم من الرقص والإنشاد والدراما
الحركية والصوتية مستعينة بخبرتها الطويلة في هذا المجال.. لتقدم لنا رؤية
عصرية متقدمة ومبتكرة لقصة آمنة وهنادي والمهندس العاشق.
عرفت كيف تجعل الجسد يعبر .. كما يعبر الصوت .. وعرفت كيف تختار
اضاءتها الهامسة المظلمة أحيانا.. المشرقة أحيانا أخري.. وعرفت كيف تضع
أفكارا مجردة تقوي بها رؤيتها الدرامية كهذه الفتاة المصلوبة علي أعلي
المسرح والتي ترتدي الثياب البيضاء والتي تبدو وكأنها شاهدة أبدية علي قدر
نساء الصعيد ودمهن المراق.. كما عرف الإعداد كيف يضيف مشهداً مدهشا، لم
يكتبه طه حسين .. ولم تقدمه السينما في الفيلم الرائع الذي أخرجه بركات..
وهو لقاء الأم والخال.. ثم لقاء الخال والمهندس العاشق.. الذي جاء إضافة
باهرة للنص وتنويرا له.
أما علاقة آمنة بالمهندس فقد عبرت عنها كريمة بدير بمشهدين لا ينسيان
مشهد الحوار وآمنة علي كرسي والمهندس علي كرسي آخر، وساحة الفراغ بينهما
تبدو مشتعلة .. تقرب بينهما وتفرق.
أو مشهد اللقاء الجسدي الحار بين جسدين يتلويان علي الأرض، ثم مشاهد
الجوقة النسائية وأسلبة العزاء الصعيدي بشكل راقص.
العمل جديد ومبتكر ويسترعي الانتباه ويبشر بمولد مخرجة واعية تعرف كيف
تستغل الجسد وتضعه في مقام واحد مع الكلمة، وتعرف كيف تعبر عن نفسها من
خلال أدوات مسرحية تبدو وكأنها قد أحاطت بكل أسرارها.
طقوس جنائزية
عمل أدبي آخر.. يقدمه هذه المرة مسرح السلام باسم «طقوس جنائزية»
لموزارت كتبه بالروسية «الكسندر بوشكين» وأعده للعامية «محمد صالح» ..
وأخرجه «محمد أبو السعود»، العمل .. هو أشبه ما يكون بمونودراما وحساب عسير
للنفس يقوم به إنسان يكاد يكون فاقدا لصوابه هو الموسيقي «سالياري» الذي
كان منافسا لموزارت في حياته، والذي يشاع أنه دس السم
للموسيقار العبقري لكي يتخلص من منافسته القاتلة.
«سالياري» في مصحة للأمراض العقلية تسيطر عليه روح
موزارت التي يقدمها العرض من خلال راقصة باليه تتراقص كالفراشة في كل أرجاء
المسرح وحارس أصم أبكم يبدو وكأنه يمثل القدر الصامت الذي لا مهرب منه.
المسرحية تؤكد تماما حقيقة أن «سالياري» قام بدس السم لموزارت وأنه
يعيش الآن نتائج جريمته التي لم يستطع أن يعرقل بها شهرة موزارت.. بل علي
العكس زاد من توطيدها فيما ساعد ذلك علي «قتله» هو معنويا وبشكل نهائي.
نعرف أن صراع موزارت وسالياري كان موضوعا لمسرحية مدهشة كتبها
الإنجليزي «شيفر» وقدمها للسينما ميلوش نورمان باسم «أماديوس» وحققت نجاحا
منقطع النظير سواء علي الخشبة أم علي الشاشة.
ولا شك أن الكاتب الإنجليزي قد استلهم مسرحيته الناجحة هذه من نص
الروسي بوشكين الذي كتبه قبل عقود طويلة من الإنجليزي الموهوب.
العمل بمجمله يحسب لمسرح
السلام.. ويحسب لممثله الأول محمد صالح الذي لعب دور سالياري
.. بشجن وهيستيرية في آن واحد.
جو تراجيدي
محمد أبو السعود حاول في إخراجه خلق جو تراجيدي .. مستغلا الموسيقي
والإضاءة وعمق المسرح.. ونجح فيما يريد.. واستطاع أن يجعلنا نعيش دقائق
طويلة مع رجل قتله الحسد والغيرة الكامنة في أعماق نفسه فمحت موهبته كلها
.. وأحالته إلي مجنون يهذي علي أنغام بيانو تبدو وكأنها طعنات خنجر.
مسرح الطليعة الذي يعتبر نفسه رائداً في مجال تقديم الأعمال
الشبابية.. قدم كل إمكانياته الفنية لعرضيه الجديدين «حكمة القردة» و«آخر
حكايات الدنيا» لكن خانه التوفيق في اختيار النصوص الملائمة للعرضين في آخر
حكايات الدنيا .. رغم جودة الأدوات الفنية وقدرة الممثلين الملحوظة «أحمد
الحلواني وكريم الحسين» فإن جنوح النص إلي نوع من الابتذال الحواري.. أخرج
العمل عن دائرته المعتادة .. كذلك محاولة استدرار الضحك حتي لو لجأ إلي
السخرية من بعض رموزنا الفولكلورية، كل هذا انعكس تماما علي العرض ..
فأفقده هذه الجدية وهذه الطليعية التي يسعي إليها مسرح الطليعة.
وربما كان هذا التحفظ ينطبق أيضا علي نص حكمة القرود الذي كتبه «عصام
أبو سيف» وحاول المخرج الموهوب الشاب «محمد مرسي» الذي لفت إليه الأنظار
العام الفائت في إخراجه المتقن والمثير للدهشة لنص بهاء طاهر «خالتي صفية
والدير» والذي حاول هذه المرة اعطاء بعداً شعرياً وفانتازياً لهذا النص
المسرحي الجديد الذي يعالج من خلال محاولة قط وقطة «الزواج» وقف قرد حكيم
عائقا في طريق تحقيق هذه الأمنية عائدين بنا إلي مراحل متعددة من تاريخ مصر
تبدأ من التاريخ الفرعوني وغزو الهكسوس وتنتهي بنصر أكتوبر!! ربما كانت
الديماجوجية السياسية الرمزية والمباشرة سببا في خلخلة هذا النص الذي لم
تستطع موهبة محمد مرسي الكبيرة أن تنقذه.
بقي أخيراً مسرح مركز
الإبداع الذي يمسكه الفنان خالد جلال بيد من حديد ترتدي قفازا من حرير ..
والذي قدم لنا خلال المواسم الأخيرة أعمالاً لا تنسي حظيت بكثير من التقدير
وكثير من الجوائز.. هذا العام يقدم لنا نصا شعريا حلواً.. لرشا عبدالمنعم
أخرجه بحساسية ملحوظة هاني عفيفي .. ولكن رغم الرؤية المسرحية المتجددة
والتي لا تخلو من ابتكار .. ومن غمزات عين مستحبة يبقي العمل متسما ببرود
ما.. رغم الجهد الكبير المبذول من بطله الأول «هشام إسماعيل» والديكور
الشديد الأناقة لـ«سالي نظمي».
ظل الحمراء
ولكن الضربة الموفقة من مركز الإبداع جاءت بعرض ظل الحمراء الذي أخرجه
وأعده «إسلام إمام» عن نص ساخر للكاتب السويسري «فردريل دورنمات» .. العمل
يعود بنا إلي أسلوب «الكوميديا دلارت» الشهير وينجح بخلق إيقاع ضاحك مدهش
بنقل أداء مجموعة من الممثلين المتدربين في المركز والذين وصلوا إلي درجة
كبيرة من الإبداع والإقناع .. وشكلوا بحق ذخيرة جيدة لفناني المستقبل في
المسرح.
وتبقي كلمة أخيرة يجب أن توجه إلي مسرح الشباب الذي يؤدي دورا طليعيا
مهما في إعداد مسرح نابض بالحيوية والحياة .. ومقدما فرصا لا تنتهي لمجموعة
من الشباب المتحمس الذين اظهروا موهبة غير معتادة في العرض الجماعي
الارتجالي الذي يحمل اسم «الشيزلونج» وأعادوه إلي أجواء الارتجال الفني ..
الذي يمكنه أن يشحذ الكثير من الإمكانيات الكامنة لدي هؤلاء الشباب.
أما العرض الثاني الذي يقدمه مسرح الشباب فهو عرض «المطعم» الذي أعده
وأخرجه ولعب الدور الأول فيه الموهوب «أكرم مصطفي» عن مسرحية تركية معاصرة.
العمل شديد الاتقان وشديد الحيوية يتمتع بديكور مرهف ومبتكر يجعل
المتفرج جالسا في مطعم .. يشاهد ما يجري حوله من أحداث ترسم صورة فاجعة
ليأس الشباب واحباطهم وتكافل الظروف الخارجية لتحطم كل ما بقي لهم من أمل،
ولتدفعهم إلي بيع أرواحهم
ورؤسهم للشيطان.. كما فعل قديما «فاوست» في مسرحية جوتة الخالدة.
إسهام مشرف وحركة مستمرة طموح ومسرحيات علي اختلافها تخرج صارخة بصوت
عال أن الشباب المسرحي المصري مازال قادرا علي العطاء .. وأن مسرحنا رغم كل
ما يقوله البعض مازال صامدا لا يموت.
جريدة القاهرة في
23/11/2010
أحمد حلمي.. «بلبل حيران» بلا داعي
بقلم : د.وليد سيف
أخيرًا يعود النجم أحمد حلمي إلي ملعبه الأصلي القديم، أوإلي أدواره
الضاحكة في أفلام كوميدية خالصة . هكذا بدأ حلمي كممثل أدوار ثانية في
أفلام علاء ولي الدين ومن قبلها في برامج وحلقات تليفزيونية. وكذلك أيضا
كانت بدايته كبطل ، مع الكوميديا في فيلم (ميدومشاكل) ومن بعده (زكي شان)
وحتي (ظرف طارق) . ولكن النجم في رباعيته الأخيرة حاد عن الكوميديا كثيرا .
فقدم في (كده رضا) دراما غلب عليها الطابع النفسي التشويقي. أما تحفته
(آسف علي الإزعاج) فهوالفيلم الذي وصل فيه إلي ذروة نضجه من خلال دراما
إنسانية مؤثرة . ولكن تزيد جرعة المأساة في (1000 مبروك) ليتحول العمل إلي
بكائية هشة البناء موغلة في الكآبة . أما فيلمه السابق (عسل إسود)
فهومحاولة غير ناضجة ومنقوصة لتقديم نقد للواقع السياسي والاجتماعي أفسدها
التهريج والمبالغة والحلول الساذجة.
ويبدو أن حلمي بدأ يدرك ان أسهمه آخذة في التراجع ، خاصة بعد أن فقدت
أفلامه موقعها في الصدارة، فضلا عن تزايد الثغرات الدرامية فيها مما يعرضه
لانتقادات حادة. ومن هنا عاد يقلب في دفاتره القديمة ويبحث عن حيله
المضمونة وألعابه التي صعدت به إلي عالم النجومية. يأتي فيلمه ( بلبل حيران
) للعرض في موسم العيد الكبير لتزداد أيضا فرص النجاح مع جمهور معظمه من
الأطفال والصبية يبحثون عن الضحك بالدرجة الأولي . ولكن هل استطاع حلمي أن
يتجاوز كبوته وأن يصلح بوصلته التي كانت توجهه دائما نحوالنجاح والتفوق
والتي كانت تكفل لأفلامه مستوي متقدما من الجودة والتميز؟. هذا هوالسؤال
الذي كنت أعتقد أن إجابته معروفة مسبقا.
حكاية مكررة
تدور أحداث (بلبل حيران) في إطار كوميدي رومانسي، حول الشاب بلبل-
أحمد حلمي الذي يبحث عن الكمال فيمن يختارها. في البداية يقع في غرام فتاة
قوية الشخصية واثقة من نفسها- زينة- ، فيفتقد الإحساس باهتمامها به أو
احتياجها إليه. ثم يتعرف علي فتاة علي النقيض منها تماما- شيري عادل-
فتعوضه عما يفتقده في خطيبته الأولي. ولكنه يعاني من ضعف شخصيتها ويضيق من
إحساسها بالغيرة وانسياقها التام وراءه. ولعجزه وتردده في الاختيار
بينهما، تستمر علاقته بالفتاتين حتي تكتشفان ذلك . فيتعرض لانتقام رهيب
يصاب علي أثره بكسور في مختلف أنحاء جسمه. ومن هذه النقطة تبدأ أحداث
الفيلم حيث نراه يبدأ في سرد تفاصيل قصته بطريقة الفلاش باك علي الطبيبة
المعالجة - إيمي سمير غانم - التي يقع في غرامها في النهاية. فهل سيجد
لديها الكمال الذي يبحث عنه؟.
الفكرة في حد ذاتها مكررة، والمعالجة بكل أسف ساذجة أيضا. فمسألة سرد
البطل للرواية علي شخصية تستمع إليه والعودة من وإلي الزمن الحالي ليس بها
أي جديد وتم استخدامها في العديد من الأعمال. وإن كان السيناريو اجتهد علي
مستوي التفاصيل في صنع حالة من الديناميكية في مشاهد العودة للواقع سواء
بصنع حبكة موازية لشخصية الطبيبة المستمعة للحكايات وتكرار مواقف شبيهة
لها مع شباب تتعرف عليهم. مما يؤدي إلي تلهفها لمعرفة الأحداث التالية
التي وقعت للسيد بلبل، لتسترشد بها في اتخاذ قراراتها تجاه ما يرد إليها من
مكالمات تليفونية عاطفية أولقاءات مع زملاء داخل المستشفي يخطبون ودها.
كذلك تتميز هذه المشاهد ببعض الحيوية بفضل المشاكسات التي تقع بين
الراوي والمستمعة بين تعدد مطالبه منها وبين إهمالها لاحتياجاته الأساسية
كمريض. ولكن المشكلة أن كل هذه الحيل لا تفيد لأنك ببساطة لم تحب شخصية
بلبل ولم تتفاعل معها ولم تصدقها ولا تجد أي شيء يدفعك للبقاء علي مقعدك في
صالة العرض لمعرفة ماذا سيحدث لها؟ وهذا هو ألف باء الدراما ففكرة التعاطف
غير واردة علي الإطلاق في هذا الفيلم .؟ ومسألة أن البطل
هوالنجم أحمد حلمي ليست كافية لأن يحبه المشاهد . فالمفترض أن المشاهد
يتعامل مع الشخصية وليس مع الممثل.
منطق الضحك
وعلاوة علي هذا تفتقد الكثير من المشاهد للترابط أولأي علاقة سببية.
فمنطق الضحك هوالذي يدفع الأحداث وليس أي منطق آخر. فيبدو السيناريو أقرب
لقالب مطاط يمكن أن يضع فيه البطل أكبر كم ممكن من الإفيهات المدخرة لديه
من بواقي أفلام سابقة ومعظمها يدور حول علاقة الولد بالبنت، وغيرها من
المواقف التي يمكن لشباب اليوم استغلالها في حواراتهم مع البنات. وربما
تراهن هذه النوعية من الأفلام علي هذا . ولكن هل هذا وحده كافيا ، ومن نجم
اعتدنا منه أن يقدم في أفلامه أفضل المستويات.
ولا يدخر الممثل وسعا في حشو كل مشهد بالافيهات التي ليس لها أي علاقة
بالموضوع . ولكنها أقرب للنكت التي يلقيها المونولوجيست في فقراته . والتي
يؤديها الممثل بأسلوب فاتر ومحايد، لا يتغير مع تغير مشاعر الشخصية
أوحالتها الصحية أوالنفسية. وحالة الفتور والنمطية هي الأسلوب الغالب علي
أداء معظم الممثلين ، بداية من زينة، وشيري عادل ، بل وحتي يوسف فوزي في
دور الأب الذي أكاد أراه يؤدي بنفس الطريقة التي أدي بها في فيلم سابق مع
أحمد حلمي هو(ظرف طارق). ولا يستثني من كل هذا سوي الموهبة المتفجرة والتي
تنطلق بسرعة الصاروخ إيمي سمير غانم.
تتقدم إيمي بسرعة ملفتة وتثبت في كل عمل أنها أجدر وأحق بالقيام
بأدوار أكبر .. فهي ممثلة رد فعل مدهشة يبدأ انفعالها من بداية إنصاتها
لحوار الممثل الآخر أو من مشاهدتها لشيء يلفت نظرها في لقطة عامة أو لفكرة
تطرأ علي ذهنها أثناء حديث الآخر. إنها ليست ممثلة اللحظة التي تؤدي
المطلوب منها في اللقطة أوالحركة المخصوصة لها ولكنها في حالة إحساس كامل
بالموقف وتنبه تام لكل ما يحيط بها ولكل ما يؤديه زملاءها وكل ما يدور
حولها في المشهد.
والحقيقة أن المخرج خالد مرعي يجتهد كثيرا في هذا الفيلم . ويسعي إلي
تدعيم مفردات الصورة وتوظيف مختلف عناصرها من ديكور وتصوير وملابس . فيجتهد
علي حسام علي في تصميم الديكورات وخاصة شقة حلمي والتي تحقق بفضل الديكور
المدروس مشهدا طريفا وجديدا علي السينما حين يعود البطل فيجد المياه تغرقها
وتتحول الصالة إلي ما يشبه حمام السباحة بالمعني الحقيقي. وكذلك يتلاعب
أحمد يوسف بالضوء ودرجاته بأسلوب فني عال يتناسب مع طبيعة كل مشهد وأجوائه
النفسية والدرامية. ولكن كل هذه عوامل مساعدة تتحقق قيمتها عندما يكون هناك
فيلم أصلاً أو فكرة أساسية تستحق كل هذا الجهد.
جهود ضائعة
وكل هذه الجهود تضيع في النهاية مع فيلم فقير في أفكاره ولا تثريه
الصورة المركبة ولا الديكورات متعددة المستويات ولاحتي الاستعانة بالطائرات
والقفز بالمظلات.. ويأتي مشهد السقوط من المظلة أضعف ما في الفيلم ، فلا
يوجد أي منطق أو أي تفاصيل مقبولة في المشهد تجعل من الممكن أن يسقط البطل
حيا من هذا الارتفاع الشاهق الرهيب حتي ولوكان علي عشة فراخ. وهذا الضعف
في المنطق والتفاصيل هي مسئولية المخرج بالأساس حتي ولوكانت أخطاؤه أصلية
في السيناريو.
ولكن أزمة هذا الفيلم الحقيقية تبدأ وتنتهي عند السيناريوالذي يبدأ من
منطقة انحدار ويصل في نهايته إلي هاوية لا يصدقها عقل ولا يقبلها منطق.
فالسيد بلبل لا يشك ولوللحظة في تآمر الفتاتين عليه . ويظل في حالة
استسلام تام لمقالبهما المكشوفة جدا والتي تبدأ من لحظة وصوله إلي موعد مع
إحداهن فيجد الأخري في انتظاره وكأنه واعدها هي. ويتمادي السيناريوالمكتوب
علي ورق البانجوفيجعل بلبل يلتقي بمن قابله من قبل علي أنه والد الأولي
ليجده هذه المرة والد الثانية والعكس بالنسبة للأم. وكلها أمور لا يبررها
إصابة البطل بفقدان الذاكرة في مرحلة سابقة. وهي الحالة التي
أصابته نتيجة لخبطة في الرأس وشفي منها بخبطة أخري علي طريقة
أفلام زمان. ولتبرير كل ما لا يمكن تبريره يصنع السيناريست لبطله واحة
غريبة من العزلة فهو بلا أهل ولا أصدقاء ولا جيران ولامعارف. وينحصر كل
عالمه في خطيبتين وزميلة في العمل.
وهكذا تعيش مع هذا الفيلم حالة من الملل القاتل بعد أن أصبحت تعرف
تفاصيل المؤامرة وتتعجب من غباء البطل وإصرار كل صناع الفيلم علي جعله
يواصل جهله بأمور بديهية بإمكان أي طفل أن يدركها . والغريب أن نري أحمد
حلمي في فيلم بهذه السذاجة من إخراج خالد مرعي. وقد سبق لكل منهما أن قدم
أعمالا في منتهي الرقي ومن بينها أعمال مشتركة بينهما. وفي النهاية أرجو
أن يكون هذا الفيلم هوآخر كبوات أحمد حلمي وأن يسترد عافيته في فيلمه
القادم. وأن يستعيد خالد مرعي وعيه ويعود إلي تقديم أفلام تحترم عقل
المشاهد ويجد فيها ما يستحق أن يوظف أدواته السينمائية. ونجد
فيها أيضا ما يستحق أن نشاهده.
جريدة القاهرة في
23/11/2010 |